الفيزوكرات: القائلون بحكم الطبيعة
وقد عني الاقتصاديون — أو الفيزوكرات — أكثر ما عنوا بمعالجة المسائل المُتَّصلة بحياة الأُمَّة المادية، وقصروا بحوثهم على بيان وظائف الطبقات المنتجة في المجتمع: أي الزُّرَّاع والصناع والتجار، ثم إظهار الوسائل الكفيلة بإنهاضهم وإنعاش أحوالهم، وبيان علاقة هذه الطبقات المنتجة بالدولة، ثم إنهم حاولوا من وجهة نظر الحكم نفسه، تحديد أكبر الوسائل أثرًا في ضمان الإيراد أو الدخل الذي يكفي الدولة ويعينها على النهوض بأعبائها.
وكان من الطبيعي للوصول إلى هذا الغرض أن تتناول بحوثهم مسألة الضرائب؛ أي الغرض من تقريرها، وكيفية فرضها وتحصيلها، والآثار المُترتبة على هذه الأمور جميعها، حتى إذا فعلوا هذا، انتقلوا إلى البحث عن مصادر الثروة التي تؤلِّف الضرائب نصيب الحكومة منها، ثم البحث في وسائل إنتاج هذه الثروة، وتوزيعها، وعلاقاتها برفاهية المجتمع، وحجم هذا المجتمع والصفات المميزة له.
وتتلخص نظرية الفيزوكرات السياسية في أنَّ العدالة أول شرائط المجتمع، بل هي أول شرائط حياة البشر قبل وجود المجتمع، كما أن العدالة في أساسها هي ضمان وتأييد تلك الحقوق التي أعطتها الطبيعة لكل مخلوق في البشر: حق الفرد في الحرية، وحقه في التملك، ولا يتنازل الأفراد عن شيء من حقوقهم الطبيعية عن تأليف أو تكوين الجثمان أو الكيان السياسي. بل على العكس من ذلك؛ فإنَّ الغرض من تكوين أو تأليف أية جماعة أو رابطة، إنما هو تأكيد التمتع بهذه الحقوق في أوسع نطاق ممكن. وليست القوانين المتبعة في المجتمع سوى قواعد العدالة والأخلاق؛ لأنَّ سريان العدالة والتزام المبادئ الأخلاقية، هما مناط أو مساك الكون بأسره.
ومما تجدر مُلاحظته أن حقَّ الفرد في الملكية إنما يحد منه ما يحيط به من حقوق الملكية التي يتمتع بها الآخرون، كما يحد من حقِّ الفرد في الحرية ما للأفراد من حقوق في الحرية مماثلة لحقه.
ويستأثر صاحب السيادة أو السلطان وحده ودون غيره بالسلطة التشريعية، أو بمعنى أصحَّ بسلطة إظهار آثار القوانين الأساسية (الخاصة بالحرية والتملك) التي يقوم عليها النظام الاجتماعي. ثم إنَّ صاحب السيادة أو السلطان يستأثر وحده كذلك بالسلطة التنفيذية. ولكنه من ناحية أخرى لا يمارس السلطة القضائية؛ لأنَّ إصدار الأحكام القضائية ضد المواطنين لا يتفق ولا يتلاءم مع خصائص السيادة العليا، حيثُ إنَّ مُمَارسة الوظائف القضائية يستدعي فحص تفصيلات دقيقة كثيرة، وبحث قضايا مُعَيَّنة، لإصدار أحكام معينة في كل واحدة منها، وذلك عمل يبعده كلَّ البعد عن الغرض من وجود السيادة العليا؛ أي تقرير قوانين النظام الاجتماعي الأساسية؛ ولذلك فالقضاة هم الذين يتولَّوْن شئون القضاء، وواجبهم مقارنة الأوامر أو المراسيم الموضوعة بقوانين «العدالة» — أي القوانين الأساسية — حتى يقوموا بتطبيق ما كان مُتلائمًا من هذه الأوامر أو المراسيم مع تلك القوانين الأساسية.
ثم كان بعد تقرير هذه المبادئ الجوهرية، أن عالج الاقتصاديون أو الفيزوكرات مسألة الحكم والحكومة. وقد انتهوا من بحوثهم إلى أن «الملكية الوراثية» أفضل أنواع الحكومات إطلاقًا. ولم يخش الفيزوكرات من أن تصطبغ المليكة الوراثية بصبغة الطغيان، طالما بقي وظلَّ قائمًا النظام الذي وضعوه للمجتمع ونفذت قواعده بصدق وأمانة، وهو النِّظام الذي سبق القول بأنه يقوم على تقرير مبدأ الحرية وحق التملك.
ولذلك فقد تحتَّم أن تُصبح وظائف الملك في ظل هذا النظام المحافظة التامة وبصورة مجدية على حقوق الحرية والتملك، كما تحتم تنفيذًا لهذه الغاية، أن يفحص القضاة المتنورون كل ما يصدره الملك من أوامر وقرارات، وأن يُدلُوا بآرائهم في شأنها، وفي كل ما يعرض لهم من قضايا مواطنيهم. وفضلًا عن ذلك، فإنَّ إقامة نظام اقتصادي يرتكز على مبدأ «الضريبة الواحدة» من شأنه أن يقضي على مبعث الظلم والشر في المجتمع؛ وذلك لأنَّ توفير قدر كافٍ من الإيراد للتاج أو الملك، نتيجة للأخذ بهذا النظام الاقتصادي، سوف يؤدي من تلقاء نفسه إلى ضمان أكبر قسط مُستطاع من الرفاهية والرخاء لرعايا الملك وشعبه.