الفصل الأول
مجلس طبقات الأمة١
٥ مايو ١٧٨٩–٩ يوليو ١٧٨٩
أسباب دعوة مجلس الطبقات
كان السبب الجوهري لدعوة هذا المجلس، الذي بَقِيَ معطلًا منذ ١٦١٤، سوء
الحالة المالية، ورغبة الملك كما قال في دعوته التي وجَّهها إلى حكام الأقاليم
في ٢٤ يناير ١٧٨٩ من أجل اجتماع مجلس طبقات الأمة: «أن يتعاون معه رعاياه
المُخلصون في تذليل الصعوبات التي تُحيط به بسبب الحالة التي عليها
ماليته.»
ولم يكن سوء الحالة المالية شيئًا جديدًا، بل كانت الأزمة قديمة العهد من
أيام الحرب الأمريكية والنَّفقات التي تحمَّلتها البلاد بسبب اشتراكها في هذه
الحرب إلى جانب الولايات «المتحدة» ضد إنجلترة؛ ثم زاد من حدَّة الأزمة، تخبُّط
سياسة الحكومة الاقتصادية خصوصًا في تجارة الغلال؛ فتارة أطلقت حرية التجارة في
الغلال، وتارة منعت: فقد حدث مثلًا أن منعت سنة ١٧٧٠، وأطلقت سنة ١٧٧٤، ثم منعت
سنة ١٧٨١ «على يد نكر»، وأطلقت سنة ١٧٨٧ «على يد كالون»، حتى إذا كان العام
التالي (١٧٨٨) كان قد نَفِدَ المخزون من الحبوب. وجاء في نفس هذا العام (١٧٨٨)
المحصول رديئًا وقليلًا، فارتفع ثمن الخبز إلى سبعة أمثاله بين سنتي ١٧٦١–١٧٨٨.
وخاف الناس من المجاعة، فانتشر القلق وعمَّ الاضطراب.
وكان من عوامل القلق الظاهر عدم ارتياح أرباب الصناعة الفرنسيين إلى المعاهدة
التي أبرمتها الحكومة مع إنجلترة في ٢٧ سبتمبر ١٧٨٦ على أساس حرية التبادل، في
وقت كانت المصانع الإنجليزية مجهَّزة بالآلات الحديثة؛ مما زاد في قُدرتها على
الإنتاج، وبتكاليف قليلة، بينما فرنسا لا تزال مبتدئة فحسب في إدخال هذه
التغييرات الآلية الجديدة في مصانعها. وشكا الصُّنَّاع الفرنسيون من الخسائر
الفادحة التي تكبَّدتها الأسواق الوطنية؛ نتيجةً للمنافسة الإنجليزية.
والمسئولون عن دعوة مجلس الأُمَّة للاجتماع كانوا من طبقة «أصحاب
الامتيازات»، سواء من رجال الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الأثرياء، أو من
الطبقة الأرستقراطية؛ أي الأشراف والنُّبلاء، الذين يبغون من دعوة مجلس الطبقات
الحدَّ من سلطات الملكية، وهي التي ظَلُّوا يُعارِضون استبدادها المركزي من
أيام لويس الرابع عشر.
وكانت طبقة أصحاب الامتيازات هذه تتألَّف وقتئذٍ من أناسٍ حصلوا في أكثر
الحالات على ألقاب النُّبل والشرف عن طريق «الرشوة»، وأقاموا في الريف حيث
صاروا يحلون محل الأرستقراطية القديمة، وهم «نبلاء السيف» Noblesse d’Épée في امتلاك الأرض، كما أنهم التحقوا بالجيش
ودخلوا في خدمة الحكومة، وصار فريقٌ منهم حُكَّامًا للأقاليم، وهم الذين دأبوا
على تحريك المعارضة في «برلمانات» المدن؛ وهي الهيئات القضائية التي طمحت إلى
الاستمتاع بسُلطان سياسي يمكِّنها من مقاومة سلطة الملوك المطلقة. ولقد كان
هؤلاء هم الذين طالبوا الآن باجتماع مجلس طبقات الأُمَّة، حتى يسيطروا على هذا
المجلس مثلما سيطروا على البرلمانات من قبل.
ومع ذلك، فقد كان هذا النَّوع من «الأرستقراطية» ثم «البورجوازية» الغنية
كذلك أكثر ثقافة من الأرستقراطية الإقطاعية: فهم يقرءون ويفكِّرون، ويرضون
بالإصلاح ويريدونه وإن كان بشريطة أن يزيد الإصلاح من سمعتهم ومكانتهم، وهم
يثقون في «مونتسكيو» ويعجبون بإنجلترة لأنها وزعت السلطة (بفضل ثورتها العظيمة
سنة ١٦٨٨) بين التاج والنبلاء. ولكنهم لا يجيزون للملكية بتاتًا إجراء أية
إصلاحات تُساعد على دعم أركان الحكم المطلق؛ فهم قد طالبوا بدعوة مجلس طبقات
الأُمَّة للاجتماع؛ لأنَّهم يُريدون تقييد الملكية وفرض الرقابة الصارمة أو
«الوصاية» عليها.
ولقد كانت هذه المُطَالبة بداية كُلِّ تلك الانقلابات التي تألَّفت منها
الثورة الفرنسية، والتي ظهرت أوَّل ما ظهرت في شكل «ثورة النبلاء»، أرادوا
تضييق سلطان الملكية ومشاركة السلطة التنفيذية في تدبير شئون الحكم.
تقرير نكر
ولا شك في أنَّ الملكية قد فطنت وقتئذٍ إلى مصدر الخطر عليها، فحاولت
التخلُّص منه بالمُوَافقة على دعوة مجلس الطبقات. ومنذ نوفمبر ١٧٨٧ أعلن لويس
السادس عشر عزمه على جمع مجلس طبقات الأمة. وفي يوليو ١٧٨٨ صدر قرار بتكليف
المختصِّين والهيئات العلمية — تمهيدًا لهذه الخطوة — أن يجمعوا كل المعلومات
المُتصلة بمجالس الطبقات السابقة ومحاضر جلساتها … إلخ. وفي ٨ أغسطس ١٧٨٨
حدَّدَ الملك يوم أول مايو موعدًا لاجتماع مجلس الطبقات.
وفي ٢٥ أغسطس ١٧٨٨ عزل «لوميني دي بريين» حتى يعهد إلى «نكر» الذي استُدعي
إلى الوزارة، مديرًا عامًّا للمالية — كما عرفنا — بمُهمَّة إنجاز الترتيبات
اللازمة لاجتماع المجلس، ثم دعا للانعقاد مجلسًا للأعيان
٢ لنظر هذه المسألة ذاتها.
ولكن لمَّا كان «مجلس الأعيان» مُتأثرًا في بحثه بتقاليد مجالس طبقات
الأُمَّة القديمة، وخصوصًا ما حدث عند اجتماع المجلس سنة ١٦١٤، فقد تقدَّم
«نكر» بتقرير في هذا الموضوع في ٢٧ ديسمبر ١٧٨٨ تناول فيه مسائل ثلاثًا على
جانب عظيم من الأهمية، كانت موضع بحث ومُناقشة شديدة، ويتوقَّف على القطع برأي
حاسم بشأنها في هذه المرحلة المبكرة سَيْرُ الحوادث في الشهور القليلة التالية،
إمَّا بصورة تحمل العامَّة أو الطبقة
الثالثة Tiers État على الاعتقاد بأنَّ الملكية والطبقات ذات الامتيازات
تريد الإصلاح حقيقةً وإزالة أسباب الشكوى، وإما بصورة تجعل العامة أو الطبقة
الثالثة (البورجوازية) تفقد كلَّ رجاء في هؤلاء وتأخذ على عاتقها هي وحدها
مُهِمَّة الإصلاح وإزالة المساوئ مبعث الشكوى.
وأمَّا هذه المسائل الثلاث فأولها: هل يتساوى عدد النواب الذين ترسلهم
المديريات أو الأقسام الإدارية إلى المجلس بصرف النظر عن اختلاف المساحة وعدد
السكان في كلٍّ منها، أو ترسل كلٌّ منها عددًا من النواب يتناسب مع مساحتها
وعدد سكانها؟ وثانيها: هل يتساوى عدد نواب الطبقة الثالثة أو العامة مع عدد
نوَّاب كل طبقة من الطبقتين الأخريين (النبلاء، ورجال الدين)، أو يكون عدد نواب
الطبقة الثالثة مساويًا لعدد نواب الطبقتين الأخريين معًا به؟ وثالثها: هل
يحقُّ لإحدى هذه الطبقات الثلاث أن تختار نوابها وممثليها من أهل طبقة أخرى؟ أو
يكون حقها مقصورًا على اختيار مُمثليها أو نوابها من بين أهل طبقتها
فقط؟
أيَّد «نكر» في تقريره أن يكون عدد النواب مُتناسبًا مع عدد سكان ومساحة كل
مديرية أو قسم إداري، كما أيَّد إطلاق الحرية التامة لكل طبقة في اختيار نوابها
وممثليها إذا شاءت، من بين أهل الطبقات الأخرى. ثم إنه أيَّد مبدأ «التمثيل الضعفي»
٣ للطبقة الثالثة، بمعنى أن يكون عدد نُوَّابها مساويًا لعدد نواب
الطبقتين الأخريين معًا.
وكانت هذه المسألة الأخيرة بالذات المسألة التي احتدم حولها النزاع والنقاش،
والصَّخرة التي تحطَّم عليها في النِّهاية مجلس طبقات الأمة. وذلك لأن مؤيدي
«النظام القديم» وقتئذٍ — أي الملكية والنبلاء والإكليروس، ما عدا القلائل
الذين تأثَّروا من النبلاء والإكليروس بالآراء الجديدة — أرادوا أن يستمر — على
غِرَار ما جرى به العمل في السابق — تمثيل الطبقة الثالثة بنسبة الثلث فقط؛ وأن
يكون «التصويت طبقيًّا»؛ أي أن تصوِّت كل طبقة على حدة. وغرضهم من ذلك أن تظلَّ
الأكثرية من نصيب طبقتي النبلاء ورجال الدين أصحاب الامتيازات، دائمًا، وحتى
إذا أخذ بقاعدة «التصويت الفردي»،
٤ فالأكثرية في هذه الحالة تكون كذلك من نصيب الطبقات ذات
الامتيازات.
وقدم «نكر» كثيرًا من الحجج لدعم وجهات نظره التي كان لها الغلبة في النهاية؛
فقبل مجلس وزراء الملك تقرير «نكر»، ثم نشر قرار المجلس هذا مع تقرير «نكر»
بمرسوم في ٢٧ ديسمبر ١٧٨٨. فقابله الشعب بالفرح وأُقِيمت الزينات، وانهالت
التهاني على «نكر». وظهر كأنما الملك ووزيره قد انتصرا على النبلاء الذين كانوا
يُلِحُّون في دعوة مجلس طبقات الأُمَّة للاجتماع، وأنَّهما قد استطاعا
الاستفادة من الموقف لصالح الملكية بتوثيق عُرَى الاتفاق بين الملك
والأمة.
مطالب الأمة ودفاتر الثورة
وفي ٢٤ يناير ١٧٨٩ صدرت رسائل دعوة مجلس طبقات الأمة للاجتماع إلى حُكَّام
الأقاليم في أنحاء المملكة، وقد ذُيِّلَ بهذه الرَّسائل قانون أو قواعد
الانتخاب، وطلب من رجال الحكومة والإدارة تجنُّب الأساليب التي قد تمنع الشعب
من إبداء رغباته الصادقة واختيار ممثِّلِيه بحرية كاملة؛ لأنَّ الملك كما جاء
في هذه الرسائل يُريد أن تسود الحرية المُطلقة، مع التوفيق بينها في الوقت نفسه
وبين المُحافظة على النِّظام والهدوء الشامل … «ولأنَّ» الواجب يقتضي في كل
الأحوال، تجنُّب كل ما قد يبدو تَدَخُّلًا بطريق الضغط، أو استثارة عامل الخوف،
من نفوذ السلطات للتأثير على آراء الناس ومناقشاتهم، وللتأثير على الانتخابات.»
ثُمَّ طلب الملك من رعاياه أن يُقدِّموا إليه كُلَّ ما يُريدون من مَطالب، وكل
ما يستطيعون — إلى جانب ذلك — جمعَه وإعداده من معلومات ومقترحات يهتمُّ بها
الصالح العام.
وكان بناءً على هذه الرَّغبة الأخيرة من جهة، وإطلاق حرية الطبع والنشر في
الوقت نفسه من جهة أخرى، أنْ صَدَرَ عدد كبير من «الرسائل» والبحوث التي دارت
فيها المناقشة حول مطالب الطبقة الثالثة والمبادئ التي نادى بها «المتنوِّرون»:
من ذلك كُتيب، أو «رسالة» لكاميل دي
مولان
Camille Desmoulins بعنوان «فرنسا الحرة»،
٥ ورسالة «لتارجيه»
Target بعنوان «عريضتي»،
٦ ورسائل أخرى كثيرة تولَّى فيها أصحابها من الجانبين إمَّا تأييد
مطالب الطبقة الثالثة ضدَّ أصحاب الامتيازات، وإمَّا الدفاع عن أصحاب
الامتيازات، ومُحاولة التفرقة في الوقت نفسه ببذر بذور الخلاف والشقاق بين أهل
الطبقة الثالثة، عندما صاروا يتحدثون عن «طبقة ثالثة عليا» و«طبقة ثالثة سُفلى
أو دُنيا»؛ أي بورجوازية عالية وأخرى صغيرة.
ولعلَّ من أهم الرَّسائل التي نُشِرَت وقتئذٍ كان رسالة «الآبيه سييس»
L’Abbé
Sieys المشهورة، وعنوانها: «ما
الطبقة الثالثة؟ كل شيء. وماذا كان لها حتى الآن؟ لا شيء. وماذا تبغي أن تكونه؟
بعض الشيء».
٧
وقد صدر هذا الكُتيِّب في يناير ١٧٨٩، ولَقِيَ فور صدوره رواجًا عظيمًا؛
لوضوح عبارته التي أفصح بها عن الآراء التي كانت تدور في أذهان الشعب، والمشاعر
المُختلجة في نفسه، كما أنَّه ذكر المطالب التي تريدها الطبقة الثالثة
(المتوسطة) وشَرَحَ الأسباب التي تستند إليها. وكانت هذه المطالب ثلاثة؛ أولًا:
أن ينتمي نواب الطبقة الثالثة إلى نفس هذه الطبقة التي جاءوا لتمثيلها في
المجلس، حتى يُعبروا تعبيرًا صحيحًا عن مطالب الطبقة التي يمثِّلونها، وكي
يقوموا بواجب الدفاع عن مصالحها على خير وجه. والمطلب الثاني: أن يكون عدد نواب
الطبقة الثالثة مساويًا لعدد نواب طبقتي الأشراف والإكليروس معًا، والمطلب
الثالث: أن يكون التصويت في المجلس عدديًّا Par Tête، فلا تصوِّت كل طبقة بمفردها وعلى حدة.
وختم «سييس» عرض هذه المطالب بقوله: «إنَّ نواب الطبقة الثالثة يُمثِّلون ٢٥
مليونًا من الرِّجال، ويتشاورون في صالح الأُمَّة، وأَمَّا نواب الطبقتين
الأخريين فهم عند اجتماعهم إنما يمثِّلون حواليْ (٢٠٠٠٠٠) من الأفراد فحسب، ولا
يفكرون إلا في امتيازاتهم، وقد يقولون إنه في غير مقدور الطبقة الثالثة أن
تؤلِّف مجلس طبقات الأمة. ليقولوا ما يقولون! إنَّ الطبقة الثالثة هي التي سوف
يتألَّف منها المجلس الوطني «أو الجمعية الوطنية»!»
ولقد بيع من كتاب «سييس» في بضعة أسابيع ما لا يقل عن (٣٠٠٠٠٠) نسخة. وفي هذا
الجو وفي هذا الغليان جرت الانتخابات لمجلس طبقات الأمة، وأعدَّت الدفاتر أو
كراسات الثورة المشهورة Les Cahiers التي كانت
عبارة عن سجل رصد المساوئ موضع الشكوى، ثم المطالب التي نادت بها الطبقات
الثلاث. وبلغ عدد هذه الدفاتر التي أعدَّتها الطبقات الثلاث حوالي الخمسين أو
الستين ألفًا.
ولكن هذه الدفاتر وحدها لا تكفي لمعرفة الأحوال السائدة في فرنسا سنة ١٧٨٩
معرفةً صحيحةً، أو للوقوف على حقيقة رغبات الأمة وقتذاك كاملة؛ فقد اختلف
اهتمام الدفاتر بتدوين المساوئ التي شَكَتْ منها الأمة، حسب اختلاف الجهات
والأقاليم، حيث اهتمَّ على الأكثر أهل كلِّ إقليم أو جهة بتدوين أسباب شكاواهم،
وتسجيل مطالبهم الخاصة بهم، وظَهَرَ في كل واحد من هذه الدفاتر أثر الشخصية أو
الشخصيات التي تولت أو اشتركت في كتابتها، بحكم ما كان لها من كفاءة، أو بحكم
المناصب التي شغلتها، حتى إنه ليتعذَّر الجزم بأنَّ آراء الشعب الحقيقية قد
صِيغَتْ صياغة دقيقةً في العبارات التي زخرت بها هذه الدفاتر.
وعلى ذلك، فبينما شَكَتْ بعض الدفاتر مثلًا من ضريبة الملح، شكت الأخرى من
الربا الفاحش على يد اليهود، وبينما طالبت بعضها بحرية العقيدة والمذهب، طالبت
الأخرى بعدم التسامح مع الكاثوليك أكثر مما ينبغي، وبينما طالبت أكثرية الدفاتر
الساحقة بإعطاء حق الانتخاب لكل الذكور الراشدين، أجاز بعض الدفاتر هذا الحق
فقط إذا كان لا يترتب عليه تعطيل عمل مجلس طبقات الأُمَّة وشلُّ نشاطه. وإذا
كانت بعض الدفاتر قد طالبت بالملكية الدستورية، فقد اهتمَّ بعضها الآخر بضرورة
إصلاح الطرق الرَّديئة، وبينما طالبت بعضها بإصلاح الكنيسة إصلاحًا واسعًا
شاملًا يتناول الرَّأس والأعضاء معًا، انحصرت مطالب الآخرين في ضرورة أن
تتعلَّم «القابلات» القراءة كي يتولَّين تعليم الناشئة؛ لأنَّ البلاد تشكو من
قِلَّةِ المعلمين وندرتهم … وهكذا.
ومن المُتعذِّر أن يعثر الإنسان في هذه الدفاتر على مذهب أو مطلب اتفقت
الدفاتر على تفسيرٍ مُعيَّن له، فهي قد طالبت «بدستور» Constitution، ولكنها أخفقت في تحديد معنًى واحد له. فهو تارةً
الضمانات اللازمة لتقرير حُرِّية الفرد، وتارة إبطال الأوامر أو الرَّسائل المختومة Lettres De Cachet التي كانت تصدر
بالقبض على الأفراد وسجنهم دون تحقيق أو محاكمة، وتارة إلغاء سجون
الدولة.
وتحدثت الدفاتر عن إلغاء الامتيازات، ولكن كان مفهومًا ومتفقًا عليه عدم
المساس بتلك الامتيازات التي ينال منها أصحابها نفعًا وفائدةً. وطالبت الدفاتر
«بالمُسَاواة» في الضرائب، ولكنها كانت مساواة بين الأقاليم كما طلب بعض رجال
الدين، ومساواة بين الأفراد كما طلبت الطبقة الثالثة، وكذلك كثيرون من أهل
الطبقتين الممتازِين.
وحقيقة كانت الطبقات الثلاث ذات ولاء ظاهر للملكية، ولكنَّ الدفاتر طلبت أن
يكون الملك «ملكًا للفرنسيين». وأصرَّ أهل الطبقة ذات الامتيازات على ضرورة
الحد من سلطة الملك، ثم إنهم رضوا بتضحية بعض امتيازاتهم المالية، ولكن في نظير
أن يظلوا مُحتفظين بتفوُّقهم الاجتماعي وسطوتهم السياسية.
وإذا كانت هناك رغبة واضحة في تصفية أملاك وأموال الكنيسة لسداد الدين العام
من حصيلتها، فقد كان هناك خوف واضح من أن يؤدِّي السير في هذا الطريق إلى
نهايته إلى تعريض مبدأ الملكية الخاصة ذاته إلى الخطر. وهكذا قُلْ في مسائل
الإصلاح القضائي، وتنظيم العلاقة بين الكنيسة في فرنسا وكنيسة روما، واستخدام
أموال الكنيسة فيما يعود بالنفع على الأمة بأسرها، وإلغاء الرهبنة، وطريقة
التصويت في مجلس طبقات الأمة؛ حيث عجزت طبقة الأشراف عن الاتفاق على رأي واحد
بشأنها، والإصلاح الزراعي، وهل تَبْقَى أو تُلغى النقابات. ولو أن الجميع
اتفقوا على قدسية حقوق الملكية باستثناء الثروات التي جاءت عن طريق «الاغتصاب»،
كما خلت الدَّفاتر من أية مطالب ذاب صبغة اشتراكية.
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الاختلافات، فقد كان واضحًا — وعلى نحو ما يمكن
استخلاصه مما تقدم — أنَّ الرأي كان متفقًا على مطالب معينة مُحددة، هي إلغاء
الامتيازات التي أعفت طوائف وطبقات معينة من التكاليف والأعباء العامَّة،
وإصلاح نظام الضرائب، وإلغاء الحقوق الإقطاعية، وتحرير الأرض، وإلغاء ضريبة
العُشر، وغير ذلك من المطالب التي لو أجيبت لاختفى في أثرها الإقطاع و«النظام
القديم».
ولقد كان «الإصلاح» والمُطَالبة «بالإصلاح» قبل ذلك كله الصرخةَ المدوِّيةَ
التي تجاوبت أصداؤها في أنحاء فرنسا: إصلاح نظام الحكم إصلاحًا أساسيًّا. ومع
هذا، فقد كان أخشى ما يخشاه مُريدو الإصلاح أن يؤدِّي المساس بقواعد الحكم وما
يَصْحَبه من قضاء على الحقوق الإقطاعية، وتخلص من عبء الضرائب الثقيل، إلى فتح
الباب على مصراعيه للثورة، وتقويض عروش النِّظام القائم. وكان لذلك ضروريًّا —
في نظرهم — الحيطة؛ للحيلولة دون حدوث ذلك.
وكان من رأي قادة الطبقة المتوسطة (البورجوازية) ومُفكريها، سواء من
السياسيين ذوي المطامع، أو من الأحرار الذين يريدون الإصلاح حقيقة، أنَّ
«الدستور» وحده هو الذي يكفُل إزالة كل هذه المساوئ والأدواء التي تشكو منها
الأمة، وذلك دون أن يتعرَّض النظام القائم إلى الانهيار. ومن ذلك الحين كان
استصدار هذا «الدستور» — أو البلسم الشافي — الأمر الذي صحَّ عزم نواب الأمة
عليه. ومن ذلك الحين، صار شغل «المجالس» الشاغل في تاريخ الثورة الفرنسية،
استصدار «الدساتير» لتعيين شكل الحكم، وتسجيل حقوق الفرد وحرياته، ثم واجباته،
ولإنقاذ الأمة — في رأي واضعي هذه الدساتير — من الأخطار الداخلية، والخارجية،
التي أحاطت بها من كل جانب … ولقد كانت هذه «الدساتير» نقطة الارتكاز التي
تأسست عليها كل تلك الجهود التي نقلت الحكم في فرنسا خلال خمسة عشر عامًا فحسب،
من استبداد ملكية البربون المطلقة، إلى ديكتاتورية الإمبراطورية النابوليونية
الأولى.
اجتماع مجلس طبقات الأمة ومشكلة التصويت
ذلك إذن كان البرنامج الضخم الذي أخذ ممثلو الطبقات على أنفسهم تنفيذه عندما
وصلوا إلى فرساي (مكان اجتماع المجلس)، في آخر أبريل ١٧٨٩. وكان عدد هؤلاء
النواب ضخمًا كذلك؛ بلغوا (١١٣٩) نائبًا، ازدحمت بهم الطرق العامة في جميع
أنحاء فرنسا، وهم في رحلتهم التاريخية هذه إلى فرساي. يسترعي النظر من نواب
طبقة الإكليروس (الكنسيين أو رجال الدين) وعددهم (٢٩١) بعض رؤساء الأديرة،
ورؤساء الأساقفة الذين عُرِفَ عنهم التبذُّل في حياتهم الخاصَّة واشتهروا
بالعنف والقسوة أو المداهنة والنفاق والمَطَامع الواسِعَة؛ ومن نواب طبقة
الأشراف وعددهم (٢٧٠) كان هناك نُخبة من الذين آزروا الثوَّار الأمريكيين في
حرب استقلالهم كالماركيز الشاب «لفاييت» La Fayette، أو «الملكيون» الذين أرادوا ملكية من نمط الملكية
الإنجليزية، مثل الكونت دي ميرابو، الذي اختارته الطبقة الثالثة ليكون من بين
نوابها. وكان من بين رجال الدين جماعة من النواب الأحرار كأسقف أوتان Autin، «تاليران-بيريجور» Talleyrand-Périgord. ولقد بلغ عدد القساوسة (من صغار رجال
الدين) المطالبين بالإصلاح (٢٠٥) و(٢٩١).
وأمَّا الطبقة الثالثة (البورجوازية) وعدد نوابها (٥٧٨)، فكان من بين نوابها
عدد من العلماء والكتاب الممتازين، مثل العالم الفلكي «بايلي» Beilly، والكاتب الرَّحَّالة الكونت
دي فولني Volney، ثم من رجال الإدارة
«مالويه» Malouet، ومن رجال المحاماة أو
القانون وهؤلاء عديدون: «مونيه» Mounier نائب
جرينوبل، و«بارناف» Barnave وهو من جرينوبل
كذلك، ثم لوشابيليه Le Chapilier،
وديفيرمو Defermou، ولانجوينيه Lanjuinais، وهؤلاء الثلاثة حضروا من
«رين» Rennes بإقليم «بريتاني» Brittany، ثم أسسوا في باريس «النادي البريتوني» Club Breton منشأ نادي اليعاقبة
المشهور في تاريخ الثورة Club Jacobin، ثم
مرلان نائب «دويه»
Merlin De Douai،
وبتيون Pétion نائب شارتر Chartres وعميد بلدية باريس فيما بعد،
وروبسبيير Robespierre نائب أراس Arras. وهؤلاء جميعًا كانوا من الشبان الذين
عرفوا «بالروية والحكمة» عمومًا ويدينون بالمثل العليا، ولكن كانت تعوزهم
الحنكة السياسية.
ولمَّا كان عدد نواب طبقة الأشراف (٢٧٠)، وطبقة الإكليروس (٢٩١)، وتجمع بينهم
رابطة الدفاع عن امتيازاتهم والمحافظة عليها في جبهة تتألف من (٥٦١) نائبًا،
فقد تشبَّث نواب الطبقة الثالثة بضرورة «التصويت الفردي»، على أَمل أنْ يُعينهم
ما كان لهم من أكثرية — ولو أنَّها وقتئذٍ كانت ضئيلة لا تزيد على (١٧) صوتًا
فقط — إلى جانب ما قد يظفرون به من أصوات بعض نواب طبقتي الأشراف والإكليروس
على إجراء «الإصلاح» المنشود.
على أنَّ تدفق «النواب» على عاصمة المملكة، وقصر الملك، سرعان ما أثار مخاوف
الملكية. حقيقة سخر «البلاط» في أول الأمر من نوَّاب الطبقة الثالثة
المتحمِّسين والمزهوين «برسالة» الإصلاح الجسيمة التي عهد بها الشعب إليهم،
ولكن هذه السخرية انقلبت مخاوف وهواجس عندما راحت الملكة ماري أنطوانيت تسأل
«نكر» إذا كان مجلس طبقات الأُمَّة سيُصبح سيدًا للملك، أو أنَّ الملك سيبقى
سيدًا للأمة!
٨
ولقد ساورت هذه الشكوك «نكر» نفسه الذي أراد الاحتياط للطوارئ، فاستدعى منذ
(أبريل ١٧٨٩) بعض فرق الجيش إلى باريس، وحدث فعلًا أن وقع شغب في حي «سان
أنطوان» ببارس، ذبح المشاغبون في أثنائه أحد أصحاب المحال التجارية، واضطر
فرسان الجيش إلى التدخُّل حتى يُعِيدوا الأمن إلى نصابه.
ولقد أفزع الملك هذا الحادث فزعًا شديدًا، حتى صار يُعِير أذنًا مصغيةً
لنصائح وتأنيب النُّبلاء له، وعوَّل على تفادي العاصفة باستدعاء أحد رجاله
القدامى الموثوق بهم (ماشو دارنوفيل) إلى الوزارة. ولكن هذا الأخير رفض، ونصحه
أن يستبقي «نكر». وهكذا عندما انعقد مجلس طبقات الأمة، كانت الملكية على غير
استعداد لمواجهة هذا المجلس ببرنامج وخطة مرسومة، ويزعجها قبل أي شيء آخر
ذِكْرُ كلمة «الإصلاح» … وكان في خوف الملكية من الإصلاح انهيارها وزوالها في
النهاية.
وفي يوم ٢ مايو استقبل الملك في قصر فرساي نواب الأمة، وفي ٥ مايو ١٧٨٩ انعقد
مجلس طبقات الأمة في أحد أبهاء القصر الواسعة (قاعة أو صالة التسلية أو التلهية).
٩
وازدحم المكان بنوَّاب الطبقات الثلاث للاستماع إلى خطاب الملك، وهو الخطاب
الذي أَكَّدَ فيه الملك حقوق الملكية وسلطانها، وطلب تنظيم المالية، ولكنه لم
يذكر شيئًا عن المسائل التي شغلت أذهان نواب الأمة وقتئذٍ. هل سيدعى مجلس
الطبقات للاجتماع بانتظام في المُستقبل؟ وهل سيكون التصويت «طبقيًّا» أم
«فرديًّا»؟ وخطب حامل أختام الملك «بارنتان» Barentin فجاء كلامه عامًّا لا يَشْفِي غليلًا، ثم خطب
«نكر» فأصغى إليه النواب باهتمام، واستمرَّ خطابه ساعتين، فشرح حالة المالية
بالتفصيل، ولكنه لم يذكر شيئًا عن «الدستور»، كما كان يبدو أنه يميل إلى جعل
التصويت طبقيًّا، فانقضى اليوم الأول في وجوم، ودون أن يَظْفر نواب الطبقة
الثالثة بما يُطَمْئِن خواطرهم، إلى أن هذا «التمثيل الضعفي»، الذي جعل عددهم
مساويًا لعدد نواب الطبقتين الأخريين، سوف يأتي بثمرته. وكان حول هذه المسألة
أن بدأت الأزمة التي أخذت تتزايد حدتها، وبخاصةً عندما وصل إلى فرساي سائر
النواب، بعد انتهاء عمليات الانتخابات الباقية.
وثارت الأزمَةُ عندما شرع المجلس ينظر في صحة انتخاب (نيابة) أعضائه، وهي
عملية ضرورية قبل البدء في العمل. فرفض نواب الطبقة الثالثة أن تقوم بعملية
الفحص كل طبقة من الطبقات على حدة، وكان قد خصص لكلٍّ من النُّبلاء والإكليروس
حجرة، وبقي العامة «بالصالة» على حدة كذلك.
ثم اتصل العامة بطبقة الإكليروس ووجهوا إلى هؤلاء الدعوة رسميًّا «باسم الله
والسلام وصالح الوطن» في ٢٧ مايو، حتى يجتمع نوابهم مع نواب الطبقة العامة (أي
الثالثة) في صالة المجلس للتشاور في الوسائل المحقِّقة للتعاون، الذي يبدو
ضروريًّا «في هذه اللحظة» لصون السلام العام.
ولكنَّ هذه الدعوة لم يستجبْ لها سوى أقلية من النبلاء (٤٧ من ١٨٨) ورجال
الدين (١١٤ من ٢٤٧)، وافقت على اشتراك الطبقات الثلاث معًا في فحص صحة عضوية
النواب، فأُسقِط في يد الطبقة الثالثة. وكان عندئذٍ أن اعتلى «ميرابو» منصة
الخطابة للمرة الأولى، يناشد نواب الطبقة الثالثة أن يثبتوا ويصمدوا، ويؤكِّد
لهم أن طبقتي الأشراف والإكليروس سوف تخضعان لهم في النهاية حتمًا بسب الانقسام
في صفوفهما، وأنه لا مفرَّ من ذلك، خصوصًا إذا لزم نواب الطبقة الثالثة الجمود
والفتور المطلق، ووقف كل عمل أو نشاط. ولكن «مونيه» Mounier الذي كان متخوفًا من هذا النبيل الثائر والذي رأى
فيه «طاغية المستقبل»، لم يلبث أن أقنع زملاءه بإرسال وفد إلى الطبقتين
الأخريين يرجوهما «الانضمام إليهم والاندماج بهم». ولكن هذا المسعى الأخير كان
نصيبه الفشل كذلك. وفي النِّهاية قَرَّر نواب الطبقة الثالثة في ١٠ يونيو، أنه
قد بات من العبث ومن الخيانة في حق الأمة، أن يستمرَّ هذا التقاعد الملحوظ عن
العمل. فوجهوا دعوة أخيرة لفحص صحة نيابة الأعضاء، في مجلس واحد، مُنذرين بأنَّ
العمل الجدي النافع سوف يبدأ فعلًا «سواء حضر أو تغيَّب نواب الطبقات
الممتازة».
الطبقة الثالثة تتحول إلى «جمعية وطنية»١٠
وفي ١٢ يونيو كان الأشراف ورجال الدين قد تسلَّموا هذه الدعوة. وفي مساء
اليوم نفسه بدأت الطبقة الثالثة عملية الفحص بالمناداة على أسماء النواب من
الطبقات الثلاث؛ فتبيَّن في اليوم التالي أنَّ ثلاثة من القساوسة أجابوا على
هذه المُناداة، وفي ١٤ يونيو أجاب ستة منهم، وفي ١٦ يونيو أجاب عشرة؛ أي إن
تسعة عشر نائبًا من رجال الدين وافقوا على مطلب الطبقة الثالثة. ولكن الأشراف
ظلُّوا كتلةً صامدة، في ظاهرها على الأقل، وحاولوا مرارًا إقناع «العامَّة»
بترك حق الفصل في صحة انتخاب النواب إلى الملك نفسه، ولكن دونَ طائل.
وكان في هذه الظروف إذن، أن قرر «العامَّة» أنَّ المجلس صار يضم أكثرية نواب
الأُمَّة، وأنَّه لذلك «مجلس» شرعي وقانوني، ولا يتفق في وضعه هذا مع تَسميته
بمجلس طبقات الأُمَّة، بل يجبُ أن يُسَمَّى «المجلس الوطني أو الجمعية
الوطنية». وعلى هذا؛ فقد تقررت هذه التسمية في ١٧ يونيو. وفي ١٩ يونيو قرَّر
رجال الدين بأكثرية (١٤٩) صوتًا ضد (١٣٧) الانضمام إلى العامة، والاجتماع معهم
في مجلس واحد.
ولما كان النبلاء قد تمسَّكوا بموقفهم، وصار على الملك نفسه أن يكون حكمًا
بينهم وبين الجمعية الوطنية، فقد نشطت المساعي والمؤامرات للتأثير على الملك ضد
الجمعية الوطنية، وتَزَعَّم هذا النشاط أخو الملك الكونت دارتوا D’Artois والبرنس دي
كونديه Condé (لويس جوزيف دي بربرون). وظل الملك مُترددًا فترة من
الوقت، فَقَدَ «نكر» في أثنائها فرصة مواتية للتدخل بين «العامة» والحكومة
لإنقاذ الموقف. وفي ٢٠ يونيو قرَّر لويس السادس عشر — تحت تأثير وضغط بطانة
الملك والملكة وأفراد الحاشية، وكلهم من مؤيدي الأشراف والإكليروس — أن يعقد
«جلسة عامة» Séance Royale يحضرها نواب
الطبقات الثلاث مجتمعين يوم ٢٣ يونيو؛ أي بعد ثلاثة أيام، فيأمر الملك هؤلاء
النواب بالاجتماع مُنفصلين، كل طبقة يجتمع نوابها على حدة، وباتخاذ هذا القرار
ارتكبت الملكية خطأً كبيرًا.
ثم إنه خوفًا من حدوث تطورات أخرى، أغلقت «صالة التسلية» بحجة إعدادها
«للجلسة العامة» المقبلة، وفي الحقيقة لمنع «العامة» من الاجتماع. ولكن هؤلاء
سرعان ما عقدوا اجتماعهم في اليوم نفسه في «ملعب التنس»
١١ — ١٠ يونيو — وحيث إنَّ هؤلاء النواب اعتبروا أن السبب في دعوة
الشعب لهم لتمثيله إنما كان — كما قالوا — «كي يضعوا دستورًا للملكية، ويعملوا
لإحياء النظام العام، ولتأييد الملكية الصحيحة». ولما كان اجتماعهم في أي مكان
يجتمعون به، لا ينبغي أن يغيِّر شيئًا من طبيعة أو صفة جمعيتهم الوطنية، فقد
شرعوا فور اجتماعهم يحلفون يمينًا، وضع صيغته «مونيه» أنهم سوف يجتمعون في أي
مكان تختاره الظروف لهم، وأنَّهم لن يتفرقوا «حتى يتم وضع دستور المملكة على
أُسُس متينة قوية». ووقَّع الحاضرون على هذا العهد والميثاق، الذي صار يعرف
باسم «ميثاق ملعب التنس»،
١٢ وكان من بين الموقِّعِين عليها تسعة من القساوسة، هم الذين حضروا
هذا الاجتماع، بينما لم يحضره نبيل واحد.
ولكن الكونت دارتوا لم يلبث أن أمر بإخلاء الملعب، وإعداده للعبة في اليوم
التالي، على أمل تعطيل اجتماعات «العامة». فاجتمع هؤلاء في اليوم التالي (٢١
يونيو) في كنيسة سانت لوي Saint-Louis، حيث
انضمَّ إليهم أربعة من كبار رجال الدين، وكذلك (١٤٤) من القساوسة. ثم حضر اثنان
من النبلاء قُوبِلا بعاصفة من الحماس الشديد. وأخذ «العامة» يستعدون لمواجهة ما
قد يحدث في «الجلسة الملكية» المنتظرة.
وفي ٢٣ يونيو انعقدت الجلسة العامة (الملكية). فطلب الملك أن يكون اجتماع
الطبقات وهي منفصلة الواحدة عن الأخرى، وأجاز للطبقات (وهي منفصلة) بحث مسألة
الضرائب. ولكنه مَنَعَهَا من التعرض لأي شيء متعلق أولًا: بحقوق الطبقات الثلاث
الدستورية، والتي لهذه الطبقات من قديم الزمن، ثانيًا: بالدستور الذي سوف
يعيِّن مجلس طبقات الأمة التالي شكله، ثالثًا: بالملكيات الإقطاعية، رابعًا:
بالحقوق والصلاحيات، أو الاختصاصات «العادلة» التي لطبقتي الأشراف ورجال
الدين.
ثم اختتم الملك خطابه بقوله: «وتلك هي إرادتي.» وعندئذٍ طلب كبير أمناء القصر
(الماركيز دي درو-بريزيه Dreux-Brézé)، أن
ينسحب نوَّاب الطبقة الثالثة من القاعة؛ فكانت دهشة نواب الطبقة الثالثة عظيمة
وأذهلتهم المفاجأة، ولكن «بايلي» لم يَلْبَثْ أن أجاب «بأن المجلس سوف ينظر هذه
المسألة، وأن الأمة المجتمعة هنا لترفض أن يصدر أي أمر لها!» ثم وقف «ميرابو»
ليقول جملته المشهورة، موجهًا القول «لدروبريزيه»: «اذهب يا سيدي، وبلِّغ مولاك
أننا لن نغادر هذا المكان إلا على أسنَّة الحراب!» وقال «سييس»: «لقد أقسمنا
على أن نحصل للشعب الفرنسي على حقوقه … أيها السادة، أنتم اليوم كما كنتم
بالأمس، فلنمضِ في مباحثاتنا.» ثم اتَّخَذَ المجتمعون قرارًا (اقترحه ميرابو)
يقضي بتمتُّع نواب الأمة وممثليها بالحصانة الكاملة. ولم يكن هناك مناص من
اتخاذ هذا القرار؛ لأنَّ النوَّاب كانوا مصمِّمين على عدم طاعة أوامر الملك، مع
ما يترتب على ذلك من نتائج كان من الواجب الاحتياط لها؛ وخصوصًا عندما كان
بالأمس فقط — كما قالوا — يجري على كل لسان: «ما يشاؤه الملك يشاؤه القانون!»
أي إرادة الملك هي القانون.
وحمل درو-بريزيه جواب «العامَّة»، وانتظر الناس كلمة الملك، ولكن لويس السادس
عشر كان متعبًا، أنهكت قواه كل هذه الحوادث المتلاحقة، فكان جوابه: «هم يريدون
البقاء؟ … حسنًا! فليبقوا إذن!» فكان هذا استسلامًا توقَّع كثيرون أن يتبعه
استسلامات أخرى. ولقد كان لهذا التسليم أسباب أخرى هامة، منها الخوف من أن يرفض
الجنود الذين أحاطوا بمكان الاجتماع، ووقفوا على أبواب القاعة، وخلف
«درو-بريزيه» عندما أبلغ هذا أمر الملك إلى النواب بإخلاء القاعة، استخدامَ
حرابهم ضد «العامَّة»، ومنها موقف أفراد النبلاء الذين انضمُّوا إلى الطبقة
الثالثة مثل لفاييت ولينكور Laincourt،
ولارشفوكولد La Rochefoucould وغيرهم، فقد
عارض هؤلاء في استخدام الجند لتفريق النواب، ثم إنَّه كان متعذِّرًا استخدام
القوة المسلحة ضد هؤلاء النبلاء أنفسهم، ومنها نزول الأسعار المستمر في
«البورصة» منذ بداية شهر (يونيو ١٧٨٩)، وخوف الملكية لذلك من وقوف كل أصحاب
المصالح المالية ضدها.
وقد يكون لموقف «نكر» — الرجل المحبوب من الشعب وقتئذٍ، والذي هدد بالاستقالة
إذا لجأت الحكومة إلى وسائل العنف والشدة — شيء من الأثر في استسلام الملكية.
فكان لكل هذه الأسباب مجتمعة أن وجدت الملكية في هذا التسليم (ثم فيما تبعه من
استسلامات لاحقة) خير الوسائل التي يمكن بها تفادي الأزمة.
ومع ذلك؛ فلم يكن هناك ما يدل — من قريب أو بعيد — على أن هذه الاستسلامات
سوف تضع حدًّا للأزمة. فقد استمرَّ هُياج الخواطر في باريس، لخوف الباريسيين من
حدوث «انقلاب عسكري» في أي وقت للقضاء على الجمعية الوطنية الناشئة. ثم أعيد في
٢٥ يونيو تشكيل «مجلس الناخبين»
١٣ وهو المجلس الذي تألَّف من الناخبين الذين انتخبوا النواب
Deputés العشرين الذين يمثِّلون باريس في مجلس
طبقات الأمة. ولقد انضمَّ إلى هذا المجلس الآن خمسة عشر نائبًا من الأشراف،
وستة وعشرون من الإكليروس. وأعلن تأييده لكل أعمال الجمعية الوطنية، واعتبر من
حقه المشاركة في إدارة شئون العاصمة، حيثُ إنَّه يمثل سكان باريس، وطلب إعطاءه
قاعة يعقد بها اجتماعاته في مبنى الأوتيل دي
فيل
Hôtel de Ville، كما طالب بإنشاء حرس «وطني» من أهل الطبقة المتوسطة
(البورجوازية).
زِدْ على ذلك أن الخلاف اتسعت شُقَّتُهُ في صفوف الطبقات ذات الامتيازات
فانضمت طائفة جديدة من الإكليروس إلى الجمعية الوطنية بين ٢٤، ٢٦ يونيو، وكذلك
مدير جامعة باريس، ومن النبلاء سبعة وأربعون نائبًا يتزعَّمُهم الدوق
دورليان d’Orléans.
وهكذا عجزت الملكية عن فرض طاعتها. وساعد ترددها المستمرُّ على مخالفة
أوامرها، ومع أنها أرادت الاستعانة بالجيش، فقد عجزت عن ذلك؛ بسبب استعداد
الجند للعصيان، وتأييدهم للطبقة الثالثة، حتى قيل عنهم إنهم إذا أُرْغِموا على
إطلاق النار، فسوف يصوِّبون بنادقهم إلى صدور النبلاء ورجال الدين. وفقد الضباط
كلَّ سيطرة على جنودهم، حتى إن أحد الجند لم يَرَ بأسًا في أن يصفع أحد ضباطه
على وجهه.
وجد الملك بسبب هذا كله إذن أن يسلِّم بالأمر الواقع، لعله يستطيع الظهور
بمظهر «الحَكَم» بين الطبقات ذات الامتيازات وبين «العامة». فكتب في ٢٧ يونيو
إلى الأقلية من رجال الدين، وإلى الأكثرية من النبلاء — الذين ظل كل فريق منهم
يجتمع كطبقة منفصلة في «غرفته» المخصصة له — يطلب منهم الانضمام إلى النواب
المجتمعين في القاعة العامة؛ فانضم هؤلاء بالفعل — وفي نفس اليوم — إلى الجمعية
الوطنية. وبهذه المناسبة أُقِيم احتفال رائع في حدائق الباليه رويال Palais Royal، وعلقت الزينات، وفرحت
الجماهير المحتشدة لمشاهدة انتصار الأمة فرحًا عظيمًا. واعتقد كثيرون أن
«الثورة قد انتهت، من غير أن تُرَاق نقطة دم واحدة!»
ومنذ ٣ يوليو انتظمت جلسات المجلس، وفي ٦ يوليو تألَّفت «لجنة للدستور»، وفي
٩ يوليو اتَّخَذَ المجلس اسم «الجمعية الوطنية التأسيسية»، وبذلك انطوت صفحة
مجلس طبقات الأمة نهائيًّا، وهو المجلس الذي أوجده «النظام القديم». وبدأت من
ثَمَّ صفحة جديدة، لمجلس جديد، هو الجمعية الوطنية التأسيسية، التي كان يبدو
وقتئذٍ أنها قوة «سلمية» ولخدمة السلام، وأنَّها سوف تبقى قوة سلمية ولخدمة
السلام. بينما هي في واقع الأمر — وعلى العكس من ذلك — قوة ثورية ولخدمة
«الثورة»، وسوف تبقى قوة ثورية ولخدمة الثورة؛ لأن منشأها كان ثوريًّا.