الجمعية الوطنية التأسيسية١
(١) الملكية والطبقة الثالثة
كان لا يَعْنِي تسليم الملكية في ٢٧ يونيو أن التحالف الذي ربط بين الملكية وبين طبقة النُّبلاء خصوصًا قد انفصمت عراه، بل إنَّ تسليم الملك لم يحدث إلا نتيجةً لضغط الظروف فحسب، فهو عمل اضطراري ومؤقت، وبمثابة حلٍّ وسط لا يمنع الملك من الاتحاد فيما بعد مع النبلاء، وبخاصة مع غُلاة المتطرفين منهم، ثم مع نظرائهم من رجال الدين؛ لتعطيل نشاط «البورجوازي» أهل الطبقة الثالثة ومُقاومتهم؛ الأمر الذي أفضى إلى نتائج خطيرة، سوف تشكِّل حوادث الثورة في مراحلها التالية.
وأما الجمعية التأسيسية؛ فقد اهتمَّت بتأدية رسالتها على الوجه الأكمل، وكانت تُريد العمل مُتعاونة مع الملك. وفي هذه المرحلة كان أهم ما هدفت إليه هو منع الملك من التأثر بآراء دعاة العنف والشدة الذين أحاطوا به، وحذَّر «ميرابو» هؤلاء من عدم جدوى المكائد والمؤامرات في إثناء الجمعية الوطنية عن عزمها: وهو وَضْع دستور يُعيد الرَّخاء إلى المملكة ويبعثها بعثًا جديدًا.
ولكن المُحيطين بالملك ظلوا لا يَدَعُون فرصة تمرُّ دون أن يبيِّنوا له أن ضمان تاجه وبقاء قوانين المملكة، بل وسعادة شعبه نفسه، يتطلَّب إخضاع الجمعية الوطنية لإرادته ومشيئته، وأن الموقف يستدعي استقدام قوات جديدة من الجيش لمنع حدوث عصيان أو مشاغبات، ولتخويف مُحرِّكي الفتنة وردعهم.
ويبدو أنَّ الملك نفسه كان مُقتنعًا بأن الغرض من وجود الجيش هو مجرد «ردع الجميع» فحسب. ولكن كانت هناك مشروعات وتدابير أُخرى سرية لإجبار الملك على اتخاذ إجراءات مُعينة لا يجرؤ أصحابها — وهم رجال الحاشية — على الحديث عنها الآن مع الملك بصراحة. فلم يلبثْ أن زاد هذا النشاطُ من جانب بطانة الملك من حدة الخواطر، بل وأثار عصيان الجنود وتذمُّرهم، وسرت الإشاعات الخطيرة تقول بأنَّ النية في بلاط الملك مبيَّتة على حرمان العاصمة من المؤن، وتهديد الباريسيين بالمجاعة، ومطاردة نواب الطبقة الثالثة، وتدبير مذبحة مروِّعة للإجهاز على الوطنيين. وكان من ذلك الحين أن بدأ اعتقاد الناس بوجود ما صار يعرف باسم «المؤامرة الأرستقراطية».
ولقد ساعد على زيادة الهياج والاضطراب العام: اشتداد الأزمة المالية، ونزول الأسعار، الذي أزعج رجال المال والتجار، وأشاع الخوف في نفوس «البورجوازي» أهل الطبقة المتوسطة، الذين خشوا من ضياع دخولهم وفقد ثرواتهم. وثمة عامل آخر هو وجود «المرتزقة» السويسريين والألمان في باريس، حيث كان ذلك نذيرًا بتعرض الفرنسيين الذين لا يفهمون لغة هؤلاء المرتزقة في جيش الملك، لأخطار المذابح المفاجئة وأعمال العنف والقسوة؛ فكان بسب هذا كله، أن اجتمع الناخبون — وهم الذين انتخبوا نواب باريس عن الطبقة الثالثة والذين ذكرنا أن «مجلسهم» كان قد أُعيد تشكيله في ٢٥ يونيو — فاجتمعوا الآن في يوم ١٠ يوليو في «الأوتيل دي فيل» كي يحلفوا مرة أخرى اليمين التي حلفوها قبل ذلك بأسبوعين تقريبًا، بأن يُنشِئوا حرسًا بورجوازيًّا بمدينة باريس؛ لحماية الأفراد، والمحافظة على الأملاك، وصون المتاجر.
هذه الحوادث الخطيرة لم تُفِدْ شيئًا في إقناع المارشال دي بروجلي بأن الموقف قد صار متحرجًا؛ فلم يُصدِرْ أية أوامر إلى جنوده لقمع هذه الاضطرابات، بل اكتفى بتكليفهم أن يدفعوا القوة بمثلها إذا وقع هجوم جديد عليهم، ورفض اتخاذ إجراء حاسم لإعلان أن الثوار بعملهم هذا قد أجرموا في «حق الملكية»، ولتبصير «الطبقة المتوسطة» بعواقب الانسياق وراء ما سَمَّاهم مُسْتَشاروه عصبة من المهيجين وقطاع الطرق. ومع أنَّه أمر بإجراء بعض المناورات البوليسية، فقد بقي هذا الأمر دون تنفيذ. والحقيقة أنَّ بِطَانة الملك والملتفِّين حوله كانوا لا يزالون يشعرون بالثقة والاطمئنان، ولا يدركون جَسَامَة الخطر المحدق بهم، وذلك بالرغم من هياج الخواطر الملحوظ في داخل الجمعية الوطنية ذاتها.
وأما سبب هذا الهياج في داخل الجمعية، فهو أنَّ النواب قد صاروا يخشون حدوث «الانقلاب الحكومي» الذي توقعوه في أية لحظة الآن، وطلب النواب القَسَمَ من جديد لتأييد قرارات ١٧ يونيو بأنهم جمعية وطنية ويمثلون الأُمَّة، وطالبوا بعودة الوزراء المطرودين، كما طالبوا بالدستور، وبضرورة السرعة في إنجازه، وإلا قُضِيَ على الجمعية الوطنية كما قالوا. وحاولت هذه — دون جدوى — حَمْلَ الملك على سحب جنوده، والموافقة على إنشاء الحرس البورجوازي، وعندما لم يستجب الملك لمطالبها، قررت «الجمعية الوطنية» مسئولية الوزراء الحاليين أمامها، وجميع مستشاري الملك مهما كانت مراتبهم، وأيَّدت جميع القرارت السابقة، لا سيما قرارات ١٧، ٢٠، ٢٣ يونيو ١٧٨٩، ثم أعلنت أنها منعقدة بصورة مستديمة.
(٢) سقوط الباستيل
ولما كانت هذه أنباءً خطيرة حقًّا، فقد راح النَّاسُ يتساءلون: وماذا يا ترى يكون موقف الملك الآن؟ وكيف تستطيع الملكية اجتياز هذه الأزمة العصيبة؟
ففي الوقت الذي كان ينسحب فيه الجنود من ساحة «شان دي مارس» تطايرت الشائعات في باريس، بأنَّ الكونت دارتوا، والمارشال دي بروجلي سوف يُهاجمان العاصمة بقوة كبيرة عندما يُرْخِي الليل سدوله، وأشيع أنَّ الملك يتأهَّب لمغادرة فرساي، حتى يترك الجمعية الوطنية بها تحت رحمة الفرق الأجنبية، ومنذ ١٥ يوليو صار «ميرابو» يؤكِّد أن الجنود الموجودين بفرساي قد زارهم عشية ذلك اليوم (أي مساء أو ليل ١٤ يوليو) الأُمراء والأميرات، والمقربون والمقربات، يغمرونهم بالعطف والهدايا، ويستَعْدُونهم ضد الشعب، وأن هؤلاء الجنود الأجانب الذين امتلأت جيوبهم بالذهب، ودارت الخمر برءوسهم، قد قضوا الليل (ليل ١٤ يوليو)، يتوعَّدُون في أغنياتهم المبتذلة الجمعية الوطنية بهدم أركانها، ويهددون فرنسا باستعبادها واسترقاقها.
على أنَّ الذي راح «ميرابو» يؤكده لم يكن إلا مجرد شائعات. وأمَّا الحقيقة فكانت أنَّ الملك لم يلبث أن أدرك أن من الحكمة وأصالة الرأي، إحناءَ الرأس حتى تمرَّ العاصفة، والانتظار في الوقت نفسه حتى تحدث المعجزة، وتلك كانت أن تتغلَّب محبة الملك الكامنة في قلوب الشعب، على كل هذه الأخطار. وعلى ذلك فقد حضر الملك بنفسه إلى الجمعية الوطنية، يتحدث مع نواب الأمة في الوسائل اللازمة لإعادة النظام والهدوء، ويؤكد لهم أن أشخاصهم مأمونة مصونة بالرغم من كل ما حدث، وأصدر أمر بإبعاد الجنود من باريس وفرساي، وطلب من النواب معاونته لتأمين سلامة الدولة، واستمع بهدوء إلى المديح والثناء العظيم الذي وجَّهه المُتكلمون في الجمعية الوطنية إلى شخص وزيره المبعد «نكر».
وهكذا ظلَّت الملكية مُترددة، لا تدري ماذا تفعل في يوميْ ١٤، ١٥ يوليو، في حين كانت الحوادث تجري بسرعة عظيمة في باريس، من ذلك أن «بايلي» أصبح منذ ١٦ يوليو عمدة لباريس، وأن لفاييت تولى رئاسة الحرس الباريسي الذي سُمِّي بالحرس الوطني، واشتدت المطالبة باستدعاء «نكر» للوزارة والمطالبة بمجيء الملك نفسه إلى باريس.
وهكذا يستطيع المرء أن يقول إن فرنسا قد صارت من هذه اللحظة بلدًا متحررًا، وأنَّ الملك قد أصبح ملكًا فُرِضَت القيود على سلطاته، وأن النبلاء قد صار إنزالهم من عليائهم إلى مستوى سائر أبناء الأمة.
(٣) الهجرة الأولى «وأصول المؤامرة الأرستقراطية»
وكانوا إلى جانب اعتقادهم أنَّ «الشرف» يقتضيهم أن «يتنحَّوْا» عن كل شيء ما دام الملك قد فضَّل الخضوع لأعدائه على قبول خدمات الأسرة المالكة، كانوا يرجون أن يستطيعوا وهم بالخارج القيام بعمل أوفى وأبعد أثرًا في إعادة الملكية إلى سابق عهدها. وآثر بعضهم الهجرة — كالكونت دارتوا والدوقة بولينياك — حتى لا يَزِيد بقاؤهم من ناحية أخرى في إحراج الأسرة المالكة، وقد تبع هؤلاء مهاجرون آخرون من المقربين إلى البلاط، ومن الوزراء السابقين، وعملائهم أو وكلائهم، وقصدوا جميعًا حدود الأراضي الواطئة «بلجيكا» أو إلى سويسرة.
والتقى الكونت دارتوا والدوق دي كونديه في بروكسل، حيث التفَّ حولهما أعوانهما هناك، وتخلى المارشال دي بروجلي عن قيادته ولجأ إلى لكسمبورج. ووجَّه الكونت دارتوا إلى أخيه الملك رسالة حرص على إذاعتها بكل الوسائل، يلومه فيها على ضعفه واستسلامه، ويأخذ عليه نقص كفاءته الظاهرة، وهي الأسباب التي قال عنها إنها وحدها مصدر كلِّ الشرور التي حدثت، والتي لا مَفَرَّ من زيادة حدتها.
ولكن سلطة الملكية لم تكن وحدها هي التي تلاشت، بل كان يبدو كذلك أن سلطاتٍ غيرها — وعلى رأسها سلطة الأرستقراطية نفسها — كانت في طريقها إلى الانحلال كذلك.
فقد رأينا كيف نشأت فكرة أن هناك مؤامرة أرستقراطية للقضاء على «الطبقة الثالثة» بسبب استقدام الجنود إلى فرساي وباريس، ولقد قَوِيَ اعتقاد الناس تدريجيًّا بوجود هذه المؤامرة بسبب ما وقع من حوادث بعد ذلك، ثم رسخ هذا الاعتقاد عند «هجرة» أمراء البيت المالك وأتباعهم إلى الخارج. وسيطر على «الثوريين» نوع من «الذهنية الجماعية» التي وجَّهت نشاطهم وجعلتهم يعتقدون أن في استطاعة البلاط القضاء على «العامة» وإفناءهم إذا تمكَّن خصومهم — وهم النُّبلاء الفرنسيون — من استخدام القوة ضدهم (أي ضد العامَّة)، فإنه لما كان هؤلاء «الخصوم» أثرياء وينالون تأييد الدولة، وفي حوزتهم الأسلحة الكثيرة، ويعيشون في قصور حصينة، ولهم خدم وأتباع لا عدد ولا حصر لهم، فقد تغالى «الثوريون» في تقدير قوة هؤلاء الخصوم الحقيقية وباتوا يخشونهم، واعتقدوا أنَّ النبلاء علاوةً على ذلك سوف يستعدُون عليهم الملوك والدول الأجنبية، بل ويستعينون في مُحَاربتهم وإفنائهم بعصابات قُطَّاع الطرق واللصوص والشحاذين، الذين زاد عددهم كثيرًا بسبب التعطل عن العمل وانتشار المجاعات.
وقر رأي «الثوريين» لذلك على أن ينتزعوا المَلِك انتزاعًا من الوسط السيئ الذي يحيط به، وعلى تحريره من النفوذ الضار الذي وقع تحت تأثيره دائمًا، فيحسن صنعًا إلى نفسه — كما قالوا — ثم إلى باريس، إذا كان هذا مُمكنًا، ويوفي بالعهود التي قطعها على نفسه. وأمَّا النبلاء الذين تزعَّموا حركة المُقاومة أمثال دارتوا، وكونديه، وبولينياك ومن إليهم، فقد كان الثوريون والمواطنون على استعداد «للتسلح» من أجل القضاء عليهم.
وهكذا بينما عَلَت الهتافات للملك «الطيب» الذي دعا مجلس طبقات الأمة للاجتماع، والذي استسلم لمطالب الجبهة الوطنية، استحكم العداء بين الثوريين وبين أولئك النبلاء الذين تزعَّموا من ذلك الوقت المبكر «حركة المقاومة» ضد الثورة، والذين اعتقد الثوريون أنهم جرءوا على خديعة الملك، وعلى إخضاعه لسلطانهم.
ولم يكن «الخوف» هو منشأ الفوضى التي انتشرت وقتئذٍ، بقدر ما كان مبعثها الصحيح هو ذلك «النِّظام» أو الأسلوب الذي رسمه واتَّبَعَه الشعب لاتِّقاء المخاطر سواء كانت هذه حقيقية أو وهمية، والانتقام لنفسه إذا نزل به الشر، ثم منع وقوع الشر مرة ثانية. وهو نظام، أو أسلوب اقتضى لتحقيق هذه الغاية المبادرة بإلغاء الحقوق الإقطاعية التي حكمت على الفلاحين بالمذلة والمهانة، ونكَّدت عليهم عيشهم، وذلك بإعدام كل الوثائق والمستندات التي كانت هذه الحقوق الإقطاعية القديمة مسجلة بها.
ولما كان الشعب لا يجد مُبررًا لبقاء احتكار الملح أو لبقاء امتياز الصيد، فقد هوجمت مخازن الملح، وطورد حرَّاس الصيد، ثم إن الجماهير لم تلبث أن انتزعت من أيدي الجلادين كثيرين من المحكوم عليهم بالإعدام، وأفاد عدد غير قليل من هذه الفوضى لإشفاء غليلهم من أعدائهم، ثم لم يكتفِ الفلاحون في ثورتهم وهم الناقمون على «النظام القديم» عمومًا بإتلاف السجلات والمستندات، بل صاروا يحرقون ويخرِّبون المباني التي حُفِظَت بها هذه السجلات. وكان الدافع المسيطر على «ذهنية» هؤلاء الفلاحين «الرَّغبة الشديدة في الاقتصاص من صاحب الإقطاع، وذلك بالانتقام منه في أعز شيء لديه، وهي الأملاك (القصور) التي ارتكز عليها سلطانه وكانت رمزًا لسيطرته.»
وقد ينشط المسئولون في بعض القرى فيلحون على أهلها بالفرار بكل سرعة، فيساور القرويين الشك في نواياهم، ويتَّهِمُونهم بالارتشاء من الأشراف ورجال الدين، لإخلاء القرى من أهلها، كي يستولوا هم على أملاكهم وثرواتهم، وعندئذٍ ينقلب القرويون على هؤلاء المسئولين النشيطين.
ولقد ظلت مع ذلك بعض الأقاليم لا يعرف أهلها الرعب والفزع بالرغم من اعتقاد الناس في أنحاء فرنسا وتأكيدهم أنهم «شاهدوا» اللصوص وقطاع الطريق في كل مكان، ثم إن «الرعب» كان طفيفًا في بعض الأقاليم لا يعدو الانزعاجات المحلية البسيطة فحسب. وأما سبب هذا الرعب والفزع العظيم فكان كما شاهدنا الخوف من قطاع الطريق ومن مؤامرات النبلاء (أي المؤامرة الأرستقراطية)، وثورة الفلاحين، والتسلح المفاجئ.
وكان من المنتظر — وكما حدث فعلًا — أن يترتَّب على حالة الرعب والفزع هذه وقوع كثير من حوادث القتل والذبح، وذلك التخريب والتدمير الذي صحب ثورة الفلاحين، ولكن كانت هناك نتائج أعظم خطرًا من هذه، وأبعد أثرًا، وذلك عندما أخذ يقوى ويشتدُّ في وجه هذه الأخطار — ومنذ ربيع ١٧٨٩ — تماسُك وتكتُّل طبقي حقيقي، هو تكتل الشعب حول «الطبقة الثالثة» التي ينتمي إليها، حتى يدفع عن نفسه الأخطار التي تتهدده من ناحية أعداء الثورة.
وهكذا كان فيما حدث، انهيار «النظام القديم» من تلقاء نفسه، كما أنَّ هذا الانهيار جعل الملكية تعتمد على المجالس البلدية في مواجهة هذه الفوضى ومقاومتها، بينما وجدت البلاد من ناحية أخرى، في الحركة «الاتحادية» أو «الفدرالية» ما يحقق إنقاذها من الفوضى؛ فاتحدت المدن التي في إقليم «بريتاني» حول مدينة «رين»، والتي في إقليم نانت حول مدينة نانت، وهكذا.
(٤) زوال النظام القديم (يوم ٤ أغسطس)
وعجزت الجمعية الوطنية التأسيسية أمام هذه الحوادث الجسيمة عن فعل أي شيء؛ بسبب انقسام الرأي بين أعضائها، واختلاف نزعات النواب وميولهم؛ فهناك فريق يريد وضع نظام صارم يكفل القضاء على الفوضى، وفريق آخر يرى وضع «نظام» يُتِيح الفرصة للانتقام من كبار رجال الدين والنبلاء الإقطاعيين، الذين أنشئوا الصلات مع «المهاجرين»، والذين اتهمهم الشعب الآن بأنهم هم الذين حرَّضُوا الفلاحين والقرويين على تخريب الأملاك في الإقطاعيات، وفريق ثالث من أثرياء الطبقة المتوسطة الذين ابتاعوا من النبلاء بعض أملاكهم وأراضيهم وصار لهم ريع ودخل منها، لم يكن من مصلحتهم استمرار الفوضى والتخريب؛ حتى لا يُحرَموا من إيراداتهم، علاوة على كل ما كان ينطوي عليه استمرار الفوضى والتخريب من تعريض مبدأ الملكية الفردية ذاته للخطر.
- أولًا: إلغاء السُّخرة ورقيق الأرض، والخدمة الإقطاعية الشخصية؛ أي الامتيازات الإقطاعية.
- ثانيًا: شراء الحقوق «الكائنة فعلًا»؛ أي إلغاء الحقوق الإقطاعية في نظير تعويض يُدفع لأصحابها. ولم يكن «دي نواي» يملك ما يخشى أن يفقده هو شخصيًّا؛ لأنَّه كان الابن الأصغر (ولا يرث شيئًا) ومفلسًا. ولكن «دي نواي» لم يلبث أن لَقِيَ تأييدًا من جانب النبلاء الأحرار، وسرعان ما طغت موجة من الحماس على المجلس، فصار النُّواب من طبقة النبلاء والإكليروس يهرعون إلى المنصة ليُعلنوا منها تنازلهم عن امتيازاتهم وحقوقهم الإقطاعية؛ فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ودون أن يفوِّضهم ناخبوهم من أهل هاتين الطبقتين في ذلك التنازل إطلاقًا. ثم بادر نواب الأقاليم يعلنون كذلك تنازل المجالس الإقليمية عن كل ما كان لها من سلطات مالية، وتنازل المدن عن نقاباتها وامتيازاتها الاقتصادية، وأعلن القضاة تنازلهم عن حق شراء الوظائف القضائية، وأعلن المجلس أنَّ «الملك معيد الحرية إلى فرنسا وموطد لأركانها بها»، وذلك ابتهاجًا «بذلك الاتحاد السعيد الذي جمع اليوم بين العقول والقلوب». وهكذا عندما انفضَّ المجلس في الثالثة من صبيحة اليوم التالي (٥ أغسطس) كان ظاهرًا أن الاتفاق منعقد على «تحطيم النظام القديم»، وأنْ لا سبب بعد اليوم يدعو إلى الخوف من «ثورة» عنيفة!
ولكن ذلك كان تفاؤلًا، لا يلقى ما يبرره. وسبب هذا ما ظهر من صعوبات عديدة عند تفسير وتطبيق القرارات الآنفة، والقرارات التي اتخذت كذلك في الأيام التالية بين ٥، ١١ أغسطس سنة ١٧٨٩، وبشأن: إلغاء شراء وظائف القضاء، وبشأن حقوق واختصاصات المجالس البلدية، وتحقيق العدالة لكل إنسان بدون مقابل، وإلغاء الامتيازات المالية «بحيث يدفع كل مواطن الضريبة التي تفرض على جميع الأملاك، بطريقة واحدة، وفي شكل واحد»، وتقرير المساواة «بحيث يكون من حق كل مواطن دون تمييز بسبب المولد الالتحاقُ بالوظائف الكنسية والمدنية والعسكرية»، وبحيثُ لا يمنع أحد من ممارسة أية مهنة نافعة، وإلغاء العشور مع تعويض الكنيسة عنها، بما يكفي النفقات اللازمة لإقامة الشعائر الدينية وتأدية رجال الدين لواجباتهم، ومساعدة الفقراء والمعدمين إلى غير ذلك، وإلغاء الأموال التي كانت تدفعها الكنيسة إلى «روما»، ثم دعم حقوق الدولة في الإشراف والهيمنة على شئون الكنيسة عمومًا.
وقد دلَّت هذه المسائل على أنَّ الجمعية الوطنية كانت مدفوعة إلى اتخاذ هذه الخطوات بميول «جاليكانية» (أي غالية) تحفظ للكنيسة في فرنسا ذاتيتها، وأنظمتها في علاقاتها مع كنيسة «روما»، وحسب المبادئ التي أعلنها القساوسة في فرنسا منذ قرن مضى (سنة ١٦٨٢).
ولقد لعبت المجالس البلدية دورًا هامًّا في كل التغييرات الكبيرة التي حدثت أو كان من المنتظر حدوثها أيضًا نتيجةً لاتخاذ هذه القرارات من جهة، وبسبب الصعوبات التي نجمت من مُحَاولة تطبيقها من جهة أخرى؛ وذلك لأنَّ المجالس البلدية كانت تُودَع بها الأوامر المتعلقة بالنظام القضائي والاجتماعي، وكان من عملها تفسير القرارات التي عهد إليها بتنفيذها. ثم إن المجالس البلدية لم تلبث أن حصلت (في ١٠ أغسطس) على حق تجنيد المواطنين للجيش، وتسريح الجنود الذين انتشر العصيان بينهم، كما صار الجنود والضباط لا يخضعون لسيطرة الملك وإشرافه المطلق عليهم، منذ أن طلب منهم أن يحلفوا اليمين — يمين الولاء — «للأمة والملك والقانون»، ووجب لذلك منع استخدامهم ضد «المواطنين».
أَضِفْ إلى هذا أنَّ هؤلاء المواطنين — أعضاء المجالس البلدية — قد ازداد اهتمامهم الآن بكل ما يقع من حوادث لا مَعْدَى من أن تَتْرك أثرًا على سعادتهم ومستقبلهم، فقويت رغبتهم في الوقوف على حقيقة كلِّ ما يحدث، ومناقشة آثاره، والتفكير في خير الطرق الموصلة للانتفاع به. ولا جدال في أنَّ يقظة الوعي القومي هذه كانت أساس «الثورة» الاجتماعية التي كان لا مناص من دعم أركانها في «الدستور» المنتظر.
(٥) إعلان حقوق الإنسان والمواطن٥ (٢٦ أغسطس ١٧٨٩)
وفي أول أغسطس بدأت الجمعية الوطنية تبحث موضوع هذا الإعلان من حيث وجوب اشتماله على النظريات التي أتى بها الفلاسفة مثل روسو وغيره، أو أن يشتمل فقط على الحقائق الأساسية التي هي مصدر كل القوانين الوضعية، أو من حيث الأخذ بالمبادئ التي تقررت في إعلان الاستقلال الأمريكي، أو اعتبار أن ما يصلح لأمة حديثة النشأة كالولايات المتحدة قد لا يصلح لأمة قديمة العهد، ولإمبراطورية كبيرة كفرنسا.
ولقد استغرقت هذه المباحثات وأمثالها وقت المجلس حتى يوم ٤ أغسطس، فوافقت الجمعية الوطنية في هذا اليوم على استصدار إعلان الحقوق للإنسان والمواطن. ومما تجدر ملاحظته أنَّ الجمعية رفضت استصدار إعلان مكمل لإعلان الحقوق للإنسان والمواطن، يتضمن «الواجبات» كذلك المفروضة على الإنسان والمواطن. وفي ٢٦ أغسطس سنة ١٧٨٩ اعتُمِد الإعلان في صيغته النهائية.
ويتَّفِق إعلان الحقوق الذي صدر في ٢٦ أغسطس ١٧٨٩ مع منطق العهد الذي صدر فيه؛ فهو خلو من من الحشو، كما أنه مصاغ في عبارات واضحة وبصورة تعكس المزاج والروح الفرنسي، عندما كانت تحدو أصحابه الرغبة في «وضع إعلان يصلح لكل الأقوام ولكل الأوقات (الأزمنة) ولكل البلدان، ويصبح نموذجًا يَحتَذِيه العالم قاطبة وينسج على منواله.»
ويتسم «الإعلان» بالطاع النفعي؛ أي بالرغبة في الانتفاع من استصداره، عندما كانت الغاية الأولى من تقرير المبادئ التي تضمنتها مواده السبع عشرة، الحيلولة دون وقوع أي عصيان أو ثورة جديدة؛ الأمر الذي دل على أنَّ إعلان الحقوق إنما استصدر في ظروف خاصة، وأنه قد خضع لإملاء الحوادث، ولذلك فإن إعلان الحقوق — من هذه الناحية — يعتبر عملًا أو إجراءً سياسيًّا.
وثمة مُلاحظة هامة هي أنَّ هذا الإعلان كان من وضع «بورجوازية حرة»؛ أي طبقة مُتوسطة تَدِين بمبادئ الإصلاح، كما أنها كانت «بورجوازية ممتلكة»؛ أي إنها ذات مصلحة في تقرير حقوق ملكيتها. فكان ذلك مبعث ما لُوحِظ من تناقض في إعلان الحقوق؛ لأنَّه بينما أرادت هذه البورجوازية الحرة تقرير مبدأ الملكية (التملك) وعلى اعتبار أنه حق طبيعي مُقدس لا يمكن المساس به أو النيل منه (المادتان: ٢، ١٧)، كان واضحًا من جهة أخرى أن هذا المبدأ لا يمكن أن يفيد منه سواد الشعب الذي لا يملك شيئًا. زد على ذلك أنه قد تُرِكَتْ دون حل كلُّ المسائل المُتعلقة بمصير الملكية الإقطاعية والكنسية التي ألغتها قرارات الجمعية الوطنية في ٤–١١ أغسطس ١٧٨٩.
وعندما ضمن إعلان الحقوق حق «المقاومة ضد الاستبداد والظلم» (المادة ٢) كان واضعوه يريدون — قبل كل شيء — تقرير أن الحوادث الأخيرة التي بدءوا بفضلها يستأثرون بكل أسباب السلطة، كانت قانونية ومشروعة، وفي الوقت نفسه لا شك في أنَّ حوادث شهر يوليو كانت لا تزال ماثلة في أذهانهم، ويسيطر على تفكيرهم ضرورة الحيلولة دون وقوع ما يُشبهها في المستقبل، عندما جاء في هذه المادة أن الغرض من كل نظام سياسي أو تضامن سياسي هو المحافظة على حقوق الإنسان الطبيعية والتي ليست مؤسسة على سلطة خارجية.
ثم إنهم قبلوا مبدأ حرية الرأي (المادة ١٠) وترك الناس أحرارًا يُبدون ما يشاءون من آراء، حتى الآراء الدينية، ثم أكَّدوا حقَّ الإنسان في التعبير عن آرائه وإذاعتها (المادة ١١)، ولكنهم (المادة ١٠) اشترطوا ألا يترتب على التظاهر بهذه الآراء إقلاق أو إزعاج للنظام العام المستند على القانون. وقد احتجَّ «ميرابو» في خطاب مثير على هذا المبدأ، الذي قال: إنه يدل على أن المجلس يريد تقرير العقيدة الدينية (الكاثوليكية) السائدة.
ولقد سبَّب هذا التناقض الألم، كما بعث على الشعور بالخيبة في نفوس المواطنين الذين عقدوا آمالًا عظيمةً على الدستور، الذي كان إعلان الحقوق مقدمته، ولكن بالرَّغم من هذا التناقض الظاهر، اشتمل إعلان الحقوق على أهم المبادئ التي نادى بها فلاسفة الثورة: الحرية، المساواة، سيادة الأمة، فصل السلطات، الإرادة العامة … إلخ. وكان بسبب تقرير هذه المبادئ في وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن، أن صار هذا الإعلان «عقيدة» الديمقراطية، ثم زاد من قوة هذه «العقيدة»، إيمان رجال الثورة بأنَّ الواجب الإنساني، يطلب منهم العمل على نشر هذه «العقيدة» أو المذهب الديمقراطي، خارج حدود بلادهم، حتى تسعد البشرية قاطبة، ويتحرَّر الإنسان في كل مكان، من قيود الرِّقِّ والعبودية.
(٦) حقوق الملك
وبدأت الجمعية الوطنية التأسيسية تبحث موضوع الدستور؛ وعندئذٍ ظهرت بوادر الانقسام الخطير في المجلس، ولم يكن سبب الانقسام التفكير في تغيير شكل الحكم؛ لأنَّ المجلس كان يُريد أن يبقى الحكم «ملكيًّا». ولكن دار الخلاف حول الطريقة التي يمارس بها الملك وظائفه في المملكة وإذا كان لويس السادس عشر قد تنازل (مؤقتًا) عن سلطاته وسلَّم (ضمنيًّا) بمبدأ سيادة الشعب، فقد كان معروفًا كذلك أنه لا غنى عن تصديق الملك على القوانين حتى تصبح نافذة، وفي وسع الملك لذلك أن يعطل أو يوقف نشاط النواب المتحمسين للإصلاح.
وإذا كان المجلس من جهته قد أقرَّ مبدأ فصل السلطات، فإنه كان يرى كذلك أنه إذا بقيت السلطة التنفيذية في يد الملك، يجب أن يحتفظ المجلس بالسلطة التشريعية، وأصر كثيرون على أن تبقى هذه السلطة التشريعية للمجلس وحده ودون شريك، ورفض المجلس أن يكون للملك حق التصديق على القوانين، «واستندوا في ذلك إلى أن الاضطراب والحيرة سوف يسودان إذا رفض الملك التصديق على قرارات ٤–١١ أغسطس وعلى إعلان حقوق الإنسان؛ أي إذا رفض التصديق على الإجراءات التي أعادت السلام الداخلي، وأشاعت الثقة والطمأنينة في النفوس»، وهي الإجراءات أو القرارات التي يجب المحافظة عليها كاملةً ومهما كان الثمن.
ورفض المجلس «الغرفة الثانية» على اعتبار أنها محاولة لإضعاف السلطة التشريعية وإحياء طبقة النبلاء تحت اسم آخر. ولكن المجلس لم يلبث أن أعطى الملك في ١١ سبتمبر ١٧٨٩ حقَّ الاعتراض (الرفض) المؤقت، وذلك بأن جعل هذا الحق موقوتًا بدورتين فقط من أدوار انعقاد المجلس؛ أي لمدة أربعة أعوام، فإذا أقر المجلس نفس القوانين بعد ذلك، سقط حق الملك في الاعتراض عليها. وكان «نكر» قد وعد بأنَّ الملك سوف يصدق في نظير ذلك على قرارات ٤ أغسطس.
(٧) الهياج في باريس
ولقد كانت الفوضى وقتئذٍ تسود باريس، سببها إقفار الحوانيت من البضائع والأغذية؛ لامتناع المزارعين والمنتجين عن إرسال سلعهم وغلالهم ومحصولاتهم إلى العاصمة، ولأنَّ الماليين صاروا يهرِّبون أموالهم؛ بسبب انتشار القلاقل والاضطرابات في الأقاليم، ولأنَّ الجمهور صار متكالبًا على تخزين المواد الغذائية لخوفه من المجاعة، فارتفعت لذلك كله الأسعار، وندر وجود العملة، واضطر الباريسيون إلى الوقوف ساعات طويلة أمام المخابز للحصول على كسرة من الخبز لا تُغني ولا تُشبِع، وتعطَّلت الصناعات الكمالية التي كانت تزوِّد أثرياء باريس بأدوات الزينة والترف، منذ أن غادر العاصمة أكثر أهل البلاط وكبار الأجانب وأعضاء الأسر الغنية.
وانتشرت البطالة كما انتشرت المجاعات، حتى صار يتزايد تباعًا عدد الفقراء المعدمين في باريس، فوصل عددهم بعد عامين اثنين من بداية الثورة إلى ١٠٠٠٠٠ تقريبًا من سكان عددهم في أوائل أيام الثورة حوالي ٦٠٠٠٠٠ نسمة. ومن بين هؤلاء الفقراء والمعدمين حواليْ ٦٠٠٠٠ جاءوا من الأقاليم طلبًا للرزق.
وقد اتهم هؤلاء المهيجين جماعةُ «الأرستقراطيين» و«أصحاب القلنسوات» (أي رجال الدين) في المجلس بأنهم منشأ كل سوء، ونصحوا بوجوب العمل مباشرةً ضد الملك وضد البلاط، وطالبوا بحل الجمعية الوطنية، وعودة الملك إلى باريس.
ولقد صدَّقت الجماهير الثائرة هذا الاتهام، بسبب الاعتقاد السائد وقتئذٍ بأن البلاط وقد أخفق في الانتصار على الثورة، وليس في قدرته اللجوء إلى القوة لإخمادها، صار يحاول القضاء عليها بنشر المجاعة، وأن القلق سوف يظل مستبدًّا بالنفوس حتى يتسنَّى فصل الملك الذي صار أداة طيِّعة في أيدي المهاجرين والنبلاء عن حاشيته المحيطة به، وأنه لا مفر للوصول إلى ذلك من عودة الملك إلى باريس.
(٨) ٥، ٦ أكتوبر: عودة الملك إلى باريس
وخشي الملك والبلاط من العودة إلى باريس، وسعى البلاط عبثًا لاستمالة لفاييت والحرس الأهلي، وهو القوة الموجودة فعلًا منذ عصيان «الحرس الفرنسي»، وحاول البلاط أن «يجس نبض» الجنود، وكانت فرقة أو آلاي الفلاندر قد وصلت إلى فرساي بناءً على دعوة الملك كما تقدم، فاحتفلت سيدات البلاط بمقدمهم احتفالًا كبيرًا، وأقيمت في أول أكتوبر سنة ١٧٨٩ مأدبة فخمة لضباط الفرقة، وشرب هؤلاء نخب الأسرة المالكة. وعندما رجع الملك من الصيد دخل فجأة إلى المقصورة المخصصة له لتحية المجتمعين، ومعه الملكة والدوفان (أي ولي العهد)، فعظم الحماس، وفعلت الخمر فعلها في الرءوس؛ فأهان الجنود الشارة الحمراء الزرقاء (شعار باريس)، واستبدلوا بها الشارة البيضاء (شعار الملك البربروني)، أو الشارة السوداء (شعار الملكة أنطوانيت)، ولعن الجنود الجمعية الوطنية، وصاروا يسبُّونها. وبلغ هياجهم ذروته عند خروج الأسرة المالكة من الاجتماع، وأعلن الجنود وضباطهم أنهم يكرِّسون حياتهم لخدمة الملك وحده.
هذه المأدبة وما حدث فيها، وصلت أخبارها إلى باريس؛ فزاد هُياج الجماهير، ووجد المهيجون فيها فرصتهم السانحة، لإرغام الملك على العودة إلى باريس، ولم تكن تعوزهم الحجة في هذه المرة، بسبب ما حدث في فرساي، لإقامة الدليل القاطع على أنَّ النية مبيتة لإحداث «انقلاب حكومي» ضد الشعب، وضد نوابه في الجمعية الوطنية.
ولكن كان يبدو أنْ لا مَفَرَّ من سلوك طريق واحد مع الملك الضعيف والمتردد، والذي أحاط نفسه ببطانة السوء: هو الاتصال به مباشرةً ودون وساطة أحد.
ولكن لويس السادس عشر — وهو الرَّجل المُتردد دائمًا — لم يلبث أن زادت حيرته، بسبب هذا النُّصح والإرشاد، فبعث يطلب النصيحة من الجمعية الوطنية. غير أنَّ هذه كان قد اقتحمها النسوة الصاخبات، والمطالبات «بالخبز، والخبز وحده» ووَقْفِ كل تلك الخطب الطويلة الرنانة، والتي لا جدوى منها ولا طائل تحتها»؛ فصارت الجمعية عاجزة عن التفكير أو البحث في شيء منها.
وفي صباح ٦ أكتوبر تجدَّد الصخب؛ فاقتحم جماعة من الثوار قصر الملك، وكادوا يفتِكون بالملكة لولا أنَّها هربت من مخدعها إلى غرفة الملك، وتدخل لفاييت — وكان قد وصل إلى فرساي مع حرسه الوطني في منتصف ليل ٥ أكتوبر — تدخَّل لإنقاذ الموقف بأن جعل الملك والملكة يخرجان إلى شرفة القصر، وقبل لفاييت يد الملكة أمام الجماهير، ووضع الملك شارة الثورة على صدره كما علقها حرسه. ولكن الجماهير أصرت في عناد على وجوب عودة «الخباز (الملك)، والخبازة (الملكة)، وصبي الخباز الصغير (ولي العهد) إلى باريس»؛ فاضطر حينئذ الملك والملكة إلى العودة في اليوم نفسه إلى باريس. وأمَّا الجمعية الوطنية، فقد لحقت بالملك يوم ١٢ أكتوبر إلى باريس كذلك. وإذا قيل عن لويس السادس عشر إنه فقد تاجه يوم ١٤ يوليو، فهو قد فقد حريته الشخصية بانتقاله إلى باريس يوم ٦ أكتوبر.
وكان للانتقال إلى باريس أثر آخر، هو أنَّ الجمعية الوطنية التي شهدت في فرساي الجماهير تقتحم جلساتها يوم ٥ أكتوبر وتتدخل في مناقشاتها، لم تَعُدْ هي الأخرى متمتعة بحريتها منذ مجيئها إلى باريس، عندما صارت قاعة المجلس تزدحم بجماهير المتعطلين عن العمل والمتطرفين في عواطفهم السياسية، ويتعالى صياح هؤلاء وصخبهم إما لتأييد وإما لمعارضة خطيب من الخطباء، وإمَّا للموافقة على ما يروقهم من الاقتراحات المعروضة، وإما لرفض تلك التي لا تروقهم منها.
وفي هذا الجو الملبد إذن وفي هذه الظروف الشاذة، كان على الجمعية الوطنية أن تعمل لإنعاش الدولة، ولبعثها ذلك البعث الجديد الذي طالبها الشعب به وهدف إليه «البرنامج» الذي انتخبت الأمة أعضاءها على أساسه.
وتضافرت صعوبات كثيرة ومُتلاحقة لتعطيل نشاط أولئك الذين رغبوا حقيقة في العمل المثمر الصحيح، فتميَّز ما وقع وتَمَّ في الشهور التالية بطابع التفكك وعدم الارتباط المنطقي، سواء فيما كان يفسر مسلك الأفراد أو فيما صار يشكل مجرى الحوادث؛ فقد بقيت الأزمة المالية والاقتصادية على حالها، وظلت العاصمة في هياج مستمر، وزاد من حدة الأزمة التموينية أن الأقاليم احتفظت كلٌّ منها بما لديها من أغذية ومحاصيل، وأدى عدم إقبال الشعب على المساهمة في القروض الأهلية التي أصدرها «نكر» لسد عجز الميزانية إلى شدة الضَّائقة المالية، حتى باتت الدولة مهددة بالإفلاس.
زِدْ على ذلك استمرار مناوأة مجالس الطبقات الإقليمية والبرلمانات (وهي الهيئات القضائية العليا في الأقاليم) لنشاط الجمعية الوطنية، وعملت العناصر المعادية للثورة من أجل تعطيل النظام الجديد بما في ذلك من تعطيل وضع دستور للكنيسة وإدخال الإصلاحات القضائية اللازمة وإعادة تنظيم البلاد من الناحية الإدارية، وغير ذلك من الأمور التي نجمت من زوال «النظام القديم»، والتي وجب أن يشملها «الدستور» الذي انتظر الشعب الفراغ من وضعه بنافذ الصبر.
وقد تخلَّصت الجمعية الوطنية من هذه المناوأة التي هدفت منها «البرلمانات» على وجه الخصوص إلى توجيه الحركة الثورية في طريق معين يضعف السير فيه من قوة وقيمة المبادئ التي نادت بها الثورة، وذلك بأن أصدرت في ٣ نوفمبر ١٧٨٩ قرارًا بتعطيل هذه البرلمانات (وكان عددها وقتئذٍ ١٣ برلمانًا) إلى أجلٍ غير مسمًّى.
ولم تكن خطة «ميرابو» هذه سرًّا مكتومًا، بل لم تلبث أن علمت الجمعية بها من ميرابو نفسه، كما صار مشتبهًا في مؤازرة ميرابو لقضية الملكية، وتخوفت الجمعية من علاقات ميرابو بالملكية؛ ولذلك فإنه عندما طلب ميرابو في ٦ نوفمبر ١٧٨٩ أن يكون لوزراء الملك صوت استشاري في مداولات الجمعية الوطنية على غرار ما يحدث في إنجلترة؛ حتى تتمكَّن الجمعية بسبب حضور هؤلاء الوزراء لجلساتها من الإشراف على أعمال السلطة التنفيذية، لم تقتنع الجمعية الوطنية بوجهة النظر هذه وخشيت أن تستوزر الملكية ميرابو، وقررت في ٧ نوفمبر أن يمتنع على أي نائب دخول الوزارة طول مدة انعقاد الجمعية، وكان لقرارها هذا أثره في الدستور بعد ذلك.
ولقد كان بسبب هذا كله: الخوف من الأخطار الخارجية (أي المتمثلة في وجود المؤامرة الأرستقراطية)، والخوف من الأخطار الداخلية، والخوف من انتشار المجاعة، وانعدام الأمن، وتهديد حقوق التملك التي حرص عليها «البورجوازي»؛ أي الطبقة المتوسطة، الغنية على وجه الخصوص، ثم ارتباك الحالة المالية بدرجة تهدد بالإفلاس؛ كان بسب هذا كله أن خطت الثورة خطوتها الأولى والمبكرة في طريق جمع كل أسباب السلطة لوضعها في أيدي أولئك الذين كانوا يرون في وضع واستصدار «الدستور» الذي يحد من سلطات الملكية — وهي التي تزعزعت ثقتهم بها — الوسيلةَ التي يستطيع بها الشعب وممثلو الأمة الحقيقيون — وهم البورجوازي دائمًا — إنقاذ الوطن.
وذلك بأن الرأي في الجمعية الوطنية قد صار متجهًا الآن إلى ضرورة دعم سلطانها أو بمعنى أصحَّ إلى ضرورة تحويلها إلى «ديكتاتورية» ذات سلطات نافذة، تمكنها من وضع الأنظمة التي تريدها، على أساس أنها (أي الجمعية الوطنية) مقر السيادة العليا في الأمة. ولكن مما تجدر ملاحظته هنا أن ديكتاتورية أخرى كانت تكمن وراء ديكتاتورية الجمعية الوطنية، تلك هي ديكتاتورية مدينة باريس (القومون)، وهذه قد كانت لا تتردد عند الحاجة — علاوةً على ذلك — في مقاومة ديكتاتورية الجمعية الوطنية ذاتها.
(٩) الدستور (٣ سبتمبر ١٧٩١)
وفي هذا الجو استأنفت الجمعية الوطنية أعمالها «لتصفية» النظام القديم، وإنجاز الدستور، وبعد مناقشات عنيفة وكثيرة، أسفرت أعمالها في آخر الأمر عن تقرير مسائل الدستور الآتية:
أولًا: الملك والسلطة التنفيذية
ثم تقرر للملك مرتب ثابت (٢٥ مليون فرنك سنويًّا)، وصار القائد الأعلى للجيش، ولكن لم يترك له الفصل في أمر الحرب والسلم تمامًا، بل استلزم الدستور موافقة المجلس (أي الهيئة التشريعية) على إعلان الحرب أو إبرام السلم، ثم جُعل من حق الملك تعيين الموظفين واختيار وزرائه، ولكن بشريطة أن لا يكون الموظفون والوزراء من أعضاء الجمعية أو الهيئة التشريعية؛ حرصًا على تنفيذ مبدأ فصل السلطات وخوفًا من أن يؤثِّر هؤلاء الموظفون والوزراء بالرشوة على أعضاء المجلس (الهيئة التشريعية)، ثم حُرم الوزراء من حضور جلسات الهيئة التشريعية حتى ولو كان ذلك للدفاع عن سياستهم، وقرر الدستور أنْ ليس لعضو سابق «في الهيئات التشريعية» أن يَلِيَ وظيفةً إلا بعد مُضِيِّ أربعة أعوام من انتهاء عضويته.
ثانيًا: السلطة التشريعية
وقد تقرَّر أن يكون التشريع من حق مجلس واحد هو الجمعية التشريعية، وجعل الانتخاب لهذه الجمعية التشريعية على درجتين.
ثالثًا: التنظيم الإداري
وكان إنشاء الكانتون (أو القومون) هو أهمَّ ما يلاحظ في هذا التنظيم الإداري الجديد، وتتألف إدارته من مجلس البلدية، ومن هيئة أو إدارة تنفيذية (الإدارة البلدية) يختلف عدد أعضائهما باختلاف عدد سكان كل «كانتون» أو «قومون»، وينتخبهم الشعب (المواطنون العاملون) انتخابًا مباشرًا.
ويلاحظ أن الغرض من هذا التنظيم الإداري الجديد كان تأسيس الوحدة القومية، وإزالة الفروق الإقليمية المحلية التي فصلت فيما مضى بين أهل إقليم وآخر، فأصبح الجميع الآن «فرنسيين» فحسب، ولم يعد هناك غاسكونيون أو نورمانديون … إلخ. كما أن هذه القومونات التي بلغ عددها ٤٤ ألفًا كانت تتمتَّع بسلطات أقوى مما كانت تتمتع به الحكومة المركزية وبدرجة جعلت من المُنتظر أن تتطور هذه القومونات (أو الكانتونات) حتى تهدد بأن تصبح شبه جمهوريات مستقلة.
ولما كان الغرض من هذا التشريع في نظر الجمعية الوطنية توحيد الأمة الفرنسية وإزالة الفوارق التي ذكرنا أنها كانت تفصل بين أقاليم فرنسا من قديم، فقد أرادت الجمعية الوطنية تمكين الشعور بالوحدة وبالقومية، وذلك بإقامة احتفال وطني عام يحيي فيه الأفراد من جميع الأقاليم الوحدة القومية القائمة على الإصلاح والحرية والإخاء والمساواة، وعلى أن يحدث هذا الحفل يوم ذكرى سقوط الباستيل.
وقد حضر هذا الاحتفال من أعضاء الوفود والجماهير حوالي ٣٠٠٠٠٠ نسمة. ومع أن المطر كان ينزل مدرارًا في أثناء الاحتفال، فقد ظل الحماس عظيمًا. واعتقد كثيرون وقتئذٍ أن الثورة قد تدعمت أركانها، وأن مبادئها قد استقرت تمامًا، وأن عهد الظلم والاستبداد قد انتهى إلى غير رجعة، وأن ذلك كله قد حدث دون أن تدفع فيه الأمة ثمنًا غاليًا.
والحقيقة أنَّ هذا النظام إنما يكشف عن وجود تلك السيطرة البورجوازية الغنية التي أرادت الاستئثار بكل أسباب السلطة في فرنسا على أنقاض النظام القديم، والتي لم تكن بعيدة كلَّ البعد عن حب الذات. ولقد كانت هذه الأَثَرَة والأنانية مصدر كلِّ المتاعب التي حدثت، والاصطدامات التي وقعت بعد ذلك.
رابعًا: الإصلاح القضائي
خامسًا: الإصلاح المالي
كانت الأزمة المالية أعظمَ المشاكل التي واجهتها فرنسا في هذا الحين بسبب ما أحدثته اضطرابات الثورة من تعطيل كثير من موارد إيرادات الدولة، ثم بسبب زيادة النفقات زيادة عظيمة، وهي النفقات التي اقتضاها تموين باريس بالغلال، وتنظيم الحرس الأهلي، وتعويض أعضاء البرلمانات الملغاة، حتى إن «نكر» لم يَلْبَثْ أن أصدر قرضين أهليين؛ أحدهما من ٣٠ مليونًا من الفرنكات والآخر من ٨٠ مليونًا لسد العجز الظاهر في الميزانية.
وكل ورقة نقد تمثل ما يُساوي قيمتها من أملاك الكنيسة، ولكل فرد يتعامل بهذا الورق الحق في أن يستبدل به ما يساوي قيمته عينًا من أملاك الكنيسة، ثم لم تلبث الحكومة ذاتها أن صارت تصدر «أوراق النقد» هذه بكميات عظيمة. وبهذه الطريقة أمكن اجتياز الأزمة المالية، ولو أن هذا النجاح كان «وقتيًّا»، كما ترتب على إصدار هذه السندات آثار سيئة فيما بعد (في صورة تضخم مالي خصوصًا)، وقد ألغيت هذه الأوراق النقدية سنة ١٧٩٧.
سادسًا: قانون الكنيسة المدني١١
على أن رجال الدين الذين كانوا أكثر ميلًا «للثورة» وأكثر عطفًا عليها من النبلاء انقلبوا الآن مناوأتها، وشرعوا يبذلون قصارى جهدهم لتعطيل أعمال الجمعية الوطنية. والسبب في ذلك أنَّ أنصار الإصلاح من طبقة الإكليروس؛ أي أولئك الذين أيدوا «الثورة»، كان من رأيهم أن الكنيسة دعامة قوية من الدعائم التي يستند عليها «النظام القديم»، وأن وجودها كمؤسسة لها امتيازات وذات وضعٍ خاصٍّ بها لا يتفق — بل ويتعارض — مع التنظيم الثوري الجديد.
ثم إنه وُجِدَ إلى جانب هؤلاء عدد كبير من أعضاء الجمعية من الذين اعتنقوا المبادئ التي نادى بها فولتير والإنسيكلوبيديون أصحاب الموسوعة.
وأسفر الهجوم على «الكنيسة» عن إلغاء الأديرة وطوائف الرهبان ما عدا الطوائف التي تقوم بأعمال البر والإحسان، كما صودرت أموال الأديرة والطوائف في نظير إعطاء «معاشات» لأعضائها من قبل الدولة. وفي ١٢ يوليو ١٧٩٠ أصدرت الجمعية الوطنية قانون الكنيسة المدني، وبمقتضاه صار كل الأساقفة وغيرهم من القساوسة ينتخبون بواسطة الأمة، على نمط ما يحدث في انتخاب القضاة والموظفين في المديريات والمراكز، وجرى تعديل في توزيع الأسقفيات وغيرها من الوحدات الدينية بحيث صار توزيعها متفقًا مع الوحدات الإدارية، وذلك كله دون أن يكون للبابا دخل ما، لا في الانتخاب ولا في رسم القساوسة. ثم أُنْقِصت مرتبات الأساقفة بينما زيدت مرتبات صغار القساوسة.
- أولًا: أنه أدخل التفرقة بين شعب فرنسا من حيث شعوره تجاه الثورة وموقفه منها بصورة لم تحدث من قبل؛ حقيقةً أعلن «المهاجرون» النبلاء حربًا شعواء على الثورة، ولكنَّ مناوأتهم للثورة زادت صفوف الشعب تماسكًا وتكتلًا. وأمَّا الآن فقد حدث الانقسام في صفوف هذا الشعب بدرجة أشعلت الحرب الأهلية في البلاد قبل مُضِيِّ وقت طويل.
- وثانيًا: أن الملك الذي كان قد قَبِل «الثورة» وسلم بها، لم يلبث أن وجد نفسه الآن وقد صار يقف منها موقف المعارضة الشديدة؛ وذلك لأن الملك اعتقد من أول الأمر أن في هذا القانون مساسًا بعقيدته ودينه، وكان لويس رجلًا متمسِّكًا بالدين والعقيدة؛ فكتب للبابا يطلب النصح والإرشاد، ولكن البابا أرجأ الإفصاح عن رأيه فاضطر الملك إلى الموافقة على القانون المدني للكنيسة منعًا للهياج ولعدم إثارة عاصفة من الاحتجاج على «حق الاعتراض المؤقت» الذي أُعْطِيَ له إذا استخدمه في هذه المسألة، فوافق على القانون في ٢٤ أغسطس ١٧٩٠.
- وثالثًا: أنَّ البابا لم يلبث بعد ذلك أن أعلن استنكاره لقانون الكنيسة المدني في ١٠ مارس ١٧٩١، فكان هذا التحدي من جانبه لقرار الجمعية الوطنية سببًا جعل الجمعية الوطنية في ١٣ أبريل ١٧٩١ تُرْغِم على رجال الدين «المخالفين أو المستنكرين» على حلف يمين الطاعة للدستور، كضمان لولاء هؤلاء المُستنكرين للثورة؛ فأدى هذا الإجراء بدوره إلى اشتداد حركة المقاومة ضد الثورة من جانبهم.
ولقد لقي القساوسة المخالفون تأييد معظم الفلاحين لهم؛ لأنَّ هؤلاء الذين كانوا قد رحَّبوا في الماضي بإلغاء الحقوق الإقطاعية وانتزاع أملاك الكنيسة، قد ساءهم الآن أن تتدخَّل الجمعية الوطنية في شئون الدين والعبادة.
وعلى ذلك، فقد وجد أعداء الثورة والمناوئون لها في هذا كله مجالًا فسيحًا للدسِّ ضد المبادئ الجديدة. ثم كان لا يقل عن هذا أهميةً أن الملك قد صار ينفر نهائيًّا من الثورة، ومبادئها، ولم يلبثْ أن صح عزمه على قتل الثورة بالقوة العسكرية.
(١٠) فرار الملك إلى فارن Varennes
أوضحنا فيما سبق كيف أن «ميرابو» كان قد نصح الملك في إلحاح أن يُغادر العاصمة إلى إحدى المدن بالأقاليم (١٧٨٩). ولكن أحدًا لم يعمل بنصيحته؛ ثم حدث في شهر مايو ١٧٩٠ أن وافق الملك على استخدام «ميرابو» للدفاع عن حقوق الملكية في داخل الجمعية الوطنية وخارجها، ولإطلاع الملك على مجرى الحوادث، وكي يُشير عليه بالسياسة التي يجب اتباعها. ومن ذلك الحين استمر «ميرابو» يلحُّ على الملك في ضرورة أن يغادر باريس حتى ولو أدى ذلك إلى إثارة الحرب الأهلية. ولكن مما تجدر مُلاحظته أن «ميرابو» في الوقت نفسه حذَّر الملك من التفكير في الاستنجاد بالملوك والأمراء الأجانب ضد «الثورة» وتشجيع أي غزو أجنبي على البلاد كوسيلة تستعيد بها الملكية سلطانها المفقود، وتقضي بها على «الثورة»؛ لأنَّ هذا العمل من شأنه إذا حدث أن يستثير الأمة بأسرها على الملك، ويؤدي إلى وقوفها متكتلة ومتحدة ضده.
ووصل الملك وأسرته إلى باريس في ٢٥ يونيو، وقد قابلته الجماهير وهي صامتة ولم ترفع القُبَّعات لتحيته.
فقد ذاع خبر فرار الملك في باريس صبيحة يوم ٢١ يونيو، فكان لهذا النبأ وقع سيئ. ثم إنَّ أعداء الثورة اعتقدوا أن الفوضى سوف تنتشر في باريس نتيجة لهذا الهرب، وأنهم سوف يجدون في حدوث هذه الفوضى المبرر الذي يمكِّنهم من اتخاذ إجراءات رجعية ضد الجمعية الوطنية. ولكن الجمعية الوطنية سرعان ما سيطرت على الموقف، واتخذت عدة قرارات هامة لتأمين سلامة الثورة.
وكان من هذه الاضطرابات ما حدث من قيام أول مظاهرة «جمهورية» في ميدان شان دي مارس أيام ١٥، ١٦، ١٧ يوليو ١٧٩١؛ فأمر لفاييت يوم ١٧ يوليو بإطلاق النار على المتظاهرين لتشتيتهم، فقتل وجرح حواليْ مائتين، وانفضَّ المتظاهرون ولكن بعد أن خسر «لفاييت» منذ هذا الحين شعبيته؛ أي محبة الجماهير له وتعلُّقهم به.
(١١) نهاية الجمعية الوطنية التأسيسية
وكان السبب في إصدار هذا القرار — أو بالأحرى في نجاح روبسبيير في استصداره من الجمعية — أنَّ الحزب الرجعي في الجمعية الوطنية — وهم الذين لا يعبئون بما قد يؤدي إليه اتخاذ هذا القرار من فوضى ما داموا يستطيعون كما اعتقدوا القضاء على الدستور نتيجة لهذه الفوضى — قد انضمَّ إلى حزب اليسار المتطرف (من اليعاقبة) الذين هم أصحاب هذا القرار.
وفيما عدا ذلك، منع وجود أكثرية مُعتدلة بالجمعية من إدخال تغييرات جوهرية على الدستور عند مراجعته. وأخيرًا قررت الجمعية حتى تضمن بقاء الدستور «أنَّ للأمة الحق في مُراجعته متى شاءت، ولكن المجلس (أي الجمعية الوطنية) يعلن أنَّ صالح الأمة ذاتها يدعوها إلى وقف هذا الحق لمدة ثلاثين عامًا.»
وفي ٣ سبتمبر ١٧٩١ عُرِض الدستور على الملك ليصدق عليه، فطلب مهلة لدراسته. وفي مساء ١٤ سبتمبر صدَّق الملك على الدستور، وأعيد الملك إلى وظائفه. وكان آخر ما قامت به الجمعية الوطنية أنها حاولت دون طائل مهاجمة نادي اليعاقبة، ثم أنها استصدرت قرارًا بالعفو الشامل عن المشتركين أو المتعاونين في مسألة هرب الملك. وفي ٣٠ سبتمبر ١٧٩١ أصدرت الجمعية قرارًا بانفضاضها، وبذلك انتهى عهد الجمعية الوطنية التأسيسية.