الفصل الثالث
وفجأة سمع ويل فارنبي صوتًا عميقًا يعلِّق على ما حدث ويقول: يسرُّني أن كل ما وقع إنما يدعو إلى الضحك.
وتلفَّت ويل خلفه ورأى رجلًا صغير الحجم نحيلًا في زي أوروبي ويحمل حقيبة سوداء، وابتسم الرجل لويل. وقدَّر ويل أن الرجل في أواخر خمسينياته. وكانت فوق رأسه قبعة من القش تُخفي تحتها شعرًا أبيض غزيرًا، وأنفه عجيب الشكل يشبه المنقار، وعيناه زرقاوان لا تتفقان مع وجهه الأسمر.
ونادته ماري ساروجيني صائحة: جدي!
وتلفَّت الرجل الغريب من ويل إلى هذه الطفلة.
وسألها: ممَّ تتعجبين؟
وبدأت ماري تتكلم ثم سكتت عن الكلام بُرهةً لتجمع أفكارها، ثم قالت: كان في سفينة بالأمس وهبَّت العاصفة فتحطمت السفينة ولجأ إلى الشاطئ هناك، فكان عليه أن يتسلق الجبل. وكان فوق الجبل بضعة أفاعٍ، ثم سقط، ولكن لحُسن حظِّه كانت هناك شجرة ولذلك فلم يحدث شيء سوى إصابته بدرجة من الرعب، الذي سبَّب له رعشة شديدة؛ ولذلك أعطيته بعض الموز، وحثثته على أن يكرر ما حدث ألف ألف مرة. وبغتةً أدرك أن الأمر لم يستحق ما أحسه من ذعر. أقصد أن كل شيء قد مضى وانتهى مما جعله يضحك، ومع ضحكه ضحكت، وبعدئذٍ ضحكت المَيْنة.
وقال الجد موافقًا على ما فعلت: حسنًا جدًّا.
والتفت إلى ويل فارنبي وخاطبه بقوله: والآن بعد الإسعاف السيكولوجي دعني أفحص ما يمكنني أداؤه لأخينا هذا الحمار المسكين. وبهذه المناسبة أقول لك: أنا الدكتور روبرت ماك فيل، فمن أنت؟
وقبل أن يُحِيرَ الرجل جوابًا قالت ماري ساروجيني: اسمه ويل، واسمه الآخر فار… لست أذكر بقية هذا الاسم الثاني.
– فارنبي. على وجه الدقة: وليام إسكويث فارنبي. وكان والدي — كما تتوقعون — من الأحرار المتحمسين، حتى وهو مخمور، بل وبخاصة وهو مخمور. وصدرت عنه ضحكة ساخرة عالية لا تُشبِه في شيءٍ تلك الضحكة المرحة التي ملأ بها شدقيه وعبَّر بها عن ترحيبه بما تنبَّه إليه من أنه لم يحدث في الواقع شيء يستحق ما أثار من ضجة.
وسألته ماري ساروجيني باهتمام شديد: وهل أحببت والدك؟
وأجابها ويل: ليس بالقدر الذي ينبغي.
وأفهم الدكتور ماك فيل الفتاة أن ما يعنيه هو أنه كان يكره أباه. ثم أضاف عرضًا: إن كثيرين يكرهون آباءهم.
ثم جلس القرفصاء وشرع يفكُّ أحزمة حقيبته السوداء، وقال مخاطبًا ويل: أظن أنك أحد رجالنا الإمبرياليين السابقين.
وقال فارنبي مؤكِّدًا: وُلِدتُ في بلومزبري.
فاستنتج الدكتور أنه من الطبقة العليا، ولكنه ليس فردًا من فئة الجيش أو أعيان المقاطعة.
وعاد فارنبي إلى الحديث فقال: هذا صحيح. ولقد كان والدي محاميًا وصحافيًّا سياسيًّا، وذلك عندما لم يكن مشتغلًا بتعاطي الخمور. أما أمي؛ فقد لا تصدقون أنها ابنة رئيس الشمامسة، إي والله رئيس الشمامسة! وضحك مرة أخرى كما ضحك من قبلُ على حب والده للبراندي.
وحدق الدكتور ماك فيل في الرجل لحظةً، ثم التفت مرة أخرى إلى أحزمة حقيبته.
وبنغمة العالم الموضوعي قال: عندما تضحك بهذا الشكل يصبح وجهك قبيحًا بدرجة عجيبة.
وأخذ ويل بهذه الملاحظة وحاول أن يُخفي اضطرابه بشيء من التظرف، فقال: إنه قبيح دائمًا.
– بل على العكس إنه جميل من وجهة نظر بودلير، إلا عندما يعنُّ لك أن تُصدر أصواتًا كعواء الضبع. لماذا تُحدِث هذه الأصوات؟
وقال ويل: أنا صحافي، مراسل خاص، يؤجر على تجوله في أنحاء العالم ليروي ما يشاهد من أسباب الفزع الشائعة. أيَّ صوتٍ آخر كنت تتوقع مني؟ كوكو؟ بلا بلا؟ ماركس ماركس؟ وضحك مرة أخرى، ونطق بإحدى طرائفه التي أتقنها، وقال: أنا رجل من الرافضين لكلِّ شيء.
وقال الدكتور ماك فيل: حسنًا، حسنًا جدًّا، والآن دعنا نباشر العمل. وأخرج من حقيبته مقراضًا وشرع يمزق الجانب المهلهل الملطخ بالدماء من السروال الذي كان يكسو ركبة ويل الجريحة.
وحدق فيه ويل وتعجَّب إلى حد بقي هذا الرجل أسكتلنديًّا على أصله وإلى حد استحال إلى بالانيزي (من أهل بالا). عيناه زرقاوان وأنفه بارز ولا شك. أما بشرته السمراء، ويداه الدقيقتان، ورشاقة حركته فهي بالتأكيد من مكان يقع جنوبي تويد (في أسكتلندة) ويبعد عنها كثيرًا.
وسأله: هل ولدت هنا؟
وهز الدكتور رأسه إيجابًا: في شيفابيورام، في يوم وفاة الملكة فيكتوريا.
وبعد قصة أخيرة من المقراض وقع جانب السروال وانكشفت ركبة ويل. وفحصها أولًا بدقة الدكتور ماك فيل وقرر أنها «ملطخة». ثم أضاف: ولكن لا أظن أن الجرح خطير. والتفت إلى حفيدته وقال لها: أريدك أن تعودي إلى المحطة وتطلبي إلى فيجايا أن يحضر إلى هذا المكان ومعه أحد الرجال الآخرين، وقولي لهم أن يأخذوا نقالة من المستشفى.
وأومأت ماري ساروجيني برأسها ونهضت دون أن تنبس ببنت شفة وأسرعت مُهروِلة في الوادي.
وتابع ويل بنظرته هذه الفتاة ذات الجسم الصغير؛ ونظر إلى ردائها السُّفلي الأحمر وهو يتأرجح من جانب إلى آخر، وإلى جذعها ذي البشرة الملساء وقد تلألأ في لون ذهبي وردي في ضوء الشمس.
وقال للدكتور ماك فيل: حفيدتك رائعة حقًّا.
وبعد فترة من الصمت قال الدكتور: كان أبوها أكبر أبنائي. وقد مات منذ أربعة أشهر في حادث وهو يتسلق الجبل.
وتمتم ويل معزيًا، ثم كانت فترة أخرى من الصمت.
وفتح الدكتور ماك فيل زجاجة الكحول، ثم مسح يديه.
وقال لويل محذِّرًا: سيؤلمك هذا قليلًا، وأقترح أن تُصغي إلى الطائر. ولوَّح بيده في اتجاه الشجرة الذابلة التي عادت إليها المَيْنة بعد رحيل ماري ساروجيني.
– أنصت إليه جيدًا، وركز الإنصات، وسوف أصرف ذهنك عن الألم.
وأصغى ويل فارنبي، وعادت المَيْنة إلى موضوعها الأول.
وكان المزمار الناطق ينادي: انتباه، انتباه!
وسأل ويل: انتباه إلى ماذا؟ آملًا أن يظفر بجوابٍ شافٍ أفضل من الجواب الذي تلقَّاه من ماري ساروجيني.
قال الدكتور ماك فيل: إلى الانتباه!
– انتباه إلى انتباه؟
– طبعًا.
وتغنَّت المَيْنة بلفظة «الانتباه»، وكأنها تؤكد قولها ساخرة.
– هل لديكم العديد من هذه الطيور الناطقة؟
– انتباه!
– ها هي ذي.
وجفل الرجل وعض على شفته.
– انتباه، انتباه، انتباه!
نعم لقد صدق، فإن أنت أمعنت في الإصغاء، خفَّ عنك الألم.
– انتباه، انتباه …
وقال الدكتور ماك فيل وقد أخذ يضمد الجرح: إنني لا أتصور كيف حاولت أن تتسلق هذا الجبل.
وطرقت أُذنه أصواتٌ صادرة عن الجانب الآخر من الوادي، فأدار ويل رأسه ورأى ماري ساروجيني وهي تخرج من بين الأشجار، إزارها يتأرجح وهي تخطو، وسار من خلفها رجل ضخم كالتمثال البرنزي عاريًا إلى خصره ويحمل فوق كتفه أعمدةً من الخيزران وقماشًا ملفوفًا لنقالة خفيفة، ويتبع هذا العملاق شاب مراهق نحيل القوام، أسمر البشرة، يرتدي سروالًا قصيرًا أبيض.
وعندما اقترب الرجل الشبيه بالتمثال البرنزي قال الدكتور ماك فيل: هذا فيجايا باتاشاريا، وهو مساعدي.
– في المستشفى؟
وهز الدكتور ماك فيل رأسه وقال: في حالات الطوارئ فقط؛ إذ إنني لم أعُد أمارس الطب. هذا الرجل وأنا نعمل معًا في محطة للتجارب الزراعية. أما موروجان مالندرا (ولوَّح بيده مشيرًا إلى الفتى الأسمر) فهو معنا مؤقتًا، يدرس علم التربة وتربية النبات.
وانتحى فيجايا جانبًا ووضع يده الضخمة على كتف زميله، ودفعه إلى الأمام. ونظر ويل إلى ذلك الوجه الغض العابس، وعرف فورًا بشيء من الدهشة والذهول أنه ذلك الشاب أنيق الملبس الذي التقى به منذ خمسة أيام في راندنج لوبو، والذي ركب معه سيارة الكولونيل ديبا المرسيدس البيضاء وطاف بها أرجاء الجزيرة. وابتسم، وانفرجت شفتاه للكلام ولكنه تحكَّم في إرادته، وهزَّ الفتى رأسه بشكل غير ملحوظ ولكن بصورة تؤكد لويل ما طاف بخاطره.
ولمح ويل في عينيه تعبيرًا عن توسُّل المكروب. وتحركت شفتاه دون أن يُحدِث بهما صوتًا وكأنه قال: أرجوك، أرجوك … وأعاد ويل انضباط وجهه.
وقال في نغمة تنمُّ عن المعرفة عن العارضة الرسمية.
– أهلًا بك يا مستر مالندرا.
وتنفَّس موروجان الصعداء وقال: أهلًا. وانحنى قليلًا إلى الأمام.
ونادى فيجايا قائلًا: مستعدون!
وأدار ويل رأسه ورأى النقالة مُلقاة على الأرض إلى جانبه.
وقال الدكتور ماك فيل: حسنًا! دعنا نحمله عليها، ولنكن جد حريصين …
وبعد دقيقة واحدة كان الموكب يشق طريقه في طريق ضيق يقع بين الأشجار. وقد ركبت العربةَ ماري ساروجيني، وجاء جدُّها في المؤخرة، وسار بينهما موروجان وفيجايا على طرفَيِ النقالة.
وتطلَّع فارنبي من سريره المتحرك واخترق بنظره ظُلمة الأشجار الخضراء وكأنه في قاع البحار، وفوق رأسه وعند السطح استمع إلى خشخشة أوراق الشجر، وإلى صوت القِرَدة. ثم رأى عددًا من طير أبي قردان يتوثَّب هنا وهناك، وهي أشبه بكائنات من خلق الخيال المضطرب، وكأن الطير يسبح في سحب من الأعشاب.
وسأله فيجايا وقد انحنى لينظر في وجهه وهو جَزوع: هل تشعر بارتياح؟
وردَّ عليه ويل بابتسامة وقال: أنا مرتاح راحة الترف.
وطمأنه الآخر بقوله: ليس المكان بعيدًا، وسوف نبلغه بعد بضع دقائق.
– وأين هو المكان؟
– محطة التجارب. إنها أشبه بروثامستد. هل زرت روثامستد عندما كنت في إنجلترا؟
وقد سمع ويل طبعًا بالمكان غير أنه لم يزُره قط.
واستطرد فيجايا قائلًا: إن العمل يدور به منذ أكثر من مائة عام.
وقال الدكتور ماك فيل: منذ مائة وثمانية عشر عامًا على وجه التحديد. وقد بدأ لوز وجلبرت العمل في المخصبات في عام ١٨٤٣م، وجاء أحد تلاميذهما إلى هذا المكان في أوائل الخمسينيات لمساعدة جدي في تشغيل المحطة. وكانت الفكرة إيجاد روثامستد في المناطق الحارة؛ فيها ومن أجلها.
وشاع الضوء في الخضرة الداكنة وبعد دقيقة واحدة خرجت المحفة من الغابة إلى الوهج الشديد الذي يتميز به ضوء الشمس في المناطق الحارة. ورفع ويل رأسه وتلفَّت حواليه. وقد باتوا على مقربة من أرض مدرج ضخم. وعلى عمق خمسمائة قدم امتد وادٍ فسيح تتخلله الحقول الخضراء، وتنتشر فوقه مجموعات من الأشجار ومن البيوت المتلاصقة. وفي الناحية الأخرى كانت السفوح تتصاعد آلاف الأقدام متجهة صوب نصف دائرة من الجبال. ومن الوادي إلى القمم التي بدت كالحائط تشقه الشرفات امتدت حقول الأرز على مسطح واحد من الأرض في شكل مصاطب تمتد فوق مصاطب أخرى ذهبية اللون أو خضراء، مما أظهر في وضوحٍ كلَّ ارتفاع أو انخفاض في المنحدر وكأن الصورة قد صُمِّمت عن قصدٍ وبذوق سليم. إن الطبيعة هنا لم تعُد مجرد طبيعة، والمنظر الطبيعي هنا قد صُمِّم ورُدَّ إلى أصوله الهندسية وقام بأدائه مصوِّر وُهب معجزة البراعة الفنية فرسم هذه الخطوط المتعرجة وهذه الأشرطة من الألوان البرَّاقة الصافية.
وبعد صمتٍ طويل شقَّ سكونه الدكتور روبرت بسؤاله: ماذا كنت تصنع في راندنج؟
– أجمع المادة لمقالٍ عن نظام الحكم الجديد.
– أظن أن الكولونيل جدير بالإخبار عنه.
وضحك ويل وهو يقول: أنت مخطئ؛ فهو ليس إلا دكتاتورًا «عسكريًّا»؛ ومعنى ذلك أن الموت يَلُوح في الأفق. والموت دائمًا خبر من الأخبار. حتى رائحة الموت التي تفوح من بعيد خبر من الأخبار؛ ولذلك طُلب إليَّ أن أمرَّ بهذه الجزيرة وأنا في طريق عودتي من الصين.
وكانت هناك أسباب أخرى آثَرَ ألَّا يتعرض لذكرها؛ فالصحف ليست إلا همًّا واحدًا من هموم اللورد ألديهايد. وإنما هو من ناحية أخرى يمثل شركة بترول جنوب شرقي آسيا، كما يمثل شركة النحاس الأجنبية الإمبريالية المحدودة. ومن الناحية الرسمية جاء ويل إلى راندنج ليشتمَّ رائحة الموت في جوِّه العسكري. غير أنه كُلِّف كذلك بالتعرُّف على آراء الدكتاتور بالنسبة لرأس المال الأجنبي، ومدى استعداده لتخفيض الضرائب، وأية ضمانات يقدِّمها لعدم التأميم، ومقدار الأرباح التي يسمح بتصديرها؟ وكم من التقنيين والإداريين الوطنيين يجب استخدامهم، ومجموعة أخرى من التساؤلات العديدة. ولكن الكولونيل ديبا كان في الواقع دمثًا للغاية ومتعاونًا؛ ومن ثَمَّ كانت تلك الرحلة بالسيارة التي قادها موروجان بسرعة رهيبة إلى مناجم النحاس. لا تزال بدائية يا عزيزي فارنبي، وبحاجة ماسة كما تلمس بنفسك إلى المعدات الحديثة. وتذكَّر الآن ويل أنه كان قد اتفق على لقاءٍ آخر في نفس هذا الصباح، وتصوَّر الكولونيل جالسًا إلى مكتبه وأمامه بلاغ من رئيس الشرطة بأن المستر فارنبي قد شوهد أخيرًا وهو يُبحِر في قارب صغير وحيدًا في مضيق بالا، وبعد ساعتين هبَّت عاصفة شديدة … والمفروض أنه قد لاقى حتفه. ولقد كان الأمر غير ذلك؛ فها هو حيٌّ يُرزق فوق الجزيرة المحرَّمة.
وكان جو ألديهايد قد ذكر له في آخر مقابلة لهما: إنهم لن يسمحوا لك بتأشيرة دخول. ولكنك ربما تستطيع أن تتسلل إلى الشاطئ متنكرًا؛ فالبس بورنسًا أو ما يشبهه كما فعل لورنس العرب.
ووعده ويل جادًّا: سوف أحاول.
– على أية حال إذا أنت استطعت أن تطأ بقدمك أرض بالا فتوجَّه رأسًا إلى القصر. فراني — وهي الملكة الأم هناك — صديقة لي من زمن بعيد. وقد قابلتها للمرة الأولى منذ ست سنوات في لوجانو. وكانت تقيم هناك مع فوجيلي العجوز وهو صاحب بنك الاستثمار، وصديقته مهتمة بالروحانيات وقد أعدت لي جلسة روحانية. الوسيط بوق، والصوت مباشر حقيقي؛ إلا أن الكلام لسوء الحظ كان بالألمانية. وعلى كل حال — بعدما أعادوا الإضاءة — تبادلت معها حديثًا طويلًا.
– مع البوق؟
– لا، لا، مع راني، فهي امرأة رائعة، تتزعم حملة صليبية للإشادة بدور الروح.
– وهل هذه الحركة من اختراعها؟
– قطعًا، وأنا شخصيًّا أوثرها على حركة «إعادة التسلح الخلقي». وهي مفضلة في آسيا. ولقد تحدَّثنا عنها ذلك المساء، ثم تحدثنا بعد ذلك عن البترول، وبالا مليئة به. ولقد حاولت شركة بترول جنوب شرقي آسيا لعدة سنوات أن تستولى عليه. وكذلك فعلت جميع الشركات الأخرى. ولكن دون جدوى، فلم تعطِ في هذا السبيل امتيازات لأي فرد، وهذه هي سياستهم الثابتة. ولكن راني لا توافق عليها، فهي تحب أن ترى للبترول أثرًا طيبًا في العالم، كأنْ يموِّلَ الحملة الصليبية للروح مثلًا؛ ولذلك فكما قلت لك: إذا هبت إلى بالا فتوجه رأسًا إلى القصر، وتحدَّث معها، لتصل إلى حقيقة أمر الرجال الذين بيدهم إصدار القرارات. واكشف لنا إن كانت هناك قلة تحبذ الإفادة من البترول، واسأل كيف نستطيع أن نعاونهم على الاستمرار في جهودهم الطيبة.
وفي نهاية حديثه وعد ويل بمكافأة مجزية إذا تُوِّجت جهوده بالنجاح، مكافأة تكفيه أن يتفرغ عامًا كاملًا: لا أريد منك بعد اليوم تقارير، لست أريد إلا فنًّا رفيعًا، أريد فنًّا. وضحك ضحكة عالية داعرة كأنه لم يقل «فنًّا»، وإنما قال كلمة بذيئة. يا له من مخلوق غير معقول! ولكنه على الرغم من ذلك كان يكتب لصحف تافهة يملكها مخلوق غير معقول، وكان على استعداد أن يرتشي لكي يؤدي عملًا قذرًا لرجل وضيع. والآن لا يستطيع أن يصدِّق أنه فوق أرض بالا. إن العناية السماوية لحسن حظه كانت حليفته لكي يرتكب — لغرضٍ هامٍّ بالتأكيد — مهزلةً عملية خبيثة مما تكرس السماء لها إرادتها.
وردَّته إلى الواقع الراهن ماري ساروجيني بصوتها الحادِّ إذ قالت له: ها نحن قد وصلنا.
وقال الدكتور ماك فيل وقد التفتَ إلى موروجان: هذا بيتي ذو الطابق الواحد، اسمح لي أن أعاونك على صعود السُّلَّم.