الفصل الثاني
المؤتمر الوطني١
٢١ سبتمبر ١٧٩٢–٢٤ أكتوبر ١٧٩٥
(١) تأليفه
تألَّف المؤتمر الوطني من ٧٤٩ عضوًا انتخبوا بالاقتراع العام، ولو أن الذين
استعملوا حق الانتخاب كانوا نسبيًّا قليلين. من هؤلاء الأعضاء (٦٥) سبق أن
كانوا أعضاء بالجمعية الوطنية التأسيسية، (١٦٤) أعضاء بالجمعية التشريعية. وجرى
الانتخاب مباشرة تحت تأثير هياج الخواطر الذي أحدثته مذابح سبتمبر. ولما كان في
باريس القومون صاحب الكلمة النافذة، فقد انتخب للمؤتمر الوطني: روبسبيير،
دانتون، كوللود يربوا Collot d’Herbois، كاميل
ديمولان، مارا، الدوق دورليان (أو فيليب المساواة). وأما في الأقاليم فقد ساد
بها شعور بالغيرة من السيطرة التي كانت للعاصمة من جهة، ثم كان هناك استنكار
شديد للحوادث الدامية الأخيرة من جهة ثانية؛ ولذلك فقد فاز الجيروند في معظم
الانتخابات. ولم يوجد في المؤتمر الوطني ملكيون أو دستوريون.
وفي داخل المجلس، صار الجيروند هم حزب اليمين المتطرفين. ويعتمدون على ما كان
لهم من تفوُّق عددي في المجلس وسلطان على الوزارة، لا سيما بعد أن استقال منها
«دانتون» على إثر انتخابه نائبًا في المؤتمر الوطني. وقد أعيد انتخاب الجيروند
للقدامى، وهم: فرنيو، بريسو، كوندورسيه، جنسونيه. وكان غرض الجيروند خصوصًا
إخضاع قومون باريس للطاعة؛ حتى يسترجعوا بذلك السلطة التي فقدوها منذ حوادث ٢
سبتمبر، ولكي يحرروا المديريات من ديكتاتورية باريس عليها.
وأما في أعلى مقاعد المجلس إلى اليسار، فقد جلس نواب باريس الذين سبق ذكرهم
(روبسبيير، دانتون، كوللود يربوا، كاميل ديمولان، مارا، فيليب المساواة) مع
حوالي ثلاثين عضوًا آخرين عرفوا بسبب ارتفاع المكان الذي جلسوا فيه باسم «الجبل».
٢
ولم تكن هناك فروق كبيرة بين حزبي الجيروند والجبل؛ لأنهم جميعًا كانوا
جمهوريين ويعتمدون على الشعب (أو ديماجوجية الجماهير) في تأييد الإجراءات التي
يريدون اتخاذها، وينحصر وجه الخلاف بين الحزبين في أن الجيروند أرادوا إنشاء
حكومة نظامية، وجعلهم رد الفعل الذي حدث نتيجة للمذابح الأخيرة لا يثقون في
جماهير الغوغاء ويميلون نحو الطبقة المتوسطة (البورجوازي). ولما كانوا قد حصلوا
على كل ما أرادوه: وهو التفوق العددي في داخل المجلس والسلطان على الوزارة، فقد
صاروا الآن من المحافظين.
وأما الجبل، فكان مصممًا على ضرورة أن تستمر «الثورة»، وهدف قادة الجبل إلى
انتزاع السلطة من أيدي الجيروند، وكانوا على استعداد لقبول أية نتائج قد يُسفِر
عنها تطرف الديمقراطية، ثم استنكروا كل عمل من شأنه تعطيل إرادة الشعب الذي
قالوا إنه صاحب السيادة العليا، وعدوا ذلك خيانة. وكان مبعث قوتهم اتحادهم
وتكتُّلهم، ثم تأييد قومون باريس لهم، وقد صار القومون الآن السلطة الأولى في
الدولة، وأخيرًا قدرتهم على تحريك الجماهير والغوغاء ضد الأكثرية في
المجلس.
وإلى جانب حزب الجيروند والجبل، كان هناك عدد كبير من أعضاء المجلس
«المستقلين» والذين عرفوا باسم «السهل» Plain
أو المستنقع Le Marais، يصوتون تارة مع الجبل،
وأخرى مع الجيروند، حسبما تُمْلِيه عليهم آراؤهم أو مخاوفهم.
(٢) نشاط المؤتمر الوطني
واتخذ المؤتمر الوطني إجراءاته الأولى بالإجماع؛ لأن هذه كانت لدعم الجمهورية
من الناحية القانونية حتى تتخذ الصيغة الشرعية اللازمة لها؛ حيث إن الجمهورية
ولو أنها كانت قائمة فعلًا منذ يوم ١٠ أغسطس سنة ١٧٩٢، إلا أنه لم يكن لها سند
قانوني. فكان كما تقدم أول إجراء اتخذه المؤتمر الوطني في ٢١ سبتمبر ١٧٩٢ هو
إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية (أي من يوم ٢١ سبتمبر)، وبهذا اليوم بدأ العام
الأول من الجمهورية.
ولما كان قد انتهى أمر الدستور السابق (دستور ١٧٩١) فقد تقرَّر في يوم ٢٢
سبتمبر أيضًا، إعادة انتخاب الهيئات الإدارية البلدية والقضائية، وكذلك قضاة
الصلح، ثم أبقيت القوانين التي لم تصدر قرارات بإلغائها، وتشكلت لجنة لوضع
«دستور» جديد. ولقد أحرز الجيروند في هذه اللجنة وسائر اللجان أكثرية
ساحقة.
وحتى يضمن المجلس استيلاء الأمة نهائيًّا على الأملاك المصادَرة، تقرَّر نفي
المهاجرين نفيًا أبديًّا، وإعدام كل من يعثر عليه منهم في الأراضي الفرنسية، أو
يؤخذ أسيرًا وهو مسلح.
وفي كل هذه الإجراءات، كان الجيروند والجبل على اتفاق كامل، ولكن الاصطدام لم
يلبث أن وقع بين هذين الحزبين عندما ناقش المجلس التقرير الذي وضعته الوزارة عن
الحالة العامة في الدولة.
فقد استنكر الجيروند المذابح الأخيرة (مذابح سبتمبر) وطالبوا بعقاب الذين
دبروها، وهاجموا دانتون وروبسبيير ومارا «كثلاثية» ذات أطماع خطيرة تريد تأسيس
حكم ديكتاتوري. وكان الجيروند يبغون من هذا الهجوم تحطيم «الجبل» وكذلك قومون
باريس. ولكن الجيروند كانوا متسرعين؛ فلم يحسنوا تقدير الظروف أو اختيار الوقت
المناسب للقيام بهذا الهجوم، ثم أعوزتهم الأدلة والبراهين لتأييد اتهاماتهم ضد
اليعاقبة الثلاثة.
وعلاوةً على هذا، فقد أضفوا على خصومهم أهمية كبيرة بهجومهم عليهم، فجاءت
النتيجة على العكس مما كانوا يريدون، حيث تدعَّمت سيطرة هذه «الثلاثية» في
المجلس، كما تدعمت سيطرة «القومون» في باريس.
فقد استطاع دانتون وهو يدافع عن نفسه، أن يوجه الاتهام ضد الجيروند أنفسهم،
فاتهمهم بأنهم يريدون تمزيق وحدة فرنسا وتقسيمها إلى عدد من الجمهوريات
المستقلة، بمحاولتهم أن يجعلوا المديريات والأقاليم منفصلة عن باريس (والسلطة
المركزية بالعاصمة). وعلى ذلك فقد دار النقاش في المؤتمر الوطني حول الفدرائية
(أي الجمهوريات المستقلة التعاهدية)، وهي التهمة التي ألصقها الجبل (اليعاقبة)
بالجيروند، والديكتاتورية (أي ديكتاتورية العاصمة والحكم في فرنسا)، وهي التهمة
التي ألصقها الجيروند بالجبل. وصارت كلٌّ من هاتين التهمتين بمثابة السلاح الذي
حاول أن يقضي به كل حزب على غريمه.
ثم تبع روبسبيير زميله دانتون، فتحدث في دفاعه طويلًا — وكما كانت عادته — عن
الفضائل التي تحلَّى بها هو. وعندما أراد «مارا» الكلام للدفاع عن نفسه، قُوبِل
بعاصفة استنكار شديدة من جانب الجيروند (أي اليمين المتطرف)، ومن جانب الوسط أو
السهل، وحاولوا أن يتجاهلوا وجوده بوصفه «وحشًا زنيمًا»، وصاروا يَعْزُون
كتاباته إلى أحد الملكيين ممن أرادوا تلطيخ سمعة الثورة، ولكن هذه المعارضة لم
تنجح في إسكات «مارا». وانتهى الأمر بأن اضطر الجيروند إلى التخلي عن الاتهام
الذي وجهوه إلى هؤلاء الثلاثة، وانتقل المجلس إلى جدول الأعمال.
ولكن الجيروند سرعان ما جددوا هجومهم بعد ذلك، وفي هذه المرة جعلوه
مُرَكَّزًا ضد روبسبيير. فطلب الأخير مهلة (ثمانية أيام) كيْ يتفرَّغ لإعداد
دفاعه. ولقد استطاع روبسبيير أن يدحض الاتهامات الموجهة ضده بمهارة، حتى إن
«السهل» اعتبر هذه الاتهامات ناشئة عن مجرد خصومة شخصية بين الجيروند والجبل،
ولا ينبغي أن تعلق عليها أهمية كبيرة.
والواقع أن مسلك الجيروند في مسألة توجيه الاتهام ضد الجبل كان بعيدًا كل
البعد عن الحكمة والصواب. فالجيروند قد وجهوا اتهامات معينة ضد خصومهم، ولكنهم
لم يقدموا الدليل اللازم لإثباتها، ثم إنهم اضطروا إلى التخلي عنها؛ فكانت
النتيجة أن زادت «شعبية» خصومهم.
ومع أن الجيروند كانوا قد نجحوا في تقرير أن يجري انتخاب أعضاء القومون من
جديد، إلا أنهم لم يتخذوا أية خطوات كي يَحُولُوا دون انتخاب الأعضاء السابقين
أنفسهم، وكما حدث فعلًا.
زد على ذلك أنهم جعلوا دانتون ينقلب عليهم. وكان دانتون أكثر أعضاء الجبل
ميلًا للاعتدال، ويرى بعد حوادث المجازر السالفة، من الضروري منع إراقة الدماء،
وكان من الممكن استمالته بسهولة إلى ترك زملائه والانضمام إلى الجيروند. ثم إن
وزراء الجيروند كانت تنقصهم المقدرة والكفاءة، ولم يكن لهم سياسة مرسومة
حقيقية. فكان لكل هذه الأسباب إذن أن أخذ حزب الجيروند ينحلُّ تدريجيًّا،
وفَقَدَ الجيروند ما كان لهم من ميزة التفوق العددي في المجلس، فصار لا يزيد
عدد من اتحدت كلمتهم عند الاقتراع (أي التصويت) على أية مسألة على ثلاثين عضوًا
فقط، وحتى هؤلاء كثيرًا ما كانوا يختلفون فيما بينهم على المسائل الهامة التي
أثيرت في المجلس، وكان هذا الانحلال مبعث الضعف الخطير الذي لُوحِظ في صفوف
الجيروند، في حين امتاز حزب الجبل بالتنظيم القوي المتين.
(٣) استمرار الحرب
وكان من المنتظر بعد واقعة فالمي (٢٠ سبتمبر ١٧٩٢) التي قررت مصير حملة الجيش
البروسي في شمبانيا، أن يقضي الفرنسيون على هذا الجيش تمامًا، لو أن «ديمورييه»
نشط في تعقب البروسيين بعد أن أُجْبِروا على التقهقر بسبب تَفَشِّي المرض بين
جنودهم وقسوة الجو، ولكن بدلًا من مطاردتهم آثر «ديمورييه» الدخول في مفاوضة مع
العدو على أمل أن ينال لفرنسا نصرًا دبلوماسيًّا عظيمًا، يحمل بروسيا على
الخروج من المحالفة القائمة بينها وبين النمسا ضد فرنسا، ويجعلها تعترف
بالجمهورية وتعقد معاهدة للصلح معها. فإن «ديمورييه» كان يعرف أن الدوق دي
برنسويك وأكثر الجنود البروسيين يمقتون النمساويين والمهاجرين أكثر مما يمقتون
«الثورة»، وأن ملك بروسيا «فردريك وليم الثاني» يريد إنهاء الحرب حتى يتفرَّغ
لمسألة بولندة. ولكن آمال «ديمورييه» لم تتحقق؛ لأن ملك بروسيا كان يريد من جهة
أخرى إبرام صلح شامل، ويرى من الجبن التخلِّي عن النمسا عند أول فشل يُصِيبها؛
ولذلك فقد حرص «فردريك وليم الثاني» على أن تظلَّ المفاوضات مستمرة حتى يتمكَّن
الجيش البروسي من التقهقر بسلام من الأراضي الفرنسية، وبالفعل فإنه بمجرد أن
تَمَّ تقهقر جيشه من الأراضي الفرنسية بادر بقطع المفاوضة.
ولقد كان من أثر النجاح الذي أدركه الجيش الفرنسي في «فالمي» أن شعر
الفرنسيون بثقة عظيمة في أنفسهم لم تكن لديهم من قبل. فلم يعودوا يَقْنَعُون
بمجرد الدفاع عن حدودهم، بل أرادوا الآن أن ينشروا المبادئ التي جاءت بها
الثورة بطريق القوة المسلحة، وأن يحرِّكوا الشعوب على الثورة ضد ملوكهم
وأمرائهم. فأصدر المؤتمر الوطني نداءً يدعو فيه الشعوب المتذمِّرة من حكامها
إلى طلب النجدة من فرنسا. ولكن لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن أن هذه الدعوة
كانت مجردة من الأنانية والنفع الذاتي؛ لأن الديمقراطية الجديدة كانت ذات ميول
عدوانية لا تقل في عنفها عما كان عليه الحال في عهد الملكية ذاتها، فانبعثت من
جديد فكرة الوصول إلى الحدود الطبيعية، وبالصورة التي أخذ بها لويس الرابع
عشر.
وتعددتْ ميادين الحرب: ففي سبتمبر ١٧٩٢ دخل جيش الجنوب «سافوي» للاقتصاص من
ملك سردينيا «فكتور أمادوس الثالث» Amadeus
الذي تحالف مع البربون (متأثرًا بإقامة المهاجرين في تورين، ومصاهرته للكونت
دارتوا). ورحَّبَ شعب سافوي بالفرنسيين. وسبب هذا الترحيب أن دوقات سافوي كانوا
قد فقدوا نفوذهم على أهل دوقيتهم الأصلية «سافوي» — ولغة هؤلاء الفرنسية — وذلك
منذ أن صار الدوقات «قوة» أو «دولة» إيطالية، كملوك لسردينيا بفضل امتداد
سلطانهم إلى الجنوب في شبه الجزيرة الإيطالية.
وفي نوفمبر ١٧٩٢ ضُمت كلٌّ من سافوي ونيس إلى فرنسا، فتحولت الأولى «سافوي»
إلى مديرية فرنسية باسم مديرية «الجبل
الأبيض» Mont
Blanc، وتحولت الثانية «نيس» إلى مديرية أخرى باسم
«مديرية الألب
البحرية» Maritime Alps.
ثم عهد المؤتمر الوطني إلى الجنرال «مونتسكيو» Montesquieu — قائد جيش الجنوب — بالهجوم على جمهورية جنيف
الأرستقراطية. ولكن «مونتسكيو» كان من النبلاء في «النظام القديم»، فلم يشأ أن
يقتحم جنيف، التي وقف على حصارها مدة، بل آثر الدخول في مفاوضات معها؛ فاتهمه
المؤتمر الوطني بالخيانة، وهرب «مونتسكيو» لاجئًا إلى سويسرة، وتخلَّصت «جنيف»
مؤقتًا من الخطر الذي كان يتهددها.
وفي الميدان الألماني، فاقت انتصارات الفرنسيين ما أحرزوه في الميدان
الجنوبي؛ فاستولى الجنرال «كاستين» في سبتمبر ١٧٩٢ على «سبيير» Speier، و«ورمس» Worms، وفي ٢١ أكتوبر سنة ١٧٩٢ سلمت «ماينز» Mainz دون مقاومة. واستطاع الفرنسيون كذلك أن
يحتلوا «فرانكفورت» لفترة من الزمن.
وأما في الميدان الشمالي فقد ترك «ديمورييه» الجنرال «كلرمان» يطارد
البروسيين، بينما حمل هو الوزارة على الموافقة على غزو بلجيكا، وانتصر
«ديمورييه» على النمساويين انتصارًا حاسمًا في معركة «جيماب» Jemmappes في ٦ نوفمبر ١٧٩٢، والتي قررت مصير
بلجيكا، حين انسحب النمساويون بعد ذلك، وتقدم «ديمورييه» في زحفه حتى بلغ
«إكس لا شابل» Aix-la-Chapelle. ورحب
الأهلون في كل مكان بالفرنسيين الذين حرروهم من سلطان النمسا. وإلى جانب هذه
الانتصارات كان من المتوقَّع أن تسقُط كذلك هولندة بسهولة؛ بسبب الخلافات
السائدة بين أحزابها.
وأراد المؤتمر الوطني أن يُفيد من هذه الانتصارات؛ فنبذ ظهريًّا المعاهدات
السابقة، وقرَّر فتح الشلدت Scheldet للملاحة،
كما أعلن «أنتورب» Antwerp ميناءً حرًّا (٦
نوفمبر ١٧٩٢). ثم أصدر في ١٥ ديسمبر سنة ١٧٩٢ قرارًا يكشف عن ناحية
«البروبجندا» في سياسة «الثورة» الخارجية، ويتبين منه مدى عداء المؤتمر الوطني
لدول أوروبا، جاء فيه: «يعلن القواد (الجنرالات) في كل بلد تحتله الجيوش
الفرنسية: إلغاء السلطات القائمة، إلغاء طبقة النبلاء، والرق، وكل الحقوق
الإقطاعية، وكل الاحتكارات، ويعلن القواد (الجنرالات) سيادة الشعب العليا،
ويدعون للانعقاد مجالسَ من السكان لتشكيل حكومة مؤقتة لا يرشح لها موظف من
موظفي الحكومة السابقة، أو نبيل من النبلاء، أو عضو من أعضاء النقابات ذات
الامتيازات، ويصادِر القواد لحساب الجمهورية الفرنسية كل أملاك «الملوك
والأمراء» والنقابات المدنية والدينية. وإن الأمة الفرنسية سوف تعامل كأعداء
لها أيَّ شعب يرفض الحرية والمساواة، ويريد الإبقاء على أميره أو حاكمه
والطبقات ذات الامتيازات، وينبغي الاتفاق والتفاهم مع هؤلاء.» وإلى جانب هذا،
فقد كان واضحًا أن المؤتمر الوطني يريد تعويض نفقات حروب التحرير من البلدان
التي تغزوها جيوشه.
وشرع المؤتمر الوطني يطبِّق هذه المبادئ في البلدان المفتوحة. ولكن هذه
المبادئ طبقت في بلجيكا بصورة لم تلبث أن أدَّت إلى فتور حماس أهلها من ناحية
تحريرهم؛ وذلك لأن المؤتمر الوطني أرسل إلى بلجيكا عددًا من المندوبين أو
القومسييريين وعلى رأسهم «دانتون»؛ كي ينشئوا بها حكومة جمهورية، فعوملت بلجيكا
على أيدي هؤلاء كما لو كانت مقاطعة استولت عليها فرنسا بحق الفتح فحسب، فصادر
المندوبون الأملاك، وهاجموا على وجه الخصوص الأديرة ورجال الدين، وأثاروا
بعملهم هذا غضب البلجيكيين المعروف عنهم من قديم أنهم دائمًا شعب متدين.
وغضب «ديمورييه» غضبًا شديدًا لما حدث، وهو الذي أراد أن يُنشِئ في بلجيكا
دولة محمية (أي تحت حماية فرنسا). فشهد الآن ثمار انتصاراته تضيع بسبب أعمال
النهب والسلب التي ارتكبها مندوبو «نادي اليعاقبة»، وعندما فشل «ديمورييه» في
حماية البلجيكيين، ودفع الأذى عنهم، لم يلبث أن عاد إلى باريس، ليعلم بمجرد
وصوله إليها أن أحداثًا خطيرة قد وقعت بها أثناء غيبته عنها.
(٤) محاكمة الملك وإعدامه
وذلك بأن النزاعات الحزبية ظلَّت على أشدها في المؤتمر الوطني. ولم يلبث حزب
الجبل أن اكتشف وسيلة جديدة يهزم بها خصومه، وتُمَكِّنه من السيطرة في المؤتمر؛
تلك الوسيلة كانت المطالبة بمحاكمة الملك كعدوٍّ للأمة. فإعدام لويس السادس عشر
من شأنه أن يفصل فرنسا نهائيًّا عن تاريخها الماضي القديم، ويتيح الفرصة
«للجبل» لإسقاط الجيروند إذا حاول هؤلاء الدفاع عن الملك، فيتهمهم الجبل بأنهم
«ملكيون». وعلى ذلك فقد نظَّم نادي اليعاقبة عرائض كثيرة طالب فيها أصحابها
بإعدام الملك.
ولقد أراد «المعتدلون» أن يَلْفِتوا نظر المجلس إلى ضرورة مراعاة أحكام
الدستور (دستور ١٧٩١) الذي ينصُّ على أن شخص الملك لا يُمَسُّ، والذي يعين في
حالات معدودة عقوبة الخلع فحسب، وكان من رأي هؤلاء المعتدلين أن هذه العقوبة
(عقوبة الخلع) قد نُفِّذَتْ فعلًا عند إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وأن ليس
في مقدور المؤتمر الوطني أو أية هيئة أخرى أن تفعل أكثر من ذلك، أو أن تتناول
هذه المسألة من جديد. وعندئذٍ أُحِيل هذا الموضوع على لجنة كي تبحثه. ولكن هذه
لم تلبث أن قررت أن للمؤتمر الوطني الحق قانونًا في محاكمة الملك. وفي ١٣
نوفمبر ١٧٩٢ ناقش المجلس تقرير هذه اللجنة.
وجرت مناقشة عنيفة، حيث اختلف موقف الأحزاب من هذا التقرير عندما رأى
الجيروند وجوب تأييد الدستور، بينما رأى «السهل» ضرورة قبول تقرير اللجنة،
واتخذ «الجبل» موقفًا متطرفًا؛ فطالب بإعدام الملك ودون أية محاكمة. وقد تولى
قيادة الجبل في هذه المسألة «روبسبيير»، كما اشترك معه «سان جوست» Saint Just. واستندت دعواهما في ذلك على أن
المجلس إنما يتألَّف من رجال دولة وسياسة ولا يتألف من قضاة، وأن إدانة الملك
فصل في أمرها فعلًا منذ أن تقرر عزله، وأن الملك المخلوع دائمًا مصدر خطر على
أي نظام جمهوري، وأن الدستور مهما تضمَّن من نصوص لا يمكن أن يحول دون اتخاذ
إجراء تستوجبه ضرورة المحافظة على سلامة الأمة، وبناءً عليه طلب روبسبيير وسان
جوست إعدام الملك فورًا ودون محاكمة، وذلك كما قالا تطبيقًا لحق «الثورة»
المقدس.
وكانت هذه مقترحات أو مطالب متطرفة، وسرعان ما ضغطت على يد المعارضة؛ فقد خشي
الجيروند أن يفقدوا «شعبيتهم» إذا هم ظهروا بمظهر من يريد الدفاع عن الملك،
فانضموا إلى جماعة «السهل» في الاقتراع على محاكمة الملك أمام المؤتمر الوطني.
وتقرر ذلك يوم ٢ ديسمبر ١٧٩٢.
وكان من العوامل التي ساعدت على الوصول إلى هذا القرار، أن اكتشفت خزانة
(دولاب) سرية في قصر التويلري عثر فيها على أوراق الملك ومراسلاته مع «ميرابو»
و«بويليه»، وكل الخطط والتدابير التي بحثت، إما لتخليص الملك (وفراره من
باريس)، وإما لإرجاع سلطاته المفقودة إليه. وكانت هذه الأوراق الأساس الرئيسي
الذي قام عليه «الاتهام» ضد الملك.
وكان لويس السادس عشر منذ ١١ أغسطس ١٧٩٢ سجينًا في سجن «الهيكل» Temple، وكانت قد وقعت عليه منذ أكتوبر عقوبة
فصله، وعزله عن سائر أفراد أسرته. وفي ١٣ ديسمبر بدأت محاكمته أمام المؤتمر
الوطني.
ولم يحاول الملك مناقشة سلطات أولئك الذين كانوا متهميه أو خصومه وقضاته في
الوقت نفسه. قرأ «بارير» Barére — رئيس المجلس
— الاتهامات الموجهة إليه، وشرع يسأله الأسئلة التي كان قد سبق الاتفاق على
سؤاله إياها وعددها ٣٣ سؤالًا، وأجاب لويس عليها بهدوء. فأعلن أن وزراءه هم
المسئولون عن أعماله العامة، وأنكر أن الأوراق التي وجدت في التويلري صحيحة.
وكان أكثر تأثُّره في اتهامه بأنه أراق دماء المواطنين يوم ١٠ أغسطس.
ثم انسحب الملك، وقام نقاش عنيف في المجلس بعد انسحابه. وبالرغم من معارضة
«الجبل» تقرَّر إجابة طلب الملك بأن يتولى الدفاع عنه محامون أمام المجلس. وكان
الملك قد اختار لهذه المهمة «تارجيه» Target
وترونشيه Tronchet. فرفض «تاريجه»، وتقدم
من تلقاء نفسه «مالزهرب» Malesherbes متطوعًا
للدفاع عن الملك، وهو أحد المستوزرين القدماء، وصاحب شهرة كرجل فاضل
كريم.
وفي ٢٦ ديسمبر ترافع المحامي ديسيز Deséze
من قبل مالزهرب وترونشيه. وكان الدفاع قد أُعِدَّ بمهارة وعناية فائقتين، وبذل
المحامون في إعداده مجهودًا عظيمًا. ونزولًا عند إرادة الملك لم يتضمن الدفاع
طلبًا بالرحمة من المجلس.
وفي ٢٧ ديسمبر استُؤْنِفَ النقاش في المجلس، وأراد الجيروند إنقاذ الملك،
ولكنهم لسوء تنظيمهم الحزبي ولضعفهم، لم يجسروا على إعلان رغبتهم في تبرئته، بل
اقترحوا بدلًا من ذلك أن تُسْتَفْتَى الأمة في هذه المسألة، غايتهم من ذلك
إرضاء ميولهم الجمهورية من ناحية وذلك بالرجوع إلى الأمة، وتنحية المسئولية عن
كواهلهم في مسألة إدانة أو تبرئة الملك من ناحية أخرى. ولكن اليعاقبة سرعان ما
حشدوا قاعة المجلس بأنصارهم المشاغبين والمهيجين الذين صاروا يهددون بالموت كل
من يحاول من النواب إنقاذ الملك.
وأخيرًا انتهى النقاش في يوم ١٤ يناير ١٧٩٣ بإلقاء الأسئلة الثلاثة التالية
على المجلس: هل لويس كابيه مذنب؟ هل يسمح باستفتاء الشعب؟ ما نوع العقوبة التي
يجب أن توقع عليه؟
فكان الجواب على السؤال الأول بالإيجاب وذلك بالإجماع تقريبًا. ورفض المجلس
استفتاء الشعب بأكثرية ٤٨٤ صوتًا ضد ٢٩٢ صوتًا. وقبل الاقتراع على السؤال
الأخير اقترح «لانجونيه» Lanjuinais ضرورة
الحصول على ثلاثة أرباع عدد الأصوات عند تقرير نوع العقوبة. ولكن «دانتون»
تدخل، واقترح أن تكون الأكثرية المطلقة؛ أي نصف العدد زائد واحد هي التي يؤخذ
بها، وفاز مشروع اقتراح دانتون، ثم حصل الاقتراع على السؤال الثالث بالمناداة
على الأسماء، حتى يعطي العضو صوته شفويًّا. وعمد كثير من الأعضاء إلى بيان
الأسباب التي بنوا عليها اقتراعهم، واستغرق هذا وقتًا طويلًا، مدة (٢٤) أو (٢٥)
ساعة من الثامنة من مساء ١٦ يناير إلى الثامنة والتاسعة من مساء ١٧ يناير.
واستخدم «الجبل» بفضل اعتماده على جماهير الغوغاء المحتشدة في القاعة، كلَّ
وسائل التخويف لإرهاب الجيروند المترددين، وأعطى الجبل هذه الفرصة بطبيعة الحال
أن التصويت كان بالمناداة على الاسم شفويًّا. وأفلح «الجبل» في وسائله
الإرهابية هذه لدرجة أن «فيرنيو» الذي دافع دائمًا عن العدالة وطالب بالرحمة في
خطبه الرنانة السابقة، وكان الآن رئيس المجلس، لم يسعه إلا التصويت (أو
الاقتراع) على إعدام الملك؛ «لاجتناب الحرب الأهلية».
وكذلك اقترع «فيليب دورليان» أو«فيليب المساواة» على إعدام رئيس الأسرة.
وأخيرًا قام «فيرنيو» في جلسة ١٧ يناير يعلن نتيجة الاقتراع بصوت مرتجف.
فاتَّضَحَ أن عدد النواب المقترعين (٧٢١) والأكثرية اللازمة (٣٦١) صوتًا. وجرى
التصويت على الوجه التالي: (٣٦٦) إعدام، (٦٧) إعدام بشروط مختلفة، (٢٨٦) سجن أو
نفي، (٢) ليمان «في السفن». وبذل الجيروند جهدًا أو محاولةً أخيرةً لإنقاذ
الملك؛ فاقترح «بريسو» تأجيل تنفيذ حكم الإعدام بعض الوقت؛ خوف الوقوع في حرب
ضد الملوك الأجانب. ولكن هذا الاقتراح رفض بأكثرية (٣٤) صوتًا. وعلى ذلك فقد
سمح للملك في ٢٠ يناير ١٧٩٣ بأن يودع أسرته الوداع الأخير. وفي ٢١ يناير ١٧٩٣
أُعْدِم لويس السادس عشر في ميدان الكونكورد
٣ بباريس.
وقال «مينيه»
Mignet في كتابه عن الثورة
الفرنسية، تعليقًا على إعدام الملك ما يأتي:
وهكذا هلك في سن التاسعة والثلاثين ملك من أفضل الملوك، وإن كان في
الوقت نفسه من أضعفهم، وذلك بعد حكمٍ استمرَّ ست عشرة سنة ونصفًا
قُضِيَتْ في فعل الخير. لقد أورثه آباؤه وأجداده الثورة. أما هو فكان
أكثر من أي واحد منهم صلاحيةً وقدرةً على أن يمنع اندلاعها، أو أن يعمل
لإنهائها إذا اشتعلت، حيث كان بوسعه — قبل نشوب الثورة — أن يكون ملكًا
مصلحًا، أو أن يصبح — بعد قيامها — ملكًا دستوريًّا. وهو يكاد أن يكون
الأمير (الملك) الوحيد الذي لا أطماع له، ولا شغف أو ولوع بالسلطة،
والذي يجمع في شخصه بين السجيتين اللتين تصنعان الملوك الصالحين: الخوف
من الله، وحب الشعب. ولقد هلك فريسة أطماعٍ لم يشارك هو فيها بتاتًا،
هي أطماع أولئك الذين التفُّوا حوله والتي كان هو غريبًا عنها، وأطماع
الجماهير التي لم يُثِرْهَا هو. ولا يتمتع ملك — إلا في حالات قليلة —
بوجود ذكريات عنه موضع تقدير، مثلما لهذا الملك. أما التاريخ فسوف يقول
عنه: لو أن مزيدًا من متانة الخلق كان نصيبه، لكان ملكًا فريدًا من
نوعه.
وقد ترتَّب على قتل الملك أن تلطَّخت أيدي عدد كبير من رجال السياسة في فرنسا
بدم الملك؛ أي إنهم صاروا «قتلة
الملك» Régicides وصاروا يعملون ليجعلوا بعيدًا ذلك اليوم الذي سوف
يقعون فيه في يد أحد أعضاء أسرة الملك وأقاربه؛ ليقتصَّ منهم على ما فعلوه دون
شفقة أو رحمة؛ ولذلك فقد صار «قتلة الملك» هؤلاء يبذلون قصارى جهدهم من الآن
فصاعدًا لإرجاء هذا اليوم بكل وسيلة. الأمر الذي جعلهم يسيرون من تطرف إلى تطرف
أشدَّ منه، ومن حرب ضد الملوك إلى حرب ضد «الأمم»، وهكذا دواليك، حتى انتهى بهم
المطاف إلى تأسيس ديكتاتورية بونابرت، وإنشاء الإمبراطورية النابوليونية في
الظروف التي سيأتي ذكرها.
قال «لوي مادلان» Madelin تعليقًا على حادث
قتل الملك: «لقد غيَّرت الثورة بذلك طابعها، وقطعت كل السبل على نفسها، وصار
لزامًا عليها كما كتب أحد أعضاء المؤتمر الوطني أن تَمضِي في طريقها قدمًا،
سواء شاءت ذلك أو لم تشأ. نعم! ولكن بأي جنون تعس! حقيقة لقد أتاح لها الجنون
الذي قادها قسرًا إلى الإرهاب، الانتصارَ على طغاة أوروبا انتصارًا جسيمًا؛
لأنهم لما كانوا قد أهلكوا ملكًا فقد صاروا مرغمين على إهلاك ملوك الأرض
طرًّا.
وحيث إنهم صاروا معرَّضين للموت إذا فشلوا، فقد تكاتفوا في إنشاء تلك
الأوليجاركية من قتلة الملك، التي ما كان يسعها الاطمئنان إلا يوم أن يؤسس
طاغية آخر هو بونابرت، تلك الحكومة القوية التي تَعِد بوقايتهم أو تجنيبهم
الانتقام، ولكن أليس يحق لنا أن نتساءل: هل حقيقةً كان الغرض في عام ١٧٨٩ عندما
انبثق فجر الثورة هو إشعال الحروب التي لا نهاية لها، وإقامة الإرهاب الضروري،
وتأليف أوليجاركية، وإنشاء ديكتاتورية رجل واحد؟ لأن ذلك جميعه هو ما جعل
اقتراع يوم ١٧ يناير ١٧٩٣ تسير إليه ثورة الحرية.»
(٥) آثار قتل الملك: ثورة الفنديه وهزيمة نيروندن
قطعت الثورة إذن على نفسها كلَّ السبل بسبب قتل الملك، ولم يعد في وسعها أن
تتراجع، بل لقد سارت في الداخل من تطرف إلى تطرف أعنفَ منه. وأما من حيث
علاقاتها بدول أوروبا، التي يسود بها النظام الملكي، فكان مقتل الملك بمثابة
التحدي لها جميعًا. فكانت النتيجة المباشرة لمقتل الملك أن تزايد أعداء
«الثورة» في الداخل وفي الخارج.
في الخارج نجد أن «دانتون» نفسه قد اعترف بأن المؤتمر الوطني في حادث ٢١
يناير ١٧٩٣ (أي حادث إعدام الملك) «قد أعلن الحرب على الملوك، وألقى القفاز في
وجوههم طلبًا للمبارزة والقتال، ولم يكن هذا القفاز إلا رأس طاغية.» فاستثار
قتل الملك دول أوروبا «الملكية» بأسرها، وجعلها تتحالف ضد «الثورة». فقد رأينا
كيف أن إنجلترة وقفت في الماضي موقف الحياد من الثورة، ولكن مقتل الملك سرعان
ما صار الذريعة التي تذرَّعت بها لتغيير موقفها. وكانت إنجلترة منذ شهر نوفمبر
١٧٩٢ قد شهدت مصالحها تتعرض للخطر بسبب انهيار الأراضي المنخفضة أمام غزو
الجيوش الفرنسية التي احتلَّت بلجيكا. كما أن الجمهورية الفرنسية قد أعلنت فتح
نهر الشلدت للملاحة الحرة، فألحقت الأذى بمصالح الإنجليز الاقتصادية في ميناء
أنتورب.
زد على هذا تحريض المؤتمر الوطني الشعوب الخاضعة للحكومات المستبدة على
القيام بالثورة للتخلص من استبداد الطغاة — كما قال المؤتمر — حيث استصدر هذا
قرارًا في ١٩ نوفمبر ١٧٩٢ بادر بترجمته إلى كل اللغات، وأعلن فيه باسم الأمة
الفرنسية رغبته في مؤاخاة ونجدة الشعوب التي تريد استرجاع حرياتها، وقد أزعج
هذا القرار الإنجليز، الذين اعتقدوا علاوةً على ذلك أن لا أمل في استمرار سياسة
«ديمورييه» الذي أراد «تحرير» بلجيكا؛ لأن فرنسا التي رغبت أصلًا في «تحرير»
الشعوب لم تلبث أن حرَّكتها أطماع الفتح والتوسع على حساب الأمم المجاورة لها؛
ينهض دليلًا على ذلك تصريحات رجال الثورة مثل «دانتون»، الذي أعلن «أن حدود
فرنسا قد رسمتها الطبيعة، وسوف تصل إليها في جهاتها الأربع: المحيط، وشاطئ
الراين، وجبال الألب، وجبال البرانس. ولن تستطيع دولة منعنا من ذلك.»
وكذلك أعد «آبيه جريجوار l’Abbé Gregoire»،
وهو الذي طالب يوم ٢٢ سبتمبر ١٧٩٢ باستصدار قانون صريح يعلن رسميًّا إلغاء
الملكية في فرنسا؛ أعد تقريرًا في ٢٧ نوفمبر عن توسع فرنسا للوصول إلى حدودها
الطبيعية، على شريطة أن تضم إليها الأراضي التي يبدي أهلها «رغبةً حرةً» في
الانضمام إلى فرنسا. وكان وقتئذٍ قد سبق ان انضمت سافوي ونيس إلى الأراضي
الفرنسية، وطلبت مدن وأسقفيات الراين الانضمام إلى الجمهورية الفرنسية. فلكل
هذه الأسباب إذن تذرعت إنجلترة بإعدام الملك للدخول في حرب ضد فرنسا.
ومع ذلك فقد كانت فرنسا هي البادئة بإعلان الحرب. وتفصيل ذلك: أن البلاط
الإنجليزي أعلن الحداد على وفاة الملك لويس السادس عشر، وخطب «بيت» Pitt في مجلس العموم فتحدَّث عن ضرورة الانتقام
للجريمة التي لا مثيل لها في التاريخ، وأبلغ في ٢٤ مارس ١٧٩٣ السفير الفرنسي في
لندن «شوفيلان» Chauvelin بقطع كل علاقة معه،
فاستدعي السفير إلى فرنسا، بينما غادر سكرتير السفارة الأول «تاليران» Tallyrand لندن، مهاجرًا إلى أمريكا. وفي
أول فبراير ١٧٩٣ بناءً على تقرير من «بريسو» قرَّرَ المؤتمر الوطني إعلان الحرب
على إنجلترة، كما أعلن المؤتمر في اليوم نفسه أن الجمهورية الفرنسية في حالة
حرب مع هولندة.
وفي ٧ مارس أعلن المؤتمر الوطني الحرب كذلك ضد إسبانيا. فمهَّد ذلك لتأليف
المحالفة الدولية الأولى ضد فرنسا. فقد وقع اعتداء على أحد سكرتيري السفارة
الفرنسية في رومه، وهو «هوجون دي
باسفيل» Hugon de Basseville، وأعلنت الدولة البابوية الحرب على الجمهورية، ثم
تبعتها نابولي، وفلورنسة، وكذلك جمهورية البندقية، ثم الدويلات أو الإمارات
الألمانية، وذلك بناءً على قرار اتخذه «الدياط» في ٢٢ مارس ١٧٩٣. ولم يبقَ
خارجًا عن نطاق الحرب سوى السلطان سليم العثماني، الذي أساء مقابلة المبعوث
الفرنسي في القسطنطينية «ديكورش» Descorches،
ثم سويسرة بالرغم من تهديدات الجنرال «مونتسكيو» في جنيف، وكذلك روسيا رغم أنها
قطعت علاقاتها السياسية مع فرنسا؛ لأن روسيا كانت مشغولة بتقسيم بولندة، وقد
وقعت معاهدة التقسيم الثاني مع بروسيا في ٢٣ يناير ١٧٩٣. وعلى غير ما كان
متوقعًا، ذهبت بولندة لمقاومة هذا التقسيم، فقامت بها ثورة وطنية تزعَّمها أحد
صغار النبلاء «كوشيوزكو» Kosciuszko، ففوجئت
بها مفاجأة كلٌّ من بروسيا وروسيا.
وصارت إنجلترة هي الروح المحرك للمحالفة الدولية. وذلك بفضل الإمدادات
المالية خصوصًا، التي زودت بها حلفاءها. ومع ذلك فقد أكد «بيت» أن بريطانيا لن
تتدخَّل في شئون أية دولة. فرفض أن يأذن للكونت دي بروفنس شقيق لويس السادس عشر
الأكبر في «تجربة العمل»، كما رفض أن يعلن «المهاجرون» أن الملك لويس السابع
عشر — ولي العهد — قد وضع تحت حماية إنجلترة. وتمسَّك الإنجليز بأن غرضهم من
الحرب ليس إلا العودة بالحالة في أوروبا إلى ما كانت عليه قبل الحرب؛ أي حرمان
فرنسا من ثمرة انتصاراتها في سنة ١٧٩٢. ولو أن أطماع الإنجليز وحلفائهم كانت في
الحقيقة أبعد من ذلك كثيرًا.
وقد أفاد هذا الخطر الخارجي في أنه أوقف مؤقتًا النزاعات الحزبية في داخل
المؤتمر الوطني، فاستطاع المؤتمر أن يتَّخِذ قرارات هامة للدفاع عن الجمهورية.
وكان المؤتمر قبل إعدام الملك قد أنشأ في أول يناير ١٧٩٣ لجنة للدفاع العام،
٤ وأدخلت عدة تغييرات في وزارة الحرب لتعزيز نشاط هذه الوزارة (٣
فبراير). وفي ٢٤ فبراير صدر قرار بتجنيد ٣٠٠٠٠٠ مواطن. وهذا إلى أن الحكومة
أصدرت من ورق النقد
Assignats ما قيمته ٨٠٠
مليون من الفرنكات، ثم ضوعف عدد الحرس الأهلي تقريبًا.
ولكن هذه الهدنة التي أوقفت الخلافات الحزبية، ومكَّنت من اتخاذ هذه
الإجراءات، كانت كما ذكرنا هدنة وقتية فقط؛ وذلك لأن الجيروند الذين وافقوا على
إعدام الملك، لم يفعلوا ذلك إلا لإنقاذ أنفسهم فقط. وسرعان ما وجدوا الآن
أنفسهم مخدوعين فيما أرادوه، حيث استمر «الجبل» وقومون باريس يناصبانهم العداء
الشديد، وصار للمتطرفين من أعضاء حزب الجبل، خصوصًا «شوميت» Chaumette و«هيبير» Hébert، نفوذ عظيم في القومون، بينما عقد كلٌّ من
«روبسبيير» و«مارا» العزم على التخلص من خصومهما (الجيروند)، فصارا يحركان
الجماهير والغوغاء ضد الخونة الذين حاولوا إنقاذ الملك.
ولم يكن هناك من بين اليعاقبة من يميل إلى الاعتدال غير «دانتون» وحده. فقد
أنشأ دانتون وهو في بلجيكا صلات مع «ديمورييه»، وكان على استعداد كامل للاتفاق
مع الجيروند، ولكن هؤلاء خضعوا لتأثير مدام رولاند وجوديه، لدرجة حالت دون
الاتفاق مع «أولئك الذين أثاروا مذابح سبتمبر»؛ فاضطر «دانتون» مرغمًا — وذلك
لوقاية نفسه — إلى الاستمرار على تأييد زملائه الذين كان يرغب رغبةً أكيدةً في
التخلِّي عنهم. وارتكب الجيروند خطأً جسيمًا في عدم الاتفاق معه.
وحاول الجيروند أن يشغلوا المجلس بمشروع دستور جديد، وضعه «كوندورسيه» ولكن
دون جدوى؛ لأن الشعور الحزبي كان عنيفًا بصورة جعلت متعذرًا المناقشة أو البحث
في مثل هذه الموضوعات.
ثم سرعان ما تزايدت قوة اليعاقبة بسبب ما وقع من حوادث متلاحقة بعد
ذلك.
فقد انتشرت الاضطرابات، ووقعت حوادث عصيان كثيرة في فرنسا في هذه الفترة، من
ذلك: الشغب والاضطراب الذي حدث في باريس (٢٤–٢٦ فبراير ١٧٩٣) بسبب انخفاض قيمة
«ورق النقد» Assignats، والمجاعة، وارتفاع
أسعار الحبوب، فنُهِبت المخازن، وتعددت العرائض التي طالب أصحابها بحفظ قيمة
ورق النقد، وجعل تداوله إجباريًّا، وتوقيع عقوبة الإعدام على المختزنين
والمحتكرين. وحدث اضطراب أشد عنفًا في مدينة «ليون»، حيث طالبت الجماهير بضريبة
تصاعدية على رأس المال، وأخرى على الحبوب. ووقعت حركات عصيان كبيرة ضد قرار ٢٤
فبراير الخاص بتجنيد الثلاثمائة ألف مواطن، وذلك في مونتارجي Montargis (١٤ مارس). وفي «أورليان» Orléans (في ١٦ مارس) حيث قتل مندوب المؤتمر
الوطني. وهذا إلى جانب معارضة المجالس البلدية في «روان» و«أميان» لقرار
التجنيد والمطالبة بإلغائه.
وأما أخطر الاضطرابات، فقد وقعت في الأقاليم الغربية في الفنديه Vendée وغيرها من الأقاليم التي بقيت معقلًا
للنظام القديم برمته، واحتفظ فيها رجال الدين والنبلاء بكل نفوذهم على الفلاحين
خصوصًا. وكان سخط أهل «فنديه» وبريتاني Brittany … إلخ عظيمًا؛ لأنهم شديدو التمسك بالعقيدة
الكاثوليكية، وهم الكثرة في هذه البلاد، ضد القساوسة الدستوريين الذين على
الرغم من قلة عددهم كانوا مسئولين على الكنائس والمرتبات … إلخ. ثم استبدَّ
الغضب بأهل «فنديه» والأقاليم المجاورة، عندما صدر قرار تجنيد الثلاثمائة ألف
مواطن؛ لأنهم ما كانوا لبعدهم عن الحدود الشرقية يشعرون بالخطر الذي يتهدَّد
فرنسا، ولأنهم لا يريدون أن ينقلوا إلى جهات بعيدة عن مواطنهم؛ ليحاربوا من أجل
جماعة امتهنوا عقائدهم الدينية.
ولذلك فإنه بمجرد أن بدأت عملية التجنيد في الأيام الأولى من شهر مارس ١٧٩٣،
قامت الثورة في أقاليم اللوار Loire، وفنديه،
وسيفر Sévres، وكانت ثورة عاتية، اضطر
بسببها المؤتمر الوطني إلى إرسال قوات عسكرية لإخمادها، وقد استمرت العمليات
العسكرية حتى نهاية العام نفسه قبل أن يقضي على الثورة القائدان مارسو Marceau وكليبر Kléber، ولو أن بعض العصاة استمروا يناضلون فترة من الوقت بعد
ذلك في مستنقعات «بريتاني السفلى».
ولقد حدث هذا العصيان الخطير، في وقت كانت الحرب على الحدود الشرقية تسير فيه
ضد صالح فرنسا؛ ذلك أن تعليمات المؤتمر الوطني صدرت إلى «ديمورييه» بغزو
هولندة، بينما كان يزحف جيش من النمساويين وحلفائهم قوامه مائة ألف جندي بقيادة
دوق كوبورج Cobourg النمساوي على بلجيكا
وماينز، وكانت النمسا وبروسيا قد قرَّرَتا استرجاعهما بعد فقدهما في حملة ١٧٩٢.
فاضطر «ديمورييه» إلى التقهقر بسرعة، ولكنه انهزم في موقعة «نيروندن» Neerwinden في ١٨ مارس، ثم في «لوفان» Louvin في ٢١ مارس ١٧٩٣.
(٦) خيانة ديمورييه
ويبدو أن «ديمورييه» قرر من هذه اللحظة الخروج على المؤتمر الوطني، وتنفيذ
الخطة التي بدأ يفكِّر فيها منذ إعدام لويس السادس عشر؛ فقد تقدم كيف أن
«ديمورييه» قد ساءه ما فعله «دانتون»، والمندوبون اليعاقبة في بلجيكا، الذين
أخذوا ينهبون البلاد بدعوى نشر المبادئ الجمهورية بها، حتى نفر الديمقراطيون
البلجيكيون من «الفاتحين» الذين كانوا قابلوهم في أول الأمر وقبل أربعة شهور
فحسب «كمحرريهم» ومنقذيهم من طغيان النمسا، وقصد «ديمورييه» إلى باريس ليعرض
هذا الموضوع على المسئولين بها، فبلغها أثناء مناقشة المؤتمر الوطني موضوع مصير
الملك. فراح «ديمورييه» يبذل قصارى جهده لإنقاذ الملك، ولكن دون جدوى.
واعتقد «ديمورييه» الآن، وبعد هزيمة «نيروندن» أن الفرصة قد صارت مواتية
لتنفيذ برنامجه: قلب الجمهورية وحل المؤتمر الوطني، وإعادة الملكية بإرجاع
دستور سنة ١٧٩١، وتتويج لويس فيليب دورليان دوق دي
شارتر Chartres ابن فيليب المساواة (والذي حكم بعد ذلك فرنسا من ١٨٣٠
إلى ١٨٤٨) ملكًا على فرنسا. وكان دوق دي شارتر وقتئذٍ ملتحقًا بجيشه، وحارب معه
بفروسية ممتازة في حملتيه (١٧٩٢، ١٧٩٣)، وكان «ديمورييه» ينتوي أصلًا تنفيذ هذا
البرنامج بعد أن يتسنَّى له إحراز انتصارات باهرة على العدو ترفع من سمعته
وقوته.
ولكن بعد هزيمتيْ «نيروندن» و«لوفان»، والقضاء على هذا الأمل، قرر «ديمورييه»
في ٢٣ مارس ١٧٩٣ الاتِّفَاق مع العدو، فأمضى اتفاقًا على الهدنة مع القائد
النمساوي «ماك» Mack، يخلي «ديمورييه» بموجبه
بلجيكا، ويتعهَّد النمساويون «كوبورج» بعدم اقتحام الحدود الفرنسية أو القيام
بأية فتوحات. وقد أعلن ذلك «كوبورج»، ولا شك في أن هذا كان «تعهدًا» في صالح
«ديمورييه» يتيح له الفرصة لتنفيذ مآربه، ولكنه كان يتعارض مع رغبات حلفاء
النمسا.
ولم يجعل «ديمورييه» نواياه هذه سرًّا مكتومًا، ثم لم يلبث المؤتمر الوطني
عندما علم بهذه الخيانة أن بعث إلى «ديمورييه» بأربعة قومسييريين مع وزير
الحربية «بورنونفيل» Beurononville للتحقيق
ولعزل «ديمورييه» من القيادة إذا اقتضى الأمر. فوصل هؤلاء إلى معسكره في
«تورناي» Tournai في ٢٥ مارس فقبض عليهم
«ديمورييه»، ووجه نداءً إلى الجيش يطلب منه الزحف معه على باريس لتخليص فرنسا
من طغيان المؤتمر الوطني.
وبادر بتسليم قومسييري المؤتمر ووزير الحربية إلى العدو. فأعلن المؤتمر
الوطني في ٣ أبريل أن «ديمورييه» «خائن للوطن» و«خارج على القانون»؛ أي أهدر
دمه. ورفض الجيش أن يتبع «ديمورييه» بل حاول أحد قواده، «دافو» Davout أن يقتله بإطلاق الرصاص عليه. وهرب
«ديمورييه» ومعه الدوق دي شارتر وحوالي الثمانمائة من رجاله إلى معسكر العدو،
وانتقلت قيادته إلى قائد آخر هو «دامبيير» Dampierre. ولم يسمح «لديمورييه» بعد هذه الخيانة بالعودة
إلى فرنسا إطلاقًا، فأقام في النمسا، ثم في سويسرة، ثم في جهاتٍ أخرى، وقضى
حوالي عشرين عامًا في إنجلترة حيث صار مستشارًا للوزارة الإنجليزية، مسموع
الكلمة في أكثر الأحايين، حتى توفي في لندن في سنة ١٨٢٣.
ولم تكن هذه كلَّ الهزيمة التي لحقت بالجيوش الفرنسية؛ فقد خسر القائد
«كاستين» Custine خط الراين. ومنذ ديسمبر
١٧٩٢ استرجع الدوق دي برنسويك مدينة «فرانكفورت»، ولو أنه لم يعبر الراين إلا
في ٢٥ مارس ١٧٩٣ على إثر هزيمة «ديمورييه» في «نيروندن»، واضطر الفرنسيون إلى
الانسحاب صوب الجنوب؛ فسقطت «ورمز» و«سبير»، وارتدَّ «كاستين» إلى «لانداو» Landau في أول أبريل، ووقف البروسيون على
حصار «ماينز». وفي ٩ أبريل ١٧٩٣ اجتمع رؤساء المحالفة في أنتورب لوضع خطة
الحملة المستقبلة، وأعلنوا عدم اعترافهم بالهدنة التي منعت «دوق دي كوبورج» من
اختراق الحدود الفرنسية، واتفقوا في هذا الاجتماع على توزيع المغانم فيما
بينهم، فاحتفظت إنجلترة لنفسها بدانكرك والمستعمرات الفرنسية، واحتفظت النمسا
بإقليمي أرتوا Artois وفلندرا الفرنسية،
واحتفظت بروسيا باسترجاع الألزاس واللورين، بينما كان نصيب إسبانيا المنتظر
الاستيلاء على نافار ورسيون Roussillon. وهكذا
أصبحت فرنسا بمثابة «بولندة» جديدة تُرِيدُ الدول تقسيمها، وتطمع كل دولة في
اقتطاع جزء من جثمانها.
(٧) سقوط الجيروند: انقلاب ٢ يونيو ١٧٩٣
ولما كان «ديمورييه» شديدَ الصلة بالجيروند، فقد اشتدَّ الهجوم على هؤلاء في
المؤتمر الوطني بسبب خيانته. وحاول الجيروند دفع تهمة الخيانة عن أنفسهم بتوجيه
الاتهام إلى «دانتون» بأنه كان شريكًا «لديمورييه» في نشاطه وفعاله منذ أن
تعرَّف به في بلجيكا. ولكن هذا الاتهام أخفق ولم يُسْفِرْ إلا عن كسب عداوة
الرجل «دانتون» الذي كان أعظم «الديماجوجيين» ميلًا إلى السلام.
ومن ناحية أخرى كان لهذه الخيانة ولحوادث المشاغبات والعصيان في باريس وفي
الأقاليم، وفي «فنديه» خصوصًا، ولهزائم الجيوش الفرنسية على الحدود، أثر عظيم
الخطورة من حيث انتشار الرعب والفزع والإرهاب من جهة، واتخاذ المؤتمر الوطني من
جهةٍ أخرى لعدة إجراءات، الغرض منها مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية على
السواء، كان من شأنهما التمهيد للقضاء على الجيروند نهائيًّا، وإنشاء
ديكتاتورية حزب الجبل.
وأما هذه الإجراءات فيمكن إيجازها فيما يلي:
-
إنشاء محكمة
الثورة Tribunal Revolutionnaire في ١٠ مارس ١٧٩٣، والمسئول أكثر من سواهما
عن إنشائها كان روبسبيير ودانتون.
-
إعلان طوائف معينة من الأفراد الذين اشتركوا في الثورات
والاضطرابات المناوئة للثورة أو علقوا الشارة البيضاء وهكذا؛
إعلانهم «خارج القانون» في ١٩-٢٠ مارس.
-
إنشاء «لجان للمراقبة العامة» لمنع المؤامرات المناوئة للحرية
Comités de Surveillance
Communaux في وقت تحالف فيه الطغاة في أوروبا
ضد الجمهورية، في ٢١ مارس.
-
توسيع جديد لاختصاصات لجنة الدفاع
العام Comité de Défense
Générale التي تأسست منذ أول يناير ١٧٩٣ من ٢١
عضوًا، كلهم تقريبًا وقتذاك من الجيروند، فتألفت هذه اللجنة الآن
من خمسة وعشرين عضوًا؛ لإعداد ووضع كل القوانين والإجراءات
الضرورية للدفاع الداخلي والخارجي عن الجمهورية، في ٢٥
مارس.
-
نزع السلاح من المشبوهين، سواء كانوا من النبلاء السابقين، وغير
الملتحقين بالجيش أو بالوظائف العامة المدنية، أو القساوسة
المستنكرين، وكذلك الهيئات الإدارية في القومونات والمراكز
والمديريات التي تكون موضع اشتباه، في ٢٦ مارس.
-
استصدار قرار بناءً على اقتراح من «دانتون» أعلن خارج القانون
جميع الأرستقراطيين وأعداء الثورة، وقرر تسليح المواطنين
بالحراب Piques، في ٢٧
مارس.
-
استصدار قانون جديد ضد المهاجرين، أعلن بمقتضاه أن هؤلاء قد
ماتوا موتًا مدنيًّا Civil،
وصودرت أملاكهم، ونفوا مدى الحياة، مع توقيع عقوبة الإعدام على كل
من يعود منهم إلى فرنسا، في ٢٨ مارس.
-
استصدار قانون لتقييد حرية الصحافة، مع توقيع عقوبة الإعدام على
كل من تثبُت إدانته كناشر أو طابع لأقوال تنطوي على التحريض على
إلغاء التمثيل الوطني، وإعادة الملكية، والافتئات على سيادة الشعب
العليا (أو المساس بها)، وصدر هذا القانون في ٢٩ مارس.
-
تقرير وقف حصانة النواب، عندما كان «دانتون» موضعَ شبهة كشريك
«لديمورييه» في المؤامرة؛ فقد اجتمع هذا الأخير بثلاثة من اليعاقبة
يوم ٢٦ مارس في «تورناي»، يبدو أنهم على اتفاق سابق «بدانتون» في
هذه المسألة، وكذلك لارتشائه، وعندما كان الجيروند موضع شبهة كذلك،
فصار بفضل هذا الإجراء الذي اتخذ في أول أبريل يحقُّ توجيه الاتهام
ضد أي نائب يشتبه في أنه متعاون مع أعداء الحرية وضد الحكومة
الجمهورية.
-
توسيع سلطات المحكمة الثورية التي لم يكن في وسعها حسب قرار
تأليفها في ١٠ مارس ١٧٩٣ أن تنظر جرائم الخيانة أو التآمر على
سلامة الوطن، إلا إذا صدر قرار الاتهام من جانب المؤتمر الوطني ضد
الأشخاص الذين يراد محاكمتهم. أما الآن (في ٥ أبريل) فقد صار في
استطاعة المدعي العام إلقاء القبض على مرتكبي هذه الجرائم
ومحاكمتهم، بمجرد أن تتهمهم السلطات بذلك أو المواطنون العاديون.
وصار لا يُستثنى من هذا الإجراء إلا أعضاء المؤتمر الوطني أنفسهم
الذين وجب أن يسبق محاكمتهم صدور قرار الاتهام ضدهم من جانب
المؤتمر الوطني، كما كان الحال قبلًا.
-
تأليف حرس من المواطنين في كل مدينة، يختار أفراده من بين أقل
الناس ثراءً، وتخفيض ثمن الخبز على حساب أهل الثراء العريض، في ١٥
أبريل.
-
إنشاء «لجنة الخلاص
العام» Comité de Salut Publique؛ لأن لجنة الدفاع العام لم تفِ بالغرض
الذي أنشئت من أجله، في ٦ أبريل.
وقد تألَّفت لجنة الخلاص العام من تسعة أعضاء من المؤتمر يتجددون كلَّ شهر
مرة، وتعقد هذه اللجنة جلساتها سرًّا، ومن مهامها اتخاذ الإجراءات اللازمة
للدفاع الداخلي والخارجي معًا، على أن يجري تنفيذ إجراءاتها «دون إبطاء»؛ أي
إنها كانت ذات سلطات ديكتاتورية. وكان من الواضح أن لجنة الخلاص العام هذه قد
انتزعت بحكم قرار إنشائها «سلطات تشريعية» هي من حق المؤتمر الوطني وحده — كما
قال الجيروند — أن يمارسها.
وبينما كان يجري تجنيد المتطوِّعين في الأقاليم، وتقوم الثورة في «لافنديه»،
كان الصراع بين الجيروند والجبل يمرُّ في آخر أدواره في باريس، حيث كان «مارا»
يقوم في نادي اليعاقبة بإعداد عرائض شعبية؛ لتقديمها إلى المؤتمر الوطني، تطلب
القبض على اثنين وعشرين عضوًا من الجيروند، وحيث كان «روبسبيير» في داخل
المؤتمر يشنُّ هجومه على «بريسو» و«فيرنيو» وغيرهما من زعماء الجيروند. وقد
ترتَّب على هذا الهجوم على نواب المؤتمر أن ائتلافًا وقتيًّا لم يلبث أن نشأ
بين حزب اليمين (الجيروند) وحزب الوسط (السهل)، فوجه الحزبان الاتهام ضد
«مارا». ولكن محكمة الثورة سرعان ما برأته في ٢٤ أبريل ١٧٩٣، وسط تصفيق وتهليل
جماهير الغوغاء.
وفي الأيام التالية استمر يتزايد هياج الخواطر خصوصًا عندما بلغت الجماهير
أنباء هزائم الجيش على الحدود، حتى وجد المؤتمر نفسه أخيرًا قد صار مهددًا
بالقوة المسلحة، منذ أن بدأ يعقد جلساته في قصر التويلري في ١٠ مايو.
وحاول الجيروند دفع هذا الخطر عنهم، فاقترح «جوديه» — أحد زعمائهم — إلغاء
السلطات القائمة في باريس — ويقصد بذلك إلغاء قومون باريس خصوصًا، إلا أنه كان
من المتعذِّر على الجيروند الاتفاق فيما بينهم، أو توحيد كلمتهم بشأن ما يجب
اتخاذه من إجراءات إيجابية. فاقترح حينئذٍ «بارير»
Barère وهو من المستقلين، حلًّا وسطًا، هو إنشاء لجنة عرفت
بلجنة الاثنيْ عشر (لتأليفها من اثنيْ عشر عضوًا)
٥ لفحص العلاقات التي يجب أن تسود بين المؤتمر الوطني وقومون باريس
من جهة، ولاتخاذ الإجراءات الكفيلة بصون الهدوء والسلام، وفحص أمر أولئك الذين
قبض عليهم القومون خلال الشهر السابق من جهة أخرى. وكان أعضاء «لجنة الاثني
عشر» من الجيروند، ومنهم من كان القومون قد اتهمهم بالخيانة، وطالب المؤتمر
الوطني بإلقاء القبض عليهم، وقد شجَّع تشكيل «لجنة الاثني عشر» بهذه الصورة
«بريسو» الي وجد الجرأة الكافية الآن لأن يطلب في ٢٢ مايو إلغاء قومون باريس،
وإغلاق نوادي اليعاقبة.
وأما لجنة الاثنيْ عشر فقد بدأت عملها فور تشكيلها، بأن أخذت تفحص سجلات
الأقسام Sections الثورية، وعارضت في
تعيين أحد اليعاقبة «بولانجيه» Boulanger
لقيادة الحرس الأهلي خلفًا «لسان تير» الذي ذهب إلى «لافنديه» للاشتراك في
إخماد ثورتها. ثم أمرت اللجنة بالقبض على «هيبير» أكبر المحرضين على
الاضطرابات، ومن زعماء القومون. فأثارت هذه الإجراءات غضب الباريسيين، وسببت
ثورة شعبية عامة في باريس ضد المؤتمر الوطني، الذي أرغمته الجماهير على إطلاق
سراح «هيبير» وغيره من أصحاب السراويل
الطويلة Sans-Culottes (أي اليعاقبة) المقبوض عليهم، كما أرغمته على حل لجنة
الاثنيْ عشر في ٢٧ مايو ١٧٩٣.
غير أن الجيروند لم يلبثوا أن استعادوا تفوقهم في اليوم التالي، فأعيد إنشاء
اللجنة، وعندئذٍ قام الغوغاء الذين شعروا بقوتهم بثورة عظيمة في ٣١ مايو بقيادة
«هانريو» Hanriot الذي حل أخيرًا محل «سان
تير» في قيادة الحرس الأهلي. وأراد «روبسبيير» أن يوجه هذه الثورة ضد زعماء
الجيروند، ولكن غرض الحركة كان في الحقيقة القضاء على لجنة الاثني عشر. وفازت
الثورة بمأربها وانتهى العصيان عندما ألغى المؤتمر هذه اللجنة للمرة
الثانية.
وارتاح دانتون لحل «اللجنة» التي اعتزمت فحص حوادث مذابح سبتمبر ١٧٩٢، ولكن
زملاءه: «مارا» و«روبسبيير» خصوصًا، أرادوا الظفر بنصر حاسم على خصومهم. فوقع
ما يعرف بانقلاب ٢ يونيو ١٧٩٣،
٦ الذي قُضِيَ فيه على الجيروند.
وتفصيل ذلك أن ثمانين مسلحًا بقيادة «هانريو»، ومعهم مدفعية كبيرة قد حاصروا
يوم ٢ يونيو قصر التويلري — مكان اجتماع المؤتمر الوطني — وطلبوا من المؤتمر
القبض على أعضاء لجنة الاثنيْ عشر وعلى زعماء الجيروند. وحاول «بارير» إنهاء
الأزمة فاقترح أن يعمد النواب (الجيروند) المتهمون إلى إعلان وقف أنفسهم من
وظائفهم، وقَبِلَ عدد من هؤلاء العمل بهذا الاقتراح؛ للتهدئة ولتسكين أعدائهم،
ولكن دون جدوى. وغضبت جماعة من حزب الجبل من هذه الديكتاتورية التي أراد
الغوغاء أن يفرضوها على المؤتمر، وهو جمعية وطنية لها حصانتها، فخرج المؤتمر
بكامل هيئته إلى الأبواب، يأمر محاصريه بالانسحاب وفكِّ الحصار، ولكن «هانريو»
بادر بتصويب المدافع على النواب الذين انقلبوا عائدين إلى المجلس وهم في يأس
وقنوط لعجزهم.
وعندئذٍ انتهز «مارا» الفرصة فأعدَّ قائمة بأسماء النواب الذين يراد حبسهم،
وهم أعضاء لجنة الاثنيْ عشر ثم اثنان وعشرون من زعماء الجيروند، من بينهم
«فرنيو»، «جوديه»، «جنسونيه» Gensonné، بريسو،
«بتيون» وغيرهم. قرر المؤتمر بناءً على اقتراح من «كوتون» Couthon توجيه الاتهام ضدهم. وأُلْقِيَ القبض على هؤلاء
بينما استطاع آخرون الهرب.
وحقَّق سقوط الجيروند، نتيجة لانقلاب ٢ يونيو هذا، انتصار الجبل، ولو أن هذا
الحادث قد زاد من حدَّة الأخطار التي هددت فرنسا؛ لأن كثيرين من الذين قبض
عليهم استطاعوا الفرار من الحبس والالتجاء مع غيرهم إلى نورمانديا، حيث حركوا
الثورة في «كاين» Caen وانحاز إلى جانبهم في
الثورة ضد طغيان باريس أكثر من خمسين مديرية. وتجلَّت روح المعارضة لطغيان
باريس وديكتاتوريتها في إقدام «شارلوت
كورداي» Charlotte Corday على قتل «مارا». فقد جاءت خصيصًا من «كاين» بمناسبة
الاحتفال بعيد ١٤ يوليو. وطلبت مقابلة «مارا» (صديق الشعب) بدعوى أن لديها
معلومات عن نشاط الجيروند في نورمانديا تريد أن تدلي بها إليه. فلما قابلته
وكان في «حمامه» طعنته بخنجرها وقضت عليه في ١٣ يوليو.
وكانت «شارلوت كورداي» فتاة تبلغ الرابعة والعشرين، تأثَّرت بقراءاتها
الكثيرة لجان جاك روسو وبلوتارك، وتنتمي لأسرة الشاعر «كورنيي» Corneille، وكانت إلى جانب هذا مخطوبة لأحد
رجال الجيروند «باربارو» Barbaroux، واعتقدت
أن بوسعها إنقاذ الجيروند إذا هي ارتكبت جريمة من «جرائم البطولة» بقتل «مارا».
ولما كانت باريس تمجد «مارا»، فقد قضت محكمة الثورة بإعدامها، وماتت على
المقصلة في ١٧ يوليو.
على أن الثورة في هذا الحين كانت قد امتدت إلى «ليون» و«مرسيليا» و«طولون»
و«نيم» Nimes، وغيرها من المدن التي أعلنت
استنكارها ضد المؤتمر الوطني. بينما تسلَّحت في الشمال مقاطعة «كالفادوس» Calvados لإعادة الملكية، وهاجمت جيوش
«لافنديه» مدينة «نانت»؛ حتى تسيطر على نهر اللوار وتستطيع إنشاء الصلات مع
إنجلترة. ولكن هذه الحركات جميعها كان يعوزها تنسيق الجهود؛ الأمر الذي شَلَّ
نشاطها. ثم إن الجيروند ما كانوا يرتاحون للملكيين الذي أرادوا توجيه هذه
الثورات لصالحهم.
ومن ناحية أخرى، فإن الغزاة الخارجين سرعان ما استغلُّوا هذه الاضطرابات
الداخلية لتنفيذ مآربهم التي رأينا أنها لم تعد مجرد القضاء على «الثورة» فحسب،
بل صارت تقطيع أوصال فرنسا وفتح أقاليم معينة منها لحسابهم. وانهزمت جيوش
«الثورة» في كل مكان. فسقطت ماينز في ٢٣ يوليو، وكان البروسيون قد وقفوا على
حصارهم منذ ١٤ أبريل، ودافع عنها «كليبر» وغيره من القواد، ولكن دون جدوى. وكان
نصيب القائد «كاستين» الفشل بعد انتصاراته الأولى، واجتاز «كوبورج» — القائد
النمساوي — الحدودَ زاحفًا على كونديه Condé
وفالنسيين Valenciennes، فسقطتا في ١٥، ٢٨
يوليو بالتوالي، وانفتح بذلك الطريق وللمرة الثانية إلى باريس. وزحف الإنجليز
على «دانكرك»، والبروسيون على «ويزنبورج» Wissenbourg و«لانداو». وعلاوةً على ذلك فقد هزم الإسبان
الفرنسيين في البرانس، وغزا عشرون ألفًا من البيدمونتيين فرنسا من ناحية الألب،
وأعلنت الحكومة الإنجليزية الحصار على كل الموانئ الفرنسية، وباتت العاصمة
«باريس» مهددة بالمجاعة.
(٨) ديكتاتورية الجبل: «حكومة لجنة الخلاص العام»
وكان في هذه الظروف الدقيقة: الاضطرابات والثورات في الداخل والهزائم على
الحدود وخطر الغزو من الخارج، أن سيطر حزب الجبل على توجيه شئون الحكم في
فرنسا. وقد ظهرت آثار ديكتاتورية الجبل أولًا: في تعطيل «الدستور» الذي أراده
الجيروند، ووضع مشروعه «كوندورسيه» ثم أنجزه «الجبل» بعد أن قضى على الجيروند
في انقلاب ٢ يونيو ١٧٩٣، فلم يضعه موضع التنفيذ، وأبقاه معطلًا حتى نهاية عهد
المؤتمر الوطني.
وثانيًا: في إنشاء تلك الحكومة التي عرفت في تاريخ الثورة باسم حكومة لجنة
الخلاص العام، والتي سيطرت على شئون الحكم في فرنسا وحكمت البلاد حكمًا
ديكتاتوريًّا مدة سنة تقريبًا من يوليو ١٧٩٣ إلى يوليو ١٧٩٤.
(٨-١) دستور سنة ١٧٩٣ (دستور السنة الثانية)
فقد ذكرنا عند الكلام عن نشاط المؤتمر الوطني، أن لجنةً قد شُكِّلَتْ
لوضع دستور جديد بدلًا من دستور ١٧٩١ الذي انتهى العمل به، وذكرنا أن هذه
اللجنة تألَّفت أكثريتها من الجيروند، كما ذكرنا أن هؤلاء أرادوا إشغال
المجلس أثناء اشتداد النضال بينهم وبين الجبل، بتقديم مشروع دستور وضعه
كوندورسيه؛ ليناقشه المجلس، ولكن دون جدوى.
وواقع الأمر أن «الجبل» ظلَّ يبذل قصارى جهده لتعطيل أعمال لجنة الدستور،
واستمرَّ الحال على ذلك حتى حدث «انقلاب ٢ يونيو» وتخلَّص الجبل من
الجيروند نهائيًّا. وعندئذٍ صار من صالح «الجبل» التعجيل بإصدار الدستور؛
وذلك حتى ينفي عن نفسه تهمة الطغيان التي ألصقها به الجيروند. وحتى يستميل
الأمة إلى مناصرته، لا سيما وقد زال خصومه الآن من الميدان. فتسنَّى إنجاز
مشروع الدستور في ستة أيام فقط، وضعه «هيرو دي سيشل» Herault de Séchelles وقدمه إلى
لجنة الدستور في ٩ يونيو، فقبلته اللجنة في ١٠ يونيو، وتلاه صاحبه على
المؤتمر في اليوم نفسه، واعتمده المؤتمر الوطني بعد مناقشته في ٢٤ يونيو
١٧٩٣.
ويتألف دستور ١٧٩٣ من «إعلان لحقوق الإنسان» في ٣٥ مادة، ومن قانون
الدستور نفسه في ١٢٤ مادة.
أما «إعلان الحقوق» فقد جاء فيه أن الإعلان قد حصل في حضرة الكائن الأعظم.
٧ وتجددت في هذا الإعلان الحقوق التي ذكرها إعلان سنة ١٧٨٩، وزيد
فيه نصٌّ على وجوب أن يكون «التعليم» في متناول الجميع، وأن يكون «العمل»
متوفرًا للجميع كذلك، وأن تمد يد المساعدة لكل من يحتاج إليها. ونص الإعلان
على أن الغاية من الاجتماع الإنساني هي توفير السعادة للناس، كما ذكر أن
للناس الحق في مراجعة وتعديل وتغيير دستورهم، حيث إنه لا يحق لجيل معين أن
يتحكَّم بفضل دستور يضعه في الأجيال المقبلة. واختتم الإعلان بنصٍّ يوجِب
القيام في وجه الحكومة إذا اعتدت هذه على حقوق الشعب: «عندما تعتدي الحكومة
على حق الشعب، يكون حق الثورة من أقدس الحقوق، والتي لا يمكن الاستغناء
عنها.»
وواضح أن هذا النص إنما ينطوي على تقرير شرعية انقلاب ٢ يونيو، وسقوط
حكومة الجيروند.
وأما الدستور نفسه، فقد جعل لكل مواطن يبلغ الواحدة والعشرين حقَّ
الانتخاب في المجالس الأولية أو الابتدائية في الكانتونات. وأعضاء هذه
المجالس هم الذين ينتخبون مباشرة النواب، وأعضاء البلديات، وقضاة الصلح،
وهم الذين ينتخبون كذلك «الأعضاء
الناخبين» élécteurs في «المجالس الانتخابية» Assemblée Électorale في كل المديريات. وجعلت مدة
النيابة سنة واحدة. وذلك في مجلس
تشريعي واحد Corps Législatif يقترح القوانين، وجعلت مدة حق الاعتراض على
هذه القوانين أربعين يومًا يسقط بعدها هذا الحق وتقرر حق الاعتراض، على
أساس أن الشعب هو صاحب السيادة العليا، ومن الضروري لذلك الرجوع إلى الأمة
في كل القوانين التي تصدر. فإذا لم يعترض أي قومون من القومونات عليها صارت
نافذة. وأما السلطة التنفيذية فقد وضعت في يد مجلس تنفيذي Conseil Exécutif يتألف من ٢٤ عضوًا،
تنتخبهم الهيئة التشريعية من كشف يحوي أسماء ٨٤ مرشحًا، وتُعِدُّ هذا الكشف
المجالس الانتخابية في المديريات بنسبة واحد عن كل مديرية، ويتجدَّد نصف
هؤلاء الأعضاء سنويًّا.
وأخيرًا، نصَّ الدستور في مواده من المادة (١١٨) إلى المادة (١٢١): على
أن الشعب الفرنسي صديق وحليف طبيعي للشعوب الحرة، وأنه لا يتداخل في شئون
الأمم الأخرى الداخلية، وكذلك لا يحتمل أن تتداخل هذه الأمم في شئونه، وأنه
يرحِّب بكل اللاجئين الذين يأتون إليه من البلدان الأجنبية، مشردين ومنفيين
من أوطانهم، من أجل قضية الحرية، ولكنه يرفض أن يلجأ إليه طاغية من
الطغاة.
ومما يجب ذكره أن هذا الدستور قد عدَّد حقوق المواطنين المدنية. فذكرت
«المادة ١٢٢» أن منها المساواة والإخاء والأمن والمِلْكية (التملك) وحرية
العبادة، والتعليم العام وحرية الصحافة والدين العام، والتمتع بكل حقوق
الإنسان: حق الاجتماع وتأليف الجمعيات الشعبية، وحق تقديم العرائض … إلخ.
ولكن هذا الدستور لم يذكر شيئًا عن «واجبات» الإنسان، فلم يختلف في هذه
الناحية عن دستور سنة ١٧٩١.
ولقد اقترع على هذا الدستور المؤتمر الوطني نهائيًّا في ٢٤ يونيو، ثم
تمشيًا مع روح الدستور نفسه — أي واجب الرجوع إلى الأمة — عرض الدستور على
المجالس الأولية أو الابتدائية في الأقاليم للاقتراع عليه: في باريس من ٢
إلى ٤ يوليو، وفي الأقاليم من ١٤ إلى ٢٢ يوليو، ثم في ٤ أغسطس. وقد قبلت
الأمة الدستور.
ولكن يجب ملاحظة أن سواد الشعب لم يكن متحمسًا للتصويت، فمن بين سبعة
ملايين ناخب لهم حق التصويت، استخدم هذا الحق مليونان فقط، ومع أن
المعارضين للدستور كانوا قلة، حيث لم يقترع ضده ولا ناخب واحد في باريس، في
حين بلغ عدد المعارضين في الأقاليم من ١٥ إلى ١٦ ألفًا فقط، فالذي يجدر
ذكره أن الاقتراع كان بالمناداة بالاسم، وأن من بين الموافقين كان (١٠٠٠٠٠)
طالبوا بإدخال تعديلات على الدستور، وكان من مطالبهم الإفراج عن نواب الأمة
المقبوض عليهم في انقلاب ٢ يونيو ١٧٩٣.
ولكن هذا الدستور لم يوضع موضع التنفيذ أبدًا. فيقول «لوي مدلان»: أما
وقد أمكن بلوغ النتيجة التي ظلت منشودة زمنًا طويلًا، فقد رُئِيَ أن هذا
الدستور الذي بلغ حدًّا من الصرامة لا يجعله ملائمًا لطبيعة الفرنسيين
دستورٌ طيِّب جدًّا بحيث لا ينبغي المجازفة باستخدامه حتى لا يتحطَّم! ولكن
حتى لا يشك امرؤٌ في وجوده، فقد أُودِعَ هذا الدستور في صندوق، وأغلق عليه،
ووضع هذا الصندوق وسط ردهة المؤتمر، في مكان غير مناسب بتاتًا. وهكذا كما
قال «بارير» وهو متنبئ آخَر متَّصِف بالهدوء والرزانة: «لقد صار هذا
الصندوق قبره!»
(٨-٢) لجنة الخلاص العام
وهذه اللجنة كما تقدم تأسَّست في ٦ أبريل ١٧٩٣، وأُعِيد انتخاب أعضائها
منذ ذلك التاريخ. ولكن لم يلبثْ أن طرأ تغيير على تأليفها في ١٠ يوليو،
عندما أنقص عدد أعضائها من ستة عشر عضوًا إلى تسعة أعضاء فقط، ثم خرج منها
«دانتون» وصارت تتألَّف بعد هذا التاريخ من: روبسبيير (منذ ٢٧ يوليو)، وسان
جوست، وكوتون، وبيللوفارن، وكوللود يربوا (والأخيران منذ ٦ سبتمبر) إلى
جانب «بارير» وكذلك «كارنو» Carnot (منذ
١٤ أغسطس).
ولقد عرفت هذه اللجنة باسم «لجنة السنة الثانية الكبرى».
٨ وقد عرفت الفترة التي مارس خلالها هؤلاء أسبابَ السلطة باسم
«حكومة لجنة الخلاص العام»، وامتدت هذه الفترة على وجه التحديد من ١٠ يوليو
١٧٩٣ إلى ٢٧-٢٨ يوليو ١٧٩٤.
وتألَّفت حكومة لجنة الخلاص العام، من «هيئة حاكمة» أو من رجال دولة H’ommes d’état عددهم خمسة: فأشرف
روبسبيير على التعليم والفنون الجميلة، و«سان جوست» على التشريع والقوانين،
و«كوللود يربوا» و«بيللو فارن» و«كوتون» على شئون السياسة الداخلية،
والمراسلات مع أعضاء البعثات الموفدة في مهمات، ومع السلطات الإدارية. ثم
قامت إلى جانب هذه «هيئة تنفيذية» من الرجال المنفذين Hommes d’exécution وكانوا «هنري
دي سيشل» لشئون السياسة، و«جان بون
أندريه» Jean Bon-André لإدارة البحرية، و«كارنو» لتنظيم الجيش «وتدبير
النصر»، ثم كلٌّ من «بريور» Prieur نائب
المارن، و«بريور» نائب كوت
دور La Lôte d’or، و«روبير
ليندت» Robert Lindet لشئون الإدارة الحربية ومصانع الجيش وخدمة
المستشفيات والنقل، وأخيرًا «بارير» للإدارة المالية، كما عهدت إليه أعمال
السكرتيرية العامة وإعداد التقارير وتقديمها للمؤتمر.
ولقد كان هؤلاء الرجال يمارسون «حكمًا مطلقًا» في فرنسا، حيث قد اقتضت
مواجهة الأخطار الداخلية والخارجية التي تعرضت لها البلاد وقتئذٍ أن يتزايد
تركيز السلطة بها، وتولت «لجنة الخلاص العام» معالجة الموقف مستندةً على
سلطاتها الديكتاتورية.
فكان مما عالجته لجنة الخلاص العام الأزمة المالية، وذلك بأن فرضت على
الأغنياء الاكتتاب إجباريًّا في قرض داخلي، أرادت أن تسدَّ به العجز الحاصل
في الميزانية. ثم إنها تناولت الشئون الخارجية، فكان من إجراءاتها —
لمواجهة الموقف — أنها بادرت بإعلان «التعبئة العامة» Levée en Masse: «بأن يذهب الشبان إلى ساحات القتال،
وبأن يصنع الأزواج السلاح وينقلوا الإمدادات، وبأن يصنع الزوجات الخيام
والأقمشة، وأن يخدمن في المستشفيات، وبأن يمزق الأطفال الثياب البالية
الكتانية؛ لعمل مُشاقة منها، وبأن يذهب العجائز إلى الميادين والمحال
العامة؛ ليشجعوا المحاربين، وليشعلوا نار الكراهية ضد الملوك.»
ولمعالجة الثورات الداخلية، ومجابهة العدو الداخلي، اتخذت لجنة الخلاص
قرارًا في ٦ سبتمبر ١٧٩٣، بوضع جيش ثوري من ستة آلاف من المشاة، وألف
ومائتين من المدفعية تحت تصرف اللجنة؛ ليقوم بتنفيذ أوامرها في كل أنحاء
فرنسا. وفي ١٧ سبتمبر صدر «قانون المشبوهين»
٩ لتعقب ومطاردة «المناوئين للثورة» والمشتبه في أمرهم. ويدخل في
عداد هؤلاء، كل من يبدو من مسلكه أو علاقاته بالغير أو في كتاباته وأقواله
أنه عدوٌّ للحرية، وضالعٌ مع الطغيان أو الملكية أو الفدرائية؛ أي الدولة
التعاهدية؛ لأن هدف الثورة هو الوحدة القومية، وليس إنشاء جمهوريات مستقلة
منفصلة في الأقاليم، وكان الغرض من النص على الفدرائية تعزيز النظام
المركزي تحت سيطرة العاصمة؛ أي باريس.
ويدخل في عداد المشتبه في أمرهم كذلك، كل أولئك الذين يعجزون عن القيام
بواجباتهم كمواطنين، ثم الذين رفضت السلطات إعطاءهم «الشهادات المدنية»
١٠ للتدليل على أنهم مواطنون طيبون صالحون، ثم الموظفون الذين
يوقفهم المؤتمر عن مباشرة وظائفهم، أو القومسيريون الذين كانوا تابعين له،
ثم لا يعادون إلى وظائفهم، ثم أقرباء المهاجرين، الذين لا يُظهِرون دائمًا
شعور الولاء «للثورة»، والمهاجرون الذين لم يعودوا للوطن في المهلة التي
حددتها القرارات لهم.
وعلاوة على ذلك، فقد وضعت «تسعيرة» للغلال والمواد التموينية الأخرى؛
تجنبًا لخطر المجاعة، واعتبر «مشبوهًا» كل تاجر يترك تجارته، ولا يلبث أن
يتعرَّض للحكم عليه بالإعدام إذا هو عمد إلى تخزين المواد الغذائية.
وأخيرًا، فإن المؤتمر الوطني لم يلبث أن نقل سلطاته نهائيًّا إلى لجنة
الخلاص عندما رُئِيَ إغفال الدستور — دستور السنة الثانية (١٧٩٣) — بدعوى
استحالة تنفيذ القوانين الثورية ما لم تكن الحكومة ذاتها — كما قال «سان
جوست» — حكومةً ثورية. ولقد استمر «سان جوست» يقول: إن على الدولة واجب
إطعام المتعطِّلين، وإخماد الثورات، وإنقاذ الشعب، وتلك مشكلة ضخمة لا سبيل
إلى إيجاد حل لها إلا «بتقويم الحكومة بأسرها».
وعلى ذلك فقد أصدر المؤتمر الوطني قرارًا في ١٠ أكتوبر ١٧٩٣ ذا شقين: فهو
قد أعلن رسميًّا؛ أولًا: أن حكومة فرنسا المؤقتة سوف تكون ثورية إلى أن
ينعقد الصلح، والحكومة المؤقتة هنا كانت «المجلس التنفيذي المؤقت»،
١١ وهي مؤقتة لأن دستور ١٧٩١ كان قد ألغي، في حين أن دستور ١٧٩٣
معطل. فأعطى هذا القرار حكومة الثورة القائمة فعلًا — وهي لجنة الخلاص —
الصبغة الشرعية اللازمة لها، كما تأجَّل بمقتضاه تنفيذ دستور ١٧٩٣ نهائيًّا
حتى ينعقد الصلح بين فرنسا والدول.
ثم إن هذا القرار ثانيًا: وضع تحت مراقبة وإشراف لجنة الخلاص (المجلس
التنفيذي المؤقت) والوزراء والقوات والهيئات الإدارية … إلخ؛ فألغى القرار
فعلًا نتائج الانتخابات الشعبية (للهيئات الإدارية وما إليها)، وأخضع كل
موظفي الدولة في السلك المدني وفي الجيش كذلك لسلطان لجنة الخلاص.
وفي ٢ ديسمبر ١٧٩٣ اتخذ المؤتمر الوطني قرارًا تقدمت بمشروعه لجنة الخلاص
أعلن أن: «المؤتمر الوطني المركز الوحيد الذي يصدر عنه نشاط الحكومة.»
وواضح أن ذلك كان خرافة أو زيفًا قانونيًّا، ولكن لم يكن هناك مَنَاصٌ من
القول بها حتى يتسنَّى إعطاء أقل صيغة شرعية ممكنة لمجلس كان يجب أن ينفضَّ
بعد أن أدى الغرض من اجتماعه، وهو إنهاء وتصفية الملكية، وإعلان الجمهورية،
وبعد أن خرج عليه نصف أعضائه، وتوزعت السلطات التي كانت له بين مختلف
اللجان التي أقيمت، وخصوصًا «لجنة الخلاص العام» التي استأثرت بكل أسباب
السلطة الفعلية والحكم. وكان بمقتضى هذا القرار أن صارت لجنة الخلاص العام
هي الحكومة الثورية «قانونًا» في فرنسا.
ولقد كان بفضل هذه الإجراءات (أو القرارات) إذن، أن تمكَّنت حكومة لجنة
الخلاص من إخماد الثورات والاضطرابات الداخلية من جهة، وإدارة الحرب بنجاح،
وإلحاق الهزيمة بالعدو من جهة أخرى. وزيادةً على ذلك فقد ساعدت هذه
القرارات على قيام عهد الإرهاب الذي انتهى بسقوط روبسبيير وانتهاء لجنة
الخلاص ذاتها.
أولًا: إخماد الثورات والاضطرابات الداخلية
فقد انهزم الملكيون الثوار في نورمانديا، واستطاع مندوبو المؤتمر
الوطني الدخول إلى «كاين» في ٣ أغسطس ١٧٩٣. وتلا ذلك أن سلمت «بردو»
مركز المقاومة في الغرب، وقبلت الدستور. ثم سقطت مرسيليا في الجنوب في
٢٣ أغسطس، وحاصر القائد «كلرمان» مدينة «ليون» التي سقطت بعد أن تكبدت
خسائر فادحة (في ٩ أكتوبر)، وقرر المؤتمر الوطني «إزالتها» وإقامة عمود
في مكانها منقوش عليه: «لقد حاربت ليون ضد الحرية فأزيلت (أو محيت) من
الوجود.»
وفي ١٩ ديسمبر أخضع نابليون بونابرت طولون الثائرة، والتي كان يحميها
الأسطول الإنجليزي بقيادة أمير البحر هود Hood الذي استنجدت طولون به. وأما ثورة «لافانديه»
التي بدأت تعنف منذ مارس ١٧٩٣، فقد استطاع الفلاحون في مدى شهرين أن
يسيطروا على الإقليم بأكمله، ويهزموا جيوش المؤتمر وأن يطردوها إلى ما
وراء نهر اللوار، واستمرت الثورة إلى أن قضى عليها كما ذكرنا الجنرال
«كليبر» وزميله «مارسو» في ديسمبر سنة ١٧٩٣. وحاول ثمانون ألفًا من
أهلها (أهل فنديه) الفرارَ إقليم «بريتاني» حيث استمرت بها بعض الوقت
حربٌ متقطعة ضعيفة، ولكن هذه العمليات أخفقت، وتشتَّت الثوار، وقررت
لجنة الخلاص إبادة سكان «لافنديه» حيث إنه من المتعذِّر تهدئتهم، فأعدم
كثير من أهلها. وعلى ذلك فإنه لم ينقضِ عام ١٧٩٣ حتى كانت فرنسا بأسرها
قد خضعت للمؤتمر الوطني، وصار قومسييرو أو مندوبو المؤتمر يتمتَّعون في
الأقاليم بسلطات مطلقة تُعَادِل ما كانت تتمتع به «لجنة الخلاص» من
سلطات مطلقة في باريس.
ولقد كان من أسباب ضعف المقاومة ضد اليعاقبة ولجنة الخلاص العام ذيوع
الاعتقاد بين سواد الشعب بأن وجود سلطة مركزية قوية ضروري حتى يمكن
إنقاذ فرنسا من خطر الغزو الخارجي.
ثانيًا: إدارة الحرب
وكذلك نجحت إدارة الحرب، ولازم التوفيق فرنسا عندما دَبَّ الخلاف بين
النمسا وبروسيا بعد سقوط «ماينز» في أيدي البروسيين في ٢٣ يوليو ١٧٩٣؛
فمنع هذا الخلاف البروسيين بعد استيلائهم على ماينز من الزحف على
باريس، ففاتت عليهم فرصة إخضاع العاصمة وكسب الحرب. وأما سبب هذا
الخلاف فهو أن ملك بروسيا «فردريك وليم الثاني» (١٧٤٠–١٧٩٧) كان يريد
الحيلولة دون أن تستبدل النمسا بفاريا ببلجيكا، بينما كانت النمسا تقف
كلَّ جهودها على التوغُّل في فرنسا الشمالية والألزاس وضم فتوحات جديدة
إليها في هذه الجهات. ودبَّ النزاع كذلك بين «كوبورج» القائد النمساوي
و«دوق يورك» قائد القوات الإنجليزية الواقفة على حصار «دانكرك»، ورفض
«كوبورج» مساعدة الإنجليز في هذا الحصار.
وقد حدث هذا الخلاف بين الحلفاء في الوقت الذي ساد فيه الخلاف كذلك
في الداخل بين الثوار (الملكيين) و«الجيروند». فانتهز اليعاقبة (لجنة
الخلاص العام) هذه الفرصة لتعبئة كل الجهود لإنقاذ الوطن. واستطاع
«كارنو» — الذي تسلَّم في حكومة «لجنة الخلاص» إدارة الحرب — تنظيمَ
ثلاثة عشر جيشًا، وأدخل تغييرات هامة فاستبدل بالقواد الأرستقراطيين
القدامى أمثال «كاستين» و«مونتسكيو» رجالًا ممن ترقَّوْا من الصفوف،
مثل «جوردان» Jourdan و«هوش» Hoche و«بيتشجرو» Pichegru، فأعاد هذا التغيير الاتحاد في الرأي
والهدف بين قواد الجيش والحكومة المركزية. ثم إن تحول أغراض الحلفاء
إلى الرغبة في الفتح والتوسع على حساب فرنسا بدلًا من نكران المصلحة
الذاتية والنفع الخاص، على نحو ما كانوا يعلنونه في بادئ الأمر، لم
يلبث أن صرف عنهم شعور العطف الذي ساد قبلًا نحوهم بين بعض طبقات الشعب
الفرنسي.
وعلى ذلك، فقد اضْطُرَّ الإنجليز إلى رفع الحصار عن «دانكرك» في ٦
سبتمبر ١٧٩٣، وانهزم الإنجليز والهانوفيربون في معركة كبيرة في
هوندشوتن Hondschoten بعد ذلك
بيومين. بينما انتصر «جوردان» على النمساويين في «واتيجنيز» Wattignies في ١٦ أكتوبر، وكان قبل
ذلك قد تمكَّن «هوش» من هزيمة جيش «نمساوي-بروسي» في ٢٥ سبتمبر، وأرغم
«بيشجرو» النمساويين بقيادة ورمزر Wurmser على الارتداد عبر الراين. واسترجعت جيوش «هوش»
و«بيشجرو»، ومع هذه الجيوش مندوب المؤتمر «سان جوست» ليشجع الجنود
ويستحثهم على القتال، استرجعت «وايزنبرج» Weissenberg.
وتلك جميعها انتصارات باهرة. لم يطفئ بهاءها سوى تلك الإجراءات
العنيفة التي اعتقد «الجبل» و«لجنة الخلاص» أنهما على حق في اتخاذها ضد
أعداء الوطن الداخليين المتآمرين على «الثورة»، وهي الإجراءات التي
أوجدت عهد الإرهاب.
(٩) عهد الإرهاب١٢
أوجدت حكومة لجنة الخلاص العام عهد الإرهاب الذي أقيم بدعوى القضاء على أعداء
الثورة الداخليين من المناوئين للثورة والمتآمرين عليها. واستندت حكومة لجنة
الخلاص العام في تعقب هؤلاء المناوئين والمتآمرين، ونشر الإرهاب، على طائفة من
القرارات التي اتخذها المؤتمر الوطني، وأهمها: القرارات التي صدرت في ٥ مارس
١٧٩٣، وبمقتضاها صار تقوية «المحكمة الثورية» — التي عرفنا أنها أنشئت في ١٠
مارس ١٧٩٣، وتوسعت اختصاصاتها في ٥ أبريل — فقد رُفِعَ الآن عدد قضاتها إلى
سبعة عشر قاضيًا، وكانوا أصلًا سبعة ثم زيدوا إلى عشرة. وبمقتضى قرارات ٥
سبتمبر تعيَّن خمسة لمساعدة المدعي العام المسمى فوكييه تانفيل Foquier Thinville كمناوبين له.
وكذلك تقرَّر تقسيم المحكمة الثورية إلى أربعة أقسام، يعمل كل اثنين منها
معًا مرة بالتناوب حتى تسير الأعمال بسرعة، وكذلك تقرَّر إنشاء «جيش ثوري» من
٦٠٠٠ من المشاة، ١٢٠٠ من الفرسان؛ لضمان تموين باريس وإحباط المؤامرات
الأرستقراطية، ثم تقرر «تعويض» أو إعطاء مكافأة مالية قدرها أربعون صلديًّا
لأصحاب السراويل الطويلة (سان كيلوت) الذين يحضرون جلسات مجالس الأقسام (وقد
أُنقِصت هذه إلى جلستين أسبوعيًّا)، ثم إلغاء القرار الذي كان يمنع الموظفين —
تحت طائلة عقوبة الموت — من تفتيش المنازل أو إلقاء القبض على المواطنين أثناء
الليل، بل صار الواجب على المواطنين «أن يفتشوا عن الأعداء في أوكارهم أو
جحورهم، و«صار» لا يكاد يكفي للقبض عليهم النهار ولا الليل بطولهما.»
وفي ١٣ سبتمبر ١٧٩٣ حصلت لجنة الخلاص العام من المؤتمر الوطني على حق تجديد
تشكيل لجنة الأمن العام،
١٣ والتي كانت تألَّفت منذ أكتوبر ١٧٩٢، والتي كان لها الإشراف على
أعمال البوليس وإدارة القضاء، والتي كان للجنة الخلاص السلطة في دعوتها
للاشتراك في المباحثة معها لتنسيق العمل. ولو أن لجنة الأمن العام كان لها
كيانها الخاص بها.
فأُخرِج من لجنة الأمن العام كل الذين اتُّهِموا باستغلال النفوذ لحماية
المتعهدين (للتموين والجيش) أو أصحاب البنوك … إلخ، وتعيَّن بدلًا منهم أعضاء
من أنصار لجنة الخلاص العام والخاضعين لنفوذ هذه اللجنة. وزيادة على ذلك فقد
أجيز (للجمعيات الشعبية)
١٤ «وفي الأقسام للمواطنين الذين لا يحضرون مجالس الأقسام» أن ترشد
لجنة الخلاص العام إلى الأشخاص الذين يُفرِّطون بواجباتهم المدنية أو المشتبه
فيهم، خصوصًا المتعهدين لتزويد الجيش بحاجاته.
وفي ١٧ سبتمبر ١٧٩٣ صدر قانون المشبوهين الذي سبق الحديث عنه لتحديد فئات
المشبوهين الذين يجب الإرشاد عنهم.
ولقد بدأ الإرهاب في باريس بأن امتلأت سجونها (التي تقدم ذكرها) بأكثر من
خمسة آلاف «مشتبه في أمرهم»، قبض عليهم بمقتضى «قانون المشبوهين». وبدأت محكمة
الثورة عملها بنشاط وهمة بعد أن ظلت بلا عمل تقريبًا منذ إنشائها في ١٠ مارس
سنة ١٧٩٣، وقال «باراس» Barras ما معناه: «يجب
أن تبدأ بقتل خصومك على المقصلة أو تنتظر حتى يقتلك بها هؤلاء.»
وكان النائب «جروساس» Grosas أول من أعدم من
الجيروند، وعددهم ٢٢، وهم الذين طردوا من المؤتمر يوم ٣١ مايو (انقلاب ٢ يونيو
١٧٩٣). وفي ١٦ أكتوبر أعدمت «الأرملة كابيه»: ماري أنطوانيت، بعد أن أقذع القول
في اتهامها أمام محكمة الثورة كلٌّ من «شوميت» و«هيبير»، وأدينت بتهمة الاتصال
بالعدو ضد سلامة الوطن. وفي ٣١ أكتوبر أعدم باقي الجيروند (٢١ عضوًا عدا
فالاذي Valazé الذي انتحر بطعنة خنجر)
ومنهم «فرنيو» و«بريسو» و«جنسونيه» وغيرهم.
وفي ٦ نوفمبر قطعت المقصلة رأس فيليب دورليان أو فيليب المساواة عضو المؤتمر
الوطني، والذي اقترح إعدام الملك. وفي ٨ نوفمبر أعدمت مدام رولاند وهي تقول:
«أيتها الحرية، كم من الجرائم ارتكبت باسمك!» أما زوجها (وكان لاجئًا في روان)
فقد انتحر في ١٥ نوفمبر. وأعدم «بايلي» في ١٠ نوفمبر، و«بارناف» في ٤ ديسمبر،
وانتحر «كلافيير» في ٨ ديسمبر. ووُجِدَ «كوندرسيه» ميتًا في محبسه «في باريس»
في ٢٩ مارس ١٧٩٤، ومن المحتمل أنه مات جوعًا. وأعدم «جوديه» في بردو في ١٥
يونيو ١٧٩٤، وباربارو Barbaroux في بوردو في
٢٥ من الشهر نفسه، وانتحر في ٢٦ منه بتيون. وهكذا كما قال تاين Taine: «صارت الثورة تأكل رجالها.» ومن الذين
لقوا حتفهم مدام دي باري عشيقة لويس الخامس عشر، وكذلك كاستين الذي اتهم
بالخيانة لتسليمه ماينز وفالنسيين.
وبعد الاستيلاء على ليون (٩ أكتوبر ١٧٩٣) أرسل إليها «فوشيه» Fouché للاقتصاص من أهلها؛ فقبض فوشيه من
ديسمبر ١٧٩٣ إلى مارس ١٧٩٤ على نحو ٣٥٠٠ مواطن، أعدم منهم ١٦٨٢، واعتقل ١٦٢،
وأطلق سراح الباقي. وأرسلت «لجنة الخلاص» لعقاب إقليم «لافنديه»، «كارييه» Carrier الذي أقام محكمة ثورية تحت رئاسته،
واستبطأ المقصلة كأداة للعقاب؛ فأغرق المقبوض عليهم بالجملة، وأفواجًا أفواجًا،
في نهر اللوار «عند نانت». وبلغ عدد الذين هلكوا بناءً على أوامر «كارييه» في
هذا التغريق Noyades خلال شهور أكتوبر ونوفمبر
وديسمبر ١٧٩٣، ما لا يقل عن ١٥٠٠٠ نسمة.
ثم إنه حتى يتمَّ الانفصال كليةً عن الماضي، تقرَّر في ٦ أكتوبر سنة ١٧٩٣
استبدال تقويم ثوري بالتقويم المسيحي (الجريجوري). فصار بدء حساب السنين من
تاريخ إعلان الجمهورية؛ أي في يوم ٢٢ سبتمبر سنة ١٧٩٢، وقسمت السنة إلى اثنيْ
عشر شهرًا متساويًا، هي: Vendémiaire «شهر حصاد
الكروم، أول شهور السنة، ويبدأ يوم ٢٢ سبتمبر»، «الضباب» Brumaire، «الصقيع» Frimaire، وهذه لفصل الخريف. ثم شهور «الجليد» Nivose و«المطر» Pluviose و«الرياح» Ventose،
وهذه لفصل الشتاء. ثم شهور «النبت» Germinal،
«الإزهار» Floreal، «المراعي» Prairial، وهذه لفصل الربيع. ثم شهور
«الحصاد» Messidor، «الحر» Thermidor، «الثمر» Fructidor، وهذه لفصل الصيف.
وينسب وضع أسماء هذه الشهور لعضو المؤتمر الوطني: فابرد أنجلانتين. وقد جعل
كل شهر من ثلاثين يومًا، ثم قسم إلى ثلاثة أقسام متساوية سميت أيام كل قسم منها
بترتيبها العددي هكذا: اليوم الأول Primidi،
والثاني Duodi، والثالث Tridi، والرابع Quatridi،
والخامس Quintidi، والسادس Sextidi، والسابع Septidi، والثامن Octidi،
والتاسع Nonidi، والعاشر Decadi، وجعل اليوم العاشر يوم راحة، ثم أضيفت
خمسة أيام مكملة Jours Complementairs في
نهاية السنة سميت أيام السان
كيلوتيين sans-culottes (مخصصة أو مهداة للعبقرية Genuis، والعمل Labour،
والفعل Action، والتعويض Recompenses والرأي Opinion). وقد بقي هذا التقويم معمولًا به حتى أول يناير سنة
١٨٠٦.
وقد أدَّى بطبيعة الحالة إلغاء التقويم الجريجوري المسيحي مع إلغاء أيام
الآحاد والأعياد القديمة إلى مهاجمة المسيحية ذاتها. ولكن هذا الهجوم كان ينطوي
على بداية ذلك الانقسام الذي أخذ يظهر في صفوف «الجبل»، وهو الحزب الذي استطاع
حتى الآن أن يفرض ديكتاتوريته أو سيطرته المطلقة من غير منازع.
(١٠) انقسام الجبل
والحقيقة أن حزب الجبل كان قد بدأ يسير من مدة في طريق الانقسام إلى ثلاث
جماعات متباينة، وذلك بدرجة اختلاف ما كان لدى زعماء هذه الجماعات من آراء
ووجهات نظر مختلفة، وكان الزعماء الثلاثة هم: دانتون، وروبسبيير، ومارا.
(١٠-١) حزب دانتون
فقد كان دانتون (وحزبه) يبرِّرُون قيام الإرهاب بأنه ضرورة لا غنى عنها
لإنقاذ الوطن، ولكن حيث إن الخطر قد زال الآن بالقضاء على أعداء الثورة
الداخليين (الإعدام على المقصلة: الجيروند والمشبوهين، والقضاء على الثورات
في لافنديه وليون … إلخ) وهزيمة أعدائها الخارجيين بفضل انتصار جيوش
الثورة، فقد كان من رأي دانتون وحزبه أن من الواجب العودة إلى سياسة أكثر
رحمة وشَفَقَة. فسُموا لذلك «بالمعتدلين». وتصدت جريدة كاميل ديمولان —
المسماة «الكوردليه
القديم» Le Vieux Cordelier — لتنشر آراءهم بقوة، ولقوا تعضيدًا كبيرًا من
أكثرية الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وكانت أكثرية كبيرة. ولكنهم فقدوا
السيطرة على الحكومة منذ أن انسحب دانتون أو خرج من لجنة الخلاص العام (١٠
يوليو ١٧٩٣). ثم فقدوا سمعتهم؛ بسبب الانحلال والبذخ اللذين تميَّزت بهما
حياتهم الشخصية.
(١٠-٢) حزب مارا
وأما حزب مارا، فمع أن الحزب قد فقد رئيسه (منذ ١٣ يوليو ١٧٩٣) فقد ظل
ينتمي إليه نواب بارزون في المؤتمر الوطني، كما كان صاحب السيطرة في قومون
باريس. فمن زعماء هذا الحزب في «القومون» كان «شوميت» و«هيبير»، ومن رجاله
قائد الجيش الثوري (قرارات ٥ مارس ١٧٩٣) رونسان
Ronsin، وكان داعيته أنشراسيس كلوتز
Anachrasis Clootz البارون البروسي
الذي صار مواطنًا فرنسيًّا. وأصدر بباريس صحيفة «الحوليات الوطنية»،
١٥ ولقد ملأ أنصار هذا الحزب نادي الكورديليه، بعد أن أخرج منه
الدانتونيون، وقد عُرِف هؤلاء باسم «الهيبيريين»
Hébéristes نسبةً إلى «هيبير» أو المُفْرِطِين
Les Exagérés؛ أي الذين أفرطوا في
تأييدهم تطرف الثورة في كل شيء، وأرادوا القضاء على العبادة والدين في
فرنسا، وقد نَشَرَتْ آراءهم صحيفة «هيبير» المشهورة «الأب دوشين»
Pére Duchêsne.
بدءوا نشاطهم بهدم القبور، ثم أَرْغَمُوا المؤتمر الوطني على إلغاء
الكاثوليكية وتقرير دين الحرية والمساواة، وفي ١٠ نوفمبر ١٧٩٣ احتفلوا
«بعيد العقل» في كنيسة «نوتردام» حيث قامت عاهرة بتمثيل «إلهة العقل»،
وسميت هذه العبادة بعبادة العقل.
١٦
(١٠-٣) حزب روبسبيير
وقد أثارت هذه الطقوس المفزعة غضب واحتقار روبسبيير الذي كان صادقَ
الإيمان في وجود إله أو كائن أعظم. وتلك عقيدة استخلصها مكسمليان روبسبيير
من قراءاته لكتابات جان جاك روسو. كما أنه اتخذ شعارًا له قول «فولتير»: لو
أنه لم يكن هناك إله لكان ضروريًّا أن نصنع واحدًا. ووقف روبسبيير موقفًا
وسطًا بين المعتدلين والمتطرفين، وكان لا يزال صاحب السلطان على نادي
اليعاقبة في باريس والنوادي التابعة له في الأقاليم، وفي وسعه بواسطة
حلفائه وأنصاره سان جوست، وكوتون، وبيللو-فارن، وكوللود يربوا أعضاء لجنة
الخلاص العام — وهم زملاؤه — أن يظفر بأكثرية في هذه اللجنة. ووقفت لجنة
الخلاص العام الآن موقف المعارضة الصريحة، بل والمقاومة القوية ضد قومون
باريس، الذي كان يسيطر عليه «الهيبريون»، وعملت لجنة الخلاص على تحطيم
هؤلاء.
سيطرة روبسبيير
وحاول «دانتون» وحزبه بكل وسيلة جذب روبسبيير إليهم، ولكن روبسبيير
رفض أن تكون له بهم أية صلة، حيث قد قرر القضاء على الحزبين معًا
(الدانتونيين والهيبيريين) على أساس أنهما يهددان بوجودهما الجمهورية
بالدمار؛ أحد الحزبين (وهم الدنتونيون) «باعتدالهم» المزعوم
وباستهتارهم وفسادهم وانحلال حياتهم الشخصية ومباذلهم. والحزب الآخر
(الهيبيريون) بتطرفهم، وإشاعة الفوضى بفعالهم.
وليحقق هذا الغرض المزدوج إذن تحالف روبسبيير مع الحزب الأضعف، وهو
«حزب دانتون»؛ ليستعين به على التخلص من الحزب الأقوى (حزب هيبير)،
وكان هؤلاء الآخرون قد بدءوا يقاومون أو يعارضون كذلك طغيان لجنة
الخلاص العام، فحاولوا (أي حزب هيبير) تدبير ثورة من الأقسام (أقسام
باريس)، ولكن أحدًا من الجماهير لم يستمع لهم، فقرأ «سان جوست» اتهامًا
ضدهم في المؤتمر في ١٣ مارس سنة ١٧٩٤، وقدموا أمام محكمة الثورة في ٢٠
منه، وبعد محاكمة دامت ثلاثة أيام حُكم بإعدامهم، وأعدموا، وكانوا تسعة
عشر في ٢٤ مارس، ومنهم: «هيبير»، «رونسان»، «كلوتز».
ولقد قوبل إعدامهم بفرحٍ كبير في باريس، حيث ساد الاعتقاد بأن
روبسبيير قد انضمَّ الآن إلى المعتدلين، وأن عهد الإرهاب قد انتهى.
ولكن روبسبيير كان يريد الانفراد بالسلطة، ويجب عليه لذلك أن يتخلَّص
من «دانتون» الذي صار الآن — كما ذكرنا — يطلب حكومة معتدلة، فأصبح
موضع شكٍّ وعداء روبسبيير، واعتمد «دانتون» على شعبيته، فلم يستمع لنصح
وتحذير أصدقائه، ورفض الهرب من باريس والنجاة بنفسه؛ اعتقادًا منه أن
أعداءه لن يجرءوا على إلقاء القبض عليه.
ولكن لم يمضِ أسبوع واحد على إعدام «هيبير» حتى فوجئت باريس في أول
أبريل سنة ١٧٩٤ بنبأ القبض على دانتون وزملائه وسجنهم في «اللوكسمبرج»
في ٣٠-٣١ مارس ولم يتدخَّل المؤتمر. وقدَّم دانتون وزملاؤه (وعدد
الجميع خمسة عشر) ومنهم «كاميل ديمولان»، و«فابر داجلانتين»، و«هيرو دي
سيشيل» للمحاكمة. ودافع «دانتون» عن نفسه بكلِّ قوة مستندًا إلى ماضيه
في تاريخ الثورة،
١٧ ووجه الاتهام إلى «سان جوست» نفسه، وعجزت «المحكمة» وعجز
المؤتمر عن إسكات دانتون، فاستصدر لجنة الخلاص من المؤتمر (في ٤ أبريل)
قرارًا بإسكات المتَّهَمين بوصفهم خارج «المناقشة»؛ أي خارج المحاكمة
(المحكمة) إذا أهانوا المحكمة، وتذمَّر النظارة عند قراءة هذا القرار،
ولكن لم تلبث أن رفعت الجلسة.
وفي اليوم التالي أعلن «المحلفون» أن ضمائرهم قد صارت مرتاحة لإدانة
المتهمين، فحُكم عليهم بالإعدام، وأعدموا في اليوم نفسه (٥ أبريل سنة
١٧٩٤). وعرف «دانتون» أن روبسبيير هو السبب في تقديمه للمحاكمة، فصاح
في وجهه: «روبسبيير، أيها المأفون، سوف تطلبك المشنقة! … سوف يأتي دورك
بعدي! …» وفي ١٣ أبريل أرسلت إلى المقصلة «لوسيل» Lucile أرملة كاميل ديمولان، ثم أرملة «هيبير»، كما
أعدم عدد آخر من الهيبيريين، وكذلك «شوميت».
وهكذا دانت السلطة لروبسبيير دون منازع. فقد كانت لجنة الخلاص لا
تزال متحدة ولما يتطرق إليها الانقسام بعد، وصار القومون مواليًا له،
ولم يجسر المؤتمر الوطني على مناقشة سلطانه. وتزايد عنف الإرهاب فقضت
المقصلة بين شهري مارس ويونيو ١٧٩٤ على حوالي (١٢٥١)، ثم بين ١٠ يونيو
و٢٧ يوليو فقط هلك (١٣٧٦) نسمة من بينهم «إليزابيث» شقيقة لويس السادس
عشر، و«لافوازيه» Lavoisier
و«أندريه شينيه» André Chénier،
وكذلك «مالزهرب» وأسرته، وكثيرون ممن لعبوا دورًا هامًّا في الجمعية
الوطنية التأسيسية أو الجمعية التشريعية.
وكان في هذه الفترة أن بلغت قسوة «كارييه» ذروتها في أعمال الإرهاب
(التغريق) التي قام بها في نانت، وفاقت كذلك قسوة مندوب لجنة الخلاص
«جوزيف لوبون» Lebon في
آراس Arras (بلد روبسبيير) القسوة
التي شهدتها باريس ذاتها.
ثم عمد روبسبيير إلى إحياء العبادة والدين في فرنسا، ولكن في صورة
جديدة؛ فاستصدر من المؤتمر الوطني قرارًا في ٧ مايو ١٧٩٤، بأن الأمة
الفرنسية تبني عقيدتها على وجود «كائن
أعظم» Etre Supréme، وعلى خلود النفس، وفي ٨ يونيو أقام روبسبيير
احتفالًا فخمًا ترأسه هو بوصفه الكاهن الأعظم للعبادة الجديدة.
سقوط روبسبيير
ولكن اتحاد الحكومة الثورية الذي ضمن بقاء الإرهاب لم يلبث أن تحطَّم
بسبب ظهور انقسامات وأحزاب جديدة: فقد ساء الكثيرين من أتباعه وأنصاره
مظهر الاستعلاء الذي ظهر به روبسبيير «كالكاهن الأعظم» في الحفل الذي
أقامه للعبادة الجديدة في ٨ يونيو، وكان كلٌّ من بيللو فارن، و«كوللود
يربوا» يحقدان على روبسبيير تفوقه وما يتمتع به من سيطرة، كما أنهما
كانا أشدَّ تطرفًا منه ويريدان الانغماس في إرهاب أشدَّ وأفظع لم يستطع
روبسبيير مجاراتهما فيه.
وقد انضم إليهما «بارير» بمجرد أنه شعر أن روبسبيير قد بدأ بالفعل
يفقد نفوذه؛ بسبب هذه المعارضة الجديدة. ثم إن روبسبيير وزميليه «سان
جوست» و«كوتون» كانوا قد بدءوا يرون — بفضل الديكتاتورية التي صارت
لهم، وتقرير عبادة الكائن الأعظم — أن الثورة قد حققت أغراضها، وصار
واجبًا لذلك في نظرهم أن ينتهي عهد الإرهاب حتى يبدأ «حكم الفضيلة»
الذي أراده روبسبيير وصار يدعو له. بل إن روبسبيير لم يلبثْ أن استدعى
«كارييه» من نانت، وصار يقاوم نشاط «لجنة الأمن العام».
وتألَّفت المعارضة ضد روبسبيير من اتحاد جميع المتطرفين ضده: من
أنصار «بيللو فارن»، و«كوللود يربوا»، ومن بقايا الدانتونيين، ثم من
أولئك الذين صاروا يستفظعون جرائم النظام القائم، والذين صاروا لا
يأمنون على حياتهم من استمرار هذا النظام، وكان من هؤلاء جماعة من أقرب
المقربين إلى روبسبيير نفسه.
وعوَّل روبسبيير على التخلص من معارضيه، فاستصدر «كوتون» من المؤتمر
الوطني في ١٠ يونيو ١٧٩٤، قرارات لزيادة سلطات «محكمة الثورة» بحيث
تنقسم إلى أربع دوائر حتى يزيد نشاطها، وعلى أن يكون الإعدام العقوبة
الوحيدة التي تصدر بها الأحكام في هذه المحكمة، ودون حاجة إلى دليل
لإثبات الاتهام أو إلى مناقشة الشهود أو الاستماع إلى الدفاع، بل يكفي
لصدور الحكم بالإدانة أن يقتنع المحلفون «أدبيًّا» بإدانة المتهم،
وزيادة على ذلك فقد نصَّ على تقديم أي نائب من نواب المؤتمر الوطني
يكون مشتبهًا في أمره إلى المحاكمة بأمر من لجنة الخلاص العام، بدلًا
من الإجراء السابق، وهو ضرورة أن يصدر أولًا قرار بالاتهام من المؤتمر
نفسه.
ومع أن هذا المشروع عندما قدم قُوبِل برعبٍ وهلعٍ عظيمين، فقد كان
سلطان روبسبيير لا يزال طاغيًا لدرجة أن المؤتمر لم يجسر على الرفض،
فصدر القرار المطلوب. وبلغ عدد الضحايا في باريس وحدها منذ صدوره في ١٠
يونيو إلى اليوم الذي سقط فيه روبسبيير في ٢٧ يوليو ١٧٩٤ (٢٠٨٥) نسمة.
ولكن المعارضة سرعان ما حَزَمَتْ أمرها على أن تسبق بتحطيم روبسبيير
قبل أن يَسبِق هو بتحطيمها.
وفي أثناء هذه الأزمة تغيَّب روبسبيير حوالي ستة أسابيع من لجنة
الخلاص العام ولجنة الأمن العام، حيث كان أعداؤه قد استطاعوا الظفر
بنفوذٍ كبيرٍ فيهما، ولم يعودوا يخفون عداءهم وكراهيتهم له. وتألَّف
تدريجيًّا تحالف من أعدائه هؤلاء داخل المؤتمر وكان على رأسهم
«تاليان»، وفوشيه، وباراس، وكارنو، وبارير. وجميعهم مصممون على الدخول
في معركة مع روبسبيير هي معركة الموت أو الحياة بالنسبة له
ولهم.
وبدأ الهجوم على روبسبيير في صورة هجوم على امرأة عجوز تدعى
«كاترين ثيو» Catherine Theot،
اتهمت بإنشاء طائفة لعبادة شخص روبسبيير نفسه كمسيح جديد. فاغتمَّ
روبسبيير لذلك واعتزل الحياة العامة لمدة أسبوعين، وعكف على إعداد
اتهام طويل يريد أن ينسف به أعداءه الذين أثاروا مسألة «كاترين ثيو»
وصاروا يتآمرون ضده. وكان اعتزال روبسبيير خطأً جسيمًا؛ لأنه حدث في
وقت وجب عليه فيه النشاط في المؤتمر نفسه ضد أعدائه، وحاول «سان جوست»
إقناعه بضرورة العمل الجريء والسريع، ولكن دون جدوى.
والسبب في تقاعُس روبسبيير أنه كان يعتمد فيما مضى على النشاط أو
الحركات التي يبدؤها ويثيرها غيره فيأتي هو ليستفيد منها، ولم يحدث
بتاتًا أن كان له فضل المبادأة بحركة من الحركات، أو سبق له تدبير
انقلاب بنفسه. أَضِفْ إلى هذا أنه ظل حتى اللحظة الأخيرة يعتقد أن
نفوذه الشخصي وحده كفيل بأن يرهب خصومه، ولا ضرورة لذلك لأن يستخدم
القوة ضدهم، لا سيما وأن القومون في باريس كان يؤيِّده.
وحدث في الأيام القليلة التالية ما جعل خصوم روبسبيير يسرعون بالعمل
ضده؛ ذلك أن «سان جوست» اقترح في المؤتمر الوطني في ٢٢ يوليو ١٧٩٤
إنشاء ديكتاتورية برئاسة روبسبيير. وفي ٢٤ يوليو أُلْقِيَ القبض على
«تيريزا
كاباروس» Thérese Cabarrus عشيقة «تاليان» أحد رؤساء المتآمرين أو
المعارضين. وفي ٢٦ يوليو حضر روبسبيير فجأة، واعتلى المنصة (أو المنبر)
ليُلقي خطبة طويلة، في غضب وعنف، حَمَلَ فيها على لجنتي الخلاص والأمن،
وعلى موظفي الحكومة، وعلى معارضيه، فوصفهم جميعًا بأنهم خونة ولصوص
وملحدون، ومتهتكون … إلخ.
وعلى نحو ما كان منتظرًا لم يتحمَّس المؤتمر لهذا الخطاب، وهو محشو
بالتهديد لكل فردٍ منهم! وانسحب روبسبيير بعد ذلك غاضبًا إلى نادي
اليعاقبة لتدبير الإجراءات التي سوف تتخذ في اليوم التالي. وكانت جلسة
المؤتمر الوطني في اليوم التالي جلسة حاسمة (٢٨ يوليو)؛ فقد قاطع
المؤتمر تقريرًا أخذ يقرأه «سان جوست» عن خطاب روبسبيير بالأمس، فكانت
ضجة كبيرة. وأيد رئيس جلسة المؤتمر آنئذٍ «كوللود يربوا» وبعده
ثوريو Thuriot، زميليه (بللو فارن
وتاليان) في مقاطعتهما، فأخذا يدقَّان الجرس لإغراق صوت روبسبيير، وصاح
بللو فارن بالمؤتمر أن عليه إما أن يترك أعضاءه يقتلون وإما أن يقتل
ويحطم روبسبيير.
وهدَّد «تاليان» والخنجر في يده بقتل روبسبيير في التوِّ والساعة إذا
لم يجد المؤتمر في نفسه الشجاعة الكافية ليأمر بإلقاء القبض عليه. ولما
كان روبسبيير وأنصاره لم يتخذوا العدة لهذا اليوم بالإنفاق على تدبيرات
خاصة مع القومون ضد خصومهم؛ فقد تعذَّر على روبسبيير أن يجعل المؤتمر
يُصغِي لخطابه أو ينصت لأقواله، فأغرقت الصيحات المدوية أقواله: ليسقط
الطاغية، لتسقط الثلاثية الاستبدادية «روبسبيير، سان جوست، كوتون».
ووسط هذه الضجة اقترع المجلس على انعقاده في جلسة مستديمة، وقرر القبض
على روبسبيير وكوتون، وسان جوست. وانضمَّ إلى هؤلاء باختيارهما
«أوغسطين» Augustine شقيق
روبسبيير الأصغر، وصديق آخر هو «لوباز» Lebas، فنقل الخمسة إلى السجون، كما قبض على
«هانريو».
ولكن الأمل لم يفقد بعد في إنقاذهم، فقد ثارت الأقسام فورًا بتحريض
القومون، وأخرج الثوار «هانريو» الذي أرسل دون إمهال جماعات من الجنود
والضباط إلى السجون لإطلاق سراح المسجونين، وقد نقل هؤلاء في مظاهرة
كبيرة إلى «الأوتيل دي فيل». ولكن المؤتمر الوطني قابل الموقف بحزم،
فأصدر قرارًا بوضع روبسبيير وهانريو وأقسام باريس خارج القانون، فهدأت
أكثر الأقسام نزولًا على إرادة ممثلي الأمة، وتسلَّم «باراس» قيادة
قوات المؤتمر المسلحة (الجيش)، وعند منتصف الليل كان باراس يقف على
حصار «الأوتيل دي فيل». فانتحر «لوباز» بمسدس وقفز أخو روبسبيير من
النافذة فانكسرت ساقه، وحاول روبسبيير الانتحار فجرح فكه الأسفل. وفي
٢٨ يوليو ١٧٩٤ (١٠ ترميدور السنة الثانية) أعدم روبسبيير، وأخوه
أوغسطين، وسان جوست، وهانريو وكوتون وغيرهم. وكان ترتيب روبسبيير في
قائمة الذين أعدموا العشرين.
(١١) محاولة الاستقرار الأولى
(١١-١) عهد الترميدوريين١٨
أنهى انقلاب ٩ ترميدور (السنة الثانية) ٢٧ يوليو ١٧٩٤ عهد الإرهاب، وأعقب
سقوط روبسبيير رد فعل كبير ضد حكومة الطغيان، ولأجل إنشاء حكومة «معتدلة»
أو «إنسانية». فتقرر في ٢٩ يوليو تجديد اللجان، لا سيما لجنة الخلاص ولجنة
الأمن العام. فأخرج من هاتين اللجنتين أعضاؤهما الإرهابيون القدامى، ثم
ضيقت اختصاصات وسلطات اللجان، فصدر قرار على وجه الخصوص في ٣١ يوليو نزع من
لجنة الخلاص سلطة تقديم النواب مباشرةً للمحاكمة أمام المحكمة الثورية (وهي
السلطة التي كانت للجنة الخلاص العام بفضل قرارات ١٠ يونيو ١٧٩٤، بعد أن
كان المؤتمر الوطني هو الذي يقدِّم قرار الاتهام ضد نوابه قبل أن تحاكمهم
المحكمة الثورية).
ثم تَبِعَ ذلك إعادة تنظيم المحكمة الثورية، فصدر قراران في ٥، ١٠ أغسطس
بإطلاق سراح المقبوض عليهم بمقتضى «قانون المشبوهين» والذين لا ينطبق عليهم
هذا القانون، وباستبدال جميع المحلفين، وكل قضاة المحكمة الثورية تقريبًا.
وبلغ في باريس وحدها عدد الذين أطلق سراحهم — بعد زيارة السجون المختلفة —
عشرة آلاف، ثم تقرر للحد من سلطات لجنتي الخلاص والأمن العام — وخصوصًا
لجنة الخلاص — إنشاء ست عشرة لجنة جديدة «للتشريع، والفنون، والزراعة …
إلخ» في ٢٤ أغسطس. ثم ألغيت اللجان الثورية المحلية ما عدا ما كان منها في
مراكز رئيسية في الأقاليم.
وفي أول سبتمبر ١٧٩٤ أُلْغِيَ قومون باريس واستبدلت به لجنتان إحداهما
لإدارة البوليس والأخرى للمالية. وفي ١٤ سبتمبر برَّأت محكمة الثورة عددًا
من أهل نانت كان «كارييه»، ولجنة نانت الثورية قد حكمت بإعدامهم، ثم نقلوا
إلى باريس ونُسوا في سجونها. ثم قبض المؤتمر بعد ذلك بأيام قليلة على بعض
القواد الذين ارتكبوا الفظائع أثناء إخماد ثورة لافانديه. وفي ٢١ سبتمبر
قرر المؤتمر مصادرة مراسلات اليعاقبة.
وتوهَّم كثيرون بسبب هذه الإجراءات أن انقلاب ٩ ترميدور يُنْبِئ بانتهاء
«الثورة»، فأخذ أعداء الثورة يخرجون من مخابئهم ومكامنهم، وتسلَّل بعض
المهاجرين خفيةً إلى مواطنهم، وظهرت للمعتدلين صحف تنطق بلسانهم وتعبِّر عن
آرائهم، وتدعو إلى تعقُّب أذناب روبسبيير والقضاء عليهم. ولكن التفكير في
إنهاء الثورة كان بعيدًا كلَّ البعد عن أذهان «الترميدوريين» الذين استمروا
مع ذلك يطلبون الانتقام من الإرهابيين.
ولقد توالى الهجوم على «نادي اليعاقبة»، ثم ما لبثت أن تألَّفت في باريس
جماعة من آلاف الشبان من الطبقات العالية خصوصًا؛ للاقتصاص من اليعاقبة على
فعالهم الإرهابية الماضية، وقد عرف هؤلاء باسم الشبان Jeunes Gens أو (الشباب المُذَهَّب Jeunesse Dorée). وفي ٩ نوفمبر
قام هؤلاء بهجوم على نادي اليعاقبة، واستطاع اليعاقبة بعد نضال شديد صَدَّ
هذا الهجوم.
ولكن منذ أواسط شهر أكتوبر صار المؤتمر يتناقش في موضوع إغلاق الأندية
والاتحادات والجمعيات الشعبية وما إليها، والتي يعتبر وجودها خطرًا على
«وحدة الجمهورية». وفي ١٢ نوفمبر ١٧٩٤ تقرَّر إغلاق نادي اليعاقبة. وفي ١٦
ديسمبر ١٧٩٤ أعدم «كارييه»، ثم أُلْقِي القبض على المدعي العام
«فوكيه-تانفيل» و«كوللود يبروا» و«بللو فارن» و«بارير»، و«فادييه» Vadier (٢ مارس سنة ١٧٩٥).
وفي شهر مارس صدر قرار بإرجاع الأعضاء الجيروند الذين كانوا قد طردوا من
المؤتمر بعد انقلاب (٣١ مايو ١٧٩٣).
ولكن هذه الإجراءات الموجهة ضد اليعاقبة جعلت هؤلاء يقررون المقاومة.
ولقد كان مما ساعد اليعاقبة على تحريك الثورة انتشار التذمر؛ بسبب قسوة
الشتاء وارتفاع الأسعار الفاحش، وانخفاض (أو هبوط) قيمة ورقة النقد، وإفلاس
كثيرين من الناس، وانتشار الضنك والبؤس بسبب هذا كله في باريس وفي
الأقاليم. فتجمَّع الثوار في أول أبريل سنة ١٧٩٥ واقتحموا قاعة المؤتمر،
وصاروا يطالبون بالخبز، ودستور السنة الثانية (١٧٩٣)، وإطلاق سراح «كوللود
يربوا» وزملائه الإرهابيين، ولكن «الشباب المذهب» مع جنود الأقسام بقيادة
الجنرال بشيجرو شتتوا شمل الثوار، وبدأ الترميدوريون بعد هذا الحادث مباشرة
محاكمة «كوللود يربوا» وزملائه بعد أن ألقوا القبض كذلك على آخرين من
اليعاقبة. ولما كان أحد الثوريين المتطرفين «بابيف» Babeuf قد قام بحملة شديدة ضد التملك في صحيفة
محامي الشعب Tribun du peuple، فقد
قبض عليه وسجن (في ١٥ مارس سنة ١٧٩٥). وفي ٦ مايو سنة ١٧٩٥ أعدم
«فوكبيه-تانفيل»، وأما «كوللود يربوا» وزملاؤه فقد حكم بنفيهم.
ولكن فلول اليعاقبة والجماهير التي عضَّها ناب المجاعة المستمرة في باريس
لم تلبث أن قامت بثورة جديدة، فأحاط الثوار بالتويلري واقتحموا قاعة
المؤتمر الوطني في ٢٠ مايو سنة ١٧٩٥، واستؤنف القتال في اليوم التالي،
وطالب الثوار بالخبز ثم إلغاء الحكومة الثورية والعمل فورًا بدستور سنة
١٧٩٣. (وكان المؤتمر الوطني قد شكل منذ (٤ أبريل سنة ١٧٩٤) لجنة تجدد
تشكيلها بعد ثلاثة أسابيع (٢٩ أبريل) للنظر في موضوع هذا الدستور، فقررت
عدم العمل به في ظروف سوف يأتي ذكرها).
كما طالب الثوار بالقبض على الذين تتألف منهم لجان الحكومة، وإطلاق سراح
المواطنين الذين حبسوا لمطالبتهم بالخبز، أو لأنهم أعلنوا آراءهم بصراحة،
ثم طالبوا بحل المؤتمر الوطني، وأن تستبدل به جمعية تشريعية … إلى غير ذلك
من المطالب. ولكن المؤتمر سرعان ما استنجد بقوات الجيش بقيادة «منو» Menou و«مورا» Murat و«دلماس» Delmass، فقضى على هذه الثورة في ٢٣ مايو. وحوكم
«الجبليون-اليعاقبة» أمام لجنة عسكرية، حكمت بإعدام ستة من زعمائهم وبالنفي
المؤبد على آخرين، بينما هرب واختفى الباقون. وبهذا قُضِيَ على كل نفوذ
سياسي لحزب الجبل نهائيًّا.
ومن هذا التاريخ إذن وكما يقول المؤرخ «جورج
ليفبر» Leffbre: يجب اعتبار أن أَجَل «الثورة» قد تعيَّن؛ لأن
قوتها أو شدتها قد انكسرت وتحطَّمت في هذه المرة.
ولقد ساعد على إنهاء عهد الإرهاب زوال المبرر لوجوده: الخطر الخارجي (أو
الغزو الأجنبي)، والخطر الداخلي (أو العصيان والثورة الداخلية).
فمن ناحية الخطر الخارجي: استمرت الجيوش التي جهَّزها «كارنو» تصمد في
وجه قوات المحالفة الدولية الأولى، بل وتنتصر عليها. فنال «جوردان» قائد
جيش السامبر Sambre والموز Meuse انتصارًا على جيش الحلفاء في موقعة
فلوراس Fleurus في ٢٦ يونيو سنة ١٧٩٤،
واتصل بجيش الشمال الذي كان بقيادة «بيشجرو»، فدخل الفرنسيون بروكسل في ٩
يوليو، وتقهقر الحلفاء بقيادة الدوق بورك صوب هولندة، فاحتلَّ الفرنسيون
بلجيكا بأكملها، وتهيَّأ جيش «بيشجرو» لغزو هولندة، بينما طارد «جوردان»
النمساويين وتعقَّبهم صوب الراين، وهزمهم هزيمة كبيرة في ريرموند Ruremonde، وأرغمهم على اجتياز النهر إلى
الضفة الألمانية في ٥ أكتوبر سنة ١٧٩٤. وسقطت كولونيا وكوبلنز في أيدي
الفرنسيين، بينما سلمت «تريف» لجيش الموزيل Moselle. وقبل نهاية شهر أكتوبر كان الفرنسيون قد سيطروا
على مجرى نهر الراين بأكمله من «ورمز» إلى «نموجين» Nimeguen.
وعلى حدود سردينيا وإسبانيا انتصر الفرنسيون كذلك، ولو أن الأسطول
الإنجليزي بقيادة اللورد «هاو» Howe أوقع
الهزيمة بالأسطول الفرنسي عند جزيرة أوشانت Ushant (المقابلة لطرف شبه جزيرة بريتاني) في أول يونيو
١٧٩٤.
واستأنف جيش «بيشجرو» الهجوم، فعبر نهر الموز في أواخر ديسمبر ١٧٩٤، وفي
١١ يناير ١٧٩٥ هاجم الإنجليز والهولنديين في «نموجين» وأرغمهم على التقهقر
بخسارة عظيمة، ورحَّب الهولنديين (أهل البلاد) بالفرنسيين الغزاة، فهرب
حاكم Stadtholder هولندة إلى إنجلترة، ودخل
«بيشجرو» أمستردام في ٢٠ يناير ١٧٩٥. وأما الإنجليز المتقهقرون فقد وصلوا
في تقهقرهم شرقًا إلى «بريمين» Bremen حيث
أبحروا منها إلى بلادهم، وبذلك تم افتتاح هولندة دون أية معارك. وجُعلت
هولندة جمهورية وسميت جمهورية
بتافيا Rep. Batave، من نمط الجمهورية الفرنسية، وعقدت فرنسا معها
معاهدة في مارس ١٧٩٥.
وحوالي هذا الوقت تقريبًا كانت المفاوضات قد بدأت مع فردريك وليم
(الثاني) ملك بروسيا الذي كان منذ مايو ١٧٩٤ قد تخلَّى عن حلفائه، وعقد
الأمل على تعويض خسارته في الغرب بكسب مغانم في بولندة عن طريق الاشتراك في
تقسيمها مرة أخرى (التقسيم الثالث). وقد اتفقت النمسا وروسيا في ٣ يناير
١٧٩٥ على إجراء تقسيم بولندة فيما بينهما فقط. (وبالفعل نالت بروسيا نصيبها
في التقسيم الثالث).
وحتى يمكنها التفرغ لهذه المسألة إذن عقدت بروسيا صلح «بال» Basel مع فرنسا في ٥ أبريل سنة ١٧٩٥. وأما
إسبانيا فقد عقدت الصلح مع فرنسا كذلك في ٢٢ يوليو ١٧٩٥، ونالت فرنسا نصف
جزيرة سان دمنجو St. Domingo في الهند
الغربية. ولما كان «الدوفان» لويس السابع عشر قد توفي في سجنه في ٨ يونيو
١٧٩٥ فقد أطلق سراح شقيقته (التي عرفت فيما بعد باسم دوقة دانجوليم d’Angouléme) من سجن «الهيكل» Temple في مقابل إطلاق سراح قومسيري
المؤتمر الذين كان «ديمورييه» قد سلَّمهم إلى العدو عند خيانته في سنة
١٧٩٢.
وقد عقدت تسكانيا الصلح مع الجمهورية، كما عقدت «هس كاسل» إحدى الإمارات
الألمانية معها معاهدة في أغسطس ١٧٩٥. وبذلك تكون تحطَّمت المحالفة الدولية
الأولى التي تشكَّلت ضد فرنسا عقب إعدام الملك (في ١٧٩٣)، ولم يبقَ في حرب
مع فرنسا سوى إنجلترة والنمسا وسردينيا.
وأما فيما يتعلَّق بالناحية الداخلية: فقد استطاع المؤتمر القضاء على
ثورة قام بها الملكيون (ويُسمون شوان Chouans) في إقليم «لافنديه»، وذلك بعد أن كان المؤتمر قد
أخضع ثورة لافنديه الأولى، وعقد الثوار معاهدة للصح مع المؤتمر في فبراير
١٧٩٥، فلم يلبثوا أن استأنفوا الثورة الآن، وأقنعوا الحكومة الإنجليزية
بمساعدتهم فنقل الأسطول الإنجليزي بضعة آلاف من المهاجرين الفرنسيين وممن
انضموا إلى الثوار (من المسجونين) إلى شبه جزيرة كويبرون Quiberon (شاطئ بريتاني الجنوبي) واستولوا
على فوربنثيفر Fort Penthiévre، وتحصنوا
بالقلعة في ٢٧ يونيو، وكان الثوار (الشوان) قد تجمعوا من جديد وقتئذٍ
بزعامة شاريت Charette وستوفليه Stofflet.
ولكن جيش المؤتمر الوطني بقيادة الجنرال «هوش» لم يلبث أن حاصر الثوار في
«فوربنثيفر» واقتحمها بعد هجوم عنيف في ٢٠ يوليو ١٧٩٥، وألحق بالثوار هزيمة
ساحقة، وفي العمليات العسكرية التالية انهزم الثوار في كل مكان. ولم يلبث
الكونت دارتوا الذي كان قد التحق بالثوار لتزعمهم، أن تركهم هاربًا إلى
إنجلترة. وانهزم هؤلاء وأعدم أحد زعيميهم «ستوفليه» في أنجيه Angers في فبراير ١٧٩٦، بينما أعدم الزعيم
الآخر «شاريت» في نانت في ٢٩ مارس، وبذلك أخمدت الثورة نهائيًّا في
«فنديه»، وأمكن تهدئة هذه الجهات الشمالية الغربية من فرنسا.
(١٢) دستور ١٧٩٥ (العام الثالث)
وكان المؤتمر الوطني قد شكل كما ذكرنا لجنة منذ ٤ أبريل ١٧٩٤ من أحد عشر
عضوًا كلهم تقريبًا من الجيروند للنظر في موضوع دستور ٩٣: «وضع القوانين
الأساسية التي يجب بمقتضاها أن يتنفذ الدستور الديمقراطي لسنة ١٧٩٣.» وكنا
ذكرنا أن تشكيل هذه اللجنة تجدد في ٢٩ أبريل. ولكن لجنة الأحد عشر لم تلبث أن
قررت عدم العمل بدستور ٩٣، ثم بعد ثورة أول أبريل ١٧٩٥ وثورة ٢٠–٢٣ مايو ١٧٩٥
وقعت اللجنة تحت تأثير رد الفعل الشديد الذي حدث، ووجدت نفسها تدريجيًّا تعمل
لوضع دستور جديد، حيث لم تعد المسألة حينئذٍ مجرد محاولة للملاءمة بين دستور
١٧٩٣ هذا — الذي أزعجهم وأرعبهم كثيرًا — والأوضاع القائمة، وحيث قد وصف أعضاء
اللجنة دستور ١٧٩٣ هذا — الذي أزعجهم وأرعبهم كثيرًا — بأنه «دستور حي سان
أنطوان».
وعلى ذلك، فقد قدم «بواسي
دانجلاس» Boissy d’Anglas إلى المؤتمر الوطني في ٢٣ يونيو ١٧٩٦ تقريرًا باسم
اللجنة عن الدستور الجديد. وكان في هذا التقرير أن وجه «بواسي دانجلاس» لدستور
سنة ١٧٩٣ نقدًا شديدًا على أساس أنه وضع السلطة التنفيذية في «مجلس تنفيذي» Conseil Exécutif مسلوب كل إرادة وكل
سلطة، ويخضع لسلطان الهيئة التشريعية المطلق، والتي تخضع بدورها ودائمًا لإشراف
وسلطان المجالس الابتدائية Corps Legislatif في
الكانتونات، وهي المجالس التي عرفنا أن أعضاءها هم الذين يَنتخبون مباشرةً
النواب «وأعضاء البلديات وقضاة الصلح»؛ ولذلك فقد وَجَبَ أن يكفل الدستور
الجديد المبادئ التي يقوم عليها النظام الجديد وهي: الاستقرار، والحرية، وحق
التملك.
وقال «بواسي دانجلاس»: «إن بلدًا يحكمه المتملِّكون (أصحاب الأملاك) لهو بلد
يعيش في نظام اجتماعي، وأما ذلك الذي يحكمه غير المتملكين (أو الذين لا يملكون
شيئًا) فهو بلد لا يزال في حالته الطبيعية.»
وعلى ذلك، فقد كان من المنتظر أن يحفظ الدستور الجديد مصالح الطبقة
البورجوازية الغنية، والتي أفادت من «الثورة». كما كان من المنتظر أن يضمن
الدستور الجديد إنشاء سلطة تنفيذية، ذات قوة فعلية. ثم إنه لما كان قد تَمَّ
وضع هذا الدستور في جو من الرجعية الشديدة، وتحت تأثير رد الفعل الذي حصل بعد
انقلاب ٩ ترميدور وبعد ثورات أبريل ومايو ١٧٩٥، فقد كان من المنتظر أن يختلف
هذا الدستور عن سابقيه في أن مقدمته صارت تتحدث الآن عن واجبات الإنسان
والمواطن، إلى جانب الحديث عن «حقوق الإنسان والمواطن».
كان واضع الدستور الحقيقي من بين أعضاء لجنة الأحد عشر هو المواطن
«دونو» Daunou، ولقد ناقش المؤتمر الوطني
مواد الدستور في جلسات امتدت من ٤ يوليو إلى ١٧ أغسطس، وتمَّت موافقة المؤتمر
على الدستور في ٢٣ أغسطس ١٧٩٥ (٥ فريكتدور السنة الثالثة).
أعلنت مقدمة الدستور في حضرة «الكائن
الأعظم» L’étre Suprême ليس فقط حقوق الإنسان بل وواجباته، كما ذكرنا، كما
عددت حقوق الإنسان والمواطن بدقة أكثر ولكن بحماس أقل مما حصل في إعلانيْ ١٧٨٩،
١٧٩٣. فانتزعت في هذه المرة من حقوق الإنسان والمواطن: حق الثورة والعصيان، وحق
مطالبة الدولة بمده العون والمساعدة.
وأما مواد الدستور نفسه فبلغت ٢٧٧ مادة، في أربعة عشر فصلًا. فنصَّ الدستور
على أن الأمة ولية الأمر، ولكنه لم يمنح كل أفرادها حق الانتخاب، بل جعل هذا
الحق مقيدًا بقيود، كما كان الحال في دستور ١٧٩١، وجعل الانتخاب على درجتين،
وحَرَمَ من حق الانتخاب أقارب المهاجرين والمشبوهين، والمشتبه في إخلاصهم
وولائهم للجمهورية؛ بسبب اشتراكهم في دسائس ومؤامرات ملكية، كما حرم رجال الدين
الذين رفضوا حلف يمين الولاء للجمهورية، والمترهبنين والخدم والأميين، وأخلى من
هذه القيود الأفراد الذين حاربوا للدفاع عن الوطن.
وبمقتضى هذا الدستور وُضِعَت السلطة التشريعية في هيئتين: مجلس القدماء (أو الشيوخ) Conseil Des Anciens (Sénat)
من ٢٥٠ عضوًا لا يقل عمر الواحد منهم عن أربعين عامًا، ويجب أن يكون زوجًا أم
مترملًا، ثم مجلس
الخمسمائة Conseil des
Cinq Cents ولا يقل عمر العضو عن ثلاثين عامًا.
ولقد قال أحد أعضاء لجنة الدستور (الأحد عشر) وهو «بودان» Baudin: إن المجلس الأول يمثِّل «العقل» La
Raison والثاني يمثل «الخيال» L’Imagination، وأما أعضاء هذين المجلسين
فيسقط ثلثهم كل سنة ويجري انتخاب غيرهم. وتنتخب «المجالس الابتدائية» Assem.
Primaires — وهذه تتألف
من كل مواطن فوق الحادية والعشرين سنة، ويدفع ضريبة مباشرة لتعادل أجور أيام
معينة من العمل — تنتخب هذه المجالس الناخبين élécteurs، وهؤلاء ينتخبون النواب deputès، ولمجلس الخمسمائة حق وضع مشروعات القوانين، ولمجلس
القدماء (أو الشيوخ) وحده حق رفض ما يقترحه مجلس الخمسمائة أو الموافقة عليه.
والمشروعات التي تنال موافقة مجلس القدماء تُصْبِح قوانين.
ومما يجب ملاحظته أن السلطة التشريعية في دستور سنة ١٧٩٥ كانت من نصيب مجلسين
أو غرفتين، بدلًا من أن تكون من نصيب مجلس أو غرفة واحدة، كما كان الحال في
دستور سنة ١٧٩١، ودستور سنة ١٧٩٣.
وأما السلطة التنفيذية: فقد وضعت هيئة تتألَّف من خمسة مديرين عرفت باسم
«الإدارة» Directoire تنتخبهم الهيئة
التشريعية، مع ما في ذلك من افتئات واضح على مبدأ فصل السلطات، ولو أن مبعث هذا
الإجراء كان الرغبة في تجنُّب قيام طغيان مستنِد على الجماهير. وحاول الدستور
(المادة ١٣٣) التغلب على حقيقة أن أعضاء الإدارة ينتمون إلى نفس الهيئة
التشريعية، بأن جعل مجلس الخمسمائة يختار أسماء خمسين مرشحًا بانتخاب سري،
يختار مجلس القدماء (أو الشيوخ) منهم خمسة «مديرين».
هذا ويشترط في عضو الإدارة أن لا يقل عمره عن الأربعين عامًا، وتستمرُّ مدة
عضويته خمس سنوات. على أن يسقط واحد من هؤلاء المديرين بالاقتراع كل سنة ليحل
غيره محله، ولا يجوز لمن تسقط عضويته أن يعاد انتخابه إلا بعد مضي خمس سنوات؛
وذلك لضمان تغيير هيئة الإدارة بأكملها خلال هذه المدة، حتى يظل المديرون على
اتصال بمجريات الأمور وبالشعب. ولحكومة الإدارة أو المديرين هذه كل الحقوق
التنفيذية المعروفة، من سياسة وحربية وإدارية، ولهم وزراء Ministres ستة ليسوا إلا رؤساء مصالح فحسب (من
مالية وحربية وبحرية) وخارجية وداخلية وقضائية (العدل) … إلخ. وقد أنشئت وزارة
سابعة في ٢ يناير ١٧٩٦ لأعمال البوليس، ولم يكن هناك لذلك مجلس وزراء.
وأما السلطة القضائية: فقد جعل حق المواطنين تولي الوظائف القضائية إذا كانت
أعمارهم لا تقل عن ثلاثين سنة وبطريق الانتخاب. وذلك لمدة عامين أو خمسة أعوام،
ويصح إعادة انتخابهم. ثم أنشئت محكمة قضائية عليا (المادة ٢٦٥)
١٩ وكانت هذه أداة سياسية أكثر منها منظمة قضائية؛ ومثلًا في ذلك
«مجلس مراجعة الأحكام» الذي أنشئ (المادة ٣٣٨) إلى جانبها، ومبعث هاتين
المؤسستين كان الخوف وأثر رد الفعل الذي حصل، وهما اللذان يشيعان في هذا
الدستور بأسره.
هذا؛ ومما تجب ملاحظته أن دستور العام الثالث (في المادة ٢٥٨) قد ضمن حقَّ
التملك (الذي لا يمكن خرقه أو الاعتداء عليه) وبشريطة دفع تعويض إلى أولئك
الذين «يثبت قانونًا» أن الصالح العام يقتضي إعطاء تعويض لهم «في نظير هذه
التضحية». ثم إن هذا الدستور (في المادة ٣٧٣) قد أيَّد كلَّ القوانين الصادرة
ضد المهاجرين، وقرَّر أن أملاكهم وأموالهم قد صودرت بصورة لا رجعة فيها، وذلك
لفائدة ولحساب الجمهورية.
وواضح أن غرض المؤتمر الوطني من تقرير ذلك، إنما هو المحافظة على حقوق أولئك
الذين استولوا على هذه الأملاك، وهم البورجوازي، عندما كان أكثر «اليعاقبة» من
الأغنياء أصحاب الثراء العريض بفضل الثورة؛ يمتلكون الأموال والضياع والقصور:
نذكر من هؤلاء «شابوت»
Chabot، «باراس»،
«بارير»، «تاليان»، «مرلان» وغيرهم. بل إنه كان من بين أعضاء اللجنة المشهورة
التي أنشأها الترميدوريون، والتي كانت بمثابة هيئة أركان حرب لهؤلاء الجماعة
وعرفت باسم «لجنة السنة الثالثة»،
٢٠ عضو صار فيما بعد أميرًا، هو «كمبسيرس»
Cambacéres، و١٣ صاروا «كونتات»، و٥ صاروا «بارونات»، و٧
صاروا أعضاء شيوخ في عهد الإمبراطورية النابوليونية، و٦ صاروا مستشاري
دولة.
زد على هؤلاء واحدًا من بين أعضاء المؤتمر الوطني صار فيما بعد «دوقًا» هو
«فوشيه» Fouché دوق دوترانت d’Otrante، وواحدًا صار كونتًا هو «مرلان».
وهكذا صار حوالي خمسين من الديمقراطيين قبل مضي خمسة عشر عامًا من أصحاب
الألقاب، ويمتلكون المركبات والخيول والقصور والخدم والحشم والأموال، ولقد قدرت
ثروة «فوشيه» مثلًا عند وفاته بخمسة عشر مليون فرنك.
ولما كان غرض المؤتمر الوطني المحافظة على الجمهورية، «ولما كان أعضاؤه من
قتلة الملك Régicides ويخافون من انتقام
الملكية؛ إذا قدر لها أن تعود إلى البلاد»، فقد حرصوا على اتخاذ الضمانات التي
تكفل الحيلولة دون وقوع ذلك؛ فاشترطوا في بند خاص أن يكون ثلثا أعضاء الهيئة
التشريعية الجديدة من أعضاء المؤتمر الوطني أنفسهم، وأن يكون الثلث الباقي
بالانتخاب. ولكن هذا القرار الذي أخفى في طياته تصميم الحزب المسيطر على
المؤتمر (وهم الترميدوريون) على الاستئثار بالسلطة في النظام الجديد، لم يلبث
أن أغضب خصوم المؤتمر من «إرهابيين» و«ملكيين» على حدٍّ سواء. فشاع الاضطراب
والهياج في باريس، ومع ذلك فقد حاز الدستور الجديد موافقة الأقاليم، ونال
الأكثرية اللازمة، فأعلن المؤتمر قبول الأمة للدستور في ٢٣ سبتمبر.
ولكن «أقسام» باريس لم ترضخْ لهذه النتيجة، وقامت بالثورة ضد المؤتمر في ١٢
فندميير السنة الرابعة (٥ أكتوبر ١٧٩٥)، فعهد المؤتمر بقيادة الجند إلى «باراس»
— الذي خبره المؤتمر في أزمة ٩ ترميدور — للدفاع عنه، وسلم «باراس» القيادة
بدوره إلى نابليون بونابرت الذي نال شهرة كبيرة، وكانت تعطف عليه مدام تاليان
أثناء حصار طولون، فبادر بونابرت بجلب المدافع إلى التويلري، وأطلق النيران على
الثوار، فشتَّتهم بعد أن أنزل بهم خسائر فادحة.
(١٣) نهاية المؤتمر الوطني
وفي نهاية ٢٤ أكتوبر ١٧٩٥ اجتمع المؤتمر للمرة الأخيرة، في قصر التويلري،
وأصدر عفوًا شاملًا عن كل مرتكبي الجرائم السياسية، باستثناء ثوار يوم ١٣
فندميير، وباستثناء القساوسة المستنكرين والمهاجرين، والذين يزيِّفون «ورق
النقد»، كما أعلن انتهاء مهمته. وفي ٢٦ أكتوبر سنة ١٧٩٥ انفضَّ المؤتمر الوطني
ووضُع الدستور الجديد موضع التنفيذ.
ويقول المؤرخ الفرنسي «لويس
فيلا» Louis Villat تعليقًا على أعمال المؤتمر: «وهكذا، فإن المجلس الذي
أرسل لويس السادس عشر إلى المشنقة، ونظم الإرهاب، وانتصر على أوروبا المتحالفة
ضده، انتهى به الأمر بأن حرم الشعب من حق المشاركة (أو المساهمة في إدارة)
شئونه، وبأن أعطى السلطة إلى البورجوازي الذين انتفعوا من بيع أملاك رجال الدين
والمهاجرين؛ ليستولوا بثمن رخيص على الأرض. وإذا كان النظام القديم قد انهار
بسبب الخلاف بين الحاكمين والمحكومين، فإن خلافًا مشابهًا لهذا قد حصل وفرَّق
بصورة خطيرة بين الشعب وبين أولئك المزودين بالمال، والذين امتلأت به جيوبهم،
وعرفوا كيف يستفيدون على حساب الثورة.
لقد ظلَّ عدم التوازن باقيًا على حاله حتى إن موريس Morris (وموريس هذا كان أمريكيًّا، من أنصار الملكية الحرة
بالصورة التي أرادها لفاييت، شهد الثورة ونشرت يومياته ومذكراته عنها بعد ذلك)
أمكنه وقتئذٍ أن يتنبَّأ بحدوث سيطرة وطغيان فرد واحد.»
وقد عبر عن ذلك أيضًا «جوستاف لوبون» في كتابه عن «الثورة الفرنسية
وسيكولوجية الثورات»،
٢١ فقال:
وهكذا وُجد أن امتيازات العهد القديم التي تعالت الصيحات ضدها قد
استُرْجِعت، ولكن لصالح الطبقة المتوسطة (البورجوازية). ولقد كان من
أجل الوصول لهذه النتيجة أن صار لزامًا أن يلحق الخراب بفرنسا، وأن
تدمر مقاطعات بأسرها، ويحكم بالتعذيب والإعدام على أناس عديدين، وترغم
أسر لا عدد ولا حصر لها على العيش في يأس وقنوط، وأن تقلب أوروبا رأسًا
على عقب، وأن يهلك مئات وألوف الرجال في ساحات القتال.