الفصل الثاني عشر
قال فيجايا: ها نحن قد وصلنا. عندما بلغوا نهاية الشارع القصير الذي يربط ما بين السوق وأسفل التل. وفتح بوابة صغيرة، واصطحب ضيفه إلى حديقة صغيرة يقع في أقصاها بيت صغير مسقوف بالقش قائم على ركائز.
ومن خلف البيت اندفع كلب مهجن أصفر اللون وحيَّاهم بنباح مسعور وأخذ يَثِب هنا وهناك ويهز ذيله تعبيرًا عن سروره البالغ. وبعد لحظة هبط ببغاء كبير أخضر اللون، أبيض الخدين، منقاره أسود فاحم لامع، جاء من مكان مجهول وحط فوق كتف فيجايا صائحًا ومحدِثًا ضجة كبرى وهو يرفرف بجناحيه.
قال ويل: الببغاوات لك، والمَيْنات لماري ساروجيني الصغيرة. الظاهر أنكم هنا على علاقة طيبة جدًّا مع حيوانات المنطقة.
وأومأ فيجايا برأسه إيجابًا وقال: ربما كانت بالا البلد الوحيد الذي لا يجد فيه اللاهوتيون من عالم الحيوان ما يدعوهم إلى الاعتقاد في الشياطين. ومن الواضح أن الشيطان — عند الحيوان في كل مكان آخر — هو الإنسان.
وصعدا السُّلَّم للفراندة ومرقا من الباب الخارجي المفتوح ليدخلا حجرة المعيشة الرئيسية في البيت. وشهدا على مقربة من النافذة امرأةً شابة ترتدي ثوبًا أزرق وتجلس فوق مقعد منخفض تُرضع وليدها. فرفعت وجهها الذي يشبه في شكله القلب، الجبهة عريضة تستدق إلى أسفل حتى الذقن المدببة، وحيَّتهما بابتسامة.
قال فيجايا وهو ينحني ليقبِّلها: جئت ومعي ويل فارنبي.
ومدت شانتا يدها الطليقة إلى الرجل الغريب.
وقالت: أرجو ألا يكون لدى السيد فارنبي اعتراض على الطبيعة في حالتها البدائية. وأبعد الطفل فمه عن ثدي أمه ذي الحلمة السمراء وتجشأ، وكأنه يريد أن يؤيد ما تقول أمه. وظهرت بين شفتيه فقاعة بيضاء من اللبن، وانتفخت ثم انفجرت، وتجشأ مرة أخرى، ثم عاود الرضاعة، وقالت أمه: إن آداب المائدة عند راما حتى وهو في الشهر الثامن من عمره بدائية جدًّا.
قال ويل في أدب جم: إنه نموذج طيب. ولم يكن من المهتمين بالأطفال، وكان دائمًا يحمد الله كلما أسقطت مولي حملها، مع أن مولي كانت تشعر بخيبة الأمل في إشباع رغبتها في أن يكون لها ولد.
ثم قال: إلى أي منكما سيكون شبيهًا؛ أنت أم فيجايا؟
وضحكت شانتا، وشارك فيجايا في الضحك بنغمة مختلفة.
أجابت: إنه بالتأكيد لن يشبه فيجايا.
– ولمَ لا؟
قال فيجايا: لسبب مقنع، وهو أنني لست مسئولًا وراثيًّا.
– بعبارة أخرى أن الطفل ليس لفيجايا.
ونظر ويل إلى الوجهين الضاحكين، ثم هز كتفيه وقال: لقد يئست.
وأوضحت له شانتا الأمر قائلة: منذ أربع سنوات أنجبنا توءمين هما صورتان حيَّتان لفيجايا، وفكرنا أنه من الأمتع لنا هذه المرة أن نحدِث تغييرًا كاملًا، فقررنا أن نعزز الأسرة بنوع يختلف كل الاختلاف في تكوينه البدني وفي مزاجه. هل سمعت بجوبندسنج؟
– أراني فيجايا تصويره في غرفة التأمل.
– هذا هو الرجل الذي اخترناه أبًا لراما.
– ولكني فهمت أنه قد مات.
وافقته شانتا على ذلك وقالت: ولكن روحه باقية.
– ماذا تعنين؟
– «ج» و«ت ص».
– «ج» و«ت ص»؟
– نعم التجميد والتلقيح الصناعي.
– فهمت.
قال فيجايا: في الواقع إننا طورنا التلقيح الصناعي وسبقناكم في ذلك بعشرين عامًا. ولكنا لم نُفد منه كثيرًا بطبيعة الحال حتى توافرت لدينا القوى الكهربائية والثلاجات التي يعتمد عليها، ولم نحصل على ذلك إلا في أواخر الثلاثينيات، ومنذ ذلك الحين ونحن نستخدم التلقيح الصناعي على نطاق واسع.
وقاطعته شانتا قائلة: ولذلك فإن رضيعي قد يصبح مصورًا في المستقبل؛ أي إذا ورث هذه الموهبة. وحتى إذا لم يكن التصوير من المواهب التي تُورث فسوف يختلف في جوهره ومظهره عن أخويه وعن والديه؛ مما يكون ممتعًا ومجالًا للدراسة لكل من يهمه الأمر.
سأل ويل: وهل يمارس الكثيرون هذا الصنيع؟
– إن عددهم يتزايد، وأستطيع أن أؤكد أن جميع الأزواج والذين يقررون أن يكون لهم طفل ثالث يمارسون التلقيح الصناعي، وكذلك يمارسه عدد كبير ممن لا يرغبون في أكثر من طفلين. خذ أسرتي مثالًا: كان من بيت أفراد أسرة أبي من يعانون من مرض السكر؛ لذلك آثر والداي — أبي وأمي — أن ينجبا طفليهما بالتلقيح الصناعي. أخي ينحدر من ثلاثة أجيال من الراقصين، وأنا — وراثيًّا — ابنة ابن عم الدكتور روبرت، مالكولم شاكرا فارتي ماك فيل الذي كان يعمل سكرتيرًا خاصًّا للراجا العجوز.
وأضاف فيجايا: وهو مؤلِّف أحسن كتاب في تاريخ بالا. كان شاكرا فارتي ماك فيل من أقدر رجال جيله.
ونظر ويل إلى شانتا ثم إلى فيجايا.
وسأل: وهل تم توريث هذه القدرة؟
أجاب فيجايا: إلى درجة أني أجد صعوبةً كبرى في الاحتفاظ بمركزي من حيث تفوُّق الذكورة. شانتا أحدُّ مني ذكاءً، ولكنها لا تستطيع — لحسن الحظ — أن تبلغ شأوي في القوة العضلية.
وقالت شانتا بعده متهكمة: القوة العضلية. إنني أذكر قصةً عن امرأة شابة اسمها دليلة.
واستمر فيجايا في كلامه قائلًا: وبهذه المناسبة، شانتا لها اثنان وثلاثون أخًا من أحد الوالدين وتسع وعشرون أختًا من أحد الوالدين. وأكثر من ثلث هؤلاء من ذوي الذكاء النادر.
– إذن أنتم تُحسِّنون العنصر؟
– بكل تأكيد. وبعد قرن آخر يبلغ معدل الذكاء عندنا مائة وخمسين.
– مع أن معدل الذكاء عندنا، بمعدل التقدم الحالي، يهبط إلى خمسة وثمانين. ومع تحسن العلاج الطبي تبقى العيوب الوراثية ويتوارثها الناس؛ مما يجعل الحكم أيسر كثيرًا للدكتاتوريين في المستقبل.
وأضحكته هذه الفكاهة العالمية، وصمت برهة ثم سأل: وماذا عن التلقيح الصناعي من الناحيتين الخُلقية والدينية؟
– هل قلت مصيرًا أفضل؟
– نعم لأنهم يحملون جراثيم وراثية لسلالة أفضل. والسلالة أفضل لأنها مظهر من مظاهر «الكارما» الأفضل، ولدينا بنك مركزي للسلالات الممتازة لكل أنواع التكوين البدني والأمزجة. في بيئتكم الوراثة عند أكثر الناس لا تجد فرصة طيبة، أما في بيئتنا فهي تجد فرصة حسنة. وبهذه المناسبة أقول لك إن لدينا سجلات للأنساب والأجناس البشرية ترجع إلى السبعينيات من القرن التاسع عشر؛ ومن ثَمَّ ترى أننا لا نعمل في الظلام. ونحن — مثلًا — نعلم أن جدة جوبندسنج من ناحية أمه كانت وسيطًا موهوبًا وعاشت حتى بلغت السادسة بعد التسعين.
قالت شانتا: ولذلك فنحن قد يكون لدينا في الأسرة عرافة في المائة من عمره. وتجشأ الطفل مرة أخرى، وضحكت، ثم قالت: هذا ما خبرتنا به الكاهنة بعبارة مبهمة كالعادة. والتفتت إلى فيجايا وقالت له: إذا أردت أن تتناول غداءك في الميعاد تستطيع أن تعدَّه بنفسك، فإن راما سوف يشغلني لفترة عشر دقائق أخرى على الأقل.
ونهض فيجايا، ووضع إحدى راحتيه على كتف زوجته ومسح براحته الأخرى برفق شديد ظهر الطفل الأسمر.
وانحنت شانتا ولمسحت بخدِّها قمة رأس الطفل الذي نما فوقه شعر خفيف، وهمست له قائلة: هذا أبوك، أبوك الطيب، الطيب …
وربَّت فيجايا مرة أخرى بلمسة خفيفة ثم انتصب قائمًا، ووجَّه خطابه إلى ويل قائلًا له: كنت تتعجب كيف نعيش عيشة طيبة مع الحيوانات المحلية، سوف أريك. ورفع يده، ونادى: بولي، بولي! وقفز الطائر الكبير من فوق كتفه ووقف فوق سبابته الممتدة. وأخذ يغني: بولي طائر طيب جدًّا. وأرخى يده حتى لامس جسم الطائر جسد الطفل ثم حرك الطائر ببطء شديد. وقد مس ريشه البشرة السمراء، وكرر الحركة إلى الأمام وإلى الخلف، وهو يكرر قوله: بولي طائر طيب جدًّا.
وأخذ الببغاء يضحك ضحكات خفيفة، ثم انحنى من مكانه فوق إصبع فيجايا إلى الأمام وأخذ يداعب برفق شديد أُذُن الطفل الصغرى.
وقالت شانتا مردِّدة في همس شديد عبارة فيجايا: إنه طيب جدًّا، طيب.
قال فيجايا: لقد لقط الدكتور أندرو هذه الفكرة حينما كان يشتغل عالمًا طبيعيًّا في «ميلامبوس». من إحدى قبائل غينيا الجديدة. إنهم من العصر الحجري، ولكنهم — مثلكم أنتم المسيحيين ومثلنا نحو البوذيين — يعتقدون في المحبة. وخلافًا لكم ولنا اخترعوا طرقًا عملية جدًّا يجعلون بها عقيدتهم واقعًا. وكانت هذه الأساليب أحد كشوفهم السعيدة. ربِّت على الطفل وأنت تطعمه تُضاعِف سروره، ثم قدِّمه وهو يرضع ويتلقى لمسات الحنان إلى الحيوان أو الشخص الذي تريده أن يحبَّه. لامس بجسده جسده، وأوجد بين الطفل ومن تريده أن يحب تلامسًا بدنيًّا دافئًا. وفي نفس الوقت كرِّر لفظةً ما مثل قولك: «طيب». إنه في أول الأمر لن يدرك سوى النغمة والصوت، ولكنه سوف يستوعب المعنى كاملًا فيما بعدُ عندما يتعلم الكلام؛ ذلك أن الطعام مضافًا إليه لمسات الحنان مضافًا إليه التلامس وكلمة «طيب» يساوي الحب، والحب يساوي السرور، والحب يساوي الرضا.
– هذا بافلوف بعينه.
– ولكنه بافلوف للأغراض الطيبة فقط. بافلوف من أجل المودة والثقة والرأفة. في حين أنكم تستخدمون بافلوف في غسل المخ، ولبيع السجائر والفودكا، وتستخدمونه لبثِّ روح الوطنية. تستخدمونه لمصلحة الحُكام المستبدين، وقادة الجيوش، وكبار رجال المال.
أبى الكلب الأصفر أن يبقى وحده في الجو البارد فانضم إلى الجماعة وأخذ يلعق كل ما يتحسسه بغير تمييز؛ ذراع شانتا، فيجايا، قدمَي الببغاء، ظهر الطفل. وجذبت شانتا الكلب إليها ومسحت بفروة جنبه بشرة الطفل.
وقالت: هذا كلب طيب، طيب. الكلب توبي طيب، طيب جدًّا، الكلب توبي.
وضحك ويل قائلًا: ألا ينبغي لي أن أدخل في هذه العملية؟
أجابت شانتا: هممت أن أقترح عليك ذلك. غير أني خشيت أن يكون ذلك مما لا يتفق وكرامتك.
قال فيجايا: تستطيع أن تحتل مكاني، فأنا لا بُدَّ أن أنصرف لكي أُعِدَّ الغداء.
وخرج من الباب الذي يؤدي إلى المطبخ وهو لا يزال يحمل الببغاء. وجذب ويل كرسيه، وانحنى إلى الأمام وبدأ يربِّت على جسد الطفل الصغير.
وهمست شانتا قائلة: هذا رجل آخر، إنه رجل طيب يا ولدي، رجل طيب.
وببسمة خفيفة مكتئبة قال: يا ليت هذا كان صحيحًا!
– إنه الآن، وفي هذا المكان صحيح. وانحنت مرة أخرى نحو الطفل وكررت قولها: إنه رجل طيب، رجل طيب، طيب.
وما زالت شانتا تتمتم لطفلها: طيب، طيب، طيب.
إنهم أطيب مما يجب؛ تلك كانت جريمتهم. ولم تكن الطيبة أمرًا مسموحًا به، ومع ذلك ما أثمنها! وكم تمنَّى من كل قلبه لو أنه كان مشاركًا فيها، وقال لنفسه: عاطفية مطلقة! ثم قال بصوت مرتفع: طيب، طيب، طيب. وكررها متهكمًا.
وسأل: ولكن ماذا يحدث عندما يشب الطفل عن الطوق ويتكشف له أن أمورًا عديدة وأشخاصًا كثيرين سيئون، سيئون، سيئون للغاية؟
أجابت: المودة تبعث المودة.
– نعم من الودود، ولكن ليس من الجشعين، أو من المغرمين بالسلطة، أو ممن خابت آمالهم أو كانت في نفوسهم مرارة؛ فالمودة عند هؤلاء ضَعف، ودعوة إلى الاستغلال، والتهديد، والانتقام بغير عقوبة.
– ولكن على المرء أن يخاطر، وأن يبدأ. وليس هناك — لحسن الحظ — مخلد؛ فإن الناس الذين تكيَّفوا على الخداع والتهديد والمرارة سيكونون جميعًا من الأموات بعد بضع سنين. سوف يموتون ويحل محلهم رجال ونساء نشئوا على الطريقة الجديدة؛ ذلك ما حدث لنا، وما يمكن أن يحدث لكم.
– نعم يمكن. ولكن مع القنبلة الهيدروجينية والوطنية وزيادة السكان بنسبة خمسين مليونًا كل عام، يكاد ذلك أن يستحيل.
– لا تستطيع الحكم حتى تجرِّب.
– ولن نجرِّب ما دامت الدنيا على حالتها الراهنة، وسوف تبقى على هذه الحالة بطبيعة الحال حتى نحاول فعلًا. نحاول وننجح على الأقل مثلما نجحتم، ويعود بي هذا الحديث إلى سؤالي الأول، ماذا يحدث لو أن هذا الذي نشأ على الطيب الطيب الطيب تبيَّن له أن هناك حتى في بالا كثيرًا من السيئ السيئ السيئ؟ ألا يصاب مثل هذا الطفل بصدمة غير مستحَبَّة؟
– نحن نحاول أن نُطعِّمهم ضد هذه الصدمات.
– كيف؟ هل تصنعون ما لا يسرُّهم وهم لا يزالون صغارًا؟
– وما هي حقائق الحياة التي ترينها في تلك الأفاعي المروعة التي لقيتها وأنا في منتصف طريقي فوق هذا المرتفع؟ تستطيعين أن تقولي لها: أنت طيبة، طيبة، طيبة، وتكرريها ما شئت، ولكن الأفاعي سوف تعضُّ على الرغم من ذلك.
– تريد أن تقول إنها تستطيع أن تعض. ولكن هل هي سوف تستخدم هذه القدرة في واقع الأمر؟
– ولمَ لا؟
قالت شانتا: انظر هناك، فأدار رأسه ورأى أن ما كانت تشير إليه فجوة في الحائط من خلفه. وفي داخل الفجوة تمثال من الصخر لبوذا، في نصف الحجم الطبيعي، جالسًا فوق قاعدة أسطوانية عليها نقوش عجيبة تعلوه ظُلَّة تشبه لوحًا من الرصاص تتهدل خلفه لترتكز فوق عمود عريض. وواصلت حديثها قائلة: هذه صورة مصغرة لبوذا في مجمع المحطة؛ ذلك التمثال الضخم القائم إلى جوار بحيرة اللوتس.
قال: هذه قطعة رائعة من فن النحت. والابتسامة على شفتيه تعطي المرء فكرة عن الرؤية البهيجة كيف تكون. ولكن ما علاقة هذا التمثال بالأفاعي؟
– أعِدِ النظر.
وأعاد النظر، وقال: لا أرى شيئًا له دلالة خاصة.
– أمعِنِ النظر.
ومرت ثوانٍ، لاحظ بعدها — وقد صدمته الدهشة — شيئًا عجيبًا بل ومدعاة للقلق. فما كان يظنه قاعدة أسطوانية مزخرفة زخرفة عجيبة تبيَّن له فجأة أنه أفعى ضخمة ملتفة حول نفسها. وتلك الظلة المتدلية التي كان بوذا يجلس تحتها لم تكن سوى قلنسوة مفلطحة لثعبان ضخم، رأسه المسطح وسط طرفها الأمامي.
مذاهب الخصوبة؟ إنها لم تُقِم أي فواصل، فهل كانت من يكون أحيانًا عديم الملاحظة بدرجة عجيبة.
– هل هذه هي المرة الأولى التي تشاهد فيها بوذا على هذه الصورة؟
– أول مرة. هل هناك أسطورة حولها؟
أومأت برأسها إيجابًا وقالت: وهي من الأساطير المحببة إلى نفسي، سمعت طبعًا عن شجرة بوذا؟
– نعم، أعرفها.
– من هو موشاليندا؟
قال ويل: ما أشد الخلاف بين هذا وبين نظرتنا إلى الأفاعي!
– ونظرتكم إلى الأفاعي هذه نظرة الإله إليها؛ هل تذكر ما جاء في سفر التكوين؟
وذكر النص وهو: سأغرس العداوة بينك وبين المرأة، وبين ذريتها وذريتك.
– ولكن «الحكمة» لا تغرس العداوة مطلقًا. ذلك الصراع الذي لا معنى له ولا هدف منه بين الإنسان والطبيعة، وبين الطبيعة والإله، وبين الجسد والروح! «الحكمة» لا تقيم هذه الفواصل التي لا تستند إلى العقل.
– وكذلك العلم.
– الحكمة تأخذ العلم في رِكابها وتخطو به إلى أبعد من حدوده.
وواصل ويل حديثه قائلًا: وماذا عن الطوطم؟ وعن مذاهب الخصوبة؟ إنها لم تقم أي فواصل، فهل كانت من «الحكمة»؟
وتساءل: وبعد ذلك؟
– بعد ذلك كانت تباشير البيولوجيا الحديثة.
ضحك ويل وقال: قال الله: «ليكن داريون.» فكان نيتشه والإمبريالية وأدولف هتلر.
قالت: نعم حدث هذا. ولكن كان هناك أيضًا إمكان وجود نوع جديد من الحكمة لكل إنسان. أخذ داروين الطوطمة القديمة ورفعها إلى مستوى علم الأحياء، وعادت مذاهب الخصوبة القديمة في صورة علم السلالات وهافلوك أليس. وعلينا الآن أن نخطو خطوة أخرى إلى الأمام. كانت الداروينية عبارة عن مفاهيم علمية ترتكز على حكمة العصر الحجري. والحكمة الجديدة التي يعيها الإنسان — أعني نوع الحكمة التي تنبأ بها بصورة خاطفة زن وتاو وتانترا — نظرية بيولوجية متحققة في ممارسة حية، هي الداروينية مرتفعة إلى مستوى الرأفة والبصيرة الروحانية، وختمت حديثها قائلة: ومن ثم ترى أنه ليس هناك سبب فوق الأرض — وبالتالي ليس هناك سبب في السماء — يمنع بوذا أو غيره في هذا المجال من أن يرى الضوء الشفاف متمثلًا في الثعبان.
– على الرغم من أن الثعبان قد يقتله؟
– نعم على الرغم من ذلك.
– وعلى الرغم من أنه أقدم رموز الجنس وأكثرها شيوعًا؟
ضحكت شانتا وقالت: تأمَّلا تحت شجرة موشاليندا؛ هذه هي النصيحة التي نُسديها لكل عاشقَين، وأثناء تأملات الحب هذه اذكرا ما تعلمتما في الصِّغر؛ الأفاعي إخوتكم، للأفاعي حق الرأفة والاحترام منكم، الأفاعي بإيجازٍ طيبة، طيبة، طيبة.
– والأفاعي كذلك سامة، سامة، سامة.
– ولكنك إن تذكرت أنها طيبة كما هي سامة، وتصرفت على هذا الأساس، فهي لن تستخدم سمومها.
– من قال هذا؟
– هي حقيقة ملحوظة، أولئك الذين لا تُفزعهم الأفاعي، وأولئك الذين يقتربون منها وليس في عقولهم عقيدة ثابتة بأن الأفعى لا تكون طيبة إلا بعد موتها، أولئك قلَّما تعضهم الأفاعي. وفي الأسبوع القادم سوف أستعير حية جارنا التي يتلهَّى بها، وسوف أعطي راما غداءه وعشاءه لبضعة أيام في ثنايا لفائف هذه الحية.
وأتى من خارج المنزل صوت ضحكات عالية، ثم صخب من أصوات الأطفال يقاطع أحدهم الآخر بالإنجليزية وبلغة أهل بالا. وبعد لحظة دخلت الغرفة ماري ساروجيني فارعة القوام عليها سيما الأمومة إذا وازنتها بمن معها، يحيط بها توءمان متشابهان يبلغ عمر كل منهما أربعة أعوام، ويسير خلفها طفل قوي جميل الصورة، هو الطفل الذي كان يرافقها عندما فتح ويل عينيه على بالا لأول مرة.
ارتمى التوءمان فوق أمهما وقالت ماري ساروجيني عندئذٍ: التقطنا تارا وأرجونا من روضة الأطفال.
حملت شانتا الرضيع فوق إحدى ذراعيها، وطوقت بالأخرى الصبيين الصغيرين، وتبسمت شاكرة وقالت: هذا فضل منك.
وقال توم كريشنا: مرحبًا بكم. وتقدَّم خطوة إلى الأمام، وبعد لحظة من التردد قال: كنت أفكر … ثم كفَّ عن الكلام، ونظر إلى أخته كأنه يوجه إليها سؤالًا، وهزت ماري ساروجيني رأسها.
وسألته شانتا: فيمَ كنت تفكر؟
– في الواقع كان كلانا يفكر … هل يمكن أن نتناول الطعام معك؟
وتطلعت شانتا إلى توم كريشنا وماري ساروجيني على التناوب وقالت: الأفضل أن تذهب إلى فيجايا وتسأله إن كان هناك ما يكفي إطعامكما، فهو الذي يقوم بالطهو اليوم.
وقال توم كريشنا في فتور: سوف أذهب، وبخطًى متثاقلة عبَر الغرفة وخرج من بابها إلى المطبخ، ونظرت شانتا إلى ماري ساروجيني تسألها: ماذا حدث؟
– لقد حذَّرته أمه على الأقل خمسين مرة أنها لا تحب أن يُحضر معه السحالي إلى البيت، ولكنه أتى بها هذا الصباح؛ ولذلك غضبت عليه.
– فقررتما أن تتناولا الطعام هنا؟
– إذا لم يوافقك هذا يا شانتا حاولنا راوس أو راجاجينا داساس.
وأكدت لها شانتا أن هذا يوافقها كل الموافقة وقالت: إنما طاف بخاطري أنه من الخير لتوم كريشنا أن يتبادل الحديث مع فيجايا.
قالت ماري ساروجيني جادَّة: أصبت تمامًا. وبصوت جاد نادت تارا وأرجونا لكي يصحباها إلى الحمام، وقالت لشانتا وهي تسير أمامهما: سوف نغتسل. إنهما في غاية القذارة.
وانتظر ويل حتى ابتعدوا بحيث لا يستطيعون السمع، والتفت إلى شانتا وقال: أعتقد أنني شاهدت الآن على الطبيعة ناديًا من نوادي التبني المتبادل.
قالت شانتا: نعم، ولكنك — لحسن الحظ — شهدته بصورة مخففة؛ لأن توم كريشنا وماري ساروجيني يتفقان مع أمهما اتفاقًا يلفت النظر. وليس في هذه الحالة مشكلة شخصية؛ فقط مشكلة المصير، المشكلة الضخمة المخيفة، مشكلة موت ديوجولد.
سأل: وهل سوف تتزوج سوزيلا مرة أخرى؟
– أرجو ذلك، فهو في مصلحة الجميع. من صالح الأطفال أن يُنفقوا بعض الوقت مع نائبٍ من نواب أبيهم. في مصلحة توم بصفة خاصة؛ فقد بلغ السن التي يكتشف فيها الصبي ذكورته. إنه لا يزال يصيح كالرضيع، ولكن بعد لحظة تراه يتباهى ويتفاخر ويُحضر السحالي معه إلى البيت ليُثبت أنه رجلٌ مائتين في المائة. من أجل هذا بعثت به إلى فيجايا؛ لأن فيجايا فيه كل الصفات التي يحب توم كريشنا أن يكون عليها، يبلغ من الطول ثلاث ياردات، ومن العرض ياردتين، قوي للغاية، قادر قدرة عظيمة. فإذا ما أرشد توم كريشنا إلى السلوك الصحيح أصغى إليه، ولو أسديت له أنا أو أمه نفس النصيحة ما أصغى إلينا. مع أن فيجايا لا ينصحه إلا بما ننصحه به؛ لأن توم — فوق أنه ذكرٌ مائتين في المائة — حساس للأنوثة خمسين في المائة؛ ولهذا فهو في الواقع قد بدأ حياته الجدِّية. ثم ختمت حديثها وهي تتطلع إلى الرضيع النائم فوق ذراعها وقالت: والآن لا بُدَّ أن أضع هذا الرجل الصغير في فراشه وأستعد للغداء.