الفصل الثالث
فوضى النظام القديم
فرض النظام القديم L’Ancien Régime على الشعب؛
أولًا: الرضوخ لسلطان ملكية مستبدة، فقدت إلى جانب أنها استبدادية وذات سلطان مطلق
في الحكم، كلَّ كفاءة وقدرة على إدارة شئون الحكم، وفقدت تبعًا لذلك السبب المُباشر
في وجودها، والذي كان يسوِّغ في مراحل تكوين الملكية السابقة وتطورها استئثارها
بالسلطة المطلقة في فرنسا.
وفرض «النظام القديم» على الشعب؛ ثانيًّا: الرضوخ لسلطان النبلاء في وقت كان
هؤلاء يُعْنَوْنَ فيه بالأرض وصونها من البوار، ويَذُودُون عن حياض الوطن في جيوش
الملك، ويُقيم أكثرهم بين فلاحيهم؛ ولكنهم نزحوا الآن إلى باريس للعيش في خمول في
بلاط الملك، وطالت غيبتهم عن أراضيهم، وزال اهتمامهم بالزراعة، وزادت نفقاتهم
الجديدة؛ فاشتطَّ عملاؤهم في إرهاق الفلاحين واستنزاف مواردهم لسد حاجات هؤلاء
«النبلاء المتغيبين».
ثم قَلَّ وجود أصحاب المواهب العسكرية بينهم، وظهر عجزهم في ميادين القتال؛
فانعدم بسبب ذلك كله أي مبرر لوجود الامتيازات والحقوق الإقطاعية القديمة، وعظم
سخط
الفلاحين على «نظام» فرض عليهم دفع الضريبة
العقارية Taille، والملح Gabelle،
والفردة أو ضريبة الرءوس Capitation، وضريبة الدخل Vingtieme وغير ذلك، إلى جانب «العوائد
المُقَرَّرة» أو الحقوق الإقطاعية التي ألزمت الفلاح المالك — بمعنى المنتفع من
الأرض — القيام بواجبات معينة نحو صاحب الإقطاع. وكانت هذه كثيرة: مثل حق صاحب
الإقطاع في بيع نبيذه في إقطاعيته، ومنع الغير من بيع أنبذتهم، وذلك في فترة معينة
من السنة Banvin، أو حقه في جباية المكوس عند عبور
الجسور أو السير في الطرق واستخدامها في إقطاعيته
Péage، أو استخدام الأفران والمخازن الخاصة
بصاحب الإقطاع لقاء قدر معين من المال Banalité، أو
الخدمات العسكرية والمدنية وأنواع الخدمات التي كان مُكلفًا بها أهل إقطاعية صاحب
الإقطاع، وما كان يحصِّله منهم في صورة إتاوات نقدية أو عينية، كجزء من حقوقه
الإقطاعية عليهم Redevance، أو المال الذي يحصِّله
من كل «صاحب أرض» أو مستغل لها «كأجير» ما دامت هذه الأرض ضمن حدود إقطاعيته
Cens. أو الأموال التي يحصِّلها من أية مزرعة
أو عقار قد يرى صاحب الإقطاع فرض إتاوة خاصة عليه
Censives، أو الاستيلاء على جزء من محصول
الكروم في إقطاعيته Carpot، أو الرسوم التي تدفع
عند تعيين حدود كل مزرعة في الإقطاعية Champage، أو
الرسوم المحصلة على مختلف المحصولات في أوقات الحصاد حيث كان لصاحب الإقطاع مثلًا
أن يستولي عند حصاد القمح على «حزمة» واحدة من كل عشر حزمات من القمح
Terrage؛ وهكذا.
وكذلك؛ فقد اشتدَّ السخط على نظام فَرَضَ على الشعب احترام الكنيسة، والخضوع
لرجال الدين، من أساقفة وقساوسة ورؤساء ورئيسات أديرة ورهبان وراهبات، عندما كان
هؤلاء جميعًا يُؤدون وظائفهم الدينية صحيحة ويحرصون على واجباتهم الروحية نحو
الشعب، وتدفَّقت وقتذاك الهبات والعطايا على الكنيسة، واتَّسَعت أملاكها وعظمت
إيراداتها، كما أنَّها كانت تُنْفِق بسخاء على شئون العبادة والتعليم، وتُحْسِن
على
الفقراء والمعوزين، ولكن لم يلبث أن أخذ الانحلال يتسرَّب إلى الكنيسة، فانصرف رجال
الدين كبارهم وصغارهم عن القيام بواجباتهم، واعتبروا أملاك الكنيسة مِلْكًا خاصًّا
لهم، ثم انعدمت المساواة في توزيع إيرادات الكنيسة بين رجالها؛ فتفاوتت إيرادات
الأسقفيات والأديرة والأبرشيات وغيرها، وانحط شأن القساوسة وصغار رجال الدين
عمومًا، حتى عاش أكثرهم في بؤس ساعد على انحلال أخلاقهم وفسادها؛ فكان بسبب ذلك
إذن، أن انتفى أيُّ مبرر لأن تتمتع الكنيسة ويتمتع رجال الدين بتلك الامتيازات
العديدة التي كانت لهم، وأهمها إعفاؤهم من الضرائب.
ولقد ضجَّ سواد الشعب والفلاحون خصوصًا من ضريبة «العشور» أو العشر Dime التي حصلتها الكنيسة منهم، وحاول كثيرون قبل
قيام الثورة بسنوات عديدة الامتناع من دفعها، وعمدت الكنيسة إلى مقاضاتهم لإرغامهم
على دفعها حتى بلغ عدد القضايا التي من هذا القبيل في عام ١٧٨٨ حوالي (٤٠٠٠٠٠)
قضية.
ولقد كان من عوامل هذه الفوضى كذلك: ذيوع «الماسونية» وانتشارها في الجيش خصوصًا.
والماسونية جمعية سرية ينتظم أعضاؤها في «محافل» لتبادل المنفعة الأدبية والتعاون
فيما بينهم. ويعتبر «البناءون الأحرار» أنفسهم «إخوانًا» مهما تفاوتت طبقاتهم
الاجتماعية، ويقتضيهم واجب هذه الرَّابطة مُساعدة بعضهم بعضًا. وقد دخلت الماسونية
إلى فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، وانتشرت «المحافل» الماسونية في الجيش، في
السنوات التي سبقت الثورة، حتى بلغ عددها في سنة ١٧٨٩ خمسة وعشرين محفلًا
عسكريًّا.
وسواء سادت الروح الثورية هذه المحافل أو لم تسد، فالذي لا ريبَ فيه أنَّ روح
المُساواة كانت ذات سيطرة تامة في هذه المحافل؛ بحيث ترأَّس الجنود العاديون وصغار
الضباط بعضها، وفقد كبار الضباط والقواد تبعًا لذلك نفوذهم؛ فاختل النظام في الجيش،
وتسرب إليه الانحلال، حتى ظهرت آثار هذه الفوضى في العصيان الذي حدث في عام ١٧٨٩
بين فرق الحرس الفرنسي Gardes
Françaises، وفي
تمرد الجنود في نانسي Nancy في أغسطس سنة ١٧٩٠؛
الأمر الذي حَرَمَ الملكية من تلك القوة — قوة الجيش — التي كان في استطاعتها —
لولا ذلك — الدفاع عن الملكية في أزمتها.
تلك إذن كانت أسباب الفوضى ومظاهرها في فرنسا، وهي الفوضى التي حببت جمهرة الشعب
في أقوال «رينال»، وجعلت صفوة مُفكريه، من أهل الطبقة المتوسطة البورجوازية خصوصًا،
يتأثرون بالمبادئ والمذاهب التي نشرها «دولباخ» و«مابلي» و«مورللي»
و«الإنسيكلوبيديون» عمومًا، ثم قبل ذلك كله «جان جاك روسو».
وهي الفوضى التي دلَّت كذلك على إخفاق حكومة «النِّظام القديم» وفشلها، وجعلت
الشعب الفرنسي قاطبة يشعر بحاجته المُلحة إلى ضرورة إنهائها، وإعادة «النِّظام»
إلى
نصابه، في شكل حكومة ترعى الشعب، وتعمل لما فيه خير الصالح العام في فرنسا، وهي
الفوضى التي دعت «كالون» Calonne — من وزراء
البلاط ومن أنصار الملكية الاستبدادية — يقول في تقرير قدمه إلى الملك، وكان لويس
السادس عشر قد استدعاه بين عاميْ ١٧٨١ و١٧٨٨ لإصلاح مالية البلاد، ولكن دون جدوى:
«إن فرنسا مملكة مؤلفة من أقاليم ومقاطعات منفصلة بعضها عن بعض، وذات إدارات
مُختلفة، ولا تدري كل مقاطعة من هذه المُقاطعات شيئًا مما يجري أو يقع في غيرها،
ولا تتحمل جهات معينة شيئًا من الواجبات والتكاليف، بينما ترزح جهات أخرى بكل هذه
الأعباء، ولا تدفع أعظم الطبقات ثراءً سوى أقل ضريبة ممكنة. وكان سبب وجود
الامتيازات أن اختل التوازن في البلاد، ولا سبيل إلى إيجاد نوع من الحكم المُستقر
أو إدارة عامة مستديمة؛ الأمر الذي يجعل من فرنسا بالضرورة مملكة وصلت في نظامها
إلى منتهى القصور والعجز، تسود فيها المساوئ، بل ومن المُستحيل في حالتها الرَّاهنة
إدارة شئون الحكم بها.»