الفصل السادس
وبعد أن انغلق الباب وراءهما انفجرت الممرضة الصغيرة وقالت: يا إلهي!
وقال ويل: وأنا على اتفاق تام معك.
وتلألأ الضوء الفولتيري لحظة على وجه باهو الإنجيلي، وكرر قوله: يا إلهي! ثم أردف قائلًا: ذلك ما تفوَّه به تلميذ إنجليزي عندما رأى الهرم الأكبر لأول مرة. والراني تترك في الرائي نفس الأثر؛ إنها أشبه بالأثر الضخم. وأخذ الضوء المتلألئ يختفي وعاد وجه باهو كوجه سافونارولا تمامًا لا لبس فيه، وأمست كلماته — بصورة واضحة — صالحة للنشر.
وبدأت الممرضة الصغيرة فجأة تضحك.
وسألها ويل: ما يُضحكك؟
فقالت وهي تلهث: لقد شهدت «الهرم الأكبر» بغتة مرتديًا الموصلين الأبيض. وهو الرداء الذي يسميه الدكتور روبرت الكسوة الصوفية.
وقال مستر باهو: وصف بارع، بارع جدًّا. ومع ذلك فقد أضاف بصيغة دبلوماسية: لست أرى لماذا لا يلبس المتصوفون الكساوي البيضاء إن راق لهم ذلك.
وتنهدت الممرضة الصغيرة تنهدًا عميقًا، ومسحت دموع الفرح التي تقاطرت من عينيها، وشرعت تستعد لإعطاء المريض حقنته.
ووجهت خطابها إلى ويل قائلة له: أعرف تمامًا ما يدور في خلدك. أنت تراني أصغر من أن أُتقِن عملًا.
– أنا بالطبع أرى أنك صغيرة جدًّا.
– أنتم تلتحقون بالجامعة في الثامنة عشرة وتمكثون بها أربع سنوات. أما نحن فنبدأ في السادسة عشرة ونواصل الدراسة حتى الرابعة والعشرين؛ ننفق نصف الوقت في الدراسة ونصفه الآخر في العمل. كنت أدرس علم الأحياء وأقوم في نفس الوقت بهذا العمل لمدة عامين؛ ولذلك فلست بتلك الغفلة التي قد تبدو لك. والواقع أنني ممرضة أتقن عملي.
وقال مستر باهو: هذا كلام أؤيده بغير تحفُّظ. الآنسة رادا ليست فقط ممرضة تُتقِن عملها، بل هي ممرضة من الطراز الأول قطعًا.
غير أن ما عناه حقًّا — كما تيقَّن ويل وهو يتمعن في الملامح التي بدت على ذلك الوجه الذي يشبه وجه الراهب أمام الإغراء الشديد — هو أن الآنسة رادا كان لها خصر من الطراز الأول، وسرة من الطراز الأول، وثديان من الطراز الأول. ولكن صاحبة السرة والخصر والثديين قد استنكرت — كما بدا بوضوحٍ — إعجاب سافونارولا، أو استنكرت على الأقل الأسلوب الذي عبَّر به عن إعجابه. وقد غالى السفير الذي قابلته بالصدود في أمله في رد الهجوم.
وأشعلت الممرضة المصباح الغازي لتغلي الإبرة فوق ناره. وكانت في هذا الوقت تقيس حرارة مريضها.
وقالت: ٩٩٫٢.
وسألها مستر باهو: وهل يعني ذلك أني لا بُدَّ أن أبعد؟
وردت عليه الفتاة بقولها: ليس بسببه.
قال ويل: لذلك أرجوك أن تبقي.
وأعطته الممرضة الحقنة المضادة للحيويات، وأخرجت من إحدى الزجاجات التي كانت في حقيبتها سائلًا أخضر اللون وصبَّت منه ملء ملعقة ورجَّت المحلول في نصف كوب من الماء.
– اشرب هذا.
وكان مذاقه شبيهًا بالمخلوطات العشبية التي يستبدلها بالشاي المتحمسون للتغذية الصحية.
وسألها ويل: ما هذا؟
وقالت: إنه مستخرج من نبات جبلي من فصيلة الناردين (عقار مهدئ للأعصاب).
واستطردت الممرضة الصغيرة قائلة: إنه يساعد على إزالة القلق دون أن يحمل من يتعاطاه على النوم. ونحن نعطيه للناقهين، كما أنه يفيد في الحالات العقلية.
– ومن أي الفئتين أكون؟ العقليين أم الناقهين؟
وردت بغير تردد: كلتيهما.
وضحك ويل ضحكة عالية وقال: هذا جزاء من يطلب الثناء.
وأكدت له أنها لم تقصد أن تكون فظة في كلامها. وأضافت: كل ما قصدت أني لم أقابل قط إنسانًا من الخارج ليس حالة من الحالات العقلية.
– ومنهم السفير؟
ووضعت السائل موضع المسئول حين قالت: وما رأيك أنت؟
وأحال ويل الأمر إلى مستر باهو وقال له: أنت خبير في هذا المجال.
وقالت الممرضة الصغيرة: سوِّيَا الأمر بينكما؛ إذ عليَّ أن أنصرف لكي أعدَّ طعام المريض.
وراقبها مستر باهو وهي تنصرف، ثم رفع حاجبه الأيسر وأسقط منظاره وشرَع بطريقة نظامية في تنظيف العدسة بمنديله، وقال لويل: أنت منحرف بصورةٍ ما، وأنا منحرف بصورة أخرى. أنت فصامي «ألست كذلك؟» وأنا — من الطرف الآخر في الدنيا — مصاب بجنون العظمة. وكلانا من ضحايا أوبئة القرن العشرين. وليس الوباء هذه المرة هو «الموت الأسود»، إنما هو «الموت الرمادي». وبعد لحظة من الصمت سأل صاحبه: ألم تهمَّك السلطة في أي وقت من الأوقات؟
وهز ويل رأسه مؤكِّدًا وقال: مطلَقًا، لا يمكن للمرء أن يملك السلطة ولا يلتزم.
– والفزع من الالتزام بالنسبة إليك أشد من المتعة التي تحسها في إزاحة الناس من حولك؟
– بآلاف المرات.
– ولذلك لم تكن السلطة تغريك في أي وقت من الأوقات.
وقال ويل: أبدًا. وبعد فترة من السكون أضاف بنغمة أخرى: دعنا نتحدث في العمل.
وردد باهو قوله: إلى العمل. اذكر لي شيئًا عن اللورد ألديهايد.
– إنه، كما قالت الراني، رجل كريم بشكل ملحوظ.
– لا تهمُّني فضائله، يهمني ذكاؤه فقط. إلى أي حدٍّ هو حادُّ الذكاء؟
– تبلغ به حدَّة الذكاء أن يُدرِك أن المرء لا يؤدي عملًا بغير مقابل.
وقال مستر باهو: حسنًا. انقل له عني أن العمل الفعال الذي يقوم به الخبراء في المواضع الاستراتيجية يقتضيه أن يتأهب لكي يدفع لك على الأقل عشرة أمثال ما سوف يدفعه لك.
– سوف أحرر له خطابًا بهذا الشأن.
ونصحه مستر باهو «أن يفعل ذلك اليوم»، وأضاف: لأن الطائرة تغادر شيفا بورام غدًا مساءً، ولن يصدر بعد ذلك بريد لمدة أسبوع كامل.
وقال ويل: أشكرك على ما أخبرتني به. والآن بعدما انصرفت صاحبة السمو وذلك المراهق الذي يُصدَم لكل شيء دعنا نتحدث في لون آخر من الإغراء. ماذا ترى في الجنس؟
وبيدٍ عظمية سمراء تتحرك إلى الأمام وإلى الخلف أمام وجهه قام مستر باهو بحركة تُشبه ما يفعله المرء عندما يريد أن يتخلص من مجموعة من الحشرات المزعجة وقال: الجنس لا يعدو أن يكون لونًا من ألوان التسلية. وهو مصدر للإغاظة يُضايق ويُذل. ولكن الرجل الذكي يستطيع دائمًا أن يتصدى له.
وقال ويل: ما أشقَّ أن يدرك المرء رذائل الآخرين!
– صدقت، وعلى المرء أن يلتزم بالخطأ الذي يبتليه الله به؛ وهذا ما كان ينصح به لوثر. ومن المهم ألا يأثم المرء غير إثمه، لا إثم غيره. وفوق هذا كله لا تفعل ما يفعله أهل هذه الجزيرة. لا تحاول أن تتصرف وكأنك بالضرورة عاقل وبالطبيعة فاضل. كلنا آثم معتوه نركب سفينة واحدة والسفينة غارقة دائمًا.
– وعلى الرغم من ذلك فإنه ليس لمخلوق مهما يكن تافهًا أن يترك السفينة. هل هذا ما تريد أن تقول؟
– قليل منهم يحاول أحيانًا أن يتركها، ولكنهم لا يذهبون بعيدًا. فإن التاريخ والمخلوقات التافهة الأخرى يتكفلون بإغراقهم مع الآخرين؛ ولذلك ليس لبالا أدنى فرصة.
وعادت إلى الغرفة الممرضة الصغيرة حاملة صينية.
وقالت وهي تربط ممسحة حول عنق ويل: هذا كله طعام بوذي ما خلا السمك. ولكننا قررنا أن تكون الأسماك من الخضروات من الناحية العملية.
وشرع ويل في تناول الطعام.
وبعدما ابتلع ما ملأ به فاه أولًا سألها قائلًا: كم من الأجانب قابلت في حياتك باستثناء الراني وموروجان وأنا وصاحبي هنا؟
وأجابت قائلة: قابلت مجموعة الأطباء الأمريكان، جاءوا إلى شيفا بورام في العام الماضي حينما كنت أعمل بالمستشفى المركزي.
– وماذا كانوا يفعلون هنا؟
– أرادوا أن يعرفوا لماذا تنخفض عندنا نسبة الإصابة بالأمراض العصبية والشرايين القلبية؛ عجبًا لهؤلاء الأطباء! وهزت رأسها ثم قالت: لقد أفزعوني حقًّا يا مستر فارنبي، وأفزعوا كل من بالمستشفى.
– ولذلك أنت ترين أن الطب عندنا بدائيٌّ جدًّا.
– هذا وصف خاطئ؛ إنه ليس بدائيًّا؛ إنه إما مريع وإما منعدم. المضادات الحيوية مدهشة؛ ولكن ليست هناك البتَّة وسائل لزيادة المقاومة حتى لا تعود للمضادات الحيوية ضرورة. والعمليات الجراحية خيالية؛ ولكن إذا نظرنا إلى تعليم الناس كيف يسلكون في حياتهم دون أن تُقطع من جسمهم أجزاء لم نجد شيئًا بتاتًا. وهكذا على طول الخط. درجة الامتياز لرتقك إذا تقطَّعت أوصالك، وفشل ذريع في الحفاظ على صحتك. إذا استبعدنا نظم المجاري والفيتامينات المركَّبة يبدو أنكم لم تفعلوا البتَّة شيئًا في سبيل الوقاية، ومع ذلك يقول المثل عندكم الوقاية خير من العلاج.
قال ويل: ولكن العلاج يدعو إلى الإعجاب أكثر مما تدعو إليه الوقاية. كما أنه يجلب للأطباء كسبًا أكثر.
وقالت الممرضة الصغيرة: ربما صح ذلك بالنسبة للأطباء عندكم، ولكنه لا يصح عندنا؛ فأطباؤنا يتقاضون أجورهم للحفاظ على صحة الناس.
– وكيف يتم ذلك؟
– لقد سألنا أنفسنا هذا السؤال مائة عام، ووجدنا له إجابات عدة، إجابات كيماوية، وإجابات سيكولوجية، وإجابات تتعلق بما تأكل، وكيف تمارس الحب، وما تسمع وما ترى، وإحساسك بمن تكون في هذا العالم.
– وأي الإجابات أفضل؟
– لا تكون إحداها أفضل بغير الإجابات الأخرى.
– أي إنه ليس لديكم دواء لكل داء.
– وهل يمكن أن يكون هناك؟! ثم روت الأنشودة الصغيرة التي تحفظها كل طالبة تمريض عن ظهر قلب منذ اليوم الأول من تدريبها، وهي:
ولذلك فنحن نحارب في جميع الجبهات، سواء كان الأمر وقاية أم علاجًا. وأكدت قولها: جميع الجبهات؛ من نظام التغذية إلى الإيحاء الذاتي، ومن الأيونات السلبية إلى التأمل والتفكير.
وعلَّق على ذلك ويل بقوله: معقول جدًّا.
وقال باهو: ربما كان أكثر من معقول. هل حاولت مرة أن تتكلم كلامًا معقولًا مع مجنون؟ وهزَّ ويل رأسه: أنا فعلت ذات مرة. ورفع خصلة الشعر التي وخَطَها المشيب والتي كانت تميل إلى أحد جانبي جبهته، وظهر تحت حد الشعر أثر جرح مثلم، شاحب اللون غريب الشكل وسط البشرة السمراء. وقال: لحسن حظي أن الزجاجة التي رماني بها كانت رقيقة جدًّا. وسوَّى شعره المنفوش ووجَّه بصره نحو الممرضة الصغيرة. وكان وجهه يتلألأ كله بنوع من المرح الفولتيري المريب وهو يقول: لا تنسَي يا آنسة رادا أن لا شيء يطير بصوابِ مَن لا عقل له أكثر من العقل. وبالا جزيرة صغيرة يحيط بها إحاطةً كاملة ألفان وتسعمائة مليون من مرضى العقول؛ ولذلك حذارِ من المبالغة في التعقل. وفي بلد المجانين لا يمكن أن يصبح العقل الكامل ملكًا. إنهم يعدمونه بغير محاكمة.
وضحك ويل غير مُبالٍ، ثم صوَّب نظرَهُ مرة أخرى نحو الممرضة الصغيرة، وسألها: أليس لديكم من يطلب دخول مستشفى الأمراض العقلية؟
– عندما مثل ما عندكم؛ أقصد بالنسبة لعدد السكان. على الأقل هذا ما وردَ في الكتب الدراسية.
– ولذلك فإن السكنى في دنيا العقلاء لا تختلف عن السكنى في دنيا غير العقلاء.
– ليس الأمر كذلك مع أولئك الذين تجعلهم كيمياء أبدانهم من مرضى العقول. هؤلاء يولدون عرضةً للمرض. والمتاعب الصغيرة التي قد لا يلاحظها غيرهم تحطمهم تمامًا. ولقد بدأنا من عهد قريب فقط نكشف عن الأسباب التي تجعلهم عرضة للمرض، وبدأنا نتبناهم قبل أن ينهاروا. وما إن تم فرزهم حتى أمكننا أن نزوِّدهم بقدْرٍ من المناعة. الوقاية كما ذكرت من قبلُ؛ وطبعًا من جميع الجبهات في وقت واحد.
– إذن فهناك فارق — حتى لمن قُدِّر لهم أن يكونوا من مرضى العقول — بين أن يولد الإنسان في عالم عاقل أو أن يولد في عالم غير عاقل.
– وهناك أيضًا فارق بالنسبة للمصابين بأمراض عصبية. نسبة مرضى الأعصاب عندكم واحد لكل خمسة أو حتى أربعة. أما عندنا فالنسبة واحد لكل عشرين. وهذا الواحد المنهار يجد العلاج، في جميع الجبهات. أما التسعة عشر الذين يتماسكون فقد وجدوا الوقاية في جميع الجبهات. ويعود بي هذا الحديث إلى أولئك الأطباء الأمريكان، وكان ثلاثة منهم من أطباء العلاج النفساني، وأحد هؤلاء يدخن السيجار بغير توقُّف وفي لغته لكنة ألمانية. وقد وقع عليه الاختيار لكي يحاضرنا. ويا لها من محاضرة! وأمسكت الممرضة الصغيرة برأسها بين كفيها وقالت: لم أسمع قط شيئًا مثلها.
– في أي موضوع كانت؟
– كانت عن طريقة معالجتهم لمن تبدو عليهم أعراض عصبية. ولم نكد نصدِّق ما سمعنا. إنهم لا يحاربون أبدًا في جميع الجبهات، إنما يحاربون في نصف جبهة واحدة. المريض عندهم لا جسم له إذا استثنيا الفم والشرج. إنه ليس كائنًا عضويًّا، ولم يولد بهيكل عام أو بمزاج خاص. كل ما لديه طرفا جهاز هضمي، وأسرة، ونفْس. ولكن أي نفْس؟ إنها قطعًا ليست العقل كله، أي ليست العقل كما هو على حقيقته. وكيف يمكن أن تكون كذلك في حين أنهم لا يأخذون تشريح بدن المريض في اعتبارهم، أو تركيبه الكيماوي الحيوي، أو وظائف أعضائه؟ العقل مستخلص من الجسد، هذه هي الجبهة الوحيدة التي يحاربون فيها، بل وليس في هذه الجبهة بأسرها، واستمر الرجل صاحب السيجار يتحدث عن اللاشعور. ولكن اللاشعور الذي أعاروه انتباههم هو اللاشعور السلبي؛ أي النفايات التي يحاول الفرد أن يتخلص منها بإلقائها في القاع، ولم يذكر كلمة واحدة عن اللاشعور الإيجابي، ولم يحاولوا مساعدة المريض على أن يُفصح عن مكنون نفسه لدفعة الحياة أو لطبيعة بوذا. بل ولم يحاولوا أن يعلِّموه زيادة الوعي في حياته اليومية. وأنت تعرف نداء المَيْنة: الآن في هذا المكان، وانتباه! وحاكت في ذلك طيورَ المَيْنة، ثم واصلت حديثها قائلة: هؤلاء القوم يكتفون بترك مريض الأعصاب البائس يتمرغ في عاداته القديمة التي لا تجعله بكُلِّيته في مكانه وزمانه. والأمر من أوله إلى آخره بلاهة في بلاهة! والعجيب أن صاحب السيجار لم يعترف بذلك، وكان ماهرًا في عرضه غاية المهارة؛ ومن ثَمَّ فإن الأمر عنده ليس بلاهة، إنما هو بالضرورة شيء إرادي، شيء ما يدفع المريض نحو مسلكه؛ كأن يكون مخمورًا، أو أن يلوك لنفسه فكرة سخيفة حتى يعتقد في صحتها لمجرد ورودها في كتاب مقدَّس. ثم انظر إلى رأيهم فيما هو طبيعي. صدِّق أو لا تصدق أن الرجل العادي عندهم هو من يشعر باللذة الجنسية والذي يتكيف مع المجتمع. ومرة أخرى وضعت الممرضة رأسها بين راحتيها. ثم أضافت: إن ذلك أمر لا يتصوره العقل! إنهم لا يفكرون في جدوى اللذة الجنسية، ولا يفكرون في لون مشاعرك أو آرائك أو مدركاتك، ثم ماذا عن المجتمع الذي يفترضون تكيُّفك معه؟ هل هو مجتمع عاقل أو مجنون؟ وحتى إن كان عاقلًا بدرجة قصوى، فهل من الصواب أن تتكيف معه تمامًا؟
وقال السفير وعلى شفتيه ابتسامته المتلألئة: من يرِد الله لهم الدمار يجعلهم مجانين. وتستطيع أن تقلب القضية وتقول يجعلهم عقلاء؛ وربما كان هذا الوضع المقلوب أبعد أثرًا. ثم نهض المستر باهو وسار نحو النافذة وقال: لقد وصلت عربتي، ولا بد لي من العودة إلى شيفا بورام وإلى مكتبي. والتفت إلى ويل وحيَّاه مودِّعًا لفترة طويلة وبعبارات بليغة، وعندئذٍ تخلَّى عن صفة السفارة وقال لويل: لا تنسَ أن تحرر الخطاب؛ إنه غاية في الأهمية. وتبسَّم تبسُّم المتآمر وحرك إبهام يمناه على الإصبعين الأولين، وكأنه يعدُّ المال غير المنظور.
وبعدما انصرف قالت الممرضة الصغيرة: الحمد لله. واستوضحها ويل: بمَ أساء؟ أليس هذا أمرًا عاديًّا؟
قالت: تُقدِّم مالًا لامرأة تريد أن تضاجعها؛ وهي لا تحبك، فتعرض عليها مزيدًا من المال. هل هذا من الأمور العادية في البلد الذي وفد منه؟
وأكد لها ويل: إن ذلك أمر عادي إلى أبعد الحدود.
– ولكني لم أستحسنه.
– لقد لمست ذلك. وإليك سؤالًا آخر. ماذا عن موروجان؟
– وما يدفعك إلى هذا السؤال؟
– حب الاستطلاع. وقد لاحظت أنكما التقيتما من قبلُ. فهل كان ذلك عندما كان هنا منذ عامين وحده بغير أمه؟
– وكيف عرفت ذلك؟
– حدثني عصفور صغير، وعلى الأصح عصفور ضخم جدًّا.
– الراني! لا بُدَّ أنها روت لك القصة وكأنها تروي عن سدوم وعمورية.
– ولكن لسوء حظي أنها حجبت عني التفصيلات المثيرة. مجرد تلميحات غامضة؛ ذلك كل ما باحت به لي، تلميحات — مثلًا — عن نساء محنكات من أمثال ميسالينا (إمبراطورة رومانية خانت زوجها) يعطين دروسًا في الحب للشبان السذج.
– وهل كان بحاجة إلى هذه الدروس؟!
– وتلميحات أيضًا عن فتاة في مثل سنه فوضوية نضجت قبل الأوان.
وانفجرت الممرضة آبو ضاحكة.
– هل تعرفينها؟
– هذه الفتاة الفوضوية التي نضجت قبل الألوان هي أنا.
– أنت؟ وهل الراني على علم بذلك؟
– إن موروجان ذكر لها الوقائع، ولم يذكر لها الأسماء، وأنا من أجل ذلك شكورة جدًّا؛ فلقد سلكت سلوكًا سيئًا؛ فقد صوابي لشخص لم أحبه في الواقع وآذيت شخصًا آخر أحببته. لماذا يكون الإنسان غبيًّا بهذه الدرجة؟
قال ويل: للقلب أسبابه، وللهرمونات أسبابها.
وساد صمت طويل. وقد انتهى من تناول السمكة المسلوقة الباردة ومن الخضروات، وناولته الممرضة آبو طبقًا من سلطة الفواكه.
قالت: إنك لم ترَ موروجان قط مرتديًا بيجامته الساتان البيضاء.
– هل فاتني شيء هام؟
– إنك لا تتصور كم يبدو جميلًا فيها. وليس لأحد الحق في أن يكون على هذا القدر من الجمال. إنه يتنافى مع الحشمة، ويعطي صاحبه امتيازًا على غيره بغير حق.
إن رؤيته في هذه البيجاما الساتان البيضاء التي حصل عليها من «سلكا» هي التي حملتها في النهاية على أن تفقد صوابها. وقد فقدته فقدانًا تامًّا إلى حد أنها تحولت إلى شخص آخر خلال شهرين؛ وأمست فتاة حمقاء تطارد شخصًا لا يطيقها وتهجر شخصًا أحبها دائمًا كما أحبته دائمًا.
وسألها ويل: إلى أي حد وصلت مع الفتى الذي ارتدى البيجاما؟
أجابت: حتى الفراش. ولكني لما بدأت أقبِّله قفز من فراشه وأغلق على نفسه الحمام، وأصر على ألا يخرج منه حتى أناوله بيجامته من خلال النافذة وأَعِده وعدًا شريفًا أني لن أضايقه. والآن أرى ما حدث أمرًا يدعو إلى الضحك. أما في ذلك الحين … وهزت رأسها واستكملت حديثها: فقد كانت مأساة كبرى، ولا بد أنهم قدروا من مسلكي بعد ذلك ما حدث. واتضح أن الفتيات الفوضويات اللائي ينضجن قبل الأوان لا يصلحن، وأن ما هو بحاجة إليه دروس نظامية.
قال ويل: أنا أعرف بقية القصة؛ الابن يكتب لأمه، والأم تعود بالطائرة إلى الوطن وتنقله فورًا إلى سويسرة.
– ولم يعودا إلا منذ نحو ستة أشهر. وقد قضيا على الأقل نصف هذه الفترة في راندنج في ضيافة عمة موروجان.
وأوشك ويل أن يذكر الكولونيل ديبا. غير أنه تذكَّر أنه وعد موروجان أن يكون حريصًا فلزم الصمت.
وسمع صوت صفارة آتيًا من الحديقة.
وقالت الممرضة الصغيرة: عن إذنك. واتجهت نحو النافذة، وابتسمت سعيدة بما رأت ولوَّحت بيدها وقالت: هذا رانجا.
– ومن هو رانجا؟
– صديقي الذي حدثتك عنه. إنه يريد أن يوجِّه إليك بعض الأسئلة. فهل تسمح له بالدخول دقيقة واحدة؟
– طبعًا.
وعادت إلى النافذة ولوحت له بحركة استدعاء.
– أفهم من ذلك أن البيجاما الساتان البيضاء قد اختفت نهائيًّا من الصورة؟
وأومأت برأسها إيجابًا وقالت: لقد كانت مأساة من فصل واحد، وسرعان ما استرجعت صوابي. وعندما استرجعته وجدت رانجا — كما كان دائمًا — في انتظاري.
وانفتح الباب على مصراعيه وولج الغرفة شاب طويل نحيل في حذاء الألعاب الرياضية وفي سروال خاكي قصير.
وقال معرِّفًا نفسه وهو يصافح ويل: أنا رانجا كاركاوران.
وقالت رادا: لو أنك تعجلت حضورك خمس دقائق لسَرَّك أن تلتقي بمستر باهو.
وكشر رانجا مشمئزًا وقال: وهل كان هنا؟
وسأل ويل: وهل هو على هذه الدرجة من السوء؟
وأخذ رانجا يعدد اتهاماته وقال: أولًا: هو يكرهنا. ثانيًا: هو تابعٌ حقير خاضع للكولونسل ديبا. ثالثًا: هو سفير غير رسمي لجميع شركات البترول. رابعًا: هذا الخنزير الحقير حاول أن يتصل برادا. خامسًا: أنه يطوف هنا وهناك محاضرًا في ضرورة الإحياء الديني، بل لقد نشر فيه كتابًا كاملًا قدَّم له شخص في مدرسة هارفاد للاهوت. وهو جزء من الحملة التي تُشن ضج استقلال بالا. إن ديبا يُخفي سيئاته في دعواته للإيمان بالله. لماذا لا يعترف المجرمون بما يقترفون؟ كل هذا الكلام تافه عن المثالية يسبب الغثيان.
ومدت رادا يدها وقرصت أذنه ثلاث قرصات قوية.
فبدا عليه الغضب أولًا ثم انفجر ضاحكًا وهو يقول: أيتها الصغيرة … أنت على حق. ومع ذلك فلم تكُ بك حاجة إلى قرص أذني بهذه الشدة.
واستوضح ويل راندا: هل هذا هو ما تفعلين دائمًا كلَّما حادَ عن الخط المستقيم؟
– كلما حادَ عنه في وقت غير ملائم أو لأمور ليس بوسعه أن يصنع فيها شيئًا.
واتجه ويل نحو الفتى وسأله: وهل لا بُدَّ لك دائمًا من أن تقرص أذنها؟
وضحك رانجا وقال: أنا أوثِر أن أضربها على عَجُزها. ولكن لسوء الحظ أنها قلَّما تكون بحاجة إلى ذلك.
– وهل معنى ذلك أنها أكثر اتزانًا منك؟
– أكثر اتزانًا؟ إنها عاقلة بدرجة غير عادية.
– وأنت عاقل بالدرجة المطلوبة؟
وهزَّ رأسه وقال: ربما انحرفت عن الوسط قليلًا إلى اليسار؛ فأنا أحيانًا أصاب باكتئاب شديد؛ أحس أنني لا أصلح لشيء.
قالت راندا: في حين أنه في الواقع جيد إلى درجة أنهم أعطوه منحة لدراسة الكيمياء الحيوية بجامعة مانشستر.
– وماذا تصنعين به عندما يقوم إزاءك بهذه الحيل اليائسة التي لا يرتكبها إلا آثم بائس؟ تشدِّين أذنيه؟
قالت: نعم أفعل ذلك كما أفعل أشياء أخرى. وتبادلت مع رانجا النظرات، ثم انفجرا ضاحكَين.
قال ويل: كفى، كفى. واستطرد قائلًا: وهذه الأشياء الأخرى — بحكم طبيعتها — تعني تطلُّع رانجا إلى مغادرة بالا لمدة عامين؟
قال رانجا: ليس إلى هذا الحد.
وقالت راندا في ثباتٍ: ولكن لا بُدَّ له من الذهاب.
وقال ويل متعجبًا: وهل سيكون سعيدًا عندما يذهب إلى هناك؟
قال رانجا: ذلك ما أردت أن أسألك عنه.
– لن يعجبك الجو، ولن يعجبك الطعام، ولن تعجبك الضوضاء ولا الروائح ولا العمارة. ولكنك سوف بالتأكيد تعجب بالعمل، وأرجح أنك سوف تحب عددًا لا بأس به من الناس.
وسألت رادا: وماذا عن الفتيات؟
وأجاب: كيف تريدينني أن أردَّ على هذا السؤال؟ نفاقًا أم صدقًا؟
– صدقًا.
– الحقُّ يا عزيزتي أن رانجا سوف ينجح في هذا المجال نجاحًا باهرًا. وعشرات الفتيات سوف يجدنه فاتنًا بدرجة لا تقاوم، وبعض هؤلاء الفتيات فاتن. فكيف يكون شعورك إذا عجز عن المقاومة؟
– سوف أُسَرُّ له.
والتفت ويل إلى رانجا وسأله: وهل يسرُّك إذا التمستْ عزاءها مع شاب آخر أثناء غيابك؟
قال: أود أن أكون مسرورًا. أما إن كنت أُسَرُّ فعلًا فذلك أمر آخر.
– هل سوف تطلب إليها أن تَعِدك بالوفاء؟
– لن أطالبها بأي وعد.
– حتى مع كونها فتاتك؟
– إنها ملك نفسها.
وقالت الممرضة الصغيرة: وهو ملك نفسه له الحرية أن يفعل ما يريد.
وتذكَّر ويل الفجوة القرنفلية التي كانت تضم سرير بابز وضحك من الأعماق، وأضاف قوله: وله الحرية فوق هذا في أن يفعل ما لا يريد. وألقى نظرةً على وجه رانجا ثم على وجه رادا، ولحظ أنهما يرمقانه في دهشة، واستطرد قائلًا بنغمة أخرى وبابتسامة مختلفة: ولكني نسيت. أحدكما عاقل بدرجة غير عادية والآخر يميل عن الوسط قليلًا إلى اليسار؛ ولذلك فأنتما لا يمكن أن تتفهما ما يتحدث عنه صاحب حالة عقلية مستوردة، مثلي. ودون أن يعطيهما الفرصة لكي يُجيبا عن سؤاله سألهما: خبِّراني، منذ متى … وكفَّ عن الكلام، ثم قال: ربما كنت في سؤالي غير حكيم. فإن كان الأمر كذلك قولا لي لا تتدخل فيما لا يعنيك. ولكني أود أن أعرف منذ متى قامت بينكما الصداقة، باعتباري من المهتمين بدراسة الإنسان.
وسألته الممرضة الصغيرة: هل تعني صديقَين أم تعني عاشقَين؟
– ولماذا لا تكونان هذا وذاك ونحن بصدد هذا الحديث؟
– لقد قامت بيننا الصداقة منذ ما كنا طفلين صغيرين، ثم أصبحنا عاشقين منذ ما بلغت الخامسة عشرة والنصف وبلغ هو السابعة عشرة لمدة عامين ونصف العام؛ إذا طرحنا عن اعتبارنا قصة البيجاما البيضاء.
– وهل لم يعترض أحد؟
– ولماذا يعترض؟
وردد ويل بعدها: فعلًا لماذا؛ ولكن الواقع أن كل امرئ في الجزء من العالم الذي جئت منه يعترض فعلًا.
وسأل رانجا: وماذا عن الفتيان الآخرين؟
– نظريًّا هذا أمر أشد تحريمًا مما هو في حالة الفتيات، وعمليًّا، تستطيع أن تتصور ما يحدث عندما يتجمع خمسمائة أو ستمائة صبي مراهق في مدرسة داخلية. هل يحدث مثل هذا هنا؟
– طبعًا.
– إني أتعجب.
– تتعجب؟ لماذا؟
– لأن البنات لسن محرمات.
– ولكن نوعًا من العشق لا يستبعد النوع الآخر.
– وكلاهما مشروع؟
– بالطبع.
– إذن ما كان لأحد أن يكترث إذا شغف موروجان بصبي آخر يرتدي البيجاما؟
– إذا كانت العلاقة طيبة.
وقالت رادا: ولكن الراني — لسوء الحظ — قد احتاطت لذلك احتياطًا شديدًا بحيث لم يكن له أن يهتم بأحد غيرها وغير نفسه بطبيعة الحال.
– لا فتية.
– ربما يحدث ذلك اليوم، لست أدري. كل ما أعلمه أنه في أيامنا لم يكن في دنياه فتية. لا فتية، ولا فتيات بالتأكيد. لم يكن في حياته غير أمه والعادة السرية والأسياد الصاعدون. ولم تكن في حياته سوى أسطوانات الجاز والعربات الرياضية والآراء الهتلرية بأن يكون زعيمًا عظيمًا يحول بالا إلى ما يسميه الدولة الحديثة.
قال رانجا: منذ ثلاثة أسابيع كان هو والراني بالقصر في شيفا بورام. ووجَّها الدعوة إلى جماعة منا من طلاب الجامعة لزيارة القصر والاستماع إلى آراء موروجان؛ في البترول والتصنيع، والتلفزيون، والتسليح، والحملة الروحية.
– وهل استطاع أن يهدي أحدًا إلى مذهبه؟
وهز رانجا رأسه وقال: لماذا يستبدل أي إنسان شيئًا سيِّئًا هزيلًا مملًّا بشيء دسم جيد شائق إلى أبعد الحدود؟ إننا لسنا بحاجة إلى زوارقكم السريعة أو إلى تلفزيونكم، وحروبكم وثوراتكم، ونهضتكم، وشعاراتكم السياسية، وذلك الكلام الفارغ الميتافيزيقي الذي يصدر عن روما وموسكو. هل لم تسمع من قبلُ بفكرة ماثيونا؟
– وما تلك؟
واضطر ويل إلى أن يعترف بأنه ليس لديه عنها إلا فكرة غامضة.
وقال ويل في نغمة معتدلة تنمُّ عن الشك: هذا حديث طيب.
وفي إصرار قال رانجا: وهناك أشياء أخرى غير ذلك.
وأضاف — وقد تحولت حذلقة الشباب إلى حماسة الشاب الذي يعتنق مذهبًا حديثًا: وهذا هو الفارق بين فلسفتنا وفلسفتكم؛ فلاسفة الغرب — حتى خيارهم — ليسوا إلا محدثين يجيدون الحديث. أما فلاسفة الشرق فهم في الأغلب محدثون لا يجيدون الحديث. غير أن هذا أمر لا يهم؛ فالكلام ليس هو المقصود. فلسفتهم براجمية (عملية) وممكنة التطبيق، وهي شبيهة بفلسفة الفيزياء الحديثة؛ غير أن التطبيقات فيها نفسية والنتائج تجاوز الطبيعة. الميتافيزيقيون عندكم يُصدِرون أحكامًا عن طبيعة الإنسان والكون، ولكنهم لا يقدمون للقارئ أية وسيلة لاختبار مدى الصدق في هذه الأحكام. أما نحن فإذا أصدرنا أحكامًا تابعناها بمجموعة من العمليات التي نستخدمها لاختبار مدى الصدق فيما نقول. خذ مثالًا لذلك قولنا: «أنت هكذا»، وهو لُبُّ فلسفتنا، وكرر العبارة: «أنت هكذا»، وقال: وما أشبه ذلك بالفرض في الميتافيزيقا. ولكن ما يعنيه حقًّا هو التجربة النفسية، ويصف الفلاسفة عندما العمليات التي يمكن للمرء عن طريقها أن يعيش التجربة، بحيث يمكن لأي فرد يرغب في أداء العمليات اللازمة أن يختبر بنفسه صدق العبارة: أنت هكذا. وهذه العمليات يسمونها يوجا أو ديانا أو زن أو — في حالات معينة خاصة — ماثيونا.
– ويؤدي بنا هذا إلى سؤالي الأول، وما هي الماثيونا؟
– ربما كان من الأفضل أن توجه هذا السؤال إلى رادا.
والتفت ويل نحو الممرضة الصغيرة وسألها: ما هي؟
وأجابت في جد ورزانة: هي يوجا الحب.
– مقدَّسة هي أم دنسة؟
– لا فرق بين الأمرين.
وأضاف رانجا: هذا هو المهم. حينما تمارس الماثيونا، تجد أن الحب الدنس هو الحب المقدَّس.
وروت الفتاة نصًّا بالسنسكريتية.
– لا تعبري بالسنسكريتية! ماذا تعنين؟
– ترجم يا راندا.
– صفة الاستنارة.
وأومأت راندا برأسها موافقة والتفتت ثانيةً نحو ويل، وقالت: المعنى أن التبوذ (أي أن تكون بوذا) موجود في يوني.
– في يوني؟ وتذكَّر ويل الرموز الحجرية للأنثى الخالدة التي اشتراها هدايا للفتيات اللائي كن يعملن بمكتبه من بائع أحدب في بنارس، وكان يدفع ثمانِ أنات (عملة هندية) ثمنًا لليوني السوداء، واثنتي عشرة للتمثال الأكبر قداسة وهو يوني لنجام، ثم سأل: هل التبوذ في يوني حرفيًّا أو على سبيل المجاز؟
وقالت الممرضة الصغيرة وقد ضحكت إحدى ضحكاتها الصادرة من قلبها بغير تكلُّف والتي تعبِّر عن سرورها: يا له من سؤال مثير للضحك! وهل تظن أننا نمارس الحب على سبيل المجاز؟ وكررت عبارتها السنسكريتية وقالت: إن هذا الضرب من التبوذ مقصود بحَرْفيته الكاملة المُطلقة.
وأومأ ويل برأسه إيجابًا؛ فقد عرف مؤرخًا أمريكيًّا تخصص في مجتمعات القرن التاسع عشر، وسأل بدوره: ولماذا عرفتها أنت؟
– لأنها ذكرت في كل الكتب التي درسناها عن تطبيق الفلسفة، والماثيونا أساسًا هي بعينها ما أسماه جماعة أونيدا (عفة الذكور)، وهو ما عرفه الرومانيون الكاثوليك من قبلُ وأطلقوا عليه مصطلحًا لاتينيًّا معناه التحفظ في الجماع.
وكررت الممرضة الصغيرة كلمة التحفظ وقالت: إن ذلك يثير فيَّ الضحك دائمًا. شاب متحفظ! وبدت غمازتان في خديها كما تلألأت أسنانها البيضاء وهي تضحك.
وقال لها رانجا بحدة: لا تكوني سخيفة. نحن جادُّون.
وعبَّرت عن أسفها وقالت: ولكن التحفظ في الواقع أمر يثير الضحك.
واختتم الحديث ويل قائلًا: هو في إيجاز تحديد النسل بغير استخدام موانع الحمل.
وقال رانجا: هذه ليست إلا بداية القصة. ولكن الماثيونا شيء آخر فوق ذلك، شيء أكثر أهمية. وفي صيغة التأكيد قال هذا الطالب الجامعي المتحذلق وقد واصل حديثه جادًّا: تذكر النقطة التي كان فرويد يضرب على وترها دائمًا.
– أي نقطة؟ كانت نقاطه كثيرة.
– النقطة الخاصة بالجنس عند الأطفال. إن ما نولد به، وما نمارسه خلال الطفولة الباكرة والمتأخرة هو شعور بالجنس ينتشر في الكائن العضوي كله. هذا هو الفردوس الموروث. ولكن الطفل يفقد هذا الفردوس كلما نما. والماثيونا محاولةٌ منظَّمة لاسترداد هذا الفردوس.
والتفت إلى رادا ووجه إليها الخطاب قائلًا: ذاكِرتك جيدة. ما هي تلك العبارة التي جاءت على لسان اسبينوزا والتي تُروى في كتاب الفلسفة التطبيقية؟
وروت راندا: اجعل الجسم قادرًا على أداء كثير من الأشياء، ذلك يساعدك على كمال العقل؛ ولذلك تبلغ الحب العقلي لله.
قال رانجا: ومن هنا كانت كل أنواع اليوجا بما فيها الماثيونا.
وأكدت الفتاة أنها يوجا حقيقية، مثل يوجا راجا ويوجا كرما ويوجا باكتي. بل إنها تَفْضُلها كثيرًا عند أكثر الناس. الماثيونا فعلًا تبلُغ بهم إلى هناك.
وسألها ويل: وأين «هناك» هذا؟
– «هناك» هو حيث تعرف.
– أعرف ماذا؟
قالت: تعرف من أنت في الواقع، أي تعرف أنك هكذا، وأنا هكذا، وهذا هو أنا. وظهرت الغمازتان ثانيةً وأبرقت الأسنان، وأشارت إلى رانجا وأضافت: وهذا أيضًا هو. وأشارت إلى رانجا وقالت: غير معقول. أليس كذلك؟ ثم أخرجت لسانها مشيرة إليه وقالت: ومع ذلك فهذا هو الواقع.
وابتسم رانجا، ومد يده ومس بسبابته طرف أنفها، ثم قال: إنه ليس واقعًا فحسب، بل هو حق ملهم؛ ولذلك عليك أن تلزمي الأدب أيتها الشابة.
وقال ويل: إنني أعجب لماذا لا نكون جميعًا من المستنيرين؛ أقصد أنه إذا كان الأمر مجرد ممارسة الحب بطرق خاصة. ما جوابكم على هذا؟
وبدأ رانجا يتحدث، وقال: أقول لك …
ولكن الفتاة قاطعته قائلة: استمع، استمع!
وأصغى ويل، واستمع إلى ذلك الصوت العجيب غير الإنساني الذي كان أول ما رحب به في بالا آتٍ من بعيدٍ واضحًا وإن يكن خافتًا، وكان الصوت يردِّد: انتباه! انتباه! انتباه!
– الطائر الملعون مرة أخرى.
– ولكن ذلك هو السر.
– انتباه؟ إنك منذ لحظة كنت تقولين إنه شيء آخر، وماذا عن ذلك الشاب «المتحفظ»؟
– إنما ذلك يُيسِّر له الانتباه!
وأمَّن على ذلك رانجا وقال: إنه فعلًا ييسره له، وذلك هو سر الماثيونا. ليست الطرق الخاصة هي التي تجعل من ممارسة الحب يوجا، إنما هو نوع الوعي الذي تجعله هذه الطرق ممكنًا. الوعي بما عندك من إحساسات والوعي بما في الحس من لا حس.
– وما هو اللاحسُّ؟
– هو المادة الخام للحس الذي تمدني به اللانفس.
– وهل تستطيع أن توجه انتباهك إلى اللانفس؟
– طبعًا.
والتفت ويل إلى الممرضة الصغيرة وسألها: وأنت أيضًا؟
أجابت: أوجِّه انتباهي إلى نفسي وإلى لا نفسي في آن واحد، وكذلك إلى لا نفس رانجا، وإلى نفس رانجا، وإلى جسم رانجا، وإلى جسمي وكل ما يحسه، وإلى كل الحب وكل الصداقة، وإلى لغز الشخص الآخر؛ ذلك الغريب تمامًا الذي هو النصف الآخر لنفسك، والذي هو شبيه بلا نفسك. وفي أثناء ذلك يتنبه المرء إلى كل الأشياء التي يراها المرء بعيدة عن الرومانسية، غليظة، بل خسيسة، إذا كان رقيق العاطفة، أو إذا كان — وهو أسوأ — روحانيًّا مثل الراني العجوز المسكينة. غير أن هذه الأشياء ليست خسيسة لأن المرء يتنبه كذلك — إذا كان على وعي تام بها — إلى أنها في جمال كل ما عداها. وفي روعة كل شيء سواها.
واختتم رانجا الحديث بقوله: ماثيونا هي ديانا. وقد ظن أن استعمال لفظة أخرى قد يفسِّر كل شيء.
وسأله ويل: وما هي ديانا؟
– هي التأمل.
– التأمل.
وتذكَّر ويل تلك الفجوة القرنفلية التي تعلو شارع تشارنج كروس. ولم تكن لفظة «التأمل» في ظنه لتتناسب مع الموقف. ولكن عندما فكَّر في الأمر مرة ثانية وجد أنه حتى في هذا الموقف كان هناك نوع من الخلاص. ولم تكن تلك اللمحات الخاطفة في الضوء المتغير الذي يعلن عن «بورترز جين» سوى لمحات تنأى به عن إحساساته الذاتية البغيضة أثناء النهار. كما كانت كذلك — لسوء الحظ — لمحات خاطفة تبعده عن بقية كيانه؛ تنأى به عن الحب، وعن الذكاء، وعن الآداب العامة، وعن كل أنواع الوعي ما عدا الوعي بتلك النوبة التي انتابته في الضوء الشاحب أو في الوميض الوردي الذي كان يَصدر عن أرخص الأوهام وأشدها ابتذالًا. ثم أعاد النظر إلى وجه رادا المضيء. أية سعادة أحس بها! وأي دليل قاطع لا على الخطيئة التي أصر المستر باهو على أن يجعل الدنيا آمنة من أجلها، ولكن على نقيضها الذي يبعث على السعادة والصفاء. وجهها يهز المشاعر هزًّا عميقًا، ولكنه رفض أن يهتز. إنه أمر لا بُدَّ أن يُطاع، ولكنه غيَّر بؤرة التفكير فاستطاع أن يرى الأمر كله مهزلة أكيدة. ماذا عسانا فاعلون لنظفر بالخلاص؟ الجواب هو أن نلبي نداء الطبيعة.
وابتسم لهذه الفكاهة التي تفكَّه بها لنفسه، وألقى سؤالًا تهكميًّا حيث قال: هل تعلمتم الماثيونا في المدرسة؟
وأجابت رادا بواقعية بالغة محت بها كل ما بدا في سؤاله من سخرية كسخرية رابليه، وقالت: نعم في المدرسة.
وأضاف رانجا: كل امرئ يتعلمها.
– ومتى يبدأ التعليم؟
– في نفس الوقت تقريبًا الذي نبدأ فيه تعليم حساب المثلثات والمستوى الأعلى في علم الأحياء، أي بين الخامسة عشرة والخامسة عشرة والنصف.
– وبعدما يتعلم الطالب الماثيونا، ويخرج إلى الدنيا ويتزوج؛ إن كنتم تتزوجون؟
وأكدت له رادا أنهم يتزوجون.
– هل يواصلون ممارستها؟
– لا يمارسها الجميع بطبيعة الحال. ولكن يمارسها الكثيرون.
– في كل الأوقات؟
– إلا إذا أرادوا أن يكون لهم طفل.
– وماذا عمن لا يريد أطفالًا ولكنه ربما أراد شيئًا من التحول عن الماثيونا؛ ماذا يفعل؟
قال رانجا باقتضاب: موانع الحمل.
– وهل هذه الموانع ميسورة؟
– ميسورة! الحكومة توزِّعها مجانًا وبغير مقابل؛ إلا بالطبع ما يُدفع في سبيلها من ضرائب.
وأضافت رادا: إن ساعي البريد يوزع على كل فرد ثلاثين منها في بداية كل شهر.
– ولا يكون هناك أطفال؟
– فقط من نريد منهم. وليس لأحد أكثر من ثلاثة، وأكثر الناس يكتفي باثنين.
قال رانجا وقد عاد إلى حذلقته وهو يُدلِي بإحصاءات في حديثه: وكانت النتيجة أن عدد السكان عندنا يتزايد بأقل من ثلث في المائة كل عام. في حين أن نسبة الزيادة في راندنج تبلغ مبلغها في سيلان؛ نحو ثلاثة في المائة. والنسبة في الصين اثنان في المائة. وفي الهند حوالي واحد وسبعة من عشرة.
قال ويل: كنت في الصين منذ شهر واحد فقط. فظيعة! وفي العام الماضي قضيت أربعة أسابيع في الهند، وقبل الهند كنت في أمريكا الوسطى، ونسبة الزيادة فيها تفوق حتى راندنج لسيلان. هل قام أحدكما بزيارة راندنج لوبو؟
وهز رانجا رأسه إيجابًا.
وأضاف قوله: إذا بلغ الطالب الصف السادس في المرحلة العليا من التعليم يقضي ثلاثة أيام في راندنج؛ وهذه الزيارة جزء من الدراسة المتقدمة في علم الاجتماع. إنهم يجعلون الطالب يرى بنفسه ما عليه العالم الخارجي.
وسأله ويل: وما رأيك في العالم الخارجي؟
وأجاب رانجا بسؤال آخر حيث قال: هل أطلعوك عندما كنت في راندنج لوبو على الأحياء الفقيرة؟
– على العكس، حاولوا جهدهم أن يُخفوها عني. ولكني أفلتُّ منهم.
وقال: إننا نُبقي الأطفال أحياء، ونشفي المرضى، ونمنع المجاري من التسرب إلى الماء الذي نشربه؛ هكذا يبدأ الإنسان في عمل أشياء حسنة في حد ذاتها بصورة واضحة. ولكن كيف ينتهي الإنسان؟ إنه ينتهي بمضاعفة مقدار البؤس البشري وتعريض الحضارة للخطر، وكأنها فكاهة عملية كبرى يبدو أن الآلهة تلهو بها حقًّا.
وابتسم لرانجا وراندا ابتسامة عريضة تنمُّ عن الغضب والنقد المرير.
وردَّ عليه رانجا قائلًا: إن الآلهة لا شأن لها بهذا، والفكاهة ليست من عند الآلهة، إنها من صنع الإنسان وحده. إن هذه الأشياء ليست كالجاذبية أو القانون الثاني لديناميكا الحرارة، وليست من المحتوم أن تحدث؛ فهي لا تحدث إلا إذا بلغ بالناس الغباء أن يسمحوا لها بالحدوث. ونحن هنا في بالا لم نسمح لها بالحدوث؛ ولذلك فإن الفكاهة لا تنطبق علينا. المرافق الصحية عندنا جيدة طوال ما يقرب من قرن من الزمان؛ ولا زلنا خفيفي الزحام، ولسنا من البائسين، ولا نخضع لدكتاتورية. والسبب في ذلك بسيط جدًّا؛ فقد اخترنا أن نتصرف بطريقة واقعية معقولة.
وسأله ويل: وكيف تسنَّى لكم أن تختاروا؟
وسأله ويل: وهل أنت من هؤلاء؛ من أتباع تانترا اللاأدريين؟
– بالتأكيد كنتم محظوظين.
وواصل رانجا حديثه قائلًا: وفوق هذا الحظ المذهل كانت إدارة موروجان المُصلِح، وهي إدارة جيدة مذهلة، وكذلك وجود أندرو ماك فيل. هل حدثك الدكتور روبرت عن جده الأكبر؟
– قليلًا.
– هل حدثك عن تأسيس محطة التجارب؟
وهز ويل رأسه.
قال رانجا: محطة التجارب لها دخل كبير في سياستنا السكانية. وكانت بداية كل شيء مجاعة. وقد قضى الدكتور أندرو قبل قدومه إلى بالا بضع سنوات في مدراس. وفي السنة الثانية من إقامته هناك لم تهبَّ الرياح الموسمية، فاحترقت المحاصيل، وجفَّت الأحواض بل والآبار. ولم يتوافر الطعام إلا للإنجليز والأغنياء، ومات الناس كما يموت الذباب. وفي مذكرات الدكتور أندرو فقرة مشهورة عن المجاعة؛ وصف لها وتعليق عليها. وكان قد استمع إلى كثير من المواعظ حينما كان صبيًّا، ومن هذه المواعظ موعظة كانت عالقة بذهنه وهو يعمل بين الهنود الجائعين. وتلك هي «ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان»؛ هذا نصها. وقد بلغ الواعظ من الفصاحة ما حمل الكثيرين إلى اعتناق مذهبه: «ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.» ولكنه رأى حينئذٍ أنه بغير الخبز لا عقل ولا روح ولا ضياء باطنيًّا ولا الآب في السماء. ليس هناك إلا الجوع، واليأس، ثم اللامبالاة، وأخيرًا الموت.
قال ويل: وهذه فكاهة كونية أخرى: «من عنده يُعطى، ومن ليس عنده يؤخذ منه حتى ما يملك»؛ أي مجرد احتمال أن يكون إنسانًا. وهذه أشد الفكاهات قسوة، وأكثرها شيوعًا. ولقد رأيت ملايين الرجال والنساء يتأثرون بها، وملايين من الأطفال؛ في كل أرجاء العالم.
ولذلك تستطيع أن تدرك لماذا تركت المجاعة في ذهن الدكتور أندرو هذا الأثر الذي لا يمحى، فاعتزم كما اعتزم صديقه الراجا أن يتوافر في بالا الخبز على الأقل؛ ومن ثَمَّ كان قرارهما بإنشاء محطة التجارب. وكانت روثامستد في المنطقة الاستوائية ناجحة نجاحًا عظيمًا؛ فبعد بضع سنوات كانت عندنا أنواع جديدة من الأرز والذرة والدخن وثمرة الخبز، وفصائل أفضل من الماشية والدجاج، ووسائل أفضل للفلاحة والمركبات. وفي الخمسينيات أنشأنا أول مصنع للفوسفات الممتاز شرقي برلين. وبفضل كل ذلك تحسنت التغذية، وطالت الأعمار، وقلَّت وفيات الأطفال. وبعد عشر سنوات من تأسيس محطة روثامستد الاستوائية أجرى الراجا تعدادًا للسكان. وكان عدد السكان من قبلُ ثابتًا إلى حد كبير لمدة قرن. أما الآن فقد بدأ يتزايد. وتنبأ الدكتور أندرو أن بالا سوف تتحول إلى نوع من أحياء الفقراء الفاسدة شبيهة بما عليه راندنج اليوم. فماذا كان يمكن عمله؟ وكان الدكتور أندرو على علم بمالتس. «إنتاج الطعام يتزايد بمتوالية عددية. أما السكان فيتزايدون بمتوالية هندسية.» وليس أمام الإنسان إلا أحد أمرين: إما أن يترك الأمر للطبيعة التي تحل مشكلة السكان بالطريقة المعروفة القديمة، بالمجاعات والأوبئة والحروب، وإما يحدُّ من عدده بالكبت الذي لا يتنافى وقواعد الأخلاق (وقد كان مالتس من رجال الدين).
وكررت الممرضة الصغيرة هذه العبارة: الكبت الذي لا يتنافى وقواعد الأخلاق، ونطقت العبارة باللهجة الإندونيسية التي تحاكي بها في سخرية ما قال به هذا الرجل الأسكتلندي المتدين. وأضافت: بهذه المناسبة هل تعلم أن الدكتور أندرو تزوَّج من عهد قريب بابنة أخ الراجا التي تبلغ من العمر ستة عشر عامًا؟
وقال رانجا: ولقد كان ذلك سببًا آخر في مراجعة نظرية مالتس. إما المجاعة وإما الكبت كما قال، لا بُدَّ أن تكون هناك طريقة أفضل وأسعد وأكثر إنسانية، هي وسط بين طرفَي مالتس. وبالطبع كانت هناك مثل هذه الطريقة حتى في عهد مالتس، حتى قبل عهد الموانع الحديثة لوأد البذور المنوية. كان هناك الإسفنج والصابون والغلاف المانع المصنوع من كل ما عرف من مواد غير مسامية، من الحرير الناعم إلى أحشاء الأغنام المصمتة. كل الدروع التي تضبط النسل على طريقة بالا.
– وكيف استجاب الراجا ورعاياه لهذه الطريقة؟ بالفزع؟
– أبدًا؛ فهم بوذيون مخلصون، وكل بوذي مخلص يعلم أن الإنسان ليس إلا وأدًا مؤجلًا. وعلى المرء أن يبذل قصارى جهده لكي يبتعد عن عملية الميلاد والموت، ومن الخير ألا تسترسل في وضع ضحايا في هذه العجلة من غير داعٍ. ضبط النسل عند البوذي له معنى ميتافيزيقي، وله مغزى اجتماعي واقتصادي لمجتمع القرية الذي يزرع الأرض. ولا بد أن يتوافر عدد من الشباب للعمل في الحقول ولكي يَعُولوا المسنِّين والصغار. على ألا يزيد عددهم عن المطلوب؛ لأن ذلك لو حدث لما توافر الغذاء للمسنين ولا للعمال ولا لأطفالهم. كان الزوجان في الماضي ينجبان ستة أطفال لكي يبقى منهم اثنان أو ثلاثة. ثم توافر الماء النقي ووُجدت محطة التجارب، فأمكن أن يبقى خمسة من الأطفال الستة. وأمست الأنماط القديمة للتكاثر بغير معنًى، ولعل الاعتراض الوحيد على تحديد النسل بطريقة أهل بالا هو سذاجتها. ولكن لحسن الحظ كان هناك لها بديل أفضل منها؛ فلقد كان الراجا ممن يعتنقون مذهب تانترا؛ فتعلَّم يوجا الحب، وعلم الدكتور أندرو بماثيونا. ولما كان من رجال العلم المخلصين وافق على تجربتها، وتلقَّى هو وزوجته التعليمات اللازمة.
– وماذا كانت النتائج؟
– الموافقة عليها بحماسة.
وقالت رادا: وهذا هو إحساس الناس جميعًا بها.
– دعينا من هذه التعميمات الكاسحة! هناك من يحس هذا الإحساس، وهناك من لا يحسه. ولقد كان الدكتور أندرو من المتحمسين. ونوقش هذا الموضوع باستفاضة. وفي النهاية قرروا أن موانع الحمل يجب أن تكون كالتربية؛ مجانية، تدعمها الضرائب، تشمل كل فرد بقدر الإمكان وإن تكن غير إلزامية. ولأولئك الذين أحسوا الحاجة إلى شيءٍ أكثر تهذيبًا تعليمات خاصة بشأن يوجا الحب.
– هل تقصد أن تقول إنهم تعلَّموها ولم يُصبهم أذًى؟
– إنها لم تكن في الواقع شاقة جدًّا. وكانت الماثيونا عقيدة معتمدة، ولم يطلب إلى أحد أن يقترف منكرًا يخالف الدين. بل على العكس من ذلك كانت لهم في ذلك فرصة مواتية لكي يلتحقوا بالنخبة الممتازة إذا هم تعلَّموا أسرارها.
وقاطعته الممرضة الصغيرة قائلة: ولا تنسَ أهم نقطة في الموضوع. إن يوجا الحب بالنسبة للنساء، كل النساء — ولست أعبأ بما ذكرت عن التعميمات الكاسحة — تعني الكمال، تعني التحول والخروج من أنفسهن للتمام. وكانت فترة من الصمت، أعقبتها بمواصلة الحديث بنغمة أكثر خفة وذلك حين قالت: والآن حان الوقت لكي نتركك لراحتك بعد الظهر.
وقال ويل: أودُّ — قبل أن تنصرفي — أن أحرِّر خطابًا، مذكرة مختصرة لرئيسي أخبره فيها أنني على قيد الحياة ولست في خطر مباشر من الْتهام المواطنين هنا لي.
وذهبت رادا إلى مكتب الدكتور روبرت تبحث فيه عن ورق وقلم وظرف وعادت بها.
وبخط غير مستقيم كتب ويل: وأخيرًا انتصرت، تحطمت بي السفينة، وقابلت الراني ومعاونها من راندنج الذي أفضى إليَّ أنه يستطيع أن يسلم البضاعة إذا نفحته «بقشيشًا» على خدمته. «وكان محدد الطلب» فطالب بعشرين ألف جنيه. فهل أفاوض على هذا الأساس؟ إذا أبرقتني: «موافق على الاتفاق المقترح»، واصلت السعي. أما إذا أبرقتني: «لا داعي للتعجل في الاتفاق»، أسقطت الأمر من حسابي. أخبر أمي أنني في أمان وسوف أكتب إليها قريبًا.
وناول رانجا الظرف مغلَقًا ومعنونًا وقال له: إليك هذا، وهل لي أن أرجوك لتشتري لي طابعًا وتُلقي هذا الخطاب في البريد في وقت يسمح بإرساله في طائرة الغد؟
ووعده الفتى قائلًا: بغير تأخير.
وانطلقا، وأحس ويل بوخز في ضميره. يا لهما من شاب وشابة فاتنَين! ومع ذلك فهو يتآمر مع باهو ومع قوى التاريخ ليقلب دنياهم. وواسى نفسه بأنه إذا لم يفعل ما هو بصدده فإن شخصًا آخر سوف يفعل. وحتى إذا ما ظفر جو ألديهايد بالامتياز فسوف يستمران في ممارسة الحب بالطريقة التي ألِفاها، أم هل هذا مستحيل؟
وما إن بلغت الممرضة الصغيرة باب الغرفة حتى التفتت وراءها لتتفوَّه بكلمة نهائية وأشارت بإصبعها إليه وقالت له: كُفَّ عن القراءة وانصرِف إلى النوم. وأكَّد لها ويل باقتناعٍ عنيد أحمق أنه لا ينام أثناء النهار.