الفصل الرابع عشر
أدارت محرك السيارة وانطلقا؛ هبطا إلى الطريق الجانبي، ثم صعدا إلى الطريق العام الذي يقع بعيدًا عن الطرف الآخر للقرية، ثم اتجها نحو مجمع محطة التجارب، وتوقفت سوزيلا عند بيت صغير سقفه من القش، كغيره من البيوت، وصعدا ست درجات إلى الفراندة، ثم دخلا حجرة المعيشة التي طُليت جدرانها باللون الأبيض.
وعلى اليسار كانت هناك نافذة متسعة، عُلِّقت بين العمودين الخشبيين الواقعين على جانبيها البارزين أرجوحة، فأشارت إليها وقالت: هذه لك، وتستطيع أن ترفع ساقيك. ولما جلس ويل في الأرجوحة الشبكية سألته بعدما سحبت مقعدًا من الأغصان اللينة وجلست إلى جواره، قالت: فيمَ نتحدث؟
– هل نتحدث عن الخير والحق والجمال؟
ثم ابتسم ابتسامة عريضة وقال: أم هل نتحدث عن القبح والشر وعما هو أكثر صدقًا؟
قالت وقد تجاهلت محاولته أن يتفكه: نستطيع في ظني أن نواصل الحديث عندما انتهينا إليه في المرة الماضية؛ نتحدث عنك.
– هذا بعينه هو ما اقترحته؛ القبح، والشر، والأصدق من كل صدق رسمي.
سألته: هل أنت تستعرض أسلوبك في الحديث، أم هل أنت تريد أن تتحدث عن نفسك فعلًا؟
أكد لها أنه يريد ويستميت في ذلك فعلًا: بمقدار ما أستميت في عدم الرغبة في حديثي عن نفسي. ومن ثم، كما رأيت، كان اهتمامي الذي لا يَفتُر بالفن، والعلم، والفلسفة، والسياسة، والأدب؛ أي شيء إلا ما له في النهاية أية أهمية.
وساد صمت طويل، ثم بدأت سوزيلا تتحدث عن كاتدرائية ولز وكأن ذكراها قد عادت إليها عرَضًا، وعن استدعاء الغربان، وعن الإوز العراقي الأبيض الذي يسبح بين انعكاسات السحب الطافية. وبعد بضع دقائق كان هو أيضًا يسبح.
قالت: كنت سعيدة جدًّا طوال الوقت الذي قضيته في ولز، سعيدة بشكل عجيب، وكذلك كنت أنت، أليس كذلك؟
لم يُحِر ويل جوابًا، وكان يستعيد في ذاكرته تلك الأيام التي قضاها في الوادي الأخضر، قبل أن يتزوج مولي، وقبل أن يتحابا. ما أروع السكون! ويا له من عالم صلب حي بغير ديدان، عالم الحشائش والزهور المتفتحة! حينما سرى بينهما شعور طبيعي لم تَشُبه شائبة، شعور لم يحس مثله منذ تلك الأيام البعيدة وقتما كانت عمته ماري ما تزال على قيد الحياة؛ ذلك الشخص الوحيد الذي أحبه فعلًا، ثم كانت مولي خليفة لها. أية سعادة! لقد انتقل الحب إلى مفتاح آخر؛ ولكن اللحن والإيقاع الثري الدقيق هو بعينه. وفي الليلة الرابعة من مقامها طرقت مولي الجدار الذي كان يفصل بين حجرتيهما، ووجد باب غرفتها مفتوحًا إلى نصفه فتحسس طريقه في الظلام إلى الفراش الذي كانت أخت الرحمة تبذل فيه الجهد لتؤدِّي دورَ الزوجة العاشقة، وهي عارية مطمئنة الضمير. وبذلت جهدها ولكنها فشلت فشلًا ذريعًا.
وفجأة، كما كان يحدث تقريبًا كل مساء، سمع رياحًا عاصفة ووقع الأمطار فوق الخضرة الكثيفة، وقد كتم بُعد المسافة صوت المطر؛ واشتد وقع الأمطار المنهمرة كلما اقترب رذاذها. ومرت بضع ثوانٍ طرقت بعدها قطرات المطر زجاج النوافذ، كما كانت تفعل بنوافذ مكتبه في ذلك اليوم الذي تم فيه لقاؤهما الأخير. وذكر قولها: هل تعني حقًّا ما تقول يا ويل؟
آلمته الذكريات وأخجلته مما جعله يحس الرغبة في النحيب، وعض شفتيه.
سألته سوزيلا: فيمَ تفكر؟
إنه لم يكن يفكر، بل كان يراها فعلًا، ويسمع صوتها فعلًا وهي تقول: هل تعني حقًّا ما تقوله يا ويل؟
ومن خلال وقع قطرات المطر رن في أذنه ما أجاب به حينما قال: نعم أنا حقًّا أعني ما أقول.
وخفَّ صوت سقوط الأمطار على زجاج النافذة — ولم يدرِ إن كان هنا أم هناك، الآن أو حينذاك — وخفَّ هبوب العاصفة حتى أمسى تمتمةً وهمسًا.
وأصرَّت سوزيلا على سؤالها: فيمَ تفكر؟
– أفكر فيما فعلت بمولي.
– وما ذاك؟
لم يُرِد أن يجيب. ولكن سوزيلا كانت عنيدة متصلبة.
– خبِّرني ماذا فعلت.
وعصفت الريح مرة أخرى بشدة حتى شخشخت النوافذ واشتد سقوط المطر، وكأنه — كما ظن ويل — قد اشتد عمدًا. وأمطرت السماء بصورة تحتِّم عليه أن يستمر في تذكُّر ما لم يُرِد أن يذكر، وأن يتفوه بصوتٍ عالٍ بأمور مخجلة ينبغي له أن يحتفظ بها لنفسه مهما كان الثمن.
– خبِّرني.
وعلى الرغم من نفسه، وعلى مضض، أخبرها بما حدث.
– هل تعني حقًّا ما تقول يا ويل؟ وبسبب بابز — نعم بابز، كان الله في عونه، صدَّقت أم لم تصدِّقي! — كان فعلًا يعني ما يقول، وخرجت مولي والمطر ينهمر.
– وعندما رأيتها للمرة الثانية كانت في المستشفى.
وسألته سوزيلا: وهل كان المطر ما يزال منهمرًا.
– نعم كان ما يزال ينهمر.
– كما ينهمر الآن؟
– تقريبًا. والواقع أن ما سمعه ويل هذا المساء لم يكن ذلك الرذاذ الذي يسقط في المناطق الاستوائية، بل كان ذلك الطبل الذي كان يدق نافذة الحجرة الصغيرة التي كانت مولي تلفظ فيها أنفاسها الأخيرة.
وكان يقول لها من خلال وقع سقوط المطر: هذا أنا، أنا ويل. ولم يحدث شيء ما. وفجأة أحس بيد مولي تتحرك بين راحتيه حركةً تكاد ألا تُحَس. كانت تضغط على يديه بإرادتها، وبعد بضع ثوانٍ ارتخت يدها بغير إرادتها ارتخاءً نهائيًّا.
– خبِّرني ثانية يا ويل.
هز رأسه؛ فلقد كانت الذكرى أليمة مُذلة.
وأصرت على قولها: خبِّرني مرة أخرى، فتلك هي الوسيلة الوحيدة.
وبجهد جهيد بدأ يروي القصة البغيضة مرة أخرى. هل حقًّا كان يعني ما يقول؟ نعم، كان حقًّا يعني ما يقول؛ يعني الإيذاء، وربما يعني القتل «وهل يعرف الإنسان ما ينوي حقًّا؟» «كل شيء لبابز أو ضاعت الدنيا» ليست دنياه بطبيعة الحال؛ دنيا مولي. وفي وسط هذه الدنيا الحياة التي أوجدتها. تنطفئ جذوتها من أجل تلك الرائحة العطرة في جنح الظلام، ومن أجل استجابات عضلية، من أجل متعة كبرى، ومن أجل تلك المهارات التي لا حياء فيها ولكنها تُسكِر المرء وتُبلِغه الذروة.
– مع السلامة يا ويل. وانغلق الباب وراءها محدِثًا طقطقة خفيفة حادَّة.
وأراد أن يسترجعها، ولكن عشيق بابز تذكَّر المهارات، والاستجابات، وتذكَّر جسمًا يفوح منه شذى العطر ويتأوه من فرط اللذة. تذكَّر كل ذلك، ووقف عند النافذة يرقب السيارة وهي تشق طريقها وسط الأمطار، راقبها وهي تدور عند الناصية وقد امتلأت نفسه بشعور الانتصار المشين. لقد تحرَّر أخيرًا! بل بات أكثر تحررًا — كما تبيَّن له ذلك بعد ثلاث ساعات وهو في المستشفى — مما كان يظن؛ لأنه كان الآن يحس ضغط أصابعها خفيفًا في النهاية، ويحس رسالة حبها النهائية. ثم توقفت هذه الرسالة عندما ارتخت يدها وفجأة وبصورة مرعبة انقطعت أنفاسها. وهمس قائلًا: لقد ماتت. وأحس بالاختناق: لقد ماتت.
قالت سوزيلا وقد قطعت صمتًا طويلًا: افرض أنك لم تكن مسئولًا عن موتها، وافرض أنها ماتت فجأة دون أن يكون لك دخل في وفاتها. ألا يكون موتها في هذه الحالة مؤسفًا كذلك؟
سألها: ماذا تقصدين؟
قالت: أقصد أن الأمر لا يقتصر على مجرد الشعور بالذنب لوفاة مولي. إنما هو الموت نفسه، والموت في حد ذاته، هو الذي تراه مروعًا. والآن تذكرت ديوجولد وأضافت قولها: إنه شر لا معنى له.
كرر عبارتها: «شر لا معنى له.» ثم قال: نعم، وربما كان هذا هو الذي حتم عليَّ أن أكون شاهدًا محترفًا للإعدام؛ لأنه يخلو كلية من المعنى؛ ولأنه وحشي للغاية. تابعت رائحة الموت في الدنيا كلها من أقصاها إلى أقصاها، جشعًا كالنسر الوحشي. المرتاحون في هذه الدنيا ليست لديهم أية فكرة عن أحوال العالم. ولست أقصد أحواله في الأوقات الشاذة، كأيام الحرب، ولكن في كل حين، إي والله في كل حين. وبينما كان يتكلم كان يرى — رؤية مختصرة شاملة مفصلة كل التفصيل كرؤية الغريق — كل المناظر البغيضة التي شهدها خلال رحلاته التي تقاضى عليها أجرًا عاليًا لكلِّ جحيم وكل مجزرة تعافها النفس حتى لا تصلح للرواية. الزنوج في جنوب أفريقيا، والرجل يختنق في غرفة الغاز في سان كنتين، والأجسام التي تكوى في بيت ريفي بالجزائر، والجماهير في كل مكان، ورجال الشرطة ورجال المظلات في كلِّ مكان، والأطفال ذوو البشرة السوداء في كل مكان، وأصحاب الأرجل الخشبية، وأصحاب الكروش، والذباب فوق جفونهم القذرة، والروائح المقززة للجوع والمرض في كل مكان، ورائحة الموت النتنة. وفجأة، من خلال رائحة الموت النتنة، كان يتنفس شذى المسك الذي كانت تتعطر به بابز. يتنفسه ممزوجًا ومشبعًا برائحة الموت. يتنفس شذاها ويذكر فكاهته عن كيمياء المطهر والفردوس، المطهر تتراثيلين ديامين وهيدروجين كبريتيد، والفردوس سميترينيتر وبسيبوتيل تولوين مع بعض الشوائب العضوية المنوعة، ها، ها، ها! (ألا ما أحلى متع الحياة الاجتماعية!) ثم — وعلى حين غرة — تحل محل روائح الحب والموت رائحة حيوان نتنة؛ رائحة كلب.
واشتد هبوب الريح وطرقت قطرات المطر زجاج النوافذ وانتشرت على سطحه.
سألته سوزيلا: أمازلت تفكر في مولي؟
أجاب: كنت أفكر في شيء نسيته تمامًا، ولا أحسب أني جاوزت الرابعة من عمري عندما حدث، والآن تعود الصورة إلى ذاكرتي. تايجر المسكين.
سألته: من كان تايجر المسكين!
تايجر، كلبه الأحمر الجميل، تايجر مصدر النور الوحيد في ذلك البيت الكئيب الذي قضى فيه طفولته، تايجر العزيز. وسط المخاوف والبؤس وفيما بين الطرفين، الكره السافر لكل شيء وكل إنسان من أبيه، ورقَّة الشعور والتضحية بالنفس من أمه. كان تايجر يبدي حسن النية بغير جهد، ويُظهر الصداقة تلقائيًّا، يَثِب وينبح تعبيرًا عن سرور لا يمكن كبته! كانت أمه تضعه في حجرها وتحدِّثه عن الله وعن يسوع. ولكن تايجر كان يحدثه عن الله أفضل مما كانت ترويه له أمه من قصص الإنجيل. كان تايجر عنده هو التجسيد. وذات يوم أصاب هذا الحيوان المقدَّس سُلُّ الكلاب.
سألته سوزيلا: وماذا حدث بعد ذلك؟
– سلَّته كانت في المطبخ، وكنت هناك جاثمًا إلى جوارها، أربِّت عليه. ولكن شعره يختلف في ملمسه عما كان عليه قبل مرضه، أحسُّه لزجًا، وتفوح منه رائحة كريهة، ولولا أني كنت أُفرِط في حبه لولَّيت هاربًا، لم أحتمل أن أقترب منه. ولكني أحبه، أحبه أكثر من أي شيء وأكثر من أي إنسان. وبينما كنت أربِّت عليه كنت أقول له إنه سوف يُشفى بعد قليل، في وقت قريب؛ صباح الغد. وفجأة يرتعد وأحاول أن أهدئ من رعدته فأمسك برأسه بين يدي، بغير جدوى. وتتحول الرعدة إلى تقلُّص مريع، وكنت أشعر بالاشمئزاز إذا نظرت إليه، ويتملَّكني الخوف؛ خوف شديد. وبعدئذٍ تهدأ الرعدة والرعشة وبعد برهة قصيرة يسكن سكونًا مطلقًا. وإذا رفعت رأسه وألقيته من يدي سقط الرأس مكانه ثقيلًا، كما تسقط قطعة اللحم وبداخلها عظام.
وتهدج صوت ويل، وسال الدمع على خديه، وأخذ يرتعد من النشيج كأنه طفل في الرابعة من عمره يبكي كلبه ويُجابه حقيقة الموت المزعجة التي لا يستطيع إدراكها. ثم في لمح البصر تغيَّر ما يجري في وعيه كالعربة تدير مفتاحها فتغيِّر من سرعتها، وعاد رجلًا رشيدًا، ولم يعُد يسبح في الخيال.
ومسح عينيه وتمخَّط من أنفه وقال: أنا آسف، ولكن هذا كان أول عهدي بالفزع الأكبر؛ كان تايجر صديقي، وكان عزائي الوحيد، ومن الواضح أن ما حدث كان شيئًا فوق طاقة الفزع الأكبر. وحدث مثل ذلك مع عمتي ماري؛ الشخص الوحيد الذي أحببته فعلًا وأُعجبت به ووثقت فيه، ثم أصابها الفزع الأكبر!
قالت سوزيلا: زدني علمًا بما حدث.
سألته: ولماذا شبهت نفسها بالأمازون؟
– لأن الأمازونيات كن يبترن أثداءهن اليمنى؛ كن محاربات والثدي يقف عقبة في الطريق وهن يُطلِقن السهام بالقسيِّ الطويلة. وكرر عبارته: «الآن أنا من الأمازون.» واستطاع بمخيلته أن يرى البسمة على وجهها الذي يشبه وجه النسر، وأن يسمع بذاكرة الأذن نغمة السرور في صوتها الواضح الرنان. واستطرد قائلًا: وكان لا بُدَّ بعد بضعة أشهر من بتر الثدي الآخر. وكانت بعد ذلك الأشعة السينية والمرض ثم الانهيار شيئًا فشيئًا. وارتسمت على وجه ويل الضراوة والقسوة، واستطرد قائلًا: لولا أن حالتها كانت شنيعة فوق الوصف، لقلت إن الأمر مدعاة حقًّا للضحك. إنها صورة رائعة لسخرية القدر! هنا روح يشع منه الخير والحب والمحبة النادرة، ثم — ولسبب غير معروف — يحدث شيء من الخلل. وبدلًا من أن يستهين الجسم بهذا الخلل، نرى أن جزءًا منه يخضع للقانون الثاني للديناميكا الحرارية. ومع تدهور الجسم يفقد الروح فضيلته، هويته الخاصة. ففارقتها بطولتها، وتبخَّرت منها المحبة وطيبة القلب، ولم تعُد في الشهور الأخيرة من حياتها العمة ماري التي أحبها وأُعجب بها. كانت إنسانًا آخر، إنسانًا لا يكاد يتميز عن أسوأ العجائز وأضعفهم الذين صادقتهم في ماضيها وكانت لهم سندًا قويًّا، «وكانت هذه آخر وأروع لمسة من لمسات القدر الساخر»، لا مناص من إذلالها والحط من قدرها. ولما بلغت أدنى درجات الحِطة، ألقى بها إلى الموت في عزلتها، ببطء وبألم شديد.
وألح في قوله إنها كانت في عزلة، لا يستطيع أحد — بطبيعة الحال — أن يُعِينها، ولا يمكن لإنسان أن يكون إلى جوارها. إن الناس قد يقفون إلى جانبك وأنت تعاني الألم أو تعالج سكرات الموت. ولكنهم في الواقع إلى جوارك في عالم آخر. أما في عالمك فأنت وحيد تمامًا. وحدك في آلامك وفي موتك، كما تكون وحدك في حبك، وحتى في المتعة التي لا تكون أبدًا إلا مشتركة.
روائح بابز وتايجر، ورائحة العمة ماري وهي تموت بعدما أحدث السرطان ثقبًا في الكبد وشاعت في جسمها المهزول رائحة نفاذة عجيبة؛ رائحة الدم الفاسد. ووسط هذه الروائح، التي كان يعيها متقززًا أو كالمخمور. كان هناك شعور منعزل؛ شعور الطفل، والصبي، والرجل، في عزلة دائمة، وحيدًا لا سبيل إلى الخروج من وحدته. ثم قال: وفوق كل شيء آخر، لم تزد هذه المرأة في عمرها عن الثانية والأربعين. ولم ترد أن تموت، ورفضت أن تقبل ما كانوا يفعلون بها. ولكن الفزع الأكبر كان لا بُدَّ أن يشدَّها بقوته إلى أسفل. وكنت هناك، وشهدت ما حدث.
– ومن أجل ذلك كنت من الرافضين؟
وردَّ عليها بقوله: وهل يمكن لأي إنسان إلا أن يكون رافضًا؟! الرضا تظاهر، وتفكير إيجابي وحسب. ولكن الحقيقة الأساسية النهائية هي الرفض دائمًا. «لا» للروح، «لا» للحب، «لا» للعقل، «لا» لأي مغزًى ولأي إنجاز!
وضحك ويل كالضبع مرة أخرى: أي منطق صارم، أي إحساس، وأي قواعد خلقية مهذبة!
ولكنك من الرافضين، فلماذا تُثير أي اعتراض؟
– أنت على حق، وما كان ينبغي لي، ولكن الإنسان بطبيعته يعشق الجمال، ويحب أن يرفض بأسلوب جميل. وأشاح بوجهه ليعبِّر عن اشمئزازه وهو يردد قوله: دعنا نأكل ونشرب؛ لأننا في الغد سوف نموت. وكشَّر في نظرته تعبيرًا عن شعوره بالاشمئزاز.
قالت سوزيلا: ومع ذلك فالنصيحة رائعة بمعنى ما. الأكل والشرب والموت، ثلاثة مظاهر أولية للحياة العالمية غير الشخصية. الحيوانات تعيش هذه الحياة العالمية غير الشخصية دون علم بطبيعتها. وعامة الناس يعرفون طبيعتها ولكنهم لا يعيشونها. وإذا هم فكروا فيها جديًّا يرفضون قبولها. أما الشخص المستنير فهو يعلمها، ويعيشها، ويقبلها قبولًا كاملًا. إنه يأكل ويشرب وإذا جاء أجله يموت؛ ولكنه يأكل وهو مكترث، ويشرب وهو مكترث، ويموت وهو مكترث.
وسأل متهكمًا: ويُبعث مرة أخرى مع الموتى؟
– هذا سؤال كان بوذا يرفض أن يناقشه. إن الاعتقاد في حياة أبدية لم يساعد إنسانًا قط على العيش في الأبدية. وبطبيعة الحال لم يساعده على ذلك عدم الاعتقاد؛ لذلك يجب أن تتوقف بتاتًا عن الإدلاء بالحجج التي تؤيِّد أو الحجج التي تدحض (هذه هي نصيحة بوذا) وامضِ في عملك.
– أي عمل؟
– عمل كل إنسان؛ الاستنارة، ومعناها: الآن، وفي هذا المكان، المهمة الأولى لممارسة كل أنواع اليوجا التي تزيد من وعيك.
قال ويل: ولكني لا أريد المزيد من الوعي، بل أريد أن أكون أقل وعيًا. أقل وعيًا بالأهوال كموت عمتي ماري، والأحياء الشعبية في راندنج لوبو. أقل وعيًا بالمناظر المؤذية والروائح الكريهة؛ بل والروائح المستساغة أحيانًا. وقد أضاف ذلك عندما تذكَّر رائحة الكلب وسرطان الكبد ونفحة الطيب التي كانت تهبُّ عليه من الركن القرنفلي. أقل وعيًا بدخلي الكبير مع فقر الآخرين فقرًا يُنزلهم عن المكانة الإنسانية أقل وعيًا بصحتي الممتازة في خضم الملاريا والدوسنتاريا، وأقل وعيًا بمتعتي الجنسية المحصَّنة من الأمراض وسط خضمٍّ من الأطفال الذين يموتون جوعًا، «اللهم سامحهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون». إنها نعمة. ولكني لسوء الحظ أعلم ما أفعل. ولكني أعلمه أكثر مما ينبغي. ثم تطلبين إليَّ بعد ذلك أن أكون أكثر وعيًا مما أنا عليه؟
قالت: أنا لا أطلب إليك شيئًا، إنما أنا أنقل إليك فقط نصيحة توارثها حكيم عن حكيم بدءًا من جوتاما وانتهاءً براجا العجوز. وابدأ بأن تكون على وعي تام بما تظن من تكون؛ إن ذلك يُعينك على أن تصبح على وعي بمن أنت في الواقع.
– هذا بعينه هو النصف الأول من رسالة بوذا؛ الزوال. ليست هناك روح باقية، وحزن لا مناص منه. ولكن بوذا لم يقف عند هذا الحد، ولرسالته نصف آخر. هذا التباطؤ المؤقت في الإنتروبيا هو كذلك حقيقة من الحقائق المثالية الصافية، وعدم وجود الروح الباقية هو كذلك الطبيعة البوذية.
– عدم وجود الروح؛ هذا أمر من اليسير مجابهته. ولكن ماذا عن وجود السرطان، ووجود الانهيار البطيء؟ وماذا عن الجوع وكثرة النسل والكولونيل ديبا؟ هل هؤلاء كذلك من المثالية البحتة؟
– طبعًا. ولكني لست في حاجة إلى أن أقول إنه يستحيل إطلاقًا على أولئك المنغمسين إلى الأذقان في أيٍّ من هذه الشرور أن يكشفوا عن طبيعة بوذا في نفوسهم. إن الصحة العامة والإصلاح الاجتماعي شرطان مسبقان لا غنى عنهما لأي نوع من أنواع الاستنارة العامة.
– ولكن على الرغم من الصحة العامة والإصلاح الاجتماعي فإن الناس يموتون. وأضاف ساخرًا: حتى في بالا.
وسمع وقع أقدام على خشب الفراندة، وصوت طفلة ينادي: أماه!
وردت سوزيلا: أنا هنا يا عزيزتي.
وانفتح الباب الخارجي على مصراعيه ودخلت الغرفة ماري ساروجوني على عجل.
وقالت بأنفاس متقطعة: أمي. إنهم يريدونك أن تحضري فورًا. إن جدتي لاكشمي … ووقع بصرها لأول مرة على إنسان في الأرجوحة الشبكية، فذُعرت وكفَّت عن الكلام، ثم قالت: لم أكن أعلم أنك هنا.
ولوَّح لها ويل بيده دون أن يتكلم، وردت عليه بابتسامة آلية، وعادت تقول لأمها: ساءت حال جدتي لاكشمي فجأة، ولا يزال جدي روبرت في محطة المرتفع العالي، ولم يمكن الاتصال به تليفونيًّا.
– هل أتيت عدْوًا طوال الطريق؟
– إلا في الأماكن شديدة الانحدار.
وطوقت سوزيلا الطفلة وقبَّلتها، ثم نهضت على قدميها في خفة وكأنها تتأهب لعمل ما.
وقالت: إنها أم ديوجولد.
قال: هل هي …؟
وصوَّب نظره نحو ماري ساروجيني، ثم عاد فنظر إلى سوزيلا. هل الموت من المحظورات؟ وهل يجوز للمرء أن يتحدث عنه في حضرة الأطفال؟
– تريد أن تقول هل هي تموت؟
أومأ برأسه إيجابًا.
قالت سوزيلا: كنا نتوقع موتها طبعًا، ولكن ليس اليوم؛ فقد بدت اليوم أحسن حالًا ثم هزت رأسها وقالت: لا بُدَّ أن أذهب وأكون إلى جوارها حتى إن كانت في عالم آخر. ثم أضافت قولها: الواقع أنه ليس عالمًا آخر تمامًا كما تظن، أنا آسفة لأننا نترك عملنا ناقصًا. ولكن سوف تكون هناك فرص أخرى. والآن ماذا تريد أن تفعل؟ تستطيع أن تبقى هنا، وأستطيع أن أنزلك عند الدكتور روبرت، وتستطيع أن ترافقني وماري ساروجيني.
– كمحترف لمشاهدة الإعدام.
وأجابت مؤكِّدة: لا، ليس بهذه الصفة، بل كإنسان، بحاجة إلى أن يعرف كيف يعيش ثم كيف يموت. بحاجة ماسة إلى ذلك، كشأننا جميعًا.
قال: بل بحاجة إلى ذلك أكثر من أغلب الناس. ولكن ربما كنت عائقًا.
– إذا كنت تستطيع ألا تعوق نفسك فلن تكون عائقًا لغيرك.
وتناولت يده وساعدته على النزول من الأرجوحة. وبعد دقيقتين كانا يسيران بالعربة بعد بركة اللوتس، وتمثال بوذا الضخم وهو يتأمل تحت رأس الأفعى، والعجل الأبيض، وولجا البوابة الرئيسية للمجمع، وقد انتهى سقوط المطر، وفي سماء خضراء ومضت السحب الضخمة كأنها ملائكة السماء، وناحية الغرب كانت الشمس متوهجة كأنها من الخوارق.
غروب الشمس والموت، الموت ومن أجله كانت القبلات، القبلات والميلاد ثم الموت لجيل آخر ممن يشاهدون غروب الشمس.
سأل ويل: ماذا تقولون لمن يأتيه الموت عندكم؟ هل تقولون لهم ألا يزعجوا أنفسهم بالخلود، وأن يواصلوا المسير؟
– إذا أردت أن تضع السؤال في هذه الصيغة أقول لك نعم هذا بعينه هو ما نفعل. نستمر في حالة الوعي؛ هذا هو فن الموت كله.
– وأنتم تعلمون هذا الفن؟
– أريد أن أضع الحقيقة في صيغة أخرى. إننا نعاونهم على الاستمرار في ممارسة فن العيش حتى وهم يموتون. أن يعرف المرء من هو في الحقيقة، وأن يستشعر الحياة العامة غير الشخصية التي تعيش في كيان كل منا؛ هذا هو فن العيش، وهذا ما نستطيع أن نُعِين من يموتون منا على الاستمرار في ممارسته، حتى النهاية، وربما بعد النهاية.
سألها: بعد النهاية؟ ولكنك قلت إن هذا شيء تفترضون أن من يجيئه الموت منكم لا يفكر فيه.
– إننا لا نسألهم أن يفكروا فيه، إنما نحن نعاونهم — إذا كان هناك شيء من هذا — على أن يمارسوه. إذا كان هناك شيء من هذا (كررت العبارة) وإذا كانت الحياة العامة مستمرة بعدما تنتهي الحياة الخاصة بالفرد.
– وهل أنت شخصيًّا تعتقدين أنها مستمرة؟
ابتسمت سوزيلا وقالت: إن ما أراه أنا شخصيًّا ليس في صميم الموضوع. وكل ما يهم هو ما يمكن أن أمارسه لا شخصيًّا؛ وأنا على قيد الحياة، وأنا أموت، وربما وأنا من الأموات.
وسارت بالعربة حتى مكان أوقفتها فيه وأوقفت محركها ودخلا القرية على الأقدام. وكان عمل اليوم قد انتهى، واشتد الزحام في الشارع الرئيسي حتى تعذَّر عليها المسير.
وأعلنت سوزيلا أنها سوف تواصل المسير وحدها، ثم التفتت إلى ماري ساروجيني وقالت لها: كوني بالمستشفى بعد ساعة، لا قبل ذلك. وخلَفتهما لتشق طريقها بين جماعات المشاة، وسرعان ما اختفت عن الأنظار.
قال ويل وهو يبتسم للطفلة التي كانت تجاوره: أنت الآن مسئولة.
فأومأت برأسها جادة وأمسكت بيده وقالت: هيا بنا إلى الميدان لنشاهد ما يجري فيه.
وسألها ويل وقد شرعا في المسير في الشارع المزدحم: ما عمر جدتك لاكشمي؟
أجابت ماري ساروجيني: إنني في الواقع لا أدري. ولكنها تبدو مسنة جدًّا. وربما كان ذلك لأنها مصابة بالسرطان.
سألها: هل تعرفين ما هو السرطان؟
وكانت ماري ساروجيني على علم تام به، قالت: إنه ما يحدث عندما ينسى جزء منك كل ما يتعلق ببقية الأجزاء، ويسلك مسلك المجانين، ينتشر وينتشر كأن العالم ليس به أحد غيره. وتستطيع أحيانًا أن تعالج الأمر، ولكنه في العادة يواصل الانتشار حتى يموت المصاب.
– وهذا ما حدث — كما فهمت — لجدتك لاكشمي.
– وهي الآن بحاجة إلى شخص يساعدها على الموت.
– وهل أمك كثيرًا ما تعاون الناس على الموت؟
أومأت برأسها وقالت: نعم، إنها تتقن ذلك كل الإتقان.
– هل شهدت في حياتك أحدًا يموت؟
أجابت ماري ساروجيني، وقد بدت عليها الدهشة لأن يوجه إليها مثل هذا السؤال وقالت: طبعًا. وأخذت تحسب في عقلها وقالت: شهدت خمسة أشخاص وهم يموتون، أو ستة إذا عددنا الأطفال.
– أنا لم أرَ أحدًا قط يموت وأنا في مثل سنك.
– عجبًا!
– شهدت كلبًا فقط.
– موت الكلاب أسهل من موت الناس؛ لأن الكلاب لا يتحدثون عن الموت قبل وقوعه.
– وما هو إحساسك نحو … نحو من يموت من الناس؟
– الموت أسهل من ميلاد الأطفال. الميلاد مريع، أو على الأقل يبدو مريعًا. ولكنك يجب أن تذكر أن الميلاد لا يؤذي أبدًا؛ فلقد استبعدوا هنا الألم.
قال ويل: صدَّقت أو لا تصدِّقين، أنا لم أرَ قط في حياتي طفلًا يولد.
ودهشت لذلك ماري ساروجيني وقالت: أبدًا؟ حتى حينما كنت في المدرسة؟
وتخيَّل ويل ناظر مدرسته وهو بملابسه الرسمية الكاملة يقوم على تربية ثلاثمائة صبي في ثياب سوداء ويقودهم في رحلة إلى الراقدين بالمستشفى، وقال بصوت مرتفع: حتى حينما كنت في المدرسة.
– لم ترَ أحدًا يموت، ولم ترَ طفلًا يولد، كيف عرفت الحقائق؟
قال: في المدرسة التي كنت أذهب إليها لم نعرف الحقائق، وكل ما عرفناه هو الألفاظ.
نظرت إليه الطفلة، وهزت رأسها، ثم رفعت يدًا صغيرة سمراء وضربت جبهتها ضربة لها دلالتها، وقالت: هذا جنون، أم هل كان معلِّموك أغبياء؟
ضحك ويل وقال: كانوا مربِّين أصحاب العقول الجبارة يؤمنون بأن العقل السليم في الجسم السليم ويتمسكون بتقاليدنا الغربية السامية. والآن خبِّريني، ألم تخافي أبدًا؟
– من منظر النساء وهن يلدن؟
– لا، من منظر الناس وهم يموتون، ألم يروِّعك هذا؟
– وبعد لحظة من الصمت قالت: نعم روَّعني.
– وماذا صنعت؟
– صنعت ما علَّموني أن أصنع؛ حاولت أن أتبيَّن أي جانب مني خاف ولماذا خاف.
– وأي جانب وجدت؟
أشارت ماري ساروجيني بسبَّابتها إلى فمها المفتوح وقالت: هذا. هذا الذي يقوم بالكلام. كان فيجايا يسميه «المتحدث الصغير». إنه يتكلم دائمًا عن كل شيء كريه أذكره، وكل شيء ضخم عجيب مستحيل أتصوَّر أني أستطيع أداءه. إنه هو الذي يخاف.
– لماذا يخاف؟
– في ظني أنه يخاف لأنه لا يكفَّ عن الحديث عن كل الأمور المفزعة التي قد تحدث لصاحبه. يتحدث أحيانًا جهرًا وأحيانًا سرًّا. ولكنَّ هناك بين جنبيَّ جانبًا آخر لا يخاف قط.
– وما هو؟
ذلك الجانب الذي لا يتكلم؛ إنه يكتفي بأن ينظر ويُصغي ويحس ما يجري في باطني. وأضافت ماري ساروجيني إلى ذلك قولها: وهو أحيانًا يرى بغتة أن كل شيء جميل حقًّا. لا، لقد أخطأت، إنه يرى الجمال في كل حين. ولكني لا أستطيع ذلك؛ اللهم إلا إذا نبَّهني وذلك عندما يحدث فجأة. كل شيء جميل، جميل، جميل، حتى قذارة الكلاب وأشارت إلى عينة منها عند أقدامهما تقريبًا.
ومرقا من الشارع الضيق إلى السوق. وكانت الخيوط الأخيرة من الشمس الغاربة لا تزال تسقط على برج المعبد المخروط، وعلى تلك الأبراج الصغيرة القرنفلية المقامة على سطح صالة البلدية. أما في السوق فقد كانت هناك بوادر الشفق، كما أسدل الليل ستاره فعلًا تحت شجرة التين الضخمة. وقد أشعلت النسوة البائعات فوق الأكشاك المصابيح التي تدلت في حبال عُقدت على غصون الأشجار. وظهرت تحت ظلال الأشجار بقع لها شكلها ولونها، ومن فراغٍ تكاد لا تراه العين برز أشخاص سُمر البشرة إلى الضوء لحظة ثم اختفوا ثانيةً في الفراغ المجهول. وفي المساحات التي تقع بين الأبنية المرتفعة رنَّت أصوات حديث بالإنجليزية المختلطة بلغة أهل بالا، كما ترددت الضحكات، والصيحات ونغمات الغناء ونباح الكلاب وصياح الببغاوات. وفوق أحد الأبراج القرنفلية الصغيرة قبعت مَيْنتان تصيحان بغير كلل نداء الانتباه والرأفة. ومن مطبخٍ في العراء وسط الميدان هبَّت نكهة طعام شهي يُطهى فوق النار، نكهة البصل والفلفل، والسمك المقلي، والكعك، والأرز المغلي، ومن خلال هذه الروائح القوية الطيبة هبَّت رائحة زكية حلوة صافية كالأثير، هي رائحة أكاليل الزهر ذات الألوان المتعددة معروضة للبيع بجوار نافورة مياه، وتذكِّر المرء بالعالم الآخر.
احلَولَكَ الظلام وفجأة أُشعلت المصابيح التي تدلَّت من أقواسٍ عليا فوق الرءوس، وتلألأت عقود النسوة وخواتمهن وأسوارهن براقة لامعة على بشرتهن المتوردة النحاسية الزيتية. وفي ضوء المصابيح المتدلية بدت خطوط أجسادهن وأشكالهن أكثر سحرًا وأظهر صورةً وأقوى وجودًا. وفي محاجر العيون وتحت الأنوف والأذقان اشتد عمق الظلال، وبرزت النهود الصغيرة وقد شكَّلها الضوء والظلام، وظهرت الخطوط والتجاعيد واضحة في أوجه العجائز.
وسارا بيدين متشابكتين وسط الزحام.
وحيَّت ماري ساروجيني امرأةً نَصَفًا، ثم اتجهت نحو ويل وسألته: هل أنت ذلك الرجل الذي وفد من الخارج؟
وأكد لها أنه من الخارج من كل جانب من جوانبه تقريبًا.
وحدقت فيه لحظة في صمت، ثم ابتسمت له مشجعة وربَّتت على خده.
قالت: كلنا في غاية الأسف لك.
وانطلقا، حتى بلغا حاشية مجموعة من الناس تجمعت عند سفح درجات المعبد لتستمع إلى شاب يعزف على آلة موسيقية طويلة الرقبة تشبه العود ويغني بلغة بالا. وكان يعزف نغمًا متلاحقًا مرة، متقطعًا كزقزقة الطير مرة أخرى، وينتهي بنغمة عالية قوية بهيجة في أعقابها صيحة. وتضحك الجماهير، ويتلو ذلك بعض الفواصل الموسيقية وبيت أو بيتان من النشيد، ثم يضرب المغنِّي ضربته الأخيرة على الوتر. وردد الحاضرون صياح الاستحسان وعلت ضحكاتهم وأخذت جماعة منهم تعلِّق على ما سمعت بعبارات غير مفهومة.
سأل ويل: ماذا يعني كل هذا؟
أجابت ماري ساروجيني: إنه نشيد للبنين والبنات وهم يتزاوجون.
وأحس بريبة المذنب. ولما تطلَّع إلى وجه الفتاة المطمئن أدرك أنه لم يكن ثمت داعٍ لقلقه؛ إذ كان من الواضح أنَّ تزاوُج البنين والبنات أمرٌ مسلَّم به تمامًا كالذهاب إلى المدرسة أو تناول ثلاث وجبات كل يوم، أو الموت.
واستمرت ماري ساروجيني في حديثها قائلة: إن ما أضحكهم هو قوله: إن بوذا المستقبل لن يغادر منزله ليجلس تحت شجرة بوذا، فسوف تأتيه الاستنارة وهو في فراشه مع الأميرة.
سألها ويل: وهل تظنين هذه فكرة حسنة؟
أومأت برأسها مؤكِّدة وقالت: ومعنى ذلك أن الأميرة سوف تستنير كذلك.
قال ويل: أصبت كبد الحقيقة، وإني باعتباري رجلًا لم أفكر في الأميرة.
وضرب العازف على أوتار العود ضربات متلاحقة عجيبة، أتبعها بنغمات متماوجة وشرع يغني بالإنجليزية هذه المرة، وأنشد:
وانفتح باب المعبد على مصراعيه. وهبَّت رائحة البخور ممتزجة بروائح البصل والسمك المقلي من حولهم. وبرزت امرأة عجوز وفي حذر شديد أحنت ظهرها المهتز وهي ترقى درجة بعد درجة.
وسألته ماري ساروجيني وهما يتأهبان للمسير: من هو بولس، ومن هو فرويد؟
وقص لها قصة الخطيئة الأولى وقصة الخلاص. وأصغت إليه الفتاة باهتمامٍ مركَّز.
وعلقت بقولها: إنني لا أدهش لما جاء في الأغنية، بألا نأخذهما مأخذ الجد.
قال ويل: ونأتي بعد ذلك إلى الدكتور فرويد ونظرية مركَّب أوديب.
قال: لطيف؟ لطيف؟ كيف تقولين عنه ذلك. وقد تبيَّن أن المرأة العجوز هي أمه وقد شنقت نفسها، وفقأ أوديب عينيه؟
قالت ماري ساروجيني: ولكنه لم يفقأ عينيه.
– بل لقد فعل في البلد الذي وفدت منه.
– ليس هنا. إنه يقول فقط أنه سوف يفقأ عينه، وهي تقول إنها تحاول فقط أن تشنق نفسها. وقد تم إنقاذهما بالحديث مع كل منهما.
– من فعل ذلك؟
– فتًى وفتاة من بالا.
سأل ويل: كيف تدخَّلا في الأمر؟
– لست أدري، ولكنهما هناك. نحن نسمي المسرحية هنا «أوديب في بالا»؛ ولذلك كان وجودهما لا بُدَّ منه.
– تقولين أنهما تحدَّثا إلى جوكاستا وأنقذاها من الانتحار، وإلى أوديب وأنقذاه من أن يُعمي نفسه؟
نعم، وفي الوقت المناسب. وكان ذلك عندما لفَّت الحبل حول رقبتها. وعندما أمسك بدبوسين ضخمين. ولكن الفتى والفتاة من بالا قالا لهما ألَّا يتصرفا تصرفًا أحمق، والأمر كله لم يكن سوى مصادفة، فهو لم يعرف أن الرجل العجوز أبوه. ومع ذلك فإن الرجل العجوز هو الذي بدأ بالعدوان وضربه على رأسه فأفقد أوديب صوابه، ولم يكن أحد قد علَّمه رقصة راكشاسي على المزمار. ولما نصَّبوه ملكًا تزوج الملكة العجوز؛ وهي في الحقيقة أمه. ولكن كليهما لم يكن على علم بذلك. وبطبيعة الحال كل ما كان ينبغي لهما عمله عندما عرفا الحقيقة أن يتخليا عن الزواج. وقصة زواجه بأمه كانت سببًا في أن يموت كل إنسان بفيروس؛ كل هذا هراء، اخترعه قوم أغبياء كان علمهم محدودًا.
– ولقد ظن الدكتور فرويد أن كل الأولاد الصغار يريدون فعلًا أن يتزوجوا من أمهاتهم ويقتلوا آباءهم. والأمر على عكس ذلك مع البنات؛ إنهن يُرِدن أن يتزوجن من آبائهن.
سألت ماري ساروجيني: أي الآباء وأي الأبناء، عندنا الكثير منهم.
– تقصدين في نادي التبني المتبادل؟
– في نادينا اثنان وعشرون منهم.
– الأمان في كثرة العدد؟
– ولكن أوديب المسكين لم ينتمِ إلى نادٍ من هذه النوادي. ثم إنهم — فوق ذلك — علَّموه تلك الحكايات المريعة التي تروي غضب الآلهة على الناس كلما ارتكبوا خطأ من الأخطاء.
وشقَّا طريقهما في الزحام حتى بلغا ساحة سورت بالحبال بها مائة أو يزيدون من المشاهدين الذين استووا على مقاعدهم. وفي أقصى الساحة لمحا مقدمة خشبية زاهية اللون في حمرة ذهبية تتألق في ضوء مصابيح قوية سُلِّطت عليها، هي مقدمة مسرح العرائس. وأخرج ويل حفنة من قطع النقود الصغيرة كان قد أعطاها إياه الدكتور روبرت ودفع ثمن تذكرتين، ودخلا ثم جلسا فوق مقعد أُعِد لشخصين.
دق الناقوس وارتفع ستار المسرح الصغير في غير جلبة، ووقعت عيونهما على أعمدة بيضاء قائمة على أرض خضراء، تشكِّل واجهة قصر طيبة الملكي، وظهر تمثال لإله من آلهة اليونان له شعر كثٌّ في خديه جالسًا وسط سحابة تعلو المثلث الذي أقيم في أعلى واجهة المبنى. ومن اليمين دخل قسيس شبيه بالإله تمامًا إلا أنه أصغر حجمًا وأقل فخارًا في ردائه، وانحنى للمشاهدين ثم اتجه صوب القصر وصاح بصوت كصوت المزمار لا يتفق بتاتًا مع اللحية المهيبة للقسيس بصورة مضحكة، صاح قائلًا: «أوديب!» ودقت الطبول إيذانًا بانفتاح الباب للملك القادم متوجًا ينتعل حذاء يبلغ منتصف الساق كان يلبسه ممثلو التراجيديا اليونانية، وحيَّاه القسيس بانحناءة الاحترام، ثم سمح الملك الدمية له بالكلام.
قال صاحب الصوت المزماري: استمع إلى مآسينا.
أطرق الملك برأسه وأصغى.
قال: إني أسمع أنَّات الرجال على فراش الموت، وأسمع عويل الأرامل، ونحيب من فقدوا أمهاتهم، وتمتمة دعاء وتضرع.
قال الإله المتلفع بالسحاب: تضرع! حياكم الله، وربَّت على صدره.
قالت ماري ساروجيني هامسة: أصابهم فيروس، كالحمى الآسيوية، بل وأسوأ منها.
قال القسيس متبرمًا بصوته الرفيع: إننا لا نكف عن الابتهال، ونقدم الضحايا الثمينة، كلنا أطهار، نكفِّر عن خطايانا بتعذيب أنفسنا أيام الاثنين والأربعاء والجمعة. ولكن طوفان الموت يزداد انتشارًا ويزداد عدد الموتى يومًا بعد يوم، أعِنَّا أيها الملك أوديب، أعِنَّا.
– الله وحده يُعِين.
صاح الإله المعتلي: حياك الله، حياك الله.
– ولكن كيف؟
– الله وحده يملك القول.
قال الإله بصوته العميق: صحيح، صحيح تمامًا.
– لقد ذهب كريون شقيق زوجتي إلى العرافة يستشيرها. وعندما يعود — ولا بد أن يعود على عجل — سوف نعرف ما تنصح به السماء.
وصححه صاحب الصوت العميق قائلًا: بل ما تأمر به السماء.
ضحك المشاهدون وسألت ماري ساروجيني: هل كان الناس حقًّا بكل هذه الحماقة؟
قال لها ويل مؤكِّدًا: حقًّا وصدقًا.
وبدأ الفونوغراف يعزف نشيد الموتى.
ومن اليسار إلى اليمين سار على خشبة المسرح في بطء شديد موكب الثاكلين في ثياب الحداد يحملون النعوش المكسوة بالملاءات، دمية بعد دمية. وما إن اختفت المجموعة جهة اليمين حتى عادت ثانيةً من اليسار، وكأن الموكب بغير نهاية وجثث الموتى بغير حصر.
قال أوديب وهو يشهد مرور الموكب: هذا ميت، وهذا ميت، آخر، وآخر، وآخر.
قال صاحب الصوت العميق: هذا درس لهم. كل إنسان يتحول إلى شيء تافه!
واستمر أوديب في كلامه فقال:
وبينما كان يتحدث دخلت من ناحية اليمين دميتان أخريان، فتًى وفتاة، في أبهى حلة بالية، واتجها إلى الناحية الأخرى نحو الثاكلين في ثوب الحداد، ووقفا بذراعين متشابكتين على خشبة المسرح على يسار الوسط بقليل.
وما إن انتهى أوديب من كلامه حتى قال الفتى:
ومن الفضاء الأعلى دمدم صاحب الصوت العميق سائلًا: وماذا عني؟ الظاهر أنكم نسيتم أنني من العالم الآخر الكامل.
وواصل الموكب الحزين الذي لا يكاد ينتهي مسيره نحو المقابر. والآن سكت المترنمون بنشيد الموت، وخفت الموسيقى فلم تُسمع إلا نغمة واحدة من البوق والطبل، واستمرت إلى ما لا نهاية، ورفع الفتى يده وقال: أنصتوا! هذا اللحن الرتيب، هذه النغمة الموسيقية المتكررة. وأخذ الثاكلون يردِّدون سويًّا على آلات غير منظورة.
– الموت، الموت، الموت، الموت …
قال الفتى: ولكن الحياة تعرف أكثر من نغمة واحدة.
وقاطعته الفتاة بقولها: الحياة تستطيع أن تُغنَّى بصوت عالٍ وصوت منخفض.
– وهذا النغم الرتيب الذي لا ينتهي، نغم الموت، يجعل الموسيقى أكثر غنًى.
قالت الفتاة: نعم أكثر غنًى.
وشرع الصادح والثلاثي يتغنَّون غناءً شجيًّا.
وأخذ اللحن الرتيب والغناء يخفتان تدريجًا حتى انتهيا إلى الصمت، واختفى آخِر الثاكلين وأوى الفتى والفتاة إلى ركنٍ قصي يستطيعان فيه أن يتبادلا القبلات، دون أن يزعجهما أحد.
– يسأل أوديب ماذا قالت الآلهة، ويرد الآخر إن ما قالته الآلهة هو أن كل ما حدث يرجع إلى أن رجلًا ما قتل الملك العجوز، الملك الذي سبق أوديب، ولم يستطع أحد أن يُلقي القبض عليه، وهو ما يزال حيًّا في طيبة، وهذا الفيروس الذي يفتك بالناس جميعًا أرسلته الآلهة نوعًا من أنواع العقوبة؛ هذا ما روى كريون عما قيل له. ولست أدري لماذا يجازى كل هؤلاء الناس الذين لم يعتدوا على أي أحد. ولكن هذا ما قال إن الآلهة قد أفضت به إليه، ولن يختفي الفيروس حتى يقبضوا على الرجل الذي قتل الملك العجوز ويطردوه من طيبة. ويقول أوديب — طبعًا — إنه سوف يقوم بكل شيء بمستطاعه ليعثر على الرجل ويتخلص منه.
وشرع الفتى يُلقي خطابًا من الركن الذي أوى إليه — وكان الخطاب هذه المرة بالإنجليزية:
وضحك المشاهدون. وفي أثناء ذلك ظهرت مجموعة أخرى من الثاكلين من الجانبين وعبَرت المسرح في بطء شديد.
قالت الفتاة: كارونا، الرأفة. إن معاناة الأغبياء واقعية كأية معاناة اخرى.
وأحس ويل بلمسة على ذراعه، وتلفَّت وإذا به ينظر إلى الوجه العابس الجميل، وجه موروجان.
قال موروجان غاضبًا: كنت أبحث عنك في كل مكان. وكأن ويل قد أخفى نفسه عمدًا لا لشيء إلا لكي يُغضبه. ورفع صوته في الكلام فالتفتت إليه رءوس كثيرة، ونادى بعضهم يطلب الصمت.
واستمر الصبي في تذمُّره بغضِّ النظر عن صياح الاحتجاج وقال: لم أجدك عند الدكتور روبرت، ولم أجدك عند سوزيلا.
– الصمت، الصمت …
وصاح صاحب الصوت العميق صيحة عالية من بين السحب التي كانت تحيط به وقال: الصمت! وأضاف متضجرًا: إن الأمور تتأزم وإلهكم لا يستطيع أن يسمع حديث نفسه.
قال ويل وقد اشترك بضحكه مع الضاحكين: حسنًا، حسنًا. ونهض قائمًا وهرع إلى باب الخروج يتبعه موروجان وماري ساروجيني.
سألته ماري ساروجيني: ألا ترى النهاية؟ ثم التفتت إلى موروجان وقالت في نغمة التأنيب: كنت تستطيع أن تبقى.
قال موروجان في اقتضاب: كوني في حالك.
ووضع ويل إحدى يديه على كتف الطفلة وقال: لحسن الحظ إن روايتك للنهاية كانت من الوضوح بحيث لم أُرِد أن أشهدها بعينَي رأسي. ثم أضاف متهكمًا: وبالطبع صاحب السمو يحب دائمًا أن يكون في المحل الأول.
واستلَّ موروجان ظرف خطاب من جيب البيجاما الحريرية البيضاء التي كانت تخطف عين الممرضة الصغيرة وسلَّمها لويل قائلًا: هذه الرسالة من أمي، وهي عاجلة.
وعلقت ماري ساروجيني وهي تشم عبير خشب الصندل الحلو الذي كان يفوح من رسالة الراني، وقالت: ما أحلى رائحتها!
لقد كان صوتي الضعيف يا عزيزي فارنبي على حق؛ كعادته! قيل لي مرارًا وتكرارًا عن الدور الذي قدر لصديقنا المشترك أن يؤديه لبالا الصغيرة المسكينة «وعن طريق المعونة المالية التي سوف تسمح له بالا بالإسهام بها للحملة الصليبية الروحية» للعالم أجمع؛ ولذلك لم تكن مفاجأة لي عندما قرأت البرقية «التي وصلت منذ بضع دقائق عن طريق باهو المخلص وزميله في السلك السياسي في لندن» أن أعلم أن اللورد «أ» قد أعطاك السلطة الكاملة «والتي تخول لك من غير شك» في أن تتفاوض نيابة عنه؛ نيابة عنا؛ لأن مصلحته هي مصلحتك ومصلحتنا «لأننا جميعًا صليبيون كل بطريقته الخاصة» ومصلحة الروح!
وليس وصول برقية اللورد «أ» هو النبأ الوحيد الذي أُنهيه إليك؛ فالحوادث (كما علمنا اليوم مساء من باهو) تسير على عجل نحو نقطة التحول الكبرى في تاريخ بالا؛ تسير على عجل أكثر مما ظننت من قبلُ أن يكون في حدود الإمكان. ولأسباب بعضها سياسي: «الحاجة إلى تعويض الانهيار الذي أصاب حديثًا شعبية الكولونيل «د»»، وبعضها اقتصادي: «أعباء الدفاع أثقل من أن تتحملها راندنج وحدها»، وبعضها فلكي: «يقول الخبراء إن هذه الأيام مواتية بصورة فذة لمغامرة مشتركة يسهم فيه الحمل «أنا وموروجان» وذلك النموذج للعقرب، الكولونيل «د»»، تقرر التعجيل بالإجراء الذي كان محددًا له أصلًا ليلة خسوف القمر في نوفمبر القادم. ولما كان الأمر كذلك فإنه من الضرورة بمكان لثلاثتنا هنا أن نجتمع بغير إبطاء لكي نقرر ما يجب عمله، في هذه الظروف الجديدة سريعة التغير، لكي ننهض بمصالحنا الخاصة؛ المادية والروحية. إن «الصدفة» المزعومة التي أتت بك إلى شواطئنا في أشد اللحظات حرجًا في هذا الزمن كانت — كما يتبين قطعًا لك — إلهية بصورة واضحة. وبقي علينا أن نتعاون كصليبيين مخلصين مع تلك القوى المقدَّسة التي تُناصر قضيتنا بصورة لا لبس فيها؛ لذلك لا بُدَّ أن تحضر فورًا. وموروجان عنده عربة يحضرك بها إلى بيتنا المتواضع، حيث تلقى بالتأكيد يا عزيزي فارنبي استقبالًا حارًّا جدًّا من المخلصة لك فاطمة ر.
طوى ويل الأوراق الثلاث العطرة الزرقاء التي خطت فيها الرسالة وأعادها إلى الظرف. ولم يرتسم على وجهه أي تعبير، ولكنه كان يُخفي وراء هذا القناع من اللامبالاة غضبًا شديدًا. غضب لهذا الفتى سيئ الخلق الماثل أمامه، فاتنا في بيجامته الحريرية البيضاء، كريهًا في سخفه المدلل، وغضب عندما شم من الخطاب نغمة أخرى لتلك المرأة الهمجية البشعة التي بدأت بإفساد ابنها باسم محبة الأم وطهارة النفس، وهي الآن تحثه باسم الله وباسم جماعة من الأسياد الواصلين لكي يصبح صليبيًّا روحانيًّا يرمي القنابل تحت راية جو ألديهايد التي تفوح برائحة البترول. وغضب — فوق هذا وذاك — من نفسه لأنه تمادى في مشاركته لهذا الزوج السخيف الخبيث في مؤامرة — الله وحده يعلم مقدار دناءتها — ضد الأصول الإنسانية التي لم يمنعه قط رفضه لما يشيع بين الناس من الإيمان بها والتحرق شوقًا إليها.
قال موروجان بنغمة تظاهر فيها بالثقة: هل ننصرف الآن؟ وكان واضحًا أنه يفترض أن من المبادئ المسلَّم بها أن فاطمة ر، حينما تصدر أمرًا كانت الطاعة بالضرورة واجبة بغير تردد.
وضرب العازفون على أوتار القيثار، ونفخ النافخون أنفاسًا طويلة في المزمار.
وقال موروجان مرة أخرى: هل ننصرف الآن؟
ولكن ويل رفع يده ليُسكته. وتحركت إلى وسط المسرح الفتاة الدمية وهي تغني:
نفد صبر موروجان فأمسك بويل من ذراعه وقرصه قرصة قوية، وصاح قائلًا: هل أنت آتٍ؟
والتفت إليه ويل غاضبًا، وجذب ذراعه ليُخلِّصها من قبضة الفتى وقال له: ما هذا الذي تصنع بي، أيها الأحمق الصغير؟
وشعر موروجان بشيء من الخوف فغيَّر من نغمته وقال: أردت أن أعرف هل أنت مستعد للذهاب إلى أمي؟
أجابه ويل: لست مستعدًّا، ولم أذهب.
وصاح موروجان بنغمة تنمُّ عن دهشة بالغة وقال: كيف لا تذهب، وهي بانتظارك، وهي …
– قل لأمك إنني آسف وعندي موعد سابق مع إنسان يحتضر.
– ولكن الأمر غاية في الأهمية.
– وكذلك الموت.
وأخفض موروجان صوته وقال هامسًا: إن شيئًا ما يحدث.
ومن خلال ضجيج الزحام المضطرب صاح ويل: أنا لا أستطيع أن أسمعك.
وتلفَّت موروجان حواليه وجلًا، ثم خاطر برفع صوته قليلًا وقال: إن شيئًا ما يحدث، شيئًا خطيرًا.
وبالمستشفى شيء يحدث أشد خطرًا!
وبدأ موروجان يتكلم وقال: لقد سمعنا لتوِّنا … ثم تلفَّت حواليه مرة أخرى، وهز رأسه، وأكمل العبارة قائلًا: لا، أنا لا أستطيع أن أخبرك بالأمر هنا؛ ولذلك لا بُدَّ لك أن تأتي إلى المنزل، الآن؛ ليس لدينا وقت نضيعه.
ونظر ويل إلى ساعته وردد عبارته: ليس لدينا وقت نضيعه. ثم التفت إلى ماري ساروجيني وقال: لا بُدَّ من الذهاب.
أي الطرق نسلك؟
قالت: سأريك. وانطلقا بأيدٍ متشابكة.
وقال موروجان متوسلًا: مهلًا، مهلًا! ولما توقَّف ويل وماري ساروجيني عن المسير شق طريقه في الزحام ليلحق بهما، وصاح في أعقابهما: ماذا أقول لها؟
وقد كان ما بدا على الصبي من فزعٍ مُذِلًّا له بصورة تدعو إلى الضحك. وتغيرت حال ويل من الغضب إلى التفكه، وضحك ضحكة عالية، ثم توقَّف عن المسير وسأل: ماذا تقولين لها يا ماري ساروجيني؟
قالت الطفلة: أقول لها ما حدث بالضبط؛ أقصد لو كانت أمي. وبعد إعادة التفكير قالت: ولكن الراني ليست أمي، وتطلَّعت إلى موروجان وسألته: هل تنتمي إلى نادٍ من نوادي التبني المتبادل؟
وطبعًا لم يكن موروجان ينتمي إلى أي نادٍ منها. كما كانت فكرة هذه النوادي عند الراني من الكفر؛ لأن الله وحده هو الذي يجعل المرأة أمًّا. وأرادت هذه الصليبية الروحانية أن تكون وحدها مع هذه الفريسة التي أعطاها الله إياها.
هزت ماري ساروجيني رأسها وقالت: ليس لك نادٍ. هذا أمر مريع! لو كان لك نادٍ لذهبت إلى إحدى أمهاتك ومكثت معها بضعة أيام.
وتملَّك الرعب قلب موروجان عندما خطر له أنه سوف يُنهي إلى أمه الوحيدة نبأ فشله في مهمته. وفي حالة هستيرية عاد إلى الموضوع بصيغة أخرى، وظل يردد قوله: لست أدري ماذا تقول.
قال له ويل: هناك وسيلة واحدة تعرف بها ماذا سوف تقول. اذهب إلى بيتك واستمع.
وتوسل إليه موروجان أن يرافقه وشدد قبضته على ذراع ويل.
قال ويل: قلت لك لا تمسَّني. فسحب يده القابضة فورًا، وابتسم ويل مرة أخرى، ورفع عصاه مشيرًا بها للوداع وقال: خيرًا فعلت، طبت مساءً يا صاحب السمو، ثم التفت إلى ماري ساروجيني وقال بروح مرحة: أرني الطريق يا ماك فيل.
وسألته ماري ساروجيني: هل كنت تتصنع أم هل كنت غاضبًا فعلًا؟
وأكد لها أنه فعلًا غضب وصدقًا. ثم تذكَّر ما شهده في جيمنازيوم المدرسة، ودمدم بالنغمات الأولى لأغنية راكشاسي المزمارية، وضرب على الرصيف بعصاه ذات الطرف الحديدي.
قال: هل كان ينبغي لي أن أضرب بقدمي؟
– ربما كان أفضل.
– هل تظنين ذلك؟
– سوف يمقتك بعدما يتخلص من الرعب الذي تملَّكه.
هز ويل كتفيه، مستهينًا إلى أقصى حد، ثم أخذ الماضي يتراجع والمستقبل يقترب وهما يبتعدان عن قوس المصابيح التي كانت تضيء السوق ويصعدان الشارع المظلم شديد الانحدار الذي يتلوى حتى المستشفى، وعندئذٍ بدأت تتغير حالته النفسية. قال لها: أرني الطريق يا ماك فيل؛ ولكن إلى أين يتجه الطريق، ومن أين يتبعد؟ إنه يتجه نحو مظهر آخر من مظاهر الفزع الأكبر ويبتعد عن كل أمل في الاستمتاع بسنة التحرر التي وعده بها جو ألديهايد والتي كان من الميسور (لأن بالا كان محكومًا عليها بالهلاك على أية حال) وليس من الخيانة ولا مما يتنافى مع الأخلاق أن يظفر بها، ولا يبتعد عن الأمل في الحرية فحسب، بل ربما يبتعد كذلك عن أي رجاء في أجر عالٍ يتقاضاه نظير استعباده كمراقب محترف للإعدام. إذا شكَت الراني لجو وإذا سخط عليه جو سخطًا شديدًا، فهل يعود. هل يحاول أن يجد موروجان، ويقدِّم له الاعتذار ويفعل ما تأمره به تلك المرأة المريعة؟ وعلى بُعد مائة ياردة في أعلى الطريق بدت له أضواء المستشفى وهي تتلألأ بين الأشجار.
قال: دعنا نسترح لحظة.
سألته ماري ساروجيني جزعة: هل أنت متعب؟
– قليلًا.
وتلفَّت إلى الوراء واستند على عصاه وألقى على السوق نظرة. وفي ضوء قوس المصابيح تألقت صالة البلدية باللون القرنفلي كأنها جرعة ضخمة من شراب التوت. وفوق قمة برج المعبد رأى مجموعة من التماثيل الهندية في ترتيب فوضوي إلى آخر حد وقد علا بعضها بعضًا فوق الأفاريز؛ أفيال ومجموعة من البوذيساتفا، والعفاريت، وبنات خارقات للطبيعة ذوات نهود بارزة وأرداف ضخمة، ومجموعة من تماثيل شيفا وهي تطفر مرحًا، وصفوفًا من بوذات سبقت وبوذات المستقبل هادئة منتشية. وفي أسفل المساحة التي تقع بين صالة البلدية وهذه التماثيل الميثولوجية، كان جمهور من الناس يتزاحم، وظهر بين الزحام وجهٌ عابس وبيجاما بيضاء من الساتان. فهل يعود؟ ربما كان ذلك هو التصرف الصحيح، الآمن، الحكيم. ولكن صوتًا باطنيًّا، وليس صوتًا ضعيفًا كصوت الراني، ولكنه صوت جهير صاح به: قذارة! قذارة! هل هو الضمير؟ كلا. الأخلاق؟ لا قدَّر الله! إنما قذارة زائدة، وقبح، وانحطاط لا يرضاها نداء الواجب؛ هذه أشياء لا يمكنه كرجل صاحب ذوق أن يُسهم فيها.
قال لماري ساروجيني: هل نواصل السير؟
ودخلا دهليز المستشفى. وكانت لدى الممرضة الجالسة عند المكتب رسالة من سوزيلا إليهما، مؤدَّاها أن تذهب ماري ساروجيني مباشرة إلى منزل السيدة راو حيث تستطيع هي وتوم كريشنا أن يقضيا ليلتهما. أما فارنبي فعليه أن يتوجه فورًا إلى الغرفة رقم ٣٤.
قالت الممرضة: الطريق من هنا وفتحت بابًا متأرجحًا.
وتقدم ويل، وبفعل شرطي منعكس قال تلقائيًّا في أدب جم: شكرًا. وابتسم، ولكنه بشعور المكتئب المستاء في أعماقه أخذ يعرِّج نحو المستقبل المخوف.
قالت الممرضة: الباب الأخير على اليسار، وعادت إلى مكتبها في الدهليز، وقالت والباب ينغلق من خلفه: والآن أتركك لتسير وحدك.
وأخذ يردد لنفسه: وحدي، وحدي. وتطابق المستقبل المخوف مع الماضي الذي يطارده، وتمثَّل له الفزع الأكبر بغير حدود في الزمان والمكان. إن هذا الممر الطويل بجدرانه الخضراء شبيه كل الشبه بالممر الذي سلكه منذ عام ليصل إلى الغرفة الصغيرة التي رقدت فيها مولي تلفظ أنفاسها الأخيرة، وعاوده الحلم المزعج. وبحكم القضاء والقدر، وبوعي منه، تقدَّم نحو قمة الأحلام المزعجة، الموت، صورة أخرى من الموت.
وأخذ يعد دقات قلبه، اثنتان وثلاثون، ثلاث وثلاثون، أربع وثلاثون … وطرق الباب وأخذ يُصغي إلى دقات القلب، وانفتح الباب. وإذا به أمام رادا الصغيرة وجهًا لوجه.
همست قائلة: كانت سوزيلا بانتظارك.
وسار ويل وراءها في الغرفة، وانعطف حول إحدى الستائر فوقعت عينه على صورة جانبية لسوزيلا هي ظلها في ضوء المصباح، وعلى سريرٍ مرتفع، ووجهٍ نحيل أسمر ملقًى على وسادة، وذراعين لا تزيدان عن عظام يكسوها الجلد، وعلى يدين كأنهما مخلبان. الفزع الأكبر مرة أخرى. ارتعد وابتعد. وأشارت رادا إلى مقعد بجوار النافذة المفتوحة فجلس عليه وأغمض عينه؛ أغمضها ماديًّا عن الحاضر ولكنه بذلك فتحهما في دخيلة نفسه على ذلك الماضي البغيض الذي ذكره به الحاضر. رحل بمخيلته إلى تلك الغرفة التي استلقت فيها العمة ماري، أو على الأصح من كانت في وقتٍ ما العمة ماري، أما آنئذٍ فهي شخص آخر لا تكاد تعرفه، شخص آخر كأنه لم يسمع بفعل الخير وبالشجاعة وهما لُبُّ حياة العمة ماري، شخص آخر امتلأت نفسه حقدًا على كل ما اقترب منه بغير تمييز، كارهة لهم أيًّا كانوا لا لشيء إلا لأنهم لم يصابوا بالسرطان؛ لأنهم لا يتألمون، ولم يحكم عليهم بالموت قبل الأوان، ومع هذا الحسد الخبيث لما يتمتع به غيرها من صحة وسعادة كانت تتبرم بمرارة إشفاقًا على نفسها، وتستشعر اليأس القاتل.
لماذا يحدث هذا لي؟ لماذا؟
في مخيلته استطاع ويل أن يسمع هذا الصوت الأجش الشاكي، وأن يرى هذا الوجه الذي تشوَّه وسالت فوقه الدموع. وقد كانت الشخص الوحيد الذي أحبه فعلًا وأُعجب به من كل قلبه. ومع ذلك فقد أحس نحوها بالازدراء وهي تنهار؛ الازدراء بل المقت الشديد.
ولكي يفر من الماضي فتح عينيه، فرأى رادا جالسة على الأرض، تضع ساقًا على ساق، معتدلة، وقد جلست جلسة التأمل، وظهرت سوزيلا مثلها في سكون المتأمل جالسة في كرسيها إلى جوار السرير. ثم نظر إلى الوجه المستلقي على الوسادة، وكان كذلك ساكنًا، في هدوء يكاد أن يكون هدوء الموت البارد. وفي الخارج في ظلمة الخضرة صاح طاووس على حين غرة. وتلت فترة من الصمت اشتد عمقه بالقياس إلى هذا الصياح، الصمت الحافل بالمعاني الملغزة المريعة.
وضعت سوزيلا إحدى يديها على ذراع المرأة العجوز وقالت: لاكشمي، وأعادت النداء بصوت أعلى: لاكشمي، وما عتم الوجه الذي اكتسى بهدوء الموت جامدًا لا يتحرك.
قالت سوزيلا: لا تسترسلي في النوم.
لا تسترسل في النوم؟ ولقد كان النوم — النوم المصطنع الذي أعقب الحقن — بالنسبة للعمة ماري فترة الراحة الوحيدة من تمزق النفس الذي أصابها من إشفاقها على نفسها ومن المخاوف التي ألحَّت عليها.
– لاكشمي!
وعادت الحياة إلى وجهها.
وقالت السيدة العجوز همسًا: لم أكن في الحقيقة نائمة. إنما هو الضعف المميت، وكأني أطفو بعيدًا عن هذا المكان.
قالت سوزيلا: ولكن لا بُدَّ لك أن تكوني هنا، ولا بد لك من أن تعلمي أنك هنا، في كل حين. ودفعت وسادة أخرى تحت كتفَي المرأة العجوز، ومدت يدها إلى زجاجة بها أملاح لها رائحة خاصة كانت موضوعة على النضد الصغير المجاور للسرير.
واستنشقت لاكشمي، وفتحت عينيها وحدقت في وجه سوزيلا، وقالت: لقد نسيت كم أنت جميلة، ولكن ديوجولد كان دائمًا ذا ذوق حسن. وارتسم على وجهها الأعجف للحظة واحدة شبح ابتسامة مزعجة. وبعد لحظة أخرى غيرت من لهجة حديثها وقالت: ما رأيك يا سوزيلا؟ هل سنراه ثانية؟ أقصد هناك؟
وفي صمت ربَّتت سوزيلا على يد المرأة العجوز، ثم ابتسمت بغتة وقالت: كيف كان الراجا العجوز يصوغ هذا السؤال؟ هل تظنين أننا سوف نراه هناك؟
– وماذا تظنين أنت؟
– أظن أننا خرجنا جميعًا من ضياء واحد وأننا جميعًا سوف نعود إلى نفس الضياء.
ودار بذهن ويل أن هذه كلها كلمات في كلمات في كلمات. وبجهد جهيد رفعت لاكشمي إحدى يديها وأشارت في اتهام إلى المصباح الذي كان على النضد المجاور للسرير.
وهمست قائلة: إنه يتوهج في عيني.
خلعت سوزيلا المنديل الحريري الأحمر الذي كانت تلف به رقبتها ولفَّت به ظلة المصباح المصنوعة من الرق. وتحوَّل الضوء من أبيض كاشف بلا مواراة إلى معتم وردي يشع الدفء وكذلك الضوء — كما طاف بمخيلة ويل — الذي سقط على فراش بابز المتغضن كلما أضاء الإعلان عن شراب بورترزجين باللون القرمزي.
قالت لاكشمي: هذا أفضل. وأغمضت عينيها، ثم عادت إلى الكلام بعد فترة طويلة من الصمت وقالت فجأة: الضوء، الضوء، إنه لا يزال يسطع، وسادت فترة من السكون، ثم همست أخيرًا بقولها: ما أجمله، ما أجمله! وفجأة جفلت وعضت شفتها.
ووضعت سوزيلا يد المرأة العجوز بين راحتيها وسألتها هل الألم شديد؟
قالت لاكشمي: يكون الألم شديدًا لو كان من آلامي، ولكنه — لست أدري كيف — ليس من آلامي. الألم هنا، وأنا في مكان آخر. الأمر شبيه بما يتكشف للمرء عندما يتعاطى عقار الموكشا، لا شيء في الواقع يتعلق به، حتى الألم.
– هل لا زلت ترين الضوء؟
هزت لاكشمي رأسها وقالت: عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء أستطيع أن أقول لك متى اختفى، اختفى عندما بدأت أقول إن الألم ليس في الواقع من آلامي.
– مع أن ما قلت كلام طيب.
– أعلم ذلك. ولكني كنت أعبر عنه «بالكلام». وارتسم على وجه لاكشمي مرة أخرى شبح العادة القديمة، عادة الانزعاج لغير ما سبب.
سألتها سوزيلا: فيمَ تفكرين.
– في سقراط.
– سقراط؟
– ثرثرة في ثرثرة في ثرثرة؛ حتى حينما تناول تلك المادة فعلًا، لا تجعليني أتكلم يا سوزيلا، عاونيني على أن أخرج من ضياء نفسي.
وبعد فترة من السكون قالت سوزيلا: هل تذكرين ذلك الوقت الذي ذهبنا فيه جميعًا إلى معبد شيفا القديم الذي يقع فوق محطة المرتفع الشاهق؟ أنت وروبرت وديوجولد وأنا والطفلان، هل تذكرين؟
وابتسمت لاكشمي مسرورة بالذكرى.
– أذكر خاصةً ذلك المنظر الذي يشاهده الرائي من الجانب الغربي للمعبد؛ المنظر الذي يمتد فوق البحر، اللون الأزرق، والأخضر والأرجواني؛ وظلال السحب كالمداد. والسحب نفسها؛ الثلج، والرصاص، والفحم النباتي، ولون الساتان. ثم ألقيت سؤالًا ونحن نشاهد المنظر. هل تذكرين يا لاكشمي؟
– تقصدين سؤالي عن الضوء الصافي؟
قالت سوزيلا مؤكِّدة: نعم عن الضوء الصافي. لماذا يتحدث الناس عن «العقل» وكأنه ضوء؟ هل لأنهم رأوا ضوء الشمس فوجدوه من الجمال بحيث يُمسي من الطبيعي أن يطابقوا طبيعة بوذا مع أصفى ما يمكن من كل ضوء صاف؟ أم هل وجدوا ضوء الشمس جميلًا لأنهم — بالشعور أو باللاشعور — شاهدوا منذ بدء حياتهم للعقل الأكبر رؤًى على شكل الضوء؟ وقالت سوزيلا وهي تبتسم لنفسها: وكنت أول من أجاب. وكنت قبل ذلك قد قرأت شيئًا لأحد السلوكيين الأمريكان ولم أكفَّ عن التفكير، ولم أقدم إليك سوى «وجهة النظر العلمية». إن الناس يسوون بين العقل «أيًّا كانت طبيعته» وهلوسة الضوء؛ لأنهم كثيرًا ما شاهدوا الشمس وهي تغرب وتأثروا بها أشد التأثر. ولكن روبرت وديوجولد لا يريان هذا الرأي، ويصران على أن الضوء الصافي هو الذي يسبق.
– إن المرء يولع بغروب الشمس لأنه يذكِّره بما يجري دائمًا — عرف أو لم يعرف — داخل جمجمته وخارج الزمان والمكان. وقد وافقتهما لاكشمي؛ هل تذكرين؟ قلت: «كنت أود أن أؤيدك يا سوزيلا»، على الأقل لأنه ليس من الصواب أن يكون رجالنا على حق في كل الأوقات، ولكنهم في هذه الحالة مصيبون بشكل واضح جدًّا، وبالطبع كانوا مصيبين وبالطبع كنت مخطئة كل الخطأ. وليست بي حاجة إلى القول إنك عرفت الإجابة الصحيحة قبل أن تسألي السؤال.
وهمست لاكشمي قائلة: إنني لم أعرف شيئًا قط، بل استطعت فقط أن «أرى».
وقالت سوزيلا: أذكر ما قلته لي عن رؤيتك للضوء الصافي. هل تريدينني أن أذكِّرك به؟
وأومأت المرأة المريضة برأسها موافقة.
قالت سوزيلا: كانت المرة الأولى وأنت في الثامنة من عمرك، عندما وقعت عيناك على فراشة برتقالية على ورقة من أوراق الشجر ترفرف بجناحيها في ضوء الشمس، وفجأة تألق الضوء الصافي — الذي يرمز للحقيقة الكبرى المثالية البحتة — من خلالها، كأنه شمس أخرى.
وهمست لاكشمي: بل أشد إشراقًا منها.
– ولكنه ضوءٌ أخف، فأنت تستطيعين أن تحدقي في الضوء الصافي ولا يصيبك العمى. واذكري هذا الآن، فراشة على ورقة خضراء، ترفرف بجناحيها؛ وإذا بطبيعة بوذا حاضرة حضورًا كليًّا، إنه الضوء الصافي الذي يفوق ضوء الشمس في إشراقه. وكنت حينذاك في الثامنة فقط من عمرك.
– وماذا فعلت لأستحق ذلك؟
وتذكَّر عندئذٍ ويل تلك الأمسية التي سبقت وفاة عمته ماري بأسبوع أو ما يقرب منه والتي حدثته فيها عن تلك الأوقات السعيدة التي قضياها معًا في بيتها الصغير قريبًا من أروندل، البيت الذي كانت وصية عليه، والذي قضى به أحسن أيام عطلاته، يشعل النار في أعشاش الدبابير فيطردها منها بدخانها، ويقوم بالرحلات فوق العشب أو تحت أشجار الزان، ويذكر لفائف السجق في بوجنور، وقارئة البخت الغجرية التي تنبأت له أن يصل إلى منصب وزير المالية، وتذكَّر حامل الصولجان في الكنيسة بردائه الأسود وأنفه الأحمر الذي طاردهما خارج كاتدرائية تشيتشستر؛ لأنهما أغرقا في الضحك. وكررت العمة ماري في مرارة: أغرقتما في الضحك، أغرقتما في الضحك …
وكررت لاكشمي العبارة قائلة: هو نفس الضوء، ومع ذلك فقد أظلمت الدنيا كلها مرة أخرى.
قالت سوزيلا: أظلمت لأنك تجهدين نفسك، وأظلمت لأنك تريدينها أن تضيء، اذكري ما اعتدت أن تقولي لي وأنا طفلة صغيرة: بخفة يا بنيتي، بخفة، تعلَّمي أن تصنعي كل شيء بخفة، فكِّري بخفة، واعملي بخفة، واشعري بخفة، نعم اشعري بخفة، حتى إن كنت بعمق تشعرين. دعي الأمور تحدث بخفة، واجهيها بخفة. وكنت في تلك الأيام جادة بشكل غير معقول. كنت صغيرة متزمتة لا تجد الفكاهة إلى نفسي سبيلًا. بخفة، بخفة شديدة؛ هذه أغلى نصيحة قدِّمت لي. والآن أنا أقول لك نفس هذا الكلام يا لاكشمي … بخفة، يا عزيزتي، بخفة حتى في ساعة الموت. ليس هناك أمر ثقيل، أو يُنذر بالشر، أو أكيد. لا فصاحة في الكلام، ولا هزات في الموسيقى، ولا تشخيص يحس صاحبه أنه يحاكي المسيح أو جوته أو نيل الصغيرة. وبالطبع لا لاهوت ولا ميتافيزيقا. مجرد حقيقة الموت وحقيقة الضوء الصافي. أَلقِي كل أعبائك وسيري إلى الأمام، حواليك رمال متحركة، تجذب قدميك، وتحاول أن تسيخ بك إلى هوة الخوف والإشفاق على النفس واليأس؛ لذلك يجب أن تخففي الوطأ في المسير، مهلًا يا عزيزتي، على أطراف أصابع قدميك، لا أعباء على ظهرك، ولا حتى حقيبة الإسفنج، تخلَّصي من كل العوائق.
تخلَّصي من كل العوائق … ذكرت ويل هذه العبارة بعمته المسكينة ماري وهي تغوص إلى أبعاد أعمق وأعمق كلما خطت خطوة في الرمال المتحركة، أعمق وأعمق حتى غابت نهائيًّا وإلى الأبد في الفزع الأكبر وهي تكافح وتحتج حتى آخر رمق في حياتها. ونظر مرة أخرى إلى ذلك الوجه الأعجف المستلقي على الوسادة ورأى على شفتيه ابتسامة.
واستمع إلى همسٍ أجش ينادي: الضوء، الضوء الصافي، إنه أمامي، أراه وأنا أحس الألم، على الرغم من الألم.
سألتها سوزيلا: وأين أنت؟
– هناك، في الزاوية. حاولت لاكشمي أن تُشيِر. ولكن الإصبع المرفوعة اهتزت وسقطت على الملاءة بلا حراك، أرى نفسي هناك، وتستطيع هي أن ترى جثماني فوق الفراش.
– هل تستطيع أن ترى الضياء؟
– لا، الضياء هنا، حيث يستلقي جسدي.
وانفتح باب غرفة المريضة في هدوء، والتفت ويل وأمكنه أن يرى شبح الدكتور روبرت النحيل يخرج من وراء الستار إلى الشفق الوردي.
ونهضت سوزيلا وأشارت إليه ليجلس مكانها فوق الفراش، وجلس الدكتور روبرت، وانحنى إلى الأمام، وأمسك بيد زوجته في إحدى يديه ووضع يده الأخرى على جبينها.
وهمس قائلًا: هذا أنا.
– أخيرًا …
قال لها إن شجرة قد سقطت فوق خط التليفون. ولم يمكن الاتصال بمحطة المرتفع العالي إلا بالمسير على الطريق. وقد بعثوا برسول في عربة. ولكن العربة تحطمت، فضاع من الزمن أكثر من ساعتين، وختم الدكتور روبرت حديثه قائلًا: ولكن أحمد الله فقد استطعت أن أكون هنا في النهاية.
وتنهدت المرأة التي تعاني سكرات الموت تنهدًا عميقًا، وفتحت عينيها لحظة، وتطلعت إليه وهي تبتسم، ثم أغمضت عينيها ثانيةً، وقالت: عرفت أنك حضرت.
وبصوت هادئ قال: لاكشمي، لاكشمي. وسحب أطراف أصابعه فوق جبينها المجعد مرة تلو المرة وهو يقول: محبوبتي. وسال الدمع على خديه، ولكن صوته كان ثابتًا وتحدَّث بحنان يصدر عن قوة لا عن ضعف.
وهمست لاكشمي: لم أعد هناك.
وفسرت سوزيلا لِحَمِيها هذه العبارة وقالت: كانت هناك في الزاوية وهي تنظر إلى جسدها هنا في الفراش.
– ولكني عدت الآن، أنا والألم، أنا والضياء، أنا وأنتم؛ كل ذلك معًا.
وصاح الطاووس مرة أخرى، ومن خلال أصوات الحشرات التي تُعَد في هذه الليلة الاستوائية نوعًا من الصمت، ومن بعيد ولكن في وضوح تام سمع صوت موسيقى مرحة، بالمزامير وعلى الأوتار وبدقِّ الطبول المستمر.
قال الدكتور روبرت: أنصتوا. هل تستطيعون أن تسمعوا؟ إنهم يرقصون.
ورددت لاكشمي وراءه: يرقصون، يرقصون.
وهمست سوزيلا: يرقصون برقَّة كأن لهم أجنحة.
وارتفع صوت الموسيقى مرة أخرى وطرقت الأسماع.
قالت سوزيلا: موسيقى الغزل يا روبرت. هل تذكر؟
– وهل أنسى أبدًا؟!
وقال ويل لنفسه: هل يستطيع المرء أن ينسى أبدًا؟ هل يستطيع المرء أن ينسى تلك الموسيقى الأخرى البعيدة، وقريبًا منه، في سرعة وضحل غير عاديين صوت أنفاس النزع الأخير تطرق أذنَي صبي صغير؟ في البيت القائم على الجانب الآخر من الشارع كان شخص ما يتدرب على موسيقى براهمز فالس التي كانت عمته ماري تحب أن تعزفها، وأخذت تَعُدُّ ضرباتها، واحد، اثنين، ثلاثة، واحد، اثنين، ثلاثة، ثم … وووواحد، اثنين، ثلاثة، واحد، واحد، اثنين، ثلاثة، واحد، و… وهنا اهتزت تلك المرأة الغريبة البغيضة، التي كانت فيما مضى العمة ماري وتنبهت من سباتها المصطنع وفتحت عينيها، وظهر على وجهها الشاحب النحيل تعبير عن أسوأ حالة من حالات المرض الخبيث، وكادت تصيح بصوت أجش لا يميز السامع قائله: اذهب وقل لهم كفُّوا عن العزف. وتحوَّلت آثار المرض الخبيث إلى آثار اليأس، وشرعت هذه الغريبة — هذه الغريبة البغيضة التي تدعو إلى الإشفاق — في النحيب ولم تتمالك نفسها. دقات موسيقى براهمز فالس: تلك كانت قطع الموسيقى — بين كل ما تملك من الأنغام — التي أحبها فرانك أكثر من أي شيء آخر.
وهبَّت نفحة أخرى من الهواء البارد جلبت معها نغمةً أعلى من تلك الموسيقى المرحة البهيجة.
قال الدكتور روبرت: هؤلاء الشباب الذين يتراقصون، وهذا الضحك وهذه الشهوة، وتلك السعادة التي لا تشوبها شائبة! كل ذلك هنا، يخلق جوًّا، كأنه مجال من مجالات القوة. سرورهم وحبنا — حب سوزيلا، وحبي — كل ذلك يأتلف ويقوِّي بعضه بعضًا؛ الحب والسرور يلفُّك يا عزيزتي، الحب والسرور يرفعانك إلى هدوء الضوء الصافي، استمعي إلى الموسيقى. هل لا زلت تسمعينها يا لاكشمي؟
قالت سوزيلا: لقد شطحت مرة أخرى، حاول أن تستعيدها.
ودفع الدكتور روبرت إحدى ذراعيه تحت جسدها المهزول ورفعه قليلًا إلى وضع الجلوس، وتدلَّى رأسها على أحد الجانبين واستند إلى كتفه.
وظل يهمس لها: حبيبتي، حبيبتي …
وانفرج جفناها لحظة. وفي همس يكاد لا يُسمع كرَّر ويل قوله: اشتدي بريقًا. وعندئذٍ ارتسمت على شفتيها ابتسامة السعادة، قوية حتى لتكاد أن تكون ابتهاجًا، وغيرت من ملامح وجهها.
ومن خلال دموعه بادلها الدكتور روبرت الابتسام، وأخذ يربِّت على شعرها الأشيب ويقول: الآن تستطيعين أن ترحلي يا عزيزتي. وأخذ يردد قوله: ارحلي، ارحلي، ارحلي عن هذا الجسم المسكين العجوز. إنك لم تعودي بحاجة إليه. دعيه يسقط عنك. اتركيه راقدًا هنا ككومة من الثياب البالية.
وفغر فوهًا في وجهها الأعجف، وفجأة تحولت أنفاسها إلى غطيط.
وضمها الدكتور روبرت إلى صدره وهو يقول: حبيبتي، عزيزتي، ارحلي الآن، ارحلي، اتركي جسدك البالي هنا، واذهبي يا عزيزتي إلى الضياء، إلى السكون، إلى السكون الحي، سكون الضوء الصافي …
ورفعت سوزيلا إحدى اليدين المرتخيتين ولثمتها، ثم التفتت إلى رادا الصغيرة.
وقالت لها همسًا وقد لمست كتفها: آن لك أن تذهبي.
تنبَّهت رادا من تأملاتها وفتحت عينيها وأومأت برأسها، واتجهت في صمت على أطراف أصابع قدميها صوب الباب وكأنها تزحف زحفًا، واستدعت سوزيلا ويل بإشارة منها، وسارا معًا خلف رادا. وفي صمت سار ثلاثتهم في الممر خارج الغرفة، وعند الباب المتأرجح استأذنت رادا بالانصراف.
وقالت همسًا: أشكركما على استبقائكما لي معكما.
قبَّلتها سوزيلا وقالت: بل الشكر لك لأنك عاونت لاكشمي على تخفيف الأمر عليها.
وتبع ويل سوزيلا عبر الردهة حتى زلفا إلى الظلام الدافئ العطر. وفي صمت هبطا من الجبل متجهَين نحو السوق.
وأخيرًا قال وهو تحت ضغط عجيب أراد به أن يُخفي مشاعره ويتظاهر بنوع رخيص من السخرية: أظن أنها ستسرع الآن لتمارس شيئًا من الماثيونا مع صديقها الفتى.
وقالت سوزيلا في هدوء: الواقع أنها مكلَّفة بالسهر في أداء واجبها. وإذا لم يكن الأمر كذلك فماذا يمنع انتقالها من يوجا الموت إلى يوجا الحب؟
ولم يُجِب ويل في الحال؛ فقد كان يفكر فيما حدث بينه وبين بابز ليلة تشييع مولي. يوجا نقيض الحب، يوجا الإدمان الممقوت، والشهرة وبغض النفس الذي يعزز النفس ويجعلها أكثر مدعاة للبغض.
وأخيرًا قال: أنا آسف فقد حاولت أن أكون ممجوجًا.
– هذا شبح أبيك، وسوف نحاول أن نبعده عنك.
وعبرا ساحة السوق وبلغا الآن — عند نهاية الشارع القصير الذي يسلكه الخارج من القرية — المكان المكشوف الذي كانت تقف فيه عربة الجيب. وعندما ساقت سوزيلا العربة إلى الطريق العام سطع شعاع المصابيح الأمامية على عربة صغيرة خضراء كانت تسير هابطة من الجبل صوب الطريق الجانبي.
– أليست هذه هي العربة أوستن الصغيرة الملكية؟
قالت سوزيلا: هي بعينها، وتعجَّبت إلى أين كانت الراني وموروجان يتجهان في هذا الوقت من الليل.
وخطر ببال ويل أنهما لا يقصدان خيرًا. وبدفعة مفاجئة أفضى لسوزيلا بمهمة رحلته التي كلَّفه بها جو ألديهايد، وبمداولاته مع الملكة الأم والمستر باهو.
واختتم حديثه قائلًا: ولديك ما يُبرِّر إبعادي عن البلاد غدًا. وأكدت له أن ذلك لا يمكن أن يتم الآن وهو بسبيل تغيير رأيه، وأضافت قولها: ومع ذلك فإن ما فعلته لا يمكن أن يكون له تأثير على القضية الحقيقية. عدوُّنا هو البترول بوجه عام. وليس هناك فارق بين أن تستغلنا شركة جنوب شرقي آسيا للبترول أو شركة ستاندارد في كلفورنيا.
– هل تعلمين أن موروجان والراني كانا يتآمران ضدك؟
– إنهما لا يخفيان ذلك.
– لماذا إذن لا تتخلصين منهما؟
– لأن الكولونيل ديبا يعيدهما في الحال. الراني هي أميرة راندنج. إذا نحن طردناها كان ذلك سببًا في اشتعال الحرب.
– ماذا إذن تستطيعين أن تفعلي؟
– أحاول أن أردَّهما إلى الصواب، وأن أجعلهما يغيِّران رأيهما، وآمُل في نتيجة طيبة، وأستعد لأسوأ الظروف.
– وماذا أنت فاعلة إذا حلت بك أسوأ الظروف؟
– أحاول أن أستغل الموقف أحسن استغلال؛ فالفرد حتى في أسوأ المجتمعات يستبقي شيئًا من الحرية. الإنسان يفكر بينه وبين نفسه، ويتذكر ويتخيل بينه وبين نفسه، ويحب بينه وبين نفسه، ويموت وحيدًا، حتى تحت حكم الكولونيل ديبا. وصمتت قليلًا ثم سألته: هل سمح لك الدكتور روبرت بتعاطي عقار الموكشا؟ وأومأ برأسه إيجابًا، فقالت: هل تحب أن تجربه؟
– الآن؟
– الآن، إذا كان لا يهمك أن تسهر الليل كله بفعله.
– ليس عندي ما هو خير من ذلك.
وحذرته سوزيلا قائلة: ربما وجدت أنك لم تحب قط شيئًا أسوأ منه، فعقار الموكشا قد يسمو بك إلى السماء. وقد يقذف بك في الجحيم. وقد يدفع بك إليهما معًا في وقت واحد أو بالتناوب. وربما دفع بك (إن كنت حسن الحظ، أو إن أنت تأهبت لذلك) إلى ما وراء كل منهما، ثم إلى ما وراء ذلك، وتعود إلى نقطة الابتداء؛ إلى هنا، إلى روثامستد الجديدة، وإلى عملك المعتاد، ولكن الآن بالطبع هذا الفعل المعتاد مختلف كل الاختلاف.