الفصل الخامس
محاولات الإصلاح وفشلها: «ترجو» و«نكر»
تلك إذن كانت مبادئ الفيزوكرات الاقتصادية والسياسية. وقد لقيت في فرنسا كلَّ
تأييد وتعضيد من جانب عدد غير قليل من رجال الحكم والإدارة، كان أهمهم ترجو
Turgot (١٧٢٧–١٧٨١)، أحد الذين عنوا بالشئون
الاقتصادية والمالية، ثم اعتبره كثيرون من مدرسة «الاقتصاديين»، ولو أنَّه كان صاحب
آراء أكثر اتصالًا بالمبادئ التي نشرها «آدم
سميث»
Adam Smith (١٧٢٣–١٧٩٠) في كتابه المعروف عن «ثروة الأُمم»،
١ والذي اعتبر أنَّ الأرض ليست وحدها مصدر الثروة، فناقض بذلك آراء
الفيزوكرات، فاعتبر العمل
Labour، ورأس المال
Capital من مصادر الثروة كذلك، ثم نادى بمبدأ
الحرية الاقتصادية؛ حرية التجارة والعمل والصناعة وغير ذلك.
ولقد أُتيحت الفرصة «لترجو» حتى يضع آراءه موضع التنفيذ عندما عُيِّن حاكمًا
لإقليم «ليموج» Limoges، ثم عند تعيينه في سنة
١٧٧٤ مراقبًا عامًا (أو وزيرًا) للماليَّة عند اعتلاء لويس السادس عشر للعرش، ووقع
عليه عبء مُعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية، في وقت عَظُمَ فيه عجز الميزانية؛
وكادت الدولة تعلن إفلاسها. فكان من إصلاحاته أنَّه أطلق حرية التجارة في الغلال،
وألغى المكوس الداخلية «بين مختلف المقاطعات»، كما ألغى السخرة (تسخير الفلاحين
في
إصلاح الطرق)، والعوائد الإقطاعية المُقررة، واستبدل بذلك كله ضريبة عقارية منظمة
«على الأرض»، يجري إنفاق حصيلتها على شئون الدولة. وانطوى فرض هذه الضريبة على مبدأ
جديد يُخالف ما درج عليه «النِّظام القديم» من تمييز بعض الطبقات الاجتماعية
وإعفائها من دفع الضرائب؛ لأنَّ «ترجو» قرَّر ضرورة إشراك الجميع — بما في ذلك
طبقتا الأشراف ورجال الدين — في دفع الضريبة الجديدة، بدعوى أن الحكومة تقوم
بالإنفاق على كل ما من شأنه تحقيق المنفعة لصالح الجميع؛ ولذلك فقد وجب على الأهلين
جميعًا أن يقوموا بسداد هذه النفقات.
بل إنَّ الواجب يقتضي أولئك الذين يفيدون من انتعاش المجتمع، أكثر من سواهم، أن
يقوموا بنصيب أوفر في سداد نفقات الحكومة وبنسبة ازدياد منفعتهم. ثم ألغى «ترجو»
نقابات الصناع وأصحاب الحرف Jurandes التي سيطرت
على العمل من زمن طويل، وعطَّلت الصناعة. وتلخَّص برنامجه المالي والاقتصادي في
مبادئ ثلاثة: «لا إفلاس، لا زيادة في الضرائب، لا قروض!»
ووسع نشاط «ترجو» ميادين أخرى شملت إصلاح التعليم، ووضع مشروعات لمجالس انتخابية،
تبدأ في الجهات والنواحي الصغيرة، ثم في المقاطعات والأقاليم، وهكذا حتى ينتهي
المطاف بإنشاء مجلس نيابي للدولة، ولو أن «ترجو» قرر جعل مهمة هذه المجالس مقصورة
على مُجرد المذاكرة والبحث، فلا يكون لها سلطات تشريعية.
ولكن مشروعات «ترجو» وإصلاحاته لم تَلْبَثْ أن أثارت المُعارضة الشديدة، من جانب
النُّبلاء ورجال الدين، ومُلتزمي الضرائب، وكبار رجال المال، والنقابات. وظهرت آثار
هذه المعارضة الشديدة في «برلمان باريس» وبرلمانات الأقاليم. وكان برلمان باريس
من
أيام العصور الوسطى محكمة قضائية عليا، بينما تقوم البرلمانات الإقليمية بشئون
القضاء في دوائرها. وكان من وظائف برلمان باريس تسجيل الأوامر والمراسيم التي
يصدرها الملك، ومن تاريخ برلمان باريس أنه انتزع بمُضِيِّ الزمن وبقدر مُقابل لما
كان يستأثر به ملوك فرنسا من السلطة الاستبدادية؛ انتزع ما يصحُّ تسميته «حقوقًا
سياسيةً»، عندما ادَّعى لنفسه مطلق الحرية في رفض تسجيل مراسيم أو أوامر الملك،
والاحتجاج عليها، أو الرضاء بتسجيلها والموافقة عليها. ولقد تعطَّل برلمان باريس
أيام لويس الخامس عشر، بسبب شدة النضال بين البرلمان وبين الملك الذي نفى جميع
قضاته، وظل هذا البرلمان مُعَطلًا، وكذلك برلمانات الأقاليم، حتى استمع لويس السادس
عشر لنصيحة وزرائه (ووزيره الكونت دي
موريبا Maurepas)، فأعاد برلمان باريس والبرلمانات الإقليمية في أغسطس سنة
١٧٧٤.
تجلَّت مُعارضة برلمان باريس الآن، عندما رفض إلغاء السخرة وغير ذلك من
الإصلاحات؛ فاستخدم الملك حقه المعروف باسم «سرير العدل»
٢ في ١٢ مارس ١٧٧٦، وأرغم البرلمان على تسجيل الأوامر والمراسيم الصادرة
بهذه الإصلاحات، غير أنَّ السخط لم يلبثْ أن اشتد على ترجو، حتى خشي لويس السادس
عشر مَغَبَّةَ الاستمرار في تأييده، في وجه بطانته، ووزيره «موريبا»، وزوجه
النمساوية الملكة ماري أنطوانيت، فأقال ترجو من الوزارة في مايو ١٧٧٦.
وكما عظم فرح رجال البلاط والحاشية لخروج «ترجو» من الوزارة، فقد استبدَّ القلق
بالفلاسفة والمفكرين السياسيين والاقتصاديين مثل: فولتير وكوندرسيه Condorcet وغيرهما؛ فاعتبروا إقالة «ترجو» كارثة
عظيمة. والحقيقة أنَّ خروج «ترجو» من الوزارة كان حدثًا عظيمًا، فيقول في ذلك
«ألبير سوريل» مؤرخ الثورة: «لقد ضاع بخروج ترجو كل أمل في إعادة بناء هيكل الحكومة
في قالبها القديم.» ومعنى هذا القول أنَّه صار مُتعذرًا من ذلك الحين أن يستمرَّ
بقاء «النظام القديم»، وأنه صار لا معدى بعد هذا الفشل عن وقوع تغيير جوهري في
أساليب الحكم، مع ما يستتبع ذلك من طبع «الدولة» الفرنسية بطابع آخر؛ أي إنَّ خروج
ترجو من الوزارة كان من هذه الناحية انقلابًا في حد ذاته، يُضاف إلى جانب تلك
الانقلابات الكثيرة التي وقعت فيما بعد، والتي تألَّف من مجموعها ما صار يُعرف باسم
الثورة الفرنسية.
وأمَّا ما تبع خروج «ترجو» من الوزارة، فكان وقوع طائفة من الحوادث التي ساعدت
على انتشار الفوضى من جهة، وزادت من جهة أخرى سواد الشعب وصفوته معًا، اعتقادًا
بأنَّ الملكية في ظل «النظام القديم» قد فشلت في أداء مهمتها، وأنَّه صار لا غنى
عن
مُحَاولة إدخال أساليب جديدة للحكم، إذا شاءت الدولة أن تنجو بنفسها من خطر
الانهيار المحدِق بها؛ فقد اشتدَّ تيار الرَّجعية بعد ترجو، وأعاد خَلَفُه في
الوزارة «كلوني» Cluny السُّخْرة والنقابات،
وأُلغيت حرية التجارة في القمح، وكان كل ما ابتكره «كلوني» لسد العجز في المالية
أن
تنظِّم الدولة «يانصيبًا» حكوميًّا. وعندئذٍ اضطر «موريبا» إلى الاستعانة بخدمات
أحد رجال المال المعروفين، والمصرفي السويسري الأصل «جاك نكر» Jacques Necker. وكان ممن أمدُّوا الدولة
بالقروض في الماضي، فعهد إليه الملك في أكتوبر ١٧٧٦ بإدارة الخزينة، وفي العام
التالي عيَّنَه مراقبًا عامًّا للمالية.
واتبع «نكر» سياسة عقد القروض، وصار يتوخَّى الاقتصاد في النفقات جهدَ الطاقة؛
لتوفير المال اللازم لسد العجز الظاهر في المالية، ولكنَّ هذه الجهود ذهبت جميعها
سُدًى عندما دخلت فرنسا الحرب ضد إنجلترة، لمؤازرة الولايات الثائرة على هذه
الأخيرة في أمريكا، فأقنع «نكر» الملك، في أوائل سنة ١٧٨١، بنشر «بيان» تَعْرِف
الأُمَّة منه حقيقة مالية الدولة، وذلك بإذاعة تفصيلات الداخل والخارج، ولقد توخَّى
«نكر» أن يجعل الإيرادات في هذا البيان تزيد على النفقات بمبلغ عشرة ملايين فرنك؛
وذلك حتى يستعيد ثقة الناس فيتشجعوا على إقراض الدولة، ولكن هذا البيان سرعان ما
صار موضع مناقشة حادة من جانب الذين تشكَّكُوا في صحة الأرقام المنشورة به، ومن
جانب الطبقات صاحبة الامتيازات التي أظهر البيان ما كانت تتمتع به من إعفاءات كثيرة
هامة، بحيث وقع عبء تقديم المال اللازم لسد نفقات الدولة على كاهل سواد الشعب وحده؛
فاتخذت الملكة ورجال البلاط من نشر هذا «البيان» ذريعة ليُغضِبوا الملك على صاحبه،
ثم لم يلبث «نكر» أن أثار عليه سخط برلمان باريس عندما اقترح مشروعًا لإنشاء مجالس
انتخابية في الأقاليم؛ فتألَّبت المُعَارضة ضده من كل جانب، واضطر إلى الاستقالة
في
مايو ١٧٨١.
وبخروج «نكر» تغلَّبت العناصر الرجعية تمامًا؛ فسارت الأحوال من سيئ إلى أسوأ على
أيدي من خَلَفُوه في منصبه. وكان على يد كالون Calonne، الذي تولى بوساطة ماري أنطوانيت منصبَ مراقب المالية في
أكتوبر ١٧٨٣، أن فقدت الملكية لدرجة كبيرة احترامَ الناس لها؛ بسبب خطة الإسراف
المفرط التي اتَّبَعَها، ثم لإقراره بعجز مالية البلاد بعد ذلك، ومُحاولته فرض
ضريبة على الأرض لا تُسْتَثْنَى منها الطبقات الممتازة، كإمداد أو مساعدة مالية Subvention Territoriale، كما أنه أراد تخفيض
الضريبة العقارية، وضريبة الملح، وأراد إلغاء السخرة؛ فعارضه البلاط والنبلاء ورجال
الدين معارضة شديدة، وانتهى الأمر بإقالته. وعندئذٍ تدخَّلت الملكة ثانيةً في إسناد
المنصب الذي كان يشغله «نكر» إلى أكبر خصومه، لوميني دي بريين Lemonie
de Brienne وكان من كبار رجال
الدين (رئيس أساقفة طولوز).
وفي عهد هذا الأخير اشتدَّت الخصومة بين البلاط وبرلمان باريس، الذي أقرَّ مبدأ
ضرورة موافقة الأُمَّة سلفًا بواسطة ممثليها، على كل ما يُراد فرضه من ضرائب عليها،
وطالب «البرلمان» في ٣٠ يونيو ١٧٨٧ بعقد مجلس طبقات الأمة Etats Généraux، فلم يجد الملك مناصًا من دعوة هذا المجلس إلى
الانعقاد، وتحديد موعد للاجتماع يوم أول يونيو من العام التالي. وفي ٢٥ أغسطس ١٧٨٨
انتهى الأمر باعتزال «بريين» منصبه، ومغادرته البلاد إلى إيطاليا، بعد أن ترك
الحكومة في فوضى شاملة؛ فكلف الملك «نكر» بتولِّي إدارة المالية العامَّة، وعهد
إليه بأهم أعباء الوزارة. وكان اجتماع مجلس طبقات الأُمَّة حدثًا عظيمًا، «أو
انقلابًا» لا يقلُّ في خطورته عما سبقه أو لحقه من الانقلابات التي شكَّلَتْ حوادث
الثورة.