الفصل الخامس عشر
دقة، دقتان، ثلاث دقات، أربع … وهكذا حتى اثنتي عشرة، أعلنت بها الوقتَ الساعةُ التي كانت بالمطبخ. أيُّ تناقض هذا، لأن الزمن لم يعُد له وجود! إن جرس الساعة يدق دقات مزعجة لا معنى لها وسط أحداث الحاضر التي لا يحدها زمان، وسط اللحظة الراهنة لا تفتأ تتغير لا بأبعاد الثواني والدقائق ولكن بأبعاد الجمال، والدلالة، والكثافة، والإلغاز الذي يزداد عمقًا.
وفي رؤى متعاقبة اشتد الضوء إشراقًا، والإدراك عمقًا، واشتد الإحساس بالسعادة إلى درجة مستحيلة لا تطاق. قال لنفسه: يا إلهي العزيز! ثم سمع صوت سوزيلا آتٍ من عالم آخر.
– هل تشعر أنك تريد أن تقول لي شيئًا عما يحدث؟
وانقضى بعض الوقت حتى استطاع ويل أن يجيب على سؤالها؛ فقد كان النطق عسيرًا، لا بسبب عائق مادي. ولكن لأن الكلام كان يبدو شيئًا من السخف الذي لا يتحقق من ورائه هدف. وأخيرًا همس قائلًا: الضياء.
– وأنت هناك تنظر إلى الضياء؟
وبعد فترة طويلة من صمت التفكير قال: أنا لا أنظر إليه، إنما أنا هو، وكرر قوله مؤكِّدًا: أنا هو.
وفي حضور الضياء كان غيابه، وليام آسكويث فارنبي؛ لم يكن هناك هذا الشخص لا في أساسه ولا جوهره. في الأساس والجوهر لم يكن هناك شيء سوى السعادة المشرقة، والإدراك الذي لا يعرف، والاتحاد مع الوحدة في وعي بغير حدود لا يفرق بين شيء وآخر. هذه — كما اتضح له — هي الحالة الطبيعية للعقل. كما كان هناك — بصورةٍ لا تقل تأكيدًا — ذلك المراقب المحترف للإعدام، ذلك المقبل في إدمان على بابز والذي يمقت نفسه لهذا السبب. كان هناك كذلك ثلاثة آلاف مليون نوع من أنواع الشعور كل منها منفصل عن الآخر، وكل منها مركز لعالم من عوالم الأحلام المزعجة، عالم يستحيل فيه لأي مخلوق ذي عينين أو ذرة من الإخلاص مع النفس أن يقبل الأمور على علَّاتها. أية معجزة خبيثة تلك التي حوَّرت الحالة الطبيعية للعقل إلى هذه الجُزر الشيطانية التي تنعزل كل واحدة منها عن الأخرى، جُزر البؤس والانحراف؟
ولكن خلف هذه الذكريات المضطربة ومن حولها ومن داخلها بشكل ما ذلك العالم السماوي، عالم السعادة والطمأنينة والإدراك. وقد تبدو بعض الوطاويط في ضوء الشمس الغاربة. ولكن هناك حقيقة ثابتة، وهي أن معجزة الخلق الرهيبة قد انقلبت؛ فبعد أن كان بائسًا منحرفًا بصورةٍ خارقة للطبيعة تحوَّل إلى عقل محض، إلى عقل على حالته الطبيعية. ليست له حدود، ولا يميز شيئًا عن شيء، سعيدًا سعادة مشرقة، مدركًا بغير معرفة.
الضوء الآن، والضوء في هذا المكان. ولما كان المكان بغير حدود والزمان بغير توقيت فلم يكن هناك شخص خارج الضوء لينظر إلى الضوء، أمست الحقيقة هي الوعي والوعي هو الحقيقة.
ومن ذلك العالم الآخر، في مكان ما إلى اليمين طرق أذنه للمرة الثانية صوت سوزيلا.
سألته: هل أنت سعيد؟
اكتسحت موجة من إشعاع أشد إشراقًا كل تلك الأفكار والذكريات المضطربة، ولم يعُد هناك الآن شيء سوى الشفافية البلورية للنعمة والسعادة.
وبغير أن ينطق، ودون أن يفتح عينيه ابتسم وأومأ برأسه إيجابًا.
«يتجلى الله ولا ينطفئ نوره» … ما أصدق هذا القول! ولشد ما كان تأثيره على ويل فأخذ يقهقه من غرابة التشبيه، وقال وهو يلهث: هل يكون نور الله كالنور ينبعث من بيت يحترق؟ أو كالنور في احتفالات الرابع عشر من شهر يوليو! وانفجر مرة أخرى في ضحكات عالية.
ومن وراء جفنيه المغمضين تدفقت السعادة المشرقة إلى أعلى كأنها شلال منعكس. تدفقت إلى أعلى من اتحاد إلى اتحاد أكمل، ومن انعدام الشخصية إلى ما يجاوز الذاتية بدرجة مطلقة.
كرر لنفسه: هل يكون نور الله كنور الرابع عشر من شهر يوليو! ومن قلب تيار السعادة المتدفق إلى أعلى أطلق ضحكة أخرى تنطوي على الفهم والتمييز.
سألته سوزيلا: وما رأيك في الخامس عشر من شهر يوليو، والصبيحة التالية؟
– ليست هناك صبيحة تالية.
هزت رأسها وقالت: إنني أشتبه في أن تكون في حالة نيرفانا.
– وماذا يضير في هذا؟
– هذا روح محض، نقاؤه مائة في المائة؛ هذا شراب لا يستسيغه إلا أشد الناس إدمانًا في التأمل. البوذيساتفا يخففون النيرفانا بمقادير متساوية من الحب والعمل.
– هذه حالة أفضل.
– تقصد أنها ألذ؛ لذلك كان إغراؤها قويًّا. الإغراء الوحيد الذي يرضى عنه الله، إنه ثمرة الجهل بالخير والشر. ثمرة حلوة المذاق، كأنها المنجة الفاخرة! هي الطعام الذي تناولته الآلهة بلايين السنين. وفجأة ظهر الإنسان، وتفجرت معرفة الخير والشر، فأنبت الله نوعًا جديدًا من الثمرات أقل في مذاقه حلاوة. وقد طعمت منذ لحظة شريحة من المنجة الفاخرة الأولى؛ لذلك فأنت تستطيع أن تدرك الله.
وسمع صريرًا صادرًا من أحد المقاعد، وخشخشة ثياب، ثم سلسلة من أصوات الحركة التي لم يستطع تفسيرها. ماذا كانت تصنع؟ كان يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال لو أنه فتح عينيه. ولكن من ذا الذي يهمه حينذاك ما كانت تصنع؟ لم يعُد لأي شيء أهمية سوى بريق هذا التيار من السعادة والإدراك الذي يندفع إلى أعلى.
قالت: من المنجة الفاخرة إلى ثمرة المعرفة؛ سوف أفطمك على مراحل متدرجة.
طرق أذنه طنين. ومن الأضحال طفت إلى سطح الشعور فقاعة من فقاقيع المعرفة. كانت سوزيلا تضع أسطوانة على قرص الحاكي المستدير، وبدأ الفونوغراف يدور.
وسمعها تقول: هذا جوان سباستيان باخ. أقرب الموسيقى إلى السكون، أقربها إلى الروح الصافي مائة في المائة على الرغم من ارتفاع النغم.
وتحول الطنين إلى أصوات موسيقية، وانبثقت إلى أعلى فقاعة أخرى من فقاقيع المعرفة، وكان يستمع إلى كونسرتو براندنبرج الرابع.
كانت بطبيعة الحال هي بعينها كونسرتو براندنبرج الرابع التي كثيرًا ما استمع إليها في الماضي، هي بعينها، ومع ذلك فهي على أتم اختلاف معها. هذا الأليجرو (الموسيقى الخفيفة السريعة) كان يعرفه عن ظهر قلب. ومعنى ذلك أنه كان في أحسن وضع ممكن ليتأكد أنه لم يسمع به قط من قبلُ، فأولًا أنه لم يكن هو — وليام آسكويث فارنبي — الذي كان يُصغي. وكانت الأليجرو تكشف عن نفسها باعتبارها عنصرًا في الحدث الراهن العظيم. كانت مظهرًا لا يبعد إلا خطوة واحدة عن السعادة المشرقة، وربما كان ذلك وصفًا لها لطيفًا، ففي ظروف أخرى يكون هذا الأليجرو هو السعادة المشرقة، هو الفهم الذي لا يستند إلى معرفة لكل شيء يدرك من خلال ناحية معينة من نواحي المعرفة. كان الوعي الذي لا يميز مجزءًا في نغمات وعبارات موسيقية ومع ذلك فما يزال هو هو بعينه بكل مغزاه. وكل ذلك بطبيعة الحال لم يخص أحدًا ما؛ فقد كان في نفس الوقت هنا، وهناك، وفي اللامكان. إن الموسيقى التي استمع إليها — باعتباره وليام آسكويث فارنبي — مائة مرة من قبلُ، ولدت مرة أخرى وعيًا لا يمتلكه؛ ولذلك كان الآن يستمع إليها لأول مرة. إن كونسرتو براندنبرج الرابع — وهو ليس ملكًا له — من روعة الجمال وعمق المعنى الكامن فيه ما يفوق كثيرًا أي شيء التمسه من قبلُ في نفس هذه الموسيقى عندما كانت ملكًا خاصًّا له.
ثم طفت فقاعة معناها: يا لك من أبله! وكأنها تعليق ساخر. وهذا الأبله دأب على ألا يقبل أي أمر من الأمور إلا ما كان منه في مجال الجمال. وكان دائمًا ينكر — لأنه لا يمثل إلا نفسه — كل جمال وكل معنًى يتمنى قبوله. لم يكن وليام آسكويث فارنبي سوى مصفاة قذرة، يتسرب إليه منها البشر، والطبيعة، بل والفن الذي يعشقه بعدما تعتمه كله سحابة داكنة ويتلوث بالوحل، وتقل قيمته، ويتغير، ويصبح أقبح من حقيقته. أما في هذا المساء فلأول مرة يكون وعيه بقطعة من الموسيقى مباشرًا لا يعوقه عائق. بين عقله والصوت، وبين عقله والنموذج، وبين عقله والدلالة، لا توجد بلبلة من سير الأشخاص التي لا علاقة لها بالموضوع، والتي تغرق الموسيقى أو تخلق نشازًا ليس له معنًى. كونسرتو براندنبرج الرابع هذا المساء حقيقة نقية، لا يفسده تاريخ شخصي، ولا أفكار ثانوية، ولا غباوات متأصلة يغطي بها الأبله المسكين الذي يرفض كل شيء وبخاصة في الفن — شأنه في ذلك شأن كل نفس أخرى — يغطي بها معطيات الخبرة المباشرة.
لم يكن كونسرتو براندنبرج الرابع هذا المساء مجرد شيء غير مملوك في حد ذاته، بل كان كذلك — بطريق المستحيل — حدثًا راهنًا في فترة من الزمن لا تنتهي. وربما كان من الأصح أن نقول بغير زمان «بطريقة أكثر استحالة، نظرًا لأنه كان يتألف من ثلاث حركات ويعزف بسرعته المعتادة». وبندول الإيقاع يسيطر على كل عبارة من عباراته. ولكن مجموع العبارات لم يكن مدى من الثواني والدقائق. كان هناك «إيقاع» ولم يكن هناك زمن. ماذا كان هناك إذن؟
أجاب ويل رغمًا عنه: «الخلود»؛ لأن هذه الكلمة كانت من تلك الألفاظ الميتافيزيقية السخيفة لا يحلم رجل مهذب الفكر أن ينطق بها حتى لنفسه، بَلْهَ أن يتفوه بها أمام الجمهور. وقال بصوت مرتفع: الخلود يا إخواني، الخلود، هراء في هراء. ولم يكن لسخريته — كما توقَّع — أي تأثير؛ ففي هذه الليلة كان لهذه الكلمة من الدلالة المحسوسة ما لغيرها من الكلمات الأخرى التي يحرم ورودها على اللسان. وبدأ يضحك.
سألته: ما يضحكك؟
أجاب: الخلود. وسواء صدَّقتني أم لم تصدِّقني، إنه حقيقة ككل ما يفرزه جسم الإنسان.
ووافقته وقالت: حسنًا ما قلت!
ولبث هناك ممعنًا في الإصغاء لا يتحرك، يتابع بأذنه وبصيرته تيارات الصوت المتشابكة، وتيارات الضوء التي تقابلها وتنسجم معها، والتي تتدفق في تسلسل متعاقب غير محدودة بزمن. وكل جملة من هذه الموسيقى المألوفة المبتذلة كانت كشفًا غير مسبوق لصورة من صور الجمال تندفع إلى أعلى كأنها نافورة غزيرة المياه، وتتتابع الرؤى، وكل منها جديد مذهل في حد ذاته، تيار يتداخل في تيار؛ تيار عزف الكمان المنفرد، وتيارات الأسطوانتين، والتيارات المتنوعة من البيان القيثاري والأوركسترا الصغيرة المؤلَّفة من أوتار متنوعة، كل منها منفصل، متميز، منفرد؛ ومع ذلك فكل تيار كان منسجمًا مع غيره، كل منها كان على طبيعته بفضل علاقته بالكل الذي هو جزء منه.
وسمع صوته الباطني يقول: يا إلهي.
ووسط هذه التغيرات المتتابعة بغير حدود زمنية كانت الأسطوانات تنفث نغمة طويلة واحدة. نغمة لا تشوبها نغمات جانبية أعلى، واضحة، صافية، فارغة كأنها من السماء. نغمة (وقد خرجت هذه اللفظة فوارة كأنها فقاعة) من التأمل الصافي. وهنا وردت على خاطره كلمة فاحشة أخرى غير موحية وقد اكتسبت الآن معنًى ماديًّا ويمكنه أن ينطق بها دون إحساس بالخجل. تأمُّلٌ صافٍ، لا يعبأ بشيء، يجاوز إمكان الحدوث، ويخرج عن إطار الأحكام الخلقية. ومن خلال الأضواء المندفعة إلى أعلى لمح في ذاكرته صورة لوجه رادا المشرق وهي تتحدث عن الحب باعتباره تأملًا، وصورة أخرى لرادا وهي تجلس ساقًا على ساق في سكون عميق مركَّز في مؤخرة السرير الذي كانت لاكشمي تلفظ فوقه أنفاسها الأخيرة. هذه النغمة الطويلة الصافية كانت معنى كلماتها والتعبير المسموع لصمتها، ومع هذا الفراغ السماوي لصوت المزمار الذي يدعو إلى التأمل كان يتدفق دائمًا من خلاله وبحذائه صوت الكمان الثري، ذبذبة في ذبذبة عاطفية قوية. وتحيط بهما معًا — نغمات الانفصال الذي يدعو إلى التأمل، ونغمات الاشتباك العاطفي — شبكة من النغم الحاد الجاف تنبعث من أوتار البيان القيثاري. الروح والغريزة، العمل والرؤيا؛ تحيط بها كلها شبكة العقل، يدركها بالفكر المنطقي. ولكن من الواضح أنه يدركها من الظاهر فقط في حدود الخبرة التي تختلف اختلافًا أساسيًّا عن الإطار الذي يزعم الفكر المنطقي أنه يوضحه.
قال: إنه شبيه بالوضعي المنطقي.
– أي شيء؟
– ذلك البيان القيثاري.
وتغيرت الموسيقى مرة أخرى، وأصبح الكمان هو الذي يواصل (بنغمه العاطفي) نغمة التأمل الطويلة. في حين أن الأسطوانتين كانتا تعزفان موضوع المشاركة بالعمل، وتكررانه بما يدعو إلى الانفصال. وهنا بين الحين والحين كان يتردد الوضعي المنطقي، في سخف وإن يكن ليس عنه غنًى، يحاول أن يشرح في لغة لا تتناسب مع الحقائق كل ما كان يدور.
وفي الخلود الذي كان واقعًا كإفرازات الجسم البشري استمر في إصغائه لهذه التيارات الصوتية المتداخلة، واستمر يشاهد التيارات الضوئية المتشابكة، واستمر في كونه فعلًا (هناك. وهنا في اللامكان) كل ما رأى وكل ما سمع. والآن — على حين غرة — تعرضت صفة الضوء لشيء من التغير، فلقد انتفت صفة الاستمرار عن تلك التيارات المتشابكة التي كانت أول عامل من عوامل التميز المرن لفهم ما يقع على الجانب الأبعد لكل معرفة تفصيلية، وحلت محلها — فجأة — هذه الأشكال التي ينفصل أحدها عن الآخر في تتابعٍ لا ينتهي؛ وهي أشكال لا تزال محمَّلة بصورة واضحة بالنغمة المشرقة للوجود الذي لا يميِّز شيئًا عن شيء، ولكنها الآن محددة، منعزلة، متفردة. ظهرت له سلسلة من الكواكب المضيئة، فضية ووردية، صفراء وخضراء شاحبة وزرقاء جنطيانية، وقد برزت من مصدر خبيء للأشكال، ومع توقيت الموسيقى تجمعت عن عمد في صفوف جميلة مركَّبة تركيبًا لا يصدِّقه العقل، نافورة لا تنفد تنتشر في تشكيلات يحسها. وفي تشابك من النجوم الحية. وأخذ يرمقها ويحيا حياتها كما يحيا حياة الموسيقى التي كانت تسايرها، وهي تتكاثر في تشابكات أخرى ملأت الأبعاد الثلاثة لفضاء داخلي، وتتحول باستمرار إلى بُعد أبدي آخر من أبعاد النوع والدلالة.
سألته سوزيلا: ماذا تسمع؟
وأجاب: أسمع ما أرى، وأرى ما أسمع.
– صف لي ما تشاهد.
وبعد صمت طويل أجاب ويل: مرآها ومسمعها هو الخلق.
ولكنه ليس الخلق الذي يتم دفعة واحدة، إنما هو الخلق الذي يتواصل ولا يتوقف.
– خلق متواصل من لا شيء ولا مكان إلى شيء ما ومكان ما؛ هل هو كذلك؟
– هو كذلك.
– أنت تحرز تقدمًا.
لو واتاه اللفظ، ولو كان اللفظ عند النطق به أقل تفاهة، لشرح لها ويل كيف أن الفهم الذي لا يستند إلى معرفة والسعادة المضيئة يفضلان حتى موسيقى جوهان سباستيان باخ.
وقالت سوزيلا مرة أخرى: أنت تحرز تقدمًا ثم أضافت: ولكن لا يزال أمامك طريق طويل. هل تحب أن تفتح عينيك الآن؟
هز ويل رأسه مؤكِّدًا رفضه.
– آن الأوان لكي تعطي نفسك فرصة لاكتشاف حقائق الأشياء.
تمتم قائلًا: حقائق الأشياء هي هذا الذي أرى.
وأكدت له انها ليست هي، وقالت: إن كل ما رأيت وسمعت وكنت ليس إلا الحقيقة الأولى. والآن لا بُدَّ لك أن ترى الحقيقة الثانية. تنظر، ثم تضم الحقيقة الأولى إلى الحقيقة الثانية وتجعل منهما حقيقة واحدة؛ لذلك افتح عينيك يا ويل وافتحهما واسعتين.
أخيرًا قال وعلى مضض: ليكن ذلك. وفتح عينيه وهو يستشعر الخوف من حظ سيئ ينتظره. وقد اختفى الضوء الداخلي في نوع آخر من الضوء، وحل محل نافورة الأشكال والأجرام السماوية الملونة وهي مصطفَّة صفوفًا يراها رأى العين والأشكال المشبكة التي تتغير قصدًا تكوين ثابت يتألف من أعمدة وخطوط قطرية ومسطحات وأسطوانات منحنية، وكلها منحوت من مادة تشبه العقيق الحي، وكلها يخرج من مصدر واحد للؤلؤ الحي النابض. ونظر ويل إلى هذا في ذهول وشيء من عدم الإدراك كرجل أعمى بَلَّ من عماه حديثًا ليجابهه للمرة الأولى لغز الضوء واللون. وبعد انتهاء عشرين فاصلة موسيقية من كونسرتو براندنبرج الرابع طفت في شعوره فقاعة من فقاقيع التفسير.
وفجأة عرف ويل أنه ينظر إلى مائدة صغيرة مربعة، خلفها مقعد هزاز، وخلف المقعد حائط غفل أبيض. وكان تفسير ذلك مطمْئنًا له؛ ذلك أن اللغز الذي واجهه في الأبدية التي مارسها — فيما بين فتح عينيه وظهور المعارف التي شاهدها — قد اشتد عمقه من جمال لا تفسير له إلى ذروة من الغربة المضيئة التي امتلأت بها نفسه وهو ينظر بشيء من الفزع الميتافيزيقي. وهذا اللغز المخيف لم يكن سوى قطعتين من أثاث وحائط فسيح. وخفَّت مخاوفه. ولكن دهشته تضاعفت، كيف يمكن لأشياء مألوفة عادية أن تكون على هذه الصورة؟ لم يكن ذلك قطعًا بالإمكان. ولكن ها هو ذا قد حدث.
وانتقل اهتمامه من التكوينات الهندسية بالعقيق البني إلى خلفيتها اللؤلؤية، وكان يعرف أن اسمها «جدار» ولكنها في واقع الخبرة عملية حية، وسلسلة متصلة من التحول من الجص والطلاء إلى مادة خارقة للطبيعة؛ إلى لحم المسيح الذي ما فتئ يتغير وهو ينظر إليه من مجد إلى مجد. حاولت الكلمات الفقاعية أن تفسر ما رآه على أنه طلاء أبيض للجدار. ولكن روحًا لها قدرة التشكيل كانت تُثير في مخيلته سلسلة لا نهاية لها من الألوان الأخرى التي يتميز كل منها تمامًا عن غيره، باهتة أحيانًا غزيرة أحيانًا أخرى، برزت له من مكان مستتر وألقت نورها المتوهج على ذلك الجلد السماوي المتألق.
وأدار رأسه قليلًا نحو اليسار وأذهله بريق المجوهرات التي رآها. أيُّ مجوهرات هذه! ألواح ضيقة من الزمرد والتوباز، ومن الياقوت الأحمر والياقوت الأزرق واللازورد، كلها يتوهج، صفًّا فوق صف، أشبه ما تكون بقوالب الطوب الأحمر الكثيرة في أحد جردان أورشليم الجديدة. وأخيرًا — وليس في البدء — كانت الكلمة، في البدء كانت الجواهر، والنوافذ المصنوعة من الزجاج الملون، وجدران الفردوس، والآن فقط. وفي النهاية البعيدة ظهرت الكلمة (خزانة الكتب) للنظر.
رفع ويل بصره من الجواهر الناطقة وإذا به في قلب منظر طبيعي من المنطقة الاستوائية. لماذا؟ وأين؟ ثم تذكَّر أنه (وهو في عالم آخر) عندما دخل الغرفة أولًا كان قد لاحظ فوق خزانة الكتب صورة كبيرة رديئة بالألوان المائية، بين الكثبان الرملية وآجام النخيل يجري مصب نهر يأخذ في الاتساع كلما اتجه نحو البحر، وتبدو فوق الأفق آكام السحب ترتفع في السماء الشاحبة، ومن أضحال نفسه خرجت كلمة «ضعيفة» كالفقاعة تطفو فوق سطح الماء. ومن الواضح أن الصورة من رسم هاوٍ للفن موهبته محدودة.
ولكن هذا الخاطر ليست له الآن أية أهمية؛ لأن المنظر الطبيعي لم يعُد صورة، وإنما هو موضوع الصورة؛ هو نهر حقيقي، وبحر حقيقي، ورمال حقيقية تتوهج في ضوء الشمس، وأشجار حقيقية باسقة في سماء حقيقية، حقيقية إلى ما لا نهاية، حقيقية إلى حد المُطلق.
وهذا النهر الحقيقي الذي يختلط بالبحر الحقيقي هو كيانه شخصيًّا وقد احتوته القدرة الإلهية، وظهرت فوق السطح فقاعة لفظية تتساءل في سخرية: هل هي القدرة الإلهية بين علامات التنصيص، أم القدرة الإلهية التي تدعو إلى التعجب بالمعنى البكويكي الحديث؟ هز ويل رأسه، والجواب عنده كان هي القدرة الإلهية فحسب؛ ليست القدرة التي يمكن أن يعتقد فيها المرء، ولكنها القدرة الواقعية التي تُواجهه وتُفصح عن نفسها. ومع ذلك فهذا النهر لا يزال نهرًا، وهذا البحر هو المحيط الهندي. وليسا شيئًا آخر في ملابس تنكرية، إنما هما هما بعينيهما بغير لبس، ولكنهما كذلك القدرة الإلهية بغير لبس.
سألته سوزيلا: أين أنت الآن؟
لم يُدِر رأسه نحوها وقال: في السماء على ما أظن. وأشار إلى صورة المنظر الطبيعي.
– ما زلت في السماء! متى تهبط على الأرض؟
ومن الأضحال الغرينية خرجت فقاعة من فقاقيع الذكريات.
– في مكان أعمق يحتويه الضياء، كما قال ورودزورث.
– ولكن وردزورث تحدَّث كذلك عن موسيقى الإنسانية الساكنة الحزينة.
قال ويل: ليس في صورة المنظر الطبيعي التي أشاهدها — لحسن الحظ — بشر.
وضحكت ضحكة خفيفة وقالت: ولا أي حيوان. سُحب فقط وخضروات تخدع بمنظرها البريء. ويحسُن بك لذلك أن تنظر إلى ما فوق الأرض.
وأرخى ويل بصره. وتمثلت له الفواصل في ألواح خشب الأرضية في صورة نهر بني اللون، وهذا النهر عبارة عن رسم تخطيطي في دوامة لا تفتر عن الدوران للحياة الدنيوية المقدَّسة. ووسط هذا الرسم تقع قدمه اليمنى، عارية تحت أربطة الصندل الذي ينتعله، ولشد ما كانت دهشته حينما أدرك أن لهذه القدم أبعادًا ثلاثة وكأنها قدم من المرمر لتمثال بطل من الأبطال تسطع عليه الأضواء. ومن الألفاظ العفوية التي تفسر له ما يشاهد، الألواح، الفواصل، القدم. ارتد إليه اللغز الذي لا سبيل إلى حله ولكنه مفهوم، على ما في ذلك من تناقض. مفهوم ذلك الفهم الذي لا يستند إلى المعرفة وهو الفهم الذي كان ما يزال مهيأ له على الرغم من الأشياء المحسة والألفاظ التي برزت من الذاكرة.
وفجأة، وبطرف عينه، لمح حركة اندفاع سريع. وتحقَّق له أن الانفتاح للسعادة والفهم هو كذلك انفتاح للفزع، ولعدم الإدراك بتاتًا. وبدأ قلبه يدق بشدة أرجفته، وكأن هذا القلب مخلوق غريب يسكن صدره ويضطرب من ألم مبرح. واعتقد على كرهٍ منه أنه يوشك أن يلاقي الفزع الأكبر فأدار رأسه وأخذ ينظر حواليه.
قالت مطمئنة له: هذه إحدى سحليات توم كريشنا التي يلهو بها.
كان الضوء ساطعًا كأي وقت سبق. ولكن السطوع هذه المرة كان يرمز إلى شيء آخر. وميض الشر المطلق يشع من كل قشرة رمادية خضراء على ظهر المخلوق الذي تراءى له، كما يشع من عينين كالسَّبَج، ومن حلقه القرمزي النابض، ومن أطراف خياشيمه المسلحة وفمه المشقوق. وصرف عنه النظر، ولكن عبثًا؛ لأن الفزع الأكبر كان يتطلع إليه من كل شيء يقع عليه البصر. إن تلك التكوينات التي رسمها فنان تكعيبي للغز انقلبت الآن إلى آلات معقدة تنفث الضغينة. وذلك المنظر الطبيعي الاستوائي الذي مارس فيه اتحاده مع الله؛ بات الآن — وفي نفس الوقت — أشبه بتلك الصور المقلدة التي تعافها العين والتي شاعت في العهد الفيكتوري، أو كأنها السعير في حقيقته. وصفوف المجوهرات الناطقة خيم عليها وهي على رفوفها حلك الظلام كأشد ما يكون الظلام. هذه الجواهر التي خرجت من أعماق الأعماق تبدو الآن رخيصة، مبتذلة بدرجة لا توصف! وبعد أن كانت ذهبًا ولؤلؤًا وأحجارًا ثمينة لم تعُد الآن إلا كزينة شجرة عيد الميلاد، والبريق الزائف يشع من الصفيح الملون والبلاستيك. لا يزال كل شيء ينبض بالحياة، ولكنها الحياة التي تلمسها في أخس صالات البيع والشراء التي تقع فوق سطح الأرض. وهذا — كما أكدت الموسيقى الآن — هو ما تخلقه دائمًا القدرة الكبرى؛ شيء شبيه بمحلات ولورث على النطاق العالمي، محلات مليئة بالأهوال التي تنتج على أوسع نطاق. أهوال الابتذال، وأهوال الألم، والقسوة، وانعدام الذوق والبلاهة والحقد المقصود.
وطأطأ ويل رأسه مرة أخرى، إنها حقيقة خارقة للطبيعة؛ تلك السحلية المريعة ذات القشور، والعينين السوداوين الخاويين، وفم كفم القاتل، وحلق في حمرة الدماء ينتفخ مع بقاء الجسم ممتدًّا على الأرض ساكنًا سكون الموت؛ هذه السحلية هي الآن على بُعد ست بوصات من قدمه.
قالت سوزيلا: لقد رأت بعينيها غداءها. انظر إلى يسارك عند حافة الحصير.
أدار ويل رأسه.
وبطرف عينه لمح ويل حركة وثب أخرى، فأدار رأسه بحدة وأمكنه أن يرى السحلية وهي تزحف نحو قدمه، وأخذت تقترب شيئًا فشيئًا فوجَّه بصره وجهة أخرى فزعًا، وأحس شيئًا يمس أصابع قدمه، واستمر يدغدغ مشط القدم، ثم توقفت الدغدغة، ولكنه أحس شيئًا من الثقل فوق قدمه، قشورًا جافة تلمسها، وأراد أن يصيح، ولكنه كان فاقد الصوت، وحاول أن يتحرك فأبت عضلاته أن تستجيب.
وأخذت الموسيقى تعزف المقطع الأخير السريع بغير توقيت، الفزع يتقدم بنشاط ملحوظ، الفزع في زي مزركش مزخرف يقود الرقص.
الفزع متمثلًا في القشور، ساكن تمامًا، فيما خلا النبض في حلقه الأحمر. هذا الفزع رقد على مشط قدمه يحدق بعينين لا تعبران في فريسته التي حكم عليها القدر. وقد تشابك النموذجان الصغيران للكابوس وأخذا يرتعشان كما ترتعش أوراق الزهر في الريح، ويهتزان في تشنج من أثر الآلام التي يثيرها التلاقح والموت في وقتٍ واحد معًا. وانقضت فترة كأنها قرن من الزمان طويل، واستمرت الرقصة المرحة الخفيفة، رقصة الموت، على فاصل موسيقي بعد فاصل آخر.
وفجأة أحس خمشًا من أنياب صغيرة تتحرك فوق جلده. لقد زحفت مصاصة الدماء من فوق مشط قدمه إلى الأرض. ولبثت مكانها ساكنة سكونًا مطلقًا لفترة كأنها عمر طويل. وبسرعة غير معقولة انطلقت فوق الألواح الخشبية وفوق الحصير، وفتحت فاها الذي يشبه الشق ثم أغلقته. ومن بين الفكين القاضمين برز طرف جناح بنفسجي اللون ما زال يرفرف كورقة السحلبية يهزها النسيم. واهتزت ساقان هزًّا عنيفة برهة من الزمن، ثم اختفتا عن الأنظار.
ارتعد ويل وأغمض عينيه. ولكن فيما بين ما أحس من أشياء وما تذكَّر وما تخيَّل — وهو يعبر الطريق — طارده الفزع. وفي وهج الضوء الباطني امتد عمود لا نهاية له من الحشرات التي لمعت كما يلمع الصفيح ومن الزواحف البراقة، متجهة من اليسار إلى اليمين، وخارجة من مصدر خفي للكابوس نحو ذروة وحشية مجهولة. جونجيلس جونجيلويديس بالملايين، تتوسطها مصاصات للدماء لا تُعَد ولا تحصى، آكل ومأكول؛ إلى الأبد.
وفي أثناء ذلك، كان المقطع الموسيقي الأخير من كونسرتو براندنبرج الرابع يعزف ويعزف باستمرار بالقيثارة والمزمار والكمان. يا لها من موسيقى خفيفة مرحة تعزف نشيد الموت. يمين، شمال، يمين، شمال … ولكن ما هي كلمة الأمر للحشرات سداسية الأرجل؟ وفجأت تحولت الحشرات سداسية الأرجل إلى حيوانات تسير على قدمين، وتحول العمود اللانهائي من الحشرات بغتة إلى عمود لا نهائي من الجند، يسيرون كأولئك الجند ذوي القمصان البنية التي كانت تسير في شوارع برلين قبل اندلاع الحرب بعام واحد، ألوف الألوف من الجند، أعلامهم ترفرف، وأزياؤهم الرسمية تتوهج ببريق جهنمي كأنهم نفايات يسطع عليها الضوء الكاشف، كالحشرات يسيرون بأعداد لا حصر لها، وكل واحد منهم يتحرك بدقة الآلة، وبالانقياد الكامل الذي تتصف به الكلاب الوفية، ووجوههم، يا لها من وجوه! لقد شهد من قبلُ ختام شريط الأنباء الألماني، وها هم يعودون مرة أخرى، بصورة واقعية خارقة للطبيعة حية ذات أبعاد ثلاثة.
وهذا وجه هتلر الوحشي بفمه المفتوح يصيح، وهذه وجوه المستمعين من كافة الفئات المتنوعة، وجوه ضخمة بلهاء تستقبل كل ما يُلقى عليها فوق لوحة بيضاء، وجوه أناس يمشون وهم نيام بعيون مفتوحة، ووجوه شباب نوردي ملائكي تسبح في رؤى طوبوية، وجوه قديسين في حلل مزخرفة في بهجة ونشوة، وجوه المحبين وقد بلغت بهم اللذة ذروتها، شعب واحد، مملكة واحدة، قائد واحد، اتحاد في وحدة خلية النحل، فهم بغير معرفة للهراء والشعوذة.
ثم يعود شريط الأنباء إلى الصفوف المكتظة، إلى الصلبان المعقوفة، إلى الفرق النحاسية، ومنومها المغناطيسي يصيح فوق المنصة. وهنا مرة أخرى في وهج ضيائه الباطني يظهر طابور الأشخاص في الزي البني فيما يشبه الحشرات، يسير إلى غير غاية على أنغام هذه الموسيقى التافهة المزعجة، إلى الأمام أيها الجنود النازيون، إلى الأمام أيها الماركسيون، إلى الأمام أيها المسيحيون، إلى الأمام كل شعب مختار، وكل صليبي، وكل صانع للحرب المقدَّسة، إلى الأمام نحو الشقاء، والشر، والموت.
وفجأة وجد ويل نفسه متطلعًا إلى ما سوف يتحول إليه هذا الطابور السائر عندما يبلغ نهاية المسير؛ ألوف الجثث في أوحال كوريا، كتل لا حصر لها من القاذورات تتسخ بها الصحراء الأفريقية. وهنا (وقد أخذ المنظر يتغير بسرعة ومفاجأة مذهلة) هنا ترقد الجثث الخمس الملوثة التي رآها منذ بضعة أشهر فقط، وجوهها إلى أعلى وحلوقها جريحة في فناء عزبة جزائرية. وهنا — من ماضٍ يسبق هذا التاريخ بنحو عشرين عامًا — ترقد تلك المرأة العجوز، ميتة عارية تمامًا وسط صخور بيت مشيد من الجص في غابة سنت جون. وهنا — بغير انتقال — غرفة نومه الرمادية الصفراء، تنعكس في مرآة خزانة الملابس صورة جسمين شاحبين، جسمه وجسم بابز، يتزاوجان في جنون بمصاحبة ذكرياته عن جنازة مولي، ونغمات موسيقى الجمعة الحزينة من بارسيفال؛ يبثها راديو اشتوتجارت.
وتغيَّر المنظر مرة أخرى. وإذا بوجه العمة ماري يبتسم له في مرح شديد، في مكان يتزين بنجوم من الصفيح ومصابيح خيالية ثم تحوَّل الوجه أمام عينيه إلى وجه تلك الغريبة المنتحبة الخبيثة، التي حلَّت محلها خلال تلك الأسابيع الأخيرة الشنيعة التي سبقت التحول النهائي إلى النفايات المتخلفة، إشعاع من الحب وعمل الخير، ثم أسدل الستار، وأغلقت النافذة، ودار المفتاح في القفل، وإذا بهما كل في مكانه؛ هي في المقبرة، وهو في سجنه الخاص محكوم عليه بالحبس الانفرادي، وذات صباح جميل لا يعرف أجله يدركه الموت. العذاب في صالة البيع الرخيصة في الدور الأسفل من المبنى، والصلب وسط زينات شجرة عيد الميلاد، في الخارج أو الداخل، والعيون مفتوحة أو والعيون مغمضة، لا مجال للهروب.
وهمس لنفسه: «لا مجال للهروب.» وأكد باللفظ الحقيقة، وحوَّلت كلماته الحقيقة وجعلتها أمرًا مؤكَّدًا بغيضًا، ينفتح تارة إلى أعلى، وتارة إلى أسفل، وإلى عمق في أثر عمق من الابتذال الخبيث، جحيم إثر جحيم من آلام ليس من ورائها البتَّة غاية.
وبقوة كقوة الإلهام أدرك أن هذه الآلام لم تكن فقط عديمة الجدوى، بل كانت كذلك تتراكم، وتصبح من تلقاء نفسها أبدية. ومن المؤكَّد، ومما يُفزع كذلك، أن الموت كما جاء لمولي وكما جاء لعمته ماري ولغيرهما، لا بُدَّ أن يأتيه، ولكنه لن يبلغ هذا الحد من الخوف، ومن الاشمئزاز، ومن عذابات تأنيب الضمير، وكراهية النفس. الألم سوف يستمر إلى الأبد، على الرغم من خلوِّه دائمًا من المعنى، الإنسان في كل ناحية من نواحيه محدود بشكل بشع وبصورة تدعو إلى الازدراء، ولكنه ليس كذلك من ناحية الآلام.
هذه الجلطة الدموية المكثفة المظلمة الصغيرة في حجمها والتي يسميها المرء «أنا» … قادرة على تحمُّل الآلام قدرةً ليست لها حدود، وسوف تستمر الآلام إلى أبد الآبدين على الرغم من الموت. آلام الحياة، وآلام الموت، ورتابة الكروب المتتابعة في صالة البيع السفلى، والصلب الأخير في عالم زائف يتوهج وهج الصفيح والبلاستيك؛ هذه الآلام سوف تبقى دائمًا يتردد صداها وتتضخم على الدوام، وهذه الآلام لا تنتقل من شخص إلى آخر، والعزلة كاملة. إن وعي المرء بوجوده وعي بعزلته دائمًا، عزلة لا تختلف عن عزلته وهو في سرير بابز الذي يفوح منه المسك، أو عزلته وهو يشكو الألم في أذنه أو ذراعه المكسورة، أو مرضه السرطاني في دوره النهائي، أو وحدته في آلامه الدائمة، بعدما يظن أن كل شيء قد انتهى.
وفجأة أدرك أن شيئًا قد طرأ على الموسيقى؛ فلقد تغيَّر إيقاعها، دقت نغمة الانتهاء، نهاية كل شيء لكل إنسان، وعزفت موسيقى الموت القصيرة المرحة يسير على نغمتها المشاة حتى حافة الجبل، وكانوا يترنحون عند سفحه، وواصلت الموسيقى عزف مقطعها الأخير، سقطة الموت، السقوط في حفرة الموت. وفي الوقت المحدد وبالضرورة جاءت النغمتان المتوقعتان، ثم كانت الذروة، فالنهاية التي لا لبس فيها، وأعقب ذلك خمش ثم دَقة حادة ساد بعدها السكون. ومن خلال النافذة المفتوحة أمكنه أن يسمع نقيق الضفادع البعيدة، وأصوات الحشرات الخشنة الرتيبة، ومع ذلك فقط ظل الصمت سائدًا بشكل عجيب، وكالذباب في كتلة من العنبر، تاهت الأصوات في عالم شفاف لا لغو فيه وعجزت عن شقه أو حتى تحويره، وبقيت فيه نشازًا كليًّا، وازداد الصمت عمقًا، يتحول من كثيف إلى أكثف، لا يحده زمان، الصمت في كمين، صمت مترقب متآمر أشد خبثًا من مسيرة الموت التافهة المروعة التي سبقتها.
هذه هي الهوة التي ساقه صوت الموسيقى إلى حافَّتها، إلى الحافة، وإلى ما بعد الحافة، إلى هذا السكون الأبدي.
همس قائلًا: الألم لا نهاية له، ولا تستطيع أن تتكلم، بل ولا تستطيع أن تصرخ.
وقعقع المقعد، ورفرف الحرير، وأحس الهواء الذي جلبته الحركة على وجهه؛ كان ذلك اقتراب إنسان، ومن خلف جفنيه المغمضين أدرك بشكلٍ ما أن سوزيلا تركع أمامه، وبعد لحظة أحس يديها وهي تمس وجهه؛ راحتاها فوق خديه، وأصابعها تعبث بعارضتيه.
وأخذت الساعة الكبيرة في المطبخ تئزُّ ثم بدأت تدق إيذانًا بالوقت. دقة، دقتان، ثلاث دقات، أربع … وهبَّت في الحديقة الخارجية نسمة هامسة خشخشت بين أوراق الشجر بغير توقُّف، وصاح الديك، وبعد لحظة، ومن بعيد، جاء الصدى، وتلاه صدًى بعد صدًى في تلاحق. ثم كان صدى الصدى، وأصداء أخرى تتردد، ألحان التحدي تتحداها ألحان أخرى، وأنغام الاعتراض تعترضها أنغام أخرى. وبعدئذٍ انضم إلى الجوقة صوت آخر مختلف، واضح النبرة، ولكنه ليس إنسانيًّا، ومن خلال صياح الديك وضوضاء الحشرات نادى: انتباه، انتباه، انتباه!
وكررت سوزيلا بعده الكلمة: انتباه! وبينما كانت تنطق بالكلمة أحست أصابعها وقد بدأت تتحرك فوق جبهته. وبخفة سارت بها من حاجبيه إلى شعره، ومن عارضتيه إلى النقطة التي تتوسط بين العينين. وأخذت تُحرِّك أصابعها إلى أعلى وإلى أسفل، وإلى الخلف وإلى الأمام، تخفف من تقلصات العقل، وتسوي أخاديد الحيرة والألم، قالت: تنبه إلى هذا. وضاعفت من ضغط راحتيها على عظام صدغيه، ومن ضغط أطراف أصابعها فوق أذنيه، وكررت عبارتها: تنبه إلى هذا. إلى اللحظة الراهنة، إلى وجهك بين راحتي. ثم خففت من شدة الضغط، وبدأت أصابعها تتحرك مرة أخرى فوق جبهته.
ومن خلال صياح الديك الأجش الذي كان نشازًا في تلك اللحظة، نادى الصوت منبهًا في إلحاف: انتباه، انتباه، انتبا… وهنا قبل أن تتم الكلمة سكت الصوت.
هل يتنبه إلى راحتيها فوق وجهه، أم هل يتنبه إلى وهج الضياء الباطني، أم إلى تلك النجوم المتكاثرة من الصفيح والبلاستيك، أم — من خلال صنوف الابتذال المتدفقة — إلى تلك النفاية التي كانت مولي فيما مضى، أم إلى المرآة في بيت العاهرة، إلى تلك الجثث الملقاة في الوحل والتراب والصخور المتكسرة والتي لا يحصيها العد؟ وهناك أيضًا السحالي وجونجيلس جونجيلويديس بالاميين، وطوابير المشاة، وتلك الوجوه السابحة في عالم آخر، وجوه الملائكة النورديين الممعنين في الإصغاء.
وبدأ طائر المَيْنة ينادي ثانيةً من الجانب الآخر للبيت: انتباه، انتباه!
هز ويل رأسه وقال: انتباه إلى ماذا؟
– إلى هذا.
وغاصت بأظافرها في جلد جبهته، ثم قالت: هذا، الآن، وفي هذا المكان، وهو ليس شيئًا رومانسيًّا كالمعاناة والآلام، إنه مجرد الإحساس بأظافر أصابعي. وحتى إن كان ذلك أسوأ من الآلام التي عرفتها، فهو لا يمكن أن يدوم إلى الأبد أو يستمر إلى ما لا نهاية. ليس هناك أبدي، ولا لانهائي، اللهم إلا — ربما — طبيعة بوذا.
وحركت يديها، ولكن اتصالها به هذه المرة لم يكن بالأظافر، إنما كان بالجلد، وانزلقت أطراف أصابعها على حاجبيه، وبخفة شديدة نقلتها إلى جفنيه المغمضين. ولأول ومضة عين استولى عليه خوف قاتل. هل كانت تستعد لفقء عينيه؟ وقبع مكانه متأهبًا ليُلقي برأسه إلى الوراء ويَثِبَ على قدميه عند أول حركة من حركاتها. غير أن شيئًا لم يحدث، وتبددت مخاوفه شيئًا فشيئًا، وبقي وعيه بهذه اللمسة الودود التي لم يكن يتوقعها، والتي يكمن فيها الخطر، وكان الوعي حادًّا جدًّا، ولأن العينين حساستان إلى أقصى حد كان هذا الوعي كذلك مشتملًا على كل نفسه بحيث لم يبقَ له ما يدرك به الضوء الباطني أو الأهوال والأمور المبتذلة التي تتكشف له عن طريق هذا الضوء.
وهمست قائلة له: انتبه!
وكان من المستحيل ألا ينتبه. ومهما يكن من أمر فقد تحسست بأطراف أصابعها برفق وفي رقَّة شديدة أعماق أعماق شعوره، واستطاع الآن أن يرى غزارة الحياة في هذه الأصابع، أي دفء يشع منها ويُشعره بوخز خفيف!
تعجَّب قائلًا: إنها كالتيار الكهربائي.
قالت: ولكن الأسلاك لحسن الحظ لا تحمل رسائل، أنت تمس وبهذا المس تمس. اتصال كامل، وليس هناك ما ينقل. الأمر كله تبادل حياة بحياة. وصمتت برهة ثم قالت: هل تدرك يا ويل أنك في هذه الساعات الطوال التي جلسناها هنا معًا — وهي في حالتك قرون، وأبد الآبدين — لم تنظر إليَّ مرة واحدة؟ هل أنت تخشى ما يمكن أن تراه؟
وفكَّر في هذا السؤال وأخيرًا أومأ برأسه إيجابًا.
ثم قال: ربما كان الأمر كذلك. أخشى أن أرى شيئًا يتحتم عليَّ أن أشارك فيه، أمرًا ربما تحتم عليَّ أن أفعل شيئًا بشأنه.
– لذلك تشبثت بباخ وبالمناظر الطبيعية وبالضياء الصافي في الفراغ.
وقال شاكيًا: وهو ما حرمتني من النظر إليه.
– لأن الفراغ لا يُجديك نفعًا إلا إن أنت شهدت ضياءه في كل شيء وفي الناس، وهو أحيانًا أشد عسرًا.
تدبَّر قولها: أشد عسرًا.
وطافت بذاكرته طوابير المشاة وانعكاس الأجساد في المرآة، وكل تلك الجثث الملقاة على وجوه أصحابها في الوحل، وهز رأسه وقال: هذا مستحيل.
وأصرت قائلة: لا، ليس مستحيلًا، الضياء والرأفة أمران متلازمان، المتأمل الشَّرِه هو الذي يريد أن يمتلك الضياء ولا يعبأ بالرأفة، الناس الطيبون فحسب يحاولون أن يكونوا رحماء ويأبون أن يأبهوا بالضياء، وكما عهدت، المسألة هي أن تفيد من العالمين أكبر الفائدة. ثم قالت: وقد آن لك أن تفتح عينيك وترى كيف يكون شكل الكائن البشري في الواقع.
وتحركت أطراف أناملها من جفنيه إلى جبهته، ثم إلى عارضتيه، وإلى خديه، ثم إلى طرفي فكيه، وبعد لحظة أحس بهما على أصابعه. وكانت تضم يديه إلى راحتيها.
وفتح ويل عينيه ولأول مرة منذ أن تناول عقار الموكشا وجد نفسه يتفرس وجهها بإمعان.
وأخيرًا همس قائلًا: يا إلهي!
ضحكت سوزيلا وسألته: هل هو قبيح قبح مصاص الدماء؟
ولكن الأمر لم يكن الآن هزلًا. وهز ويل رأسه قلقًا، واستمر في تفرُّسه. كان محجرَا عينيها وما يغشاهما من ظلال أمرًا ملغزًا، وفيما خلا هلال ضئيل من الضوء يسطع على عظام خديها. كان كذلك الجانب الأيمن من خدها بأسره معتمًا. أما الجانب الأيسر فقد تلألأ بإشعاع ذهبي؛ بريقه خارق للطبيعة، ولكنه بريق لا هو وهج الظلام المبتذل الخبيث الذي يراه ولا هو اللهب البهيج الذي تكشَّف له في الفجر البعيد لأبديته خلف جفنيه المغمضين، كما تكشَّف له عندما فتح عينيه في الجواهر الناطقة، وفي تكوينات الفنانين التكعيبيين العجيبين. وفي المناظر الطبيعية التي تغيرت في شكلها. إن ما يراه الآن هو تناقض الأضداد التي تلاقت لقاء لا فكاك منه، تناقض الضوء يشع من الظلام، والظلام في قلب الضياء.
وصمت لحظة، ثم أومأ برأسه ليؤكد ما ذكر، ثم قال: نعم، هو ذاك. الشمس في تشارترز، والنوافذ ذات الزجاج الملون في صالون البيع، وصالون البيع هو كذلك غرفة التعذيب، ومعسكر الاعتقال، والمقبرة تزينها شجرة عيد الميلاد. والآن ينعكس صالون البيع، فيضم تشارترز وشريحة من الشمس، وينقلب إلى هذا؛ أنت وأنا بريشة رامبرانت. هل لذلك أي معنًى لديك؟
وأكدت له أن له عندها كل معنًى في هذه الدنيا.
ولكن ويل كان منشغلًا بالنظر إليها بدرجة لم تمكِّنه من الإصغاء إلى ما كانت تقول. وأخيرًا قال: أنت جميلة بشكل لا يصدقه أحد، ولو كنت قبيحة بشكل لا يصدقه أحد لما اكترثت؛ فسوف تظلين صورة من رسم رامبرانت مضاعفة آثارها خمسمائة مرة. وأخذ يكرر قوله: جميلة، جميلة، ومع ذلك لا أحب أن أتزوج منك. لا، هذا غير صحيح، بل أحب، وإلى درجة كبيرة جدًّا حقًّا. ولكني إذا لم أفعل ما اكترثت؛ فسوف أظل محبًّا لك، بالطريقة التي يُفترض أن يحب بها المرء سواه إذا كان مسيحيًّا. وكرر قوله: المحبة، المحبة، إنها أيضًا من تلك الكلمات التي تلوث معناها. إذا قيل «إنه يحب» أو «يمارس الحب»، فالاستعمال هنا صحيح، ولكن «المحبة» الخالصة؟ هذا فحش لا أستطيع النطق به. ولكن دعينا من هذا الآن … وابتسم وهز رأسه وقال: صدَّقت أم لم تصدِّقي، أنا الآن أستطيع أن أفهم ما يقصدون حينما يقولون: «الله محبة.» قد يبدو ذلك هراء، ولكنه الحق. ثم إن هناك وجهك غير العادي بصورة لا تصدَّق. لكأني أنظر إلى كرة من البلور، صورة تتجدد في كل حين. إنك لا تستطيعين أن تتخيلي …
ولكنها كانت تستطيع أن تتخيل وقالت: لا تنسَ أنني كنت هناك بنفسي.
– وهل نظرت إلى أوجه الناس؟
وسكتت عن الكلام، وفجأة ألفى ويل نفسه ناظرًا إلى الثكل مجسَّدًا وكأن سبعة سيوف تطعن قلبها. رأى علامات الألم في العينين السوداوين، وحول أطراف فهمها ذي الشفتين الغليظتين فعرف أن الجرح كاد أن يقتلها، وأنه لا يزال مفتوحًا تسيل منه الدماء؛ عرف ذلك وفي قلبه وخز الألم. ضغط على يديها، وبالطبع لم يكن لديه ما يقول؛ لا كلمات، لا عزاء بفكر فلسفي. لم يكن هناك سوى لغز التلامس المشترك. هذا الاتصال من الجلد إلى الجلد والذي يتدفق بغير نهاية.
وأخيرًا قالت: ما أسهل أن يعود المرء إلى الماضي! ذلك أمر غاية في السهولة، وكثيرًا ما يتكرر. وتنفست تنفسًا عميقًا واعتدلت في جلستها.
وقد حدث في وجهها وفي جسمها كله تغيُّر آخر أمام عينيه؛ فلقد رأى في ذلك الجسم النحيل قوة تكفي لمقاومة أي نوع من أنواع المعاناة، إرادة أقوى من كل السيوف التي يمكن للقدر أن يطعنها بها، رابطة الجأش، قوية العزيمة.
وعاد إلى ذاكرته ذلك الصوت الهادئ الذي كان يخاطبه في حديث متدفق لا يقاوم عن الإوز العراقي، والكاتدرائية، وعن السحب والمياه الساكنة. وبينما كان يستعيد ذكرياته بدا له وجهها متوهجًا بشعور النصر. إنها قوة كامنة؛ رأى التعبير عنها، وأحس وجودها المريع فتراجع أمامها.
همس قائلًا: من تكونين؟
وحدقت فيه لحظة دون أن تنبس ببنت شفة، ثم قالت في مرح وهي تبتسم: لا تُرَع؛ فلست أنثى فرس النبي.
وبادلها ابتسامة بابتسامة؛ وكأنه يرد ابتسامة فتاة ضاحكة تشتهي القبل وتدعو إليها في صراحة.
قال: حمدًا لله. وعاد إليه الحب الذي كان قد تقلص من الفزع، عاد إليه يجرفه تيار من السعادة.
– على أي شيء تحمده؟
– على أنه أعطاك نعمة الإحساس.
ابتسمت مرة أخرى وقالت: أرى أن القط قد خرج من مخبئه.
قال: كل هذه القوة، وكل هذه الإرادة المريعة التي تدعو إلى الإعجاب. كان من الممكن أن تكوني شيطانًا. ولكن لحسن الحظ، وبإرادة الله …
أكدت له أنها كل هؤلاء مضاف إليهن امرأة بلهاء، وأخرى شديدة القلق وأم ليست على قدر كبير من كفاية الأمومة، وهي فوق ذلك شديدة التمسك بالمبادئ حالمة في يقظتها منذ الطفولة، وكذلك تكمن في المرأة العجوز التي تعاني سكرات الموت، والتي نظرت إليَّ من المرآة في المرة الأخيرة التي تناولنا فيها عقار الموكشا معًا. وبعد ذلك نظر ديوجولد ورأى منظره بعد أربعين عامًا، وأضافت: وفي أقل من شهر بعد ذلك كان من الأموات.
ما أسهل الرجوع إلى الماضي! وما أكثر الرجوع إليه! … وفي ظلام شبه اللغز، وفي توهج الضوء الذهبي العجيب تحول وجهها مرة أخرى إلى قناع من الآلام، واستطاع أن يرى عينيها مغمضتين داخل محجريهما المظلمين؛ فلقد عادت إلى زمن آخر وكانت وحيدة في مكان آخر، تَخِزُها السيوف ويسيل الدم من جرحها. وكانت الديوك في الخارج تصيح، وبدأت مينة أخرى تنادي بنغمة أعلى من سابقتها قليلًا مطالبة بالرأفة.
– انتباه، انتباه!
– كارونا.
ورفع ويل يده مرة أخرى ولمس شفتيها.
– هل تسمعين ما يقولون؟
ومضى وقت طويل قبل أن تجيب. ثم رفعت يدها وأمسكت بإصبعه الممتدة وضغطتها بشدة على شفتها السفلى، وقالت: شكرًا لك.
وفتحت عينيها مرة أخرى.
– لماذا تشكرينني؟ أنت التي علمتني ما أفعل.
– والآن أنت الذي ينبغي لك أن تعلِّم معلمتك.
وكمعلمَين هنديَّين روحانيَّين متنافسَين كل منهما يروِّج لمذهبه الروحاني صاحت المَينتان إحداهما تقول: كارونا، والأخرى تقول: انتباه، وكل منهما يحاول أن يُغرق حكمة الآخر في المضاربة. وكان هناك في الحديقة المجاورة ديك صغير صاح بصوت قوي معلنًا عن تألُّهه زاعمًا أنه وحده يملك جميع الإناث ولا يعجز عن إرضائها أبدًا، متحديًا كل مدَّعٍ للذكورة كاذب، بإيمان من لا يُقهر.
ومن خلال قناع الآلام ابتسمت سوزيلا. وقد عادت من عالمها الخاص — عالم السيوف والذكريات — إلى الحاضر، وقالت: هذا الصياح الذي يصدر عن الديك الصغير كم أعشقه! ما أشبهه بتوم كريشنا حينما يطوف سائلًا كل من لاقاه أن يتحسس عضلاته. وهذه المَيْنات التي لا يتصورها العقل، إنها تردد بإخلاص النصائح الطيبة التي لا تفقه لها معنًى. إني أعبدها كما أعبد البنطم (دجاج صغير الحجم) الذي أقتنيه.
وسألها: وما رأيك في ذلك النوع الآخر من ذوات القدمين، ذلك النوع الذي لا يفتن إلى هذا الحد؟
وكانت إجابتها أن انحنت إلى الأمام، وأمسكت به من ناصيته وجذبت رأسه إلى أسفل وقبَّلته في أرنبة أنفه، وقالت: والآن حان الحين لكي تحرِّك ساقيك.
ونهضت على قدميها ومدَّت يدها إليه، وأمسك بها وجذبته من مقعده.
وقالت: بعض ذوات القدمين يصيح صياحًا سلبيًّا، ويلوك كالببغاء كلامًا خلوًا من الحكمة.
وسألها: ما الذي يضمن لي أني لا أعود إلى الغثيان؟
وأكدت له في ابتهاج: ربما عدت إليه. ولكنك ربما عدت أيضًا إلى هذا.
وتوثبا على الأقدام.
ضحك ويل: هذا عندي تجسيد خفيف للشر. وأمسكته من ذراعه وسارا معًا حتى النافذة المفتوحة، وإذا برياح خفيفة تهب متقطعة وتهز سعف النخيل إيذانًا باقتراب الفجر. وفي أسفل ظهرت شجيرة خبيزة تمتد جذورها في الأرض الندية التي تفوح منها رائحة لاذعة؛ وفرة بالغة من أوراق الشجر البراقة اللامعة والنباتات المتسلقة قرمزية اللون وقد أظهرها في ظلام الليل، الذي تزيد من حلكته الأشجارُ الباسقة، سهمٌ من نور المصباح يخرج من الغرفة.
قال غير مصدق لما يرى: هذا مستحيل. وقد طاف بخاطره نور السماء متمثلًا في الرابع عشر من شهر يوليو.
ووافقته بأن ذلك مستحيل وقالت: ولكنه — كأي شيء آخر في الكون — أمر واقع. والآن وقد أدركت وجودي، أسمح لك أن تفعل ما يُثلج صدرك.
ووقف مكانه بلا حراك، يحملق ويحملق وتدور بذهنه أفكار عميقة تتزايد ودلالات عويصة تتكاثر في تتابع لا نهاية له، واغرورقت عيناه بالدموع وسالت أخيرًا على خديه، فأخرج منديله ومسحها.
واعتذر قائلًا: لا أستطيع أن أكفكف الدمع.
لم يستطع ذلك لأنه لم تكن لديه وسيلة أخرى يعبِّر بها عن الشكران، شكران لامتيازه في أن يبقى على قيد الحياة ويشهد هذه المعجزة، ولا يكفي أن نقول يشهد بل الأصح أن نقول يشارك، أو أن يكون وجهًا من وجوهها. الشكران لهبة السعادة المضيئة والفهم الذي لا يستند إلى معرفة. شكران لأنه في وقت واحد اتحد مع الوحدة المقدَّسة مع بقائه هذا المخلوق المحدود بين غيره من المخلوقات المحدودة.
قالت: وهي جنة أكثر نعيمًا لأنها جنة فوق الأرض وليست جنة في السماء.
وعلى حين غِرَّة، وسط صياح الديوك ونقيق الضفادع، ووسط ضوضاء الحشرات وجدل المعلمين الهنود الروحانيين، سمع صليل أسلحة آتيًا من بعيد.
وتعجبت قائلة: عجبي! ما هذا؟
أجاب مبتهجًا: إنهم الأطفال يلعبون بالصواريخ.
هزت سوزيلا رأسها وقالت: إننا لا نشجع هذا النوع من الصواريخ، بل ولا نقتنيها.
وفي الطريق العام الذي يقع خلف جدران المجمع تعالى صوت عربات ثقيلة تصعد في بطء شديد، وقد شق ضجيج العربات صوت جهير له صرير يُلقي من خلال مكبر للصوت كلامًا غير مفهوم.
وفي الظلال المخملية بدت أوراق الأشجار كقشور من اليشم والزمرد، ومن قلب بريق هذا الحشد من الجواهر لمعت قطع من الياقوت المنحوت بصورة عجيبة على شكل خمسة أنجم. شكرًا، شكرًا. ومرة أخرى اغرورقت عيناه بالدموع.
وقد تجمعت مقاطع من الكلمات التي خرجت من مكبر الصوت وتكاملت في ألفاظ مفهومة. وأخذ يُصغي على الرغم منه.
سمع المنادي يقول: يا أهل بالا. ثم تحول الصوت في المكبر إلى مقاطع منفصلة، وكان صريرًا ثم زئيرًا، ثم صريرًا، ثم بقية العبارة: أنا الراجا أخاطبكم … الزموا الهدوء … رحِّبوا بأصدقائكم الوافدين عبر المضيق …
وأشرقت الحقيقة: هذا موروجان.
– يصحبه جند ديبا.
صاح الصوت المتردد المنفعل قائلًا: التقدم، الحياة الحديثة … وتنقل من سيرز إلى روبك إلى الراني وكوت هومي، ثم صاح: الحق، القيم … الروحانية الصادقة … البترول.
قالت سوزيلا: انظر، انظر! إنهم يتجهون نحو المجمع.
وسطعت أشعة موكب المصابيح الأمامية لحظة على الخد الأيسر لتمثال بوذا الصخري إلى جوار بركة اللوتس ثم اختفت، ثم أشارت مرة أخرى إلى إمكان التحرر المنشود واختفت للمرة الثانية. وقد ظهرت هذه الأشعة من فجوة تفصل بين أجمتين من آجام الخيزران.
صاح الصوت الذي تضخَّم في مكبر الصوت: عرش أبي ينضم إلى عرش أسلاف أمي. أمَّتان شقيقتان تسيران إلى الأمام، بأيد متشابكة، نحو المستقبل … وتعرف منذ الآن باسم مملكة راندنج وبالا المتحدة … والكولونيل ديبا ذلك القائد السياسي الروحاني هو أول رئيس للوزراء بالمملكة المتحدة …
اختفى موكب المصابيح الكشافة خلف سلسلة كبيرة من المباني وتشتت الصوت الصادر من المكبر حتى سكت نهائيًّا، ثم ظهرت الأضواء مرة أخرى ووضح الكلام.
كان المنادي يقول في غضب: الرجعيون والخائنون لمبادئ الثورة الدائمة …
وهمست سوزيلا قائلة بنغمة تنمُّ عن الذعر: إنهم يقفون أمام منزل الدكتور روبرت.
وصدرت عن الصوت الكلمة الأخيرة، وأطفئت المصابيح الكشافة، وأوقفت محركات العربات التي كانت تزأر بالضجيج. وفي السكون المظلم المتوقع واصلت الضفادع والحشرات مناجاتها لا تبالي، ورددت المَيْنات نصيحتها الطيبة: انتباه، كارونا. وتطلَّع ويل إلى شجيرته المحترقة ورأى الحقيقة المثلى للعالم، كما رأى وجوده، يومضان بالضوء الصافي، وهو بعينه الرأفة (كما وضح الآن كل الوضوح!) ذلك الضوء الصافي الذي اختار ويل دائمًا — كغيره من الناس — أن يعمى عنه، وتلك الرأفة التي آثر عليها التعذيب دائمًا، التعذيب يتحمله أو يوقعه، في صالات البيع الرخيص، وفي عزلته الزَّرِية، مع بابز الحية أو مع مولي الميتة في مقدمة الصورة، أو مع جو ألديهايد وسط الصورة. وفي الخلفية البعيدة ذلك العالم الكبير عالم القوى المجهولة والأعداد المتكاثرة والمصابين جماعة بالجنون، والشعوذة المنظمة.
وهناك دائمًا وفي كل مكان صياح المنوَّمين المغناطيسيين أو تسلُّطهم وهم ساكنون، وفي أعقاب الموحين الحاكمين تسير دائمًا وفي كل مكان حشود المهرجين والمروجين، ومحترفي الأكاذيب، والمتعهدين الذين يقدمون أسباب اللهو التي لا تمت بصلة إلى الواقع، وضحاياهم في أزياء موحدة يُكيَّفون منذ المهد، وتصرف أنظارهم بلا توقف، وينوَّمون بنظام، فيواصلون المسير إلى الأمام وإلى الخلف طائعين — دائمًا وفي كل مكان — يَقتلون ويُقتلون في طاعة تامة كطاعة الكلاب المدرَّبة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من موقف الرفض الذي له ما يبرره كل التبرير فهناك حقيقة ثابتة وسوف تبقى على ثباتها دائمًا وفي كل مكان؛ وهي أن هناك قدرة حتى عند المجنون على التفكير الذكي، وقدرة حتى عند من يعبد الشيطان على المحبة. ستبقى هذه الحقيقة: وهي أن أساس الوجود كله يمكن أن يظهر بتمامه في شجيرة مزهرة، أو في وجه إنسان، وستبقى أيضًا هذه الحقيقة: وهي أن هناك ضياء وأن هذا الضياء هو كذلك الرأفة.
وسُمعت طلقة من بندقية، ثم انفجار طلقات من بنادق آلية.
وغطَّت سوزيلا وجهها بيديها، وأخذت ترتجف ولا تملك زمام نفسها.
وطوَّق بذراعه كتفيها وضمها إليه.
إن عمل مائة عام يتحطم في ليلة واحدة، ومع ذلك فهناك حقيقة ثابتة؛ وهي حقيقة نهاية الأحزان وحقيقة الأحزان ذاتها.
وأُديرت محركات العربات، وأخذت الآلات المحركة واحدة بعد الأخرى تزأر زئير الحركة، وأُشعلت الأضواء الكاشفة، وبعد دقيقة من جلبة المناورة، بدأت العربات تتحرك ببطء شديد عائدة من الطريق الذي أتت منه.
ودوَّى مكبر الصوت بفاتحة النشيد العسكري مصحوبًا بأنشودة المرح الفاسق، وعرف ويل أن هذا هو النشيد القومي لراندنج، وسكت النغم وظهر موروجان مرة أخرى.
ونادى الصوت: هذا الراجا يتحدث إليكم. وبعدما عزفت الموسيقى نغمة خاصة توحي بالإعادة، تلا المنادي مرة أخرى ذلك الخطاب الذي ألقاه من قبلُ عن التقدم والقيم والبترول والروحانية الحق. وبغتة — كما حدث من قبلُ — اختفى الموكب عن الأنظار والأسماع. وبعد دقيقة واحدة ظهر مرة أخرى مصحوبًا بصوت مرتعش يصدر عن رجل يترنم بمزايا أول رئيس للوزراء بالمملكة المتحدة الجديدة.