الفصل السابع
إنه لا يستطيع أن ينام أثناء النهار، ولكنه عندما نظر بعد ذلك إلى ساعته وجد أنها بلغت خمسًا وعشرين دقيقة بعد الرابعة وكان منتعشًا بدرجة مذهلة. فعاد إلى كتاب «مذكرات عن حقيقة كل شيء» وواصل قراءته التي كان قد انقطع عنها.
اللهم هبنا اليوم إيماننا، واحمنا يا رب من العقيدة.
إلى هذه العبارة كان قد وصل في هذا الصباح، والآن إلى جزء جديد، الخامس:
أنا كما أظن نفسي وأنا كما أنا في الحقيقة؛ وبعبارة أخرى الحزن ونهاية الحزن. إن ثلث كل الأحزان تقريبًا التي لا بُدَّ للشخص الذي أظن أنني هو مَن تحمَّلَها لا مفر منها؛ ذلك هو الحزن الكامن في الظروف البشرية، هو الثمن الذي ينبغي أن ندفعه لقاء كوننا أصحاب حِس رقيق وكائنات واعية بنفسها، متطلعين إلى التحرر ولكن خاضعين لقوانين الطبيعة ولأوامر تُرغمنا على أن نواصل المسير خلال الزمان الذي لا يمكن أن يعود وخلال عالم لا يبالي البتَّة بسعادتنا، نحو عجز الشيخوخة والموت الأكيد. أما الثلثان الباقيان من جميع الأحزان فهي من صنع أيدينا، وهي — فيما يخص العالم — لا لزوم لها.
وقلب ويل صفحة الكتاب. وسقطت على سريره ورقة، فالتقطها وألقى عليها نظرة، فإذا بها تحتوي على عشرين سطرًا بخطٍّ صغير واضح وذُيِّلت بهذين الحرفين «س. م». إنها قطعًا ليست خطابًا، هي قصيدة؛ ومن ثَمَّ فهي ملك مشاع. وقرأ ما يلي:
وبين نفسه ونفسه كرَّر ويل هاتين اللفظتين: «زهر الجنطيانا»، وذكر تلك العطلة الصيفية التي قضاها في سويسرة وهو في الثانية عشرة، وذكر المراعي المرتفعة فوق جريندلوالد وزهورها الغريبة، وفراشاتها التي لا تُشبِه الفراشات الإنجليزية، وذكر السماء الزرقاء الداكنة وضوء الشمس والجبال الشامخة المضيئة على الجانب الآخر من الوادي، وكل ما عنَّ لأبيه أن يقول هو أنها أشبه ما تكون بإعلان عن شكولاتة نسلة المخلوطة باللبن. وأصر وقد بدت عليه أمارات الاشمئزاز على أنها «ليست شكولاتة حقيقية، بل شكولاتة باللبن». وعقب ذلك تعليقٌ تهكُّمي على الصورة التي كانت ترسمها أمه بالألوان المائية؛ صورة سيئة (ويا لها من مسكينة) ولكنها ترسم بعناية العاشق صاحب الضمير الحي. «إعلان الشكولاتة باللبن الذي لفظته نسلة». ثم كان دوره: بدلًا من أن تنفق وقتك حالِمًا متجولًا هنا وهناك بفم مفتوح كالقروي المعتوه لماذا لا تعمل شيئًا فيه ذكاء على سبيل التغيير؟ راجع قواعد اللغة الألمانية مثلًا. ومد يده في حقيبته وأخرج من بين البيض المسلوق جيدًا والسندويتشات ذلك الكتاب الصغير البني المقيت. يا له من رجل بغيض! ومع ذلك — إن صحَّ ما تقول سوزيلا — يجب أن أكون قادرًا الآن بعد كل هذه السنين على أن أراه متألقًا كزهر الجنطيانا؛ ثم ألقى ويل نظرة أخرى على آخر سطر من سطور القصيدة:
وسمع صوتًا يألفه يقول: ثم ماذا …
والتفت نحو الباب، وقال: تكلمي عن الشيطان، أو على الأصح اقرئي ما كتب الشيطان. ورفع الورقة إلى أعلى لكي تطالعها.
وألقت عليها سوزيلا نظرة وقالت: تقصد هذا. تكفي النوايا الطيبة لتبدع شعرًا طيبًا! وتنهدت وهزت رأسها.
واستمر في حديثه قائلًا: كنت أحاول أن أرى والدي كزهر الجنطيانا. غير أن كل ما حصلت عليه صورة ملحَّة لروث مريع.
وأكدت له أن الروث يمكن أن يُرى كالجنطيانا.
– لا يكون ذلك في ظني إلا في المكان الذي كنت تكتبين عنه؛ ذلك المكان الصافي الذي يقع بين الفكر والصمت.
وأومأت سوزيلا برأسها موافقة.
– كيف تبلغين هذا المكان؟
– إنك لا تبلغه، إنما هو يأتي إليك. أو على الأصح «هناك» هو في الواقع «هنا».
وشكا لها بقوله: ما أشبهك برادا الصغيرة؛ تردِّدين كالببغاء ما يقول راجا العجوز في مستهل هذا الكتاب!
قالت: إذا كنا نردِّده فلأنه حق. وإذا نحن لم نردِّده كنا منكرين للواقع.
وسألها: أي واقع؟ إنه بالتأكيد ليس واقعي.
ووافقته قائلة له: ليس واقعك في الوقت الحاضر. ولكن إن أنت فعلت الأشياء التي يوصي بها راجا العجوز ربما صار واقعك.
وبعد صمت قليل سألها: هل كانت لك مشكلات مع والديك؟ أم هل كنت دائمًا ترين الغائط كزهر الجنطيانا؟
أجابت: ليس في هذه السن. لا بُدَّ أن يكون الأطفال مثنويين مانويين. ذلك هو الثمن الذي يجب أن ندفعه جميعًا لكي نتعلم مبادئ إنسانيتنا. أما أن يرى المرء غائطًا وكأنه زهر الجنطيانا، أو بالأحرى يرى الغائط والجنطيانا على حد سواء كأنهما «جنطيانا» فذلك أمرٌ لا يتحقق إلا بعد التخرج من الجامعة.
– ماذا إذن فعلت بأبويك؟ تُكشرين وتحتملين ما لا يُحتمل؟ أم هل كان أبوك وأمك يحتملان؟
أجابت: كل منهما محتمل على حدة وبخاصة والدي، ولكنهما معًا لا يُحتملان؛ لأن كليهما لا يحتمل الآخر. امرأة صاخبة مرحة منطلقة تزوجت من رجل منطوٍ على نفسه شديد الحساسية يجدها مثيرة لأعصابه دائمًا، خاصةً — كما أظن — في الفراش. إنها لم تكفَّ عن الاتصال به، في حين أنه لم يكن البادئ قط. حتى كانت في عينه ضحلة غير مخلصة له، وكان في عينها بلا قلب، محقرًا من شأنها يفتقر إلى المشاعر الإنسانية الطبيعية.
– كنت أحسب أنكم هنا أكثر حصافة من أن تقعوا في هذا الفخ.
وأكدت له أنهم فعلًا أكثر حصافة: فنحن نعلِّم البنين والبنات بصفة خاصة ماذا يتوقعون من الناس الذين يختلفون عنهم في التكوين البدني وفي المزاج. ولكن يحدث أحيانًا — لسوء الحظ — أن الدروس لا يكون لها تأثير كبير فيما يبدو. وليس هناك ما يدعوني إلى أن أذكر أن البعد السيكولوجي بين فرد وآخر يكون في بعض الحالات أكبر من أن يسمح بالاتصال. على أية حال الواقع أن أبي وأمي لم يكونا على اتفاق، والله وحده يعلم كيف وقعا في حب متبادل، ولما اشتد التقارب بينهما وجدتْ أمي في تزمُّته إيذاءً لها، في حين أن حبها الشديد للزمالة بغير حواجز جعله ينكمش في حيرة من أمره وفي نفور. وكنت دائمًا أتعاطف مع أبي؛ فأنا شبيهة به في مزاجي وفي تكويني البدني، ولست البتَّة على شبه بأمي. وأذكر — حتى وأنا في نعومة أظفاري — كيف كنت أتحاشى مرحها الشديد، وقد كانت تعتدي دائمًا على عزلتي، وما زالت.
– هل ترينها كثيرًا؟
– قلَّما أفعل ذلك؛ لها عملها الخاص وأصدقاؤها الخاصون. الأم، في دنيانا اسم لوظيفة بكل معنى الكلمة. وبعدما تؤدي الوظيفة تمامًا يسقط هذا اللقب، ويبدأ نوع جديد من العلاقة بين الطفل السابق والمرأة التي كانت تدعى «أمًّا». فإن كانا على اتفاق يستمر بينهما التلاقي في كثير من الأحيان. أما إن كانا على غير اتفاق فإنهما يفترقان. ولا ينتظر منهما أحد أن يتعلق أحدهما بالآخر. وليس هذا التعلق مرادفًا للمحبة؛ ولا يُنظر إليه كأمر جدير بالتقدير بصفة خاصة.
– ولذلك فالأمور كلها الآن على ما يرام. ولكن كيف كانت الأمور حينذاك؟ ماذا حدث عندما كنت طفلة تترعرعين بين شخصين لم يمكن سد الفجوة التي كانت تفصل بينهما؟ أنا أعرف ماذا يعني ذلك؛ أعرف أنه يقلب ما تعودنا أن نختتم به القصص الخيالية، ويجعل النهاية: «وهكذا عاشا بعد ذلك بغير ثبات وغير نبات.»
قالت سوزيلا: وأنا على يقين أننا إذا لم نكن قد وُلدنا في بالا لعشنا بعد ذلك، بغير ثبات وغير نبات. وعلى أية حال — إذا أخذنا في اعتبارنا كل الظروف — استطعنا أن نسير معًا سيرًا طيبًا بدرجة ملحوظة.
– وكيف تسنَّى لكم ذلك؟
– لم نفعله بأنفسنا، بل فعله لنا غيرنا. هل قرأت ما قال راجا العجوز عن التخلص من ثلثَي الأحزان التي نصنعها بأيدينا بغير مبرر؟
وأومأ ويل برأسه إيجابًا وقال: كنت أقرؤه عندما قدمت.
وواصلت حديثها قائلة: في الأيام السيئة السالفة كانت الأُسر في بالا مثلما هي عندكم اليوم مُضحِّية بأفرادها، ظالمة، داعية للكذب. ولقد بلغت من السوء ما حدا بالدكتور أندرو وراجا المُصلِح أن يُقرِّرا ضرورة إعادة النظر فيها. واستغلا الأخلاق البوذية والشيوعية البدائية في القرية لخدمة الأهداف المعقولة. وعلى مدى جيل واحد تغيَّر نظام الأسرة كله من أساسه. وترددت لحظة ثم واصلت الحديث: ولأوضح لك ما أعني في حدود حالتي الخاصة؛ طفلة وحيدة لشخصين لم يكن بينهما تفاهم وكانا دائمًا على خلاف في الأهداف أو في شجار فعلي. في الأيام الخوالي كانت الفتاة الصغيرة التي تنشأ في مثل هذه الظروف تنتهي إما إلى الهلاك، وإما إلى التمرد، وإما إلى الاستسلام للنفاق من أجل الالتزام بالتقاليد. أما في ظل النظام الجديد فلم يكن لزامًا عليَّ أن أتحمَّل عناءً لا ضرورة له، فلم أتحطم ولم أضطرَّ إلى التمرد أو الاستسلام. لماذا؟ لأنه منذ اللحظة التي استطعت فيها أن أمشي كانت لي حرية الهروب.
وكرر قوله: الهروب؟ الهروب؟ هذا أمر حسن جدًّا بدرجة لا تُصدق.
وشرحت له كيف أن «الهروب» من صلب النظام الجديد، إذا صار «بيت الأبوين، البيت الحلو» كما يقولون غير محتمل، يسمح للطفل، بل يشجع على الهجرة إلى بيت من بيوته الأخرى، ووراء هذا التشجيع ثقل الرأي العام كله.
– وكم بيتًا للطفل في بالا؟
– نحو عشرين في المتوسط.
– عشرون! يا إلهي!
ووضحت له سوزيلا ذلك بقولها: كلنا ننتمي إلى نادٍ من نوادي التبني المتبادل (ويُختصَر هكذا: ن. ت. م)، وكل نادٍ من هذه النوادي يتألف من نحو خمسة عشر إلى خمسة وعشرين زوجًا مختلطًا. العرائس والعرسان المنتخبون حديثًا، والقدامى أصحاب الأطفال الكبار، والأجداد وآباء الأجداد؛ كل فرد في النادي يتبنَّى كل فرد آخر. لكل منا بخلاف أقربائه بصلة الرحم عدد معيَّن من نائبات الأمهات ونوَّاب الآباء، ونائبات العمات والأعمام، ونواب الإخوة والأخوات، ونواب صغار الأطفال والأطفال الذين هم في مرحلة المشي والأبناء المراهقون.
وهز ويل رأسه: ذلك ينمي عشرين أسرة بعدما كانت أسرة واحدة هي التي تنمو.
ولكن ما كان ينمو من قبلُ هو نوع الأسرة عندكم. أما العشرون فكلها نوع الأسرة عندنا. ثم قالت وكأنها تقرأ تعليمات في كتاب للطهو: خذ عبدًا مأجورًا عاجزًا، عاجزًا جنسيًّا، وأنثى ساخطة، واثنين (وإن شئت) ثلاثة من صغار مدمني التلفزيون، وانقع ذلك في مخلوط من مذهب فرويد والمسيحية المخففة، واحفظ كل ذلك في زجاجة محكمة الغلق في شقة ذات أربع غرف، ودَعْه يُطهى ببطء في عصيره لخمسة عشر عامًا. أما طريقة طهونا فمختلفة تمامًا: خذ عشرين زوجًا راضين جنسيًّا وذريتهم، وأضف إليهم العلم والبداهة والفكاهة بكميات متساوية، واغمس ذلك في بوذية تانترية، ودَع ذلك يغلي ببطء؛ إلى ما لا نهاية في وعاء مكشوف في الهواء الطلق فوق لهب فوار من المحبة.
وسألها: وماذا يخرج من الوعاء المكشوف؟
– نوع من الأسرة مختلف تمامًا. ليس مانعًا كالأسرة عندكم. وليس مقدَّسًا ولا ملزمًا. هي أسرة جامعة. ليست مقدرة، وهي اختيارية، عشرون زوجًا من الآباء والأمهات، وثمانية أو تسعة من الآباء السابقين والأمهات السابقات وأربعون أو خمسون طفلًا منوَّعًا من جميع الأعمار.
– وهل يبقى الناس في نادٍ واحد للتبنِّي طوال حياتهم؟
– كلا بالطبع. الأطفال الكبار لا يختارون آباءهم أو إخوتهم أو أخواتهم الخاصين بهم. بل ينطلقون ليختاروا مجموعة أخرى ممن يَكبرونهم، ثلة أخرى من زملائهم ومَن يَصغرونهم. ويتبنَّاهم هذا النادي الجديد كما يتبنَّى — عندما يحين الوقت — أبناءهم. علماء الاجتماع عندنا يسمُّون هذه العملية تهجين صغار الأحياء، وهي في مجالها نافعة كتهجين الفصائل المختلفة من الذرة أو الدجاج، علاقات أصح في جماعات أكثر مسئولية، وتعاطف أوسع وتفاهم أعمق. وهذا التعاطف والتفاهم متاح لكل فرد في «ن. ت. م» من الأطفال الرُّضع إلى من يجاوزون المائة عام.
– يجاوزون المائة عام؟ ما مدى طول العمر عندكم؟
أجابت: إنه يطول عامًا أو عامين أكثر منه عندكم. عشرة في المائة منا فوق خمسة وستين. والكبار يتقاضون معاشًا إذا عجزوا عن الكسب. ولكن المعاش بطبيعة الحال لا يكفي؛ فهم يحتاجون إلى شيء نافع ويبعث على التحدي، وهم يحتاجون إلى أناس يُعنَون بهم ويجدون منهم المحبة لقاء هذه العناية، و«ن. ت. م» يلبي هذه الحاجات.
قال ويل: هذا كلام أرتاب في مماثلته للدعاية التي نسمعها عن أحد المجتمعات (الكميون) الصغيرة الجديدة.
وأكدت له قائلة: ما أبعد التشابه بين «ن. ت. م» والكميون؛ فالنادي «ن. ت. م» لا تديره الحكومة، وإنما يديره أفراده. ونحن لسنا عسكريين، ولا يهمنا تخريج أعضاء ملائمين للحزب، إنما يعنينا أن نُخرج كائنات بشرية جيدة. ونحن لا نغرس في الأذهان تعاليم خاصة. ثم إننا لا نبعد الأطفال عن آبائهم، بل على العكس من ذلك نعطيهم آباءً إضافيين كما نعطي الآباء أطفالًا إضافيين. ومعنى ذلك أننا حتى في دار الحضانة نتمتع بدرجة معيَّنة من الحرية. وتزداد هذه الحرية كلما نما الفرد وبات بوسعه أن يتعامل مع مجال في الخبرة أكثر اتساعًا وأن يتحمل مسئوليات أضخم. في حين أنك لا تجد في الصين حرية بتاتًا. الأطفال يعهد بهم إلى مروِّضي أطفال رسميين، من واجبهم أن يحوِّلوهم إلى خُدَّام مطيعين للدولة. والأمور أفضل من ذلك بكثير في عالمكم، ولكنها مع ذلك سيئة. أنتم لا تخضعون لمروِّضي الأطفال المعيَّنين من قِبل الدولة، ولكن مجتمعكم يحكم عليكم بقضاء الطفولة في أسرة مانعة، بها مجموعة واحدة من الأقارب ومجموعة واحدة من الآباء. وهذه المجموعات مفروضة عليكم فرضًا بقدر وراثي. لا يستطيع الفرد منكم أن يفرَّ منها، أو أن يستأجز، أو أن يذهب إلى آخرين على سبيل تغيير المناخ المعنوي والسيكولوجي. وقد تسمونها حرية، ولكنها كالحرية في كشك التليفون.
وتوسَّع ويل في الفكرة وأخذ يروي (وهو يتصور حياته الماضية) فقال: الفرد محبوس مع شخص متنمِّر ساخر، وشخص مسيحي مضحٍّ بحياته، وفتاة صغيرة أدخل المتنمر الرعب في نفسها وهددها الشهيد بمناشدته مشاعرها الطيبة حتى أصيبت بالبلاهة المهتزة. هذا هو البيت الذي لم أفرَّ منه حتى بلغت الرابعة عشرة وجاءت عمتي ماري لتسكن إلى جوارنا.
– وأبواك البائسان لم يفرَّا قط منك.
– لم يكن الأمر كذلك؛ فلقد وجد والدي في الخمر مهربًا ووجدته أمي في الكنيسة الإنجليزية. وكان لا بُدَّ أن أنفذ الحكم الخاص بي دون أي تخفيف. أربعة عشر عامًا من العبودية العائلية. كم أحسدك! إنك حرة كالطائر!
– ليس إلى هذا الحد الشعري! إنما كنت حرة ككائن بشري نامٍ؛ حرة كشخص مستقبله أن يكون امرأة، ولم تتجاوز حريتي ذلك. التبنِّي المتبادَل يكفل للأطفال الحماية من الظلم ومن أسوأ عواقب عدم الكفاءة الأبوية. ولكن لا يكفل لهم الحماية من النظام أو من ضرورة قبول المسئوليات. بل — على النقيض من ذلك — أنه يضاعف من مسئولياتهم، ويعرِّضهم لضروب مختلفة من النظام. في عائلاتكم المقدرة عليكم، المانعة، يقضي الأطفال — كما قلت — فترة طويلة من الحبس تحت رقابة مجموعة واحدة من السجانين الأبويين. وقد يكون هؤلاء السجانون الأبويون طيبين عاقلين وأذكياء. في هذه الحالة يخرج صغار المساجين بغير أذًى إلى حدٍّ كبير. غير أن الواقع أن أكثر السجانين الأبويين عندكم ليسوا طيبين أو عاقلين أو أذكياء بدرجة ملحوظة. وقد يكونون ذوي نية طيبة ولكنهم أغبياء، أو ذوي نية سيئة وعلى طيش، أو عصبيين، أو أحيانًا أشرارًا تمامًا، أو مجانين صراحة. كان الله في عون المحكوم عليهم الذين يقضي عليهم القانون والعُرف والدين بأن يكونوا تحت رحمتهم! ولكن انظر إلى ما يحدث في الأسرة الكبيرة الجامعة المختارة. ليس بها أكشاك تليفونية، ولا سجانون مقدرون. هنا ينمو الأطفال في عالم يُعَد نموذجًا عمليًّا للمجتمع العام، عالم هو صورة مصغرة ولكنها دقيقة للبيئة التي سوف يعيشون فيها وهم كبار. «الصحة» و«الكمال» و«القداسة» هذه الكلمات الثلاث بالإنجليزية من أصل لغوي واحد وتدل على درجات مختلفة من معنًى واحد. العائلة عندنا — العائلة الجامعة المختارة — هي العائلة المقدَّسة حقًّا كما يدل على ذلك الأصل اللغوي وكما هي في الواقع. أما العائلة عندكم فهي العائلة غير المقدَّسة.
قال ويل: آمين. واستعاد في ذهنه مرة أخرى طفولته، كما عاد بذهنه كذلك إلى موروجان المسكين في قبضة الراني. وبعد فترة من السكون سألها: ماذا يحدث عندما يهاجر الأطفال إلى بيت من بيوتهم الأخرى؟ كم يطول بقاؤهم هناك؟
– يختلف الأمر من حالةٍ إلى أخرى، عندما يملُّني أطفالي قلَّما يبتعدون عني لأكثر من يوم أو يومين، وذلك أساسًا لأنهم جدُّ سعداء في بيتهم. أما أنا فلم أكن سعيدة في بيتي ولذلك فعندما كنت أخرج منه كنت أحيانًا أتغيب عنه لشهر بأكمله.
– وهل كان نواب أبويك يعضدونك ضد أبيك وأمك الحقيقيين؟
ليس في الأمر تحريض من أحد ضد أحد. كل ما نؤيده هو الذكاء والمشاعر الطيبة، وكل ما نعارضه هو البؤس وأسبابه التي يمكن تفاديها. إذا أحس الطفل بتعاسة في بيته الأول نبذل أقصى الجهد له في خمسة عشر أو عشرين بيتًا آخر. وفي هذه الأثناء يعالَج الأب والأم علاجًا نفسيًّا من قِبل الأعضاء الآخرين في نادي التبني المتبادل الذي ينتمون إليه. وبعد بضعة أسابيع يصبح الأبوان صالحَين للعيش مع أبنائهما مرة أخرى، والأطفال صالحين للعيش مع أبويهم. ثم أضافت إلى ذلك قولها: ولكن لا تفهم من ذلك أن الأطفال لا يلجئون إلى نواب آبائهم وأجدادهم إلا في حالات الضيق. إنهم يفعلون ذلك دائمًا كلما أحسوا الحاجة إلى التغيير أو إلى نوع آخر من الخبرة. إنها دوامة اجتماعية. إن عليهم حيثما يتوجهون كنواب أطفال مسئولياتهم كما أن لهم حقوقهم؛ عليهم مثلًا أن يمشطوا الكلب وينظفوا أقفاص الطيور، ويراعوا الأطفال الرُّضع عندما تكون الأم مشتغلة بعمل آخر. عليهم واجبات كما أن لهم مزايا؛ ولكنها ليست كما هي الحال عندكم في أكشاك التليفون الصغيرة التي لا يدخلها الهواء. إنها واجبات ومزايا في أسرة كبيرة منفتحة جامعة غير مقدرة، تتمثل فيها مراحل العمر السبع للإنسان ومختلف المهارات والمواهب. فيها يتلقى الأطفال خبرات في كل الأمور الهامة ذات المغزى مما يمارسه الإنسان ويكابده؛ العمل، واللعب، والحب، والكبر، والمرض، والموت … ثم صمتت وفكرت في ديوجولد وأمه، ثم غيرت نغمة صوتها عمدًا وقالت: ولكن ما بك أنت؟ لقد شغلت نفسي بالحديث عن الأسر حتى إني لم أسألك عن إحساسك. إنك بالتأكيد تبدو أحسن كثيرًا مما رأيتك آخر مرة.
– بفضل الدكتور ماك فيل، وكذلك بفضل شخص كان فيما أظن يمارس الطب بغير ترخيص. ما هذا الشيء العجيب الذي فعلته بي أمس مساءً؟
ابتسمت سوزيلا وقالت له مؤكِّدة: إنما فعلته بنفسك. أما أنا فكل ما فعلته هو أني ضغطت على الأزرار.
– أي أزرار؟
– أزرار الذاكرة، وأزرار الخيال.
– ويكفي ذلك أن يُدخلني في غيبوبة التنويم المغناطيسي؟
– إذا حلا لك أن تسميها كذلك.
– وماذا يمكن أن تسمى غير ذلك؟
– ولماذا تطلق عليها اسمًا؟ الأسماء تفترض صدق ما تعبِّر عنه، لماذا لا تكتفي بمجرد علمك أنها حدثت؟
– ولكن ما هذا الذي حدث؟
– بادئ ذي بدء أقول: قمنا بنوع من أنواع الاتصال. أليس كذلك؟
ووافقها قائلًا: بالتأكيد لقد فعلنا، ومع ذلك فإني لا أصدِّق أنني رمقتك ولو بنظرة.
وعلى الرغم من ذلك كان في هذه اللحظة ينظر إليها؛ ينظر ويتعجب من يكون هذا المخلوق الصغير العجيب، وماذا يختفي خلف قناع وجهها الجاد الملس، وماذا كانت العينان السوداوان تريان وهما تردَّان على تفرُّسه، فيمَ كانت تفكر؟
قالت: كيف كان يتسنى لك أن تنظر إليَّ؟ لقد ذهبت في عطلتك.
– أم هل أبعدتني عنها؟
وهزت رأسها وقالت: كلا، لم أبعدك. تستطيع أن تقول إني كنت في وداعك، أو أني عاونتك على المضي. ثم كانت لحظة صمت استأنفت بعدها الحديث وسألته: هل حاولت مرةً أن تقوم بعملٍ ما مع طفل يجاورك؟
وذكر ويل جارًا صغيرًا له عرض عليه أن يعاونه في طلاء أثاث حجرة الطعام، وضحك عندما تذكَّر سخطه.
وواصلت سوزيلا حديثها قائلة: مسكين هذا الصغير! كان حسن النية، وكان يود أن يقدم المعونة.
– ولكن الطلاء قد لوَّث السجادة، وبصمات يده تملأ الجدران …
لذلك أردت أن تتخلص منه في النهاية فقلت له: اخرج من هنا على عجل أيها الصبي الصغير! والعب في الحديقة.
ثم ساد الصمت.
وأخيرًا سألها: ثم ماذا؟
– ألا ترى؟
وهز ويل رأسه.
– ماذا يحدث عندما تمرض. وعندما يصيبك أذًى؟ من يُصلحك؟ من يداوي جراحك ويُبعد العدوى؟ هل تفعل ذلك أنت؟
– ومَن غيري؟!
وأصرَّت على السؤال: أنت؟ أنت؟ الشخص الذي يحسَّ الألم ويصيبه القلق ويفكر في الخطيئة والمال والمستقبل! هل تكون وأنت على هذه الصور قادرًا على أن تفعل ما يجب فعله؟
– آه، أنا أدرك الآن ما ترمين إليه.
وقالت ساخرة: أخيرًا!
– تبعثين بي لكي ألعب في الحديقة حتى يتمكن الكبار من أداء عملهم في هدوء. ولكن من يكون هؤلاء الكبار؟
أجابت: لا تسألني. هذا سؤال يوجه إلى لاهوتي في الأعصاب.
سألها: ما معنى ذلك؟
– معناه ما يدل عليه اللفظ. شخص يفكر في الناس في حدود «الضوء الصافي» في الفضاء وفي الجهاز العصبي المساعد في آنٍ واحد. الكبار خليط من العقل ووظائف الأعضاء.
– والأطفال؟
– هم الصغار الذين يظنون أنهم يعلمون ما لا يعلم الكبار.
– ومن ثم وجب أن يقال لهم سارعوا إلى اللعب.
– تمامًا.
وسألها: هل طريقة معالجتك إجراء معتمد في بالا؟
وأكدت له ذلك بقولها: نعم هي إجراء معتمد. الأطباء في عالمكم يتخلصون من الأطفال بتسميمهم بملح حامض البريتوريك المسكن. أما نحن فنتحدث إليهم عن الكاتدرائيات والغربان. وهنا تحوَّل صوتها إلى ما يشبه الغناء وأضافت: وعن السحب البيضاء التي تسبح في السماء، وعن الإوز العراقي الذي يسبح فوق نهر الحياة المظلم الصقيل الذي لا يقاوم …
واحتج على ما تقول وصاح بها: كفى، كفى. لا تذكري شيئًا من ذلك!
وأضاءت وجهها الجادَّ الأسمر ابتسامة خفيفة ثم قهقهت ضاحكة. ونظر إليها ويل في دهشة فخُيِّل له فجأة أنها استحالت شخصًا آخر، سوزيلا ماك فيل أخرى، مرحة، عابثة، ساخرة.
وشاركها الضحك قائلًا لها: أنا أعرف حيلك.
وهزت رأسها وهي ما تزال تضحك وقالت: حيل! إنما كنت أشرح كيف فعلتها.
– أنا أعلم تمامًا كيف فعلتها، كما أعلم كذلك أنها طريقة فعالة، وفوق ذلك أسمح لك بفعلها ثانيةً؛ كلما لزم الأمر.
وقالت في جدِّية أشد: إن شئت. وسوف أريك كيف تضغط على أزرارك بنفسك. إننا نعلِّم ذلك في كل مدارسنا الابتدائية، نعلِّمهم القراءة والكتابة والحساب كما نعلمهم مبادئ «ح. أ».
– ما هذا؟
– حرية الإرادة. اسم آخر للتحكم في المصير.
ورفع حاجبيه وقال: التحكم في المصير!
وقالت له مؤكِّدة: كلا، كلا. لسنا من الغفلة كما تظن. نحن نعلم تمام العلم أن جزءًا فقط من مصيرنا هو الذي يمكن أن نتحكم فيه.
– وأنتم تتحكمون فيه بضغطكم على أزراركم؟
– نضغط على أزرارنا ثم نتصور ما نود أن يحدث؟
– وهل يحدث؟
– في حالات كثيرة.
وبنغمة تهكمية في صوته قال: أمر بسيط!
ووافقته قائلة: بسيط بدرجة مذهلة، ومع ذلك فعلى مدى علمي نحن الشعب الوحيد الذي يعلِّم «ح. أ» بانتظام للأطفال. أنتم تكتفون بأن تذكروا لهم ما هو مفروض عليهم أن يفعلوه، ثم تتركون الأمر عند هذا الحد، تقولون لهم مثلًا أحسنوا السلوك. ولكن كيف؟ إنكم لا تشرحون لهم ذلك قط. كل ما تفعلون هو أنكم تقدمون إليهم النصيحة وتوقِعون بهم العقاب. يا لها من بلاهة!
– وإذا أخذ الأطفال عندكم هذه البلاهة مأخذ الجد أصبحوا آثمين بائسين عندما يكبرون. وإذا هم لم يأخذوه مأخذ الجد أمسَوا ساخرين بائسين. وإذا هم تصرَّفوا من منطلق السخرية البائسة كانوا إما بابويين وإما ماركسيين. ولا عجب أن تكون لديكم هذه الألوف من السجون والكنائس وزنزانات الشيوعية.
– أفهم من ذلك أن لديكم منها القليل في بالا.
وهزت سوزيلا رأسها وقالت: ليس لدينا ما يشبه سجن الكتراز أو بيلي جريهام أو ماوتسي تنج. ليس لدينا جحيم على الأرض ولا نعيم في السماء، ولا أمل الشيوعية في القرن الثاني بعد العشرين. نحن مجرد رجال ونساء وأطفالهم نحاول أن نستغل «الآن وهذا المكان» غير خير ما يستطاع، بدلًا من أن نعيش في مكان آخر كما تفعلون أنتم في أكثر الأحيان. وفي وقت آخر، في عالم خيالي آخر من صنع أنفسنا. والواقع أن الخطأ ليس منكم؛ فأنتم مرغَمون تقريبًا على هذا الأسلوب من العيش لأن الحاضر يخيِّب آمالكم. وهو يخيب آمالكم لأنكم لم تتعلموا قط أن تسدُّوا الفجوة التي تفصل بين النظرية والتطبيق، بين ما تقرِّرون لأنفسكم في رأس السنة وسلوككم الفعلي.
وروى قولهم: أنا لا أعمل على تحقيق الخير الذي أريد، وإنما أعمل على تحقيق الشر الذي لا أريد.
– من قال هذا؟
– الرجل الذي نشر المسيحية. القديس بولس.
قالت: هذه أسمى المُثُل العليا الممكنة بغير وسائل لتحقيقها.
– ما عدا الوسيلة فوق الطبيعية التي تعمل على تحقيقها على يد شخص آخر.
وألقى ويل رأسه إلى الخلف وأنشد ما يلي:
وسدَّت سوزيلا أذنيها وقالت: هذا شيء فاحش حقًّا.
وقال لها ويل: هذه هي الأنشودة المفضلة لأستاذ أسرتي المدرسية. كنا نتغنى بها مرة كل أسبوع تقريبًا طوال وجودي بالمدرسة.
وارتعدت سوزيلا من الذكرى ثم قالت: يا للهول! وذلك كله لأن ذلك الرجل المسكين لم يعرف كيف ينفذ نواياه الطيبة.
قال ويل: وأكثرُنا يسير على هذا المنوال. الشر لا نريده ولكنا نفعله، وبأية طريقة!
وكان رد الفعل عند ويل هو ألا يتسامح مع من لا يستحق التسامح، فضحك ساخرًا من نفسه. ضحك لأنه كان يعلم طهارة قلب مولي، ولكنه — وبعينين مفتوحتين — اختار الفجوة القرنفلية وما تعنيه من شقاء لمولي، ونهاية لها، وإحساسه بالذنب يفتك بصدره ثم بالألم، الألم المبرح الذي شعر به بدرجة لا تتناسب البتَّة مع مسبباته الوضيعة الهزلية في طبيعتها، وذلك عندما فعلت بابز في الوقت المناسب ما لا بُدَّ أن يتوقعه أي غافل من أنها لا بُدَّ فاعِلته؛ عندما طردته من فردوسها الجهنمي الذي أضاءه إعلان الخمر واتخذت غيره عشيقًا لها.
وسألته سوزيلا: ما بك؟
– لا شيء. لماذا تسألين؟
– لأنك لا تُحسِن إخفاء مشاعرك. كنت تفكر في أمر جعلك غير سعيد.
قال: عيناك حادتان. ثم صرف عنها النظر.
وساد صمت طويل. هل يخبرها. هل يخبرها عن بابز وعن مولي المسكينة، وعن نفسه، يخبرها عن كل شيء كئيب سخيف لم يخبر به قط أحدًا — حتى وهو مخمور — حتى أعز أصدقائه؟ والأصدقاء القدامى يعلمون الكثير عنه، والكثير عن الأطراف الأخرى ذات الشأن، والكثير عن تلك اللعبة الخيالية المضحكة التي دأب عليها وتفنَّن فيها كما فعل ذلك السيد الإنجليزي الذي كان كذلك بوهيميًّا وشاعرًا منتظرًا، كما كان يدافع اليأس لأنه كان يعلم أنه لا يمكن أن يصبح شاعرًا مجيدًا؛ صحافيًّا محنكًا ووكيلًا خاصًّا لرجل ثري يزدريه على الرغم من أنه يغدق له في العطاء. كلا، الأصدقاء القدامى لا يصلحون. ولكن هذه الغريبة الضئيلة السمراء، هذه الغريبة التي أمسى مدينًا لها بالكثير، والتي أخلص لها على الرغم من أنه لم يكن يعلم عنها شيئًا، هذه الغريبة لن تصدر عنها أحكام مسبقة، ولا أحكام متحيزة، بل قد تصدر عنها فيما يأمل (على الرغم من أنه درب نفسه على ألا يأمل أبدًا!) استنارة غير مرتقبة، ومعونة إيجابية عملية، (وإله يعلم أنه كان بحاجة إلى المعونة، والله يعلم كذلك جيدًا أنه لن يعترف بأنه في حاجة إلى المعونة، ولن يهبط إلى الحد الذي يجعله طالبًا لها).
وكالمؤذن وهو فوق المئذنة أخذت تلك الطيور الناطقة تصيح من أعلى نخلة باسقة خلف أشجار المنجة، وتردد قولها: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم، الآن، وفي هذا المكان.
فصمم ويل على أن يغامر، بطريقة غير مباشرة؛ وذلك بأن يبدأ هو الحديث لا عن مشكلاته هو ولكن عن مشكلاتها. فبدأ يتكلم دون أن ينظر إلى سوزيلا «لأنه أحس أن ذلك قد لا يتفق وقواعد الاحتشام».
– ذكر لي الدكتور ماك فيل شيئًا عن … عما حدث لزوجك.
ووقعت هذه الكلمات من قلبها موقع السهم. ولكن ذلك كان متوقَّعًا، وصوابًا وأمرًا لا مناص منه.
قالت: تنقضي يوم الأربعاء المقبل أربعة أشهر بعد الحادث، ثم قالت وهي تتأمل وبعد صمت لم يدُم طويلًا شخصان وكأنهما خلق جديد. وفجأة يبتر نصف هذا المخلوق الجديد، ولكن النصف الآخر لا يموت، ولا يمكن أن يموت، ولا ينبغي أن يموت.
– لا ينبغي أن يموت؟
– لأسباب عدة؛ من أجل الأطفال، ومن أجل الشخص ذاته، ومن أجل طبيعة الأشياء كلها. وببسمة خفيفة عززت بها الحزن البادي في عينيها أضافت إلى ذلك قولها: ولست في حاجة إلى أن أقول إن هذه الأسباب لا تخفف من صدمة البتر ولا تجعل ما يترتب عليه أمرًا محتملًا بدرجة أكبر. ولا يساعد المرء إلا ما كنا نتحدث فيه منذ لحظة؛ أقصد «التحكم في المصير». وهزت رأسها ثم قالت وحتى هذا … لأن «ت. م» (التحكم في المصير) قد يجعل الميلاد بغير ألم، ولكنه أبدًا لن يجعل فقد الحبيب بغير ألم، وذلك بالطبع هو ما ينبغي أن يكون. ليس من الصواب أن يكون فقدان الحبيب خاليًا تمامًا من الألم. إن ذلك يهبط بك دون المستوى الإنساني.
وكرَّر عبارتها الأخيرة: «دون المستوى الإنساني»، إنها كلمات ثلاث قصيرة ولكنها تلخِّص حياته كلها!
وقال بصوت مسموع: والأمر المفزع حقًّا هو أن يعلم المرء أنه هو المسئول عن موت الشخص الآخر.
وسألته: هل كنت متزوجًا؟
– اثنا عشر عامًا، حتى الربيع الماضي …
– ثم ماتت؟
– ماتت في حادث.
– في حادث؟ إذن كيف كنت مسئولًا عن موتها؟
– وقع الحادث لأني … فعلت الشر الذي لم أُرِد أن أفعله. وفي ذلك اليوم اقترفته. وأربكها هذا الإيذاء وأطار صوابها، ورفعتها إلى الانطلاق وهي تسوق العربة؛ فاصطدمت صدمة قوية.
– هل كنت تحبها؟
وتردَّد لحظة، ثم هز رأسه هزًّا بطيئًا.
– هل كان هناك شخص آخر كنت به أكثر حفاوة؟
وبملامح وجهه التي تدل على سخريته من نفسه قال: شخص آخر لم يكن بوسعي أن أَحُدَّ من حفاوتي به.
– وذلك كان الشر الذي فعلته ولم تُرِد أن تفعله؟
– فعلته وثابرت على فعله حتى قتلت المرأة التي كان ينبغي لي أن أحبها. ولكني لم أفعل، بل وثابرت على فعل هذا الشر حتى بعد أن قتلتها، وعلى الرغم من سخطي على نفسي على هذا الذي كنت أفعل. وكذلك كنت ساخطًا على الشخص الذي دفعني إلى ارتكاب ما لم أُرِد.
– دفعتك إلى فعله فيما أظن لأن جسمها كان من النوع المطلوب؟
وأومأ ويل برأسه، ثم ساد الصمت.
وأخيرًا سألها: هل تعرفين كيف يكون شعور المرء عندما يحس أنه ليس هناك شيء واقعي تمامًا حتى نفسه؟
وأومأت سوزيلا برأسها وقالت: يحدث ذلك أحيانًا عندما يوشك المرء أن يتبين له أن كل شيء — حتى نفسه — أكثر واقعية مما كان يتصور. وما أشبه ذلك بتغيير السرعة في السيارة، إنك تجعل ترسها أولًا في درجة السكون ثم تنقله إلى أعلى.
قال ويل: أو إلى أسفل. لم يكن الانتقال إلى أعلى، بل كان إلى أسفل. لا، لم يكن إلى أسفل، بل إلى العكس. حدث ذلك أول مرة عندما كنت في انتظار أوتوبيس ينقلني من شارع فليت إلى بيتي. وكان هناك ألوف الألوف من البشر، كلهم يتحرك، وكل منهم فريد، كل منهم مركز الكون. ثم ظهرت الشمس من خلف السحب فأشرق كل شيء واتضح بصورة عجيبة، وفجأة وبسرعة خاطفة انقلبوا جميعًا إلى ديدان.
– ديدان؟
– نعم، تلك الديدان الشاحبة الصغيرة ذات الرءوس السوداء التي ترينها في اللحم الفاسد. وبطبيعة الحال لم يتغير شيء ما، وبقيت وجوه الناس كما هي، وأزياؤهم كما هي. ومع ذلك كانوا جميعًا ديدانًا. بل لم يكونوا ديدانًا حقيقية، وإنما أشباح ديدان، ما يتوهمه المرء أنه ديدان. أما أنا فقد كنت صورة وهمية لمشاهد الديدان، وعشت في عالم الديدان هذا شهورًا. عشت فيه، وعملت فيه، وخرجت فيه للغداء والعشاء؛ كل ذلك دون أدنى اهتمام بما كنت أعمل. ودون أدنى متعة أو لذة، فاقد الشهية. وعندما حاولت أن أمارس الحب مع فتاة كنت فيما مضى ألهو بها أحيانًا تبيَّن لي أني عاجز تمامًا.
– وماذا كنت تتوقع؟
– هذا بعينه.
– إذن لماذا …؟
وابتسم لها ويل ابتسامة ساخرة وهز كتفيه ثم قال: من باب الاهتمام العلمي. كنت كعالم الحشرات أبحث في الحياة الجنسية لليرقات الوهمية.
– وبعد ذلك بدا لك كل شيء — فيما أظن — أشد إمعانًا في اللاواقعية.
ووافقها قائلًا: بل أكثر من ذلك. إن كان هذا بالإمكان.
– ولكن ما الذي أتى باليرقات أول الأمر؟
أجاب: أولًا. كنت ابن والدي، من مخمور متنمر وشهيدة مسيحية. وسكت برهة ثم قال: وفوق أني كنت ابن والدي. كنت ابن أخ عمتي ماري.
– وما شأن عمتك ماري بهذا؟
– كانت الشخص الوحيد الذي أحببت. وعندما بلغت السادسة عشرة أصيبت بالسرطان، وأزيل ثديها الأيمن أولًا، ثم ثديها الأيسر ثانيًا بعد عام واحد. وبعد ذلك عرضوها للأشعة السينية ولإشعاعات أخرى، ثم بلغ السرطان منها الكبد، وكانت هذه نهايتها. ووعيت ذلك من البداية حتى النهاية. وكان في ذلك لصبي في العقد الثاني من عمره تربية «عقلية حرة».
وسألته سوزيلا: من أي ناحية؟
– ولماذا كانت مذلة؟
– ألا تحسِّين المذلة إن وجدت نفسك تكسبين المال من أرخص أنواع الأدب الزائف البرَّاق؟ لقد نجحت لأني انحدرت إلى المرتبة الثانية التي لم يكن من الممكن علاجها.
– وكان من نتيجة ذلك كله هذه اليرقات؟
وهز رأسه إيجابًا وقال: لم تكن ديدانًا حقيقية، إنما كانت ديدانًا وهمية. وهنا ظهرت مولي في الصورة، قابلتها في حفلة لليرقات من الطبقة الراقية. وعرَّفوني بها، ودار بيننا حديث تافه مهذب عن التصوير اللاهادف. ولما كنت لا أريد أن أرى مزيدًا من الديدان لم أنظر إليها. ولكن لا بُدَّ أنها كانت تنظر إليَّ. ثم أضاف قوله: وبهذه المناسبة مولي لها عينان زرقاوان رماديتان شاحبتان، عينان ترى بهما كلَّ شيء؛ وكانت شديدة الملاحظة بدرجة لا تُصدَّق، ولكنها تلاحظ بغير حقد أو مراقبة أو محاسبة؛ إذا رأت شرًّا لا تدينه قط، وتكتفي بالأسف الشديد على الشخص الذي أرغمته الظروف لكي يبوح بهذه الآراء أو يفعل ذلك الشيء البغيض. وأعود فأقول إنها لا بُدَّ كانت تنظر إليَّ ونحن نتبادل الحديث؛ لأنها سألتني بغتةً لماذا أنا في حزن شديد. وكنت قد تناولت كأسين من الشراب ولم أرَ في طريقة سؤالها وقاحة أو تهجمًا؛ لذلك حدثتها عن الديدان، واختتمت حديثي عنها بقولي، وأنت واحدة منها. ثم نظرت إليها لأول مرة، دودة لها عينان زرقاوان ووجه كأنه لإحدى أولئك النسوة المقدَّسات اللائي يظهرن أثناء حفلات الصلب في فلمنك.
– وهل أشبعت بذلك غرورها؟
– أظن ذلك. وكانت قد تخلت عن المذهب الكاثوليكي ولكنها ما زالت تميل إلى مثل هذه الحفلات وإلى النسوة المقدَّسات. على كل حال، في اليوم التالي طلبتني بالتليفون صباحًا وقت الإفطار، وسألتني هل أحب أن أخرج معها في نزهة بالعربة في الريف؟ وكان يوم الأحد، وبمعجزة من السماء كان الجو لطيفًا في ذلك اليوم. فقبلت الدعوة، وقضينا ساعة في أيكة من شجر البندق، نقطف زهر الربيع وننظر إلى شقائق النعمان الصغيرة البيضاء؛ لأن شقائق النعمان لا تُقطف فهي تذبل في غضون ساعة واحدة، وأنعمت النظر في أيكة البندق؛ أنظر إلى الزهور بالعين العارية، ثم أنظر إليها من خلال منظار مكبِّر كانت مولي قد أحضرته معها. وكان في ذلك علاج نفسي غير عادي لست أدري له سببًا؛ مجرد النظر إلى قلوب زهور الربيع وشقائق النعمان. ولم أعد أرى ديدانًا بقية النهار، غير أن شارع فليت كان بانتظاري. وما إن حل موعد الغداء يوم الاثنين حتى كان المكان يعجُّ بها كما هي الحال دائمًا؛ ملايين اليرقات، ولكني الآن أعلم ما أصنع بها. وفي ذلك المساء ذهبت إلى مرسم مولي.
– هل هي مصوِّرة؟
– لم تكن مصوِّرة حقيقية. وكانت تدرك ذلك، أدركته ولكنها لم تمتعض له، واكتفت بأن تستغل افتقارها إلى الموهبة. إنها لم تصوِّر من أجل الفن، إنما كانت تصوِّر لأنها تحب أن تنظر إلى الأشياء، وتحب أن تحاول أن تنقل بكل دقة ما تقع عليه عيناها. وفي ذلك المساء أعطتني لوحة وفرجونًا، وطلبت إليَّ أن أفعل فعلها.
– وهل أفلحت؟
– أفلحت إلى حد بعيد، حتى إني بعد انقضاء شهرين قطعت تفاحة فاسدة فلم أجد الدودة التي كانت بداخلها على شكل يرقة؛ أعني من الناحية الذاتية. أما موضوعيًّا فقد كانت كذلك. كانت تتميز بكل صفات اليرقة. وهكذا صوَّرها كلانا؛ لأننا كنا دائمًا نصوِّر نفس الأشياء في نفس الوقت.
– وماذا عن الديدان الأخرى، الديدان الوهمية خارج التفاحة؟
– إنني ما زلت أنتكس وبخاصة في شارع فليت وفي حفلات الكوكتيل. ولكن الديدان قلَّ عددها بالتأكيد، وخفَّت مطاردتها يقينًا. وفي تلك الأثناء كان يحدث في المرسم شيء جديد. كنت أحب؛ أحب لأن الحب مُعْدٍ وكانت مولي تحبني بدرجة ملحوظة؛ لماذا؟ الله وحده يعلم.
ورمقته سوزيلا بعينها لتسبر غوره، ثم ابتسمت وقالت: هناك عدة أسباب ممكنة، ربما أحبتك لأنك … ماذا أقول؟
لأنك شخص جذاب.
وضحك وهو يقول: أشكرك على هذا الإطراء الجميل.
وواصلت سوزيلا حديثها قائلة: ومن ناحية أخرى (ولم يكن هذا الكلام على سبيل الإطراء) إنها ربما أحبتك لأنك حملتها على أن تشعر بالأسف الشديد عليك.
– أخشى أن تكون هذه هي الحقيقة؛ لأن مولي وُلدت «أختًا للرحمة».
– وليست «أخت الرحمة» لسوء الحظ «كزوجة للحب».
قال: وذلك ما تبيَّنته في حينه.
– بعد زواجكما فيما أظن.
وبعد لحظة من التردد قال ويل: بل قبل ذلك في الواقع؛ لا لأن الرغبة كان تلح عليها، ولكن لأنها كانت حريصة على أن تفعل أي شيء لتسرَّني؛ لأنها — من حيث المبدأ — لم تعتقد في التقاليد وكانت تميل كل الميل نحو الحب المتحرر. وتذكَّر الأشياء الفاضحة التي كانت تعبِّر عنها عرَضًا وفي هدوء تام حتى مع وجود أمه. ثم أضاف: وأعجب من ذلك أنها كانت تميل إلى الحديث المتحرر عن هذه الحرية.
وأوجزت سوزيلا في العبارة حين قالت: عرفتَ ذلك من قبلُ ومع ذلك تزوجتها؟!
وأومأ ويل رأسه إيجابًا دون أن ينبس ببنت شفة.
– لأنك كنت رجلًا مهذَّبًا — فيما أحسب — والرجل المهذب يبرُّ بوعده.
– لهذا السبب العتيق من ناحية، ولأني كنت أحبها من ناحية أخرى.
– هل كنت فعلًا تحبها؟
– نعم، لا، لست أدري. ولكني في ذلك الحين كنت أدري، أو على الأقل ظننت أنني أدري. كنت على اقتناع تام أنني أحبها فعلًا. وكنت أعلم — ولا زلت أعلم — سبب اقتناعي. كنت شاكرًا لها فضلها لأنها استأصلت تلك الديدان. ثم إني احترمتها كما اعترفت لها بالجميل. كنت أُعجب بها، ولقد كانت أفضل وأشد إخلاصًا مني. ولكنك — لسوء الحظ — مصيبة؛ «فأخت الرحمة» ليست مثل «زوجة للحب». ولكني كنت على استعداد لأن أقبل مولي بشروطها لا بشروطي. كنت مستعدًّا للاعتقاد بأن شروطها أفضل من شروطي.
وبعد صمت طويل سألته سوزيلا: ومتى بدأت في علاقاتك الجانبية؟
– وأزعجها ذلك فيما أظن؟
– أكثر مما كنت أتوقع.
– وماذا فعلت؟
قال ويل وقد هز رأسه: من هنا بدأت الأمور تتعقد. لم يكن في نيتي أن أتخلى عن قضاء ساعات الكوكتيل مع راشيل. ولكني كنت ساخطًا على نفسي لأنني سببت لمولي الشعور بالتعاسة. وفي نفس الوقت كنت أمقتها لهذه التعاسة التي أحست بها. وساءتني آلامها كما ساءني الحب الذي جلب عليها الآلام. وشعرت أنها بآلامها وحبها لم تنصفني، بل كانت تهددني لترغمني على التخلي عن لهوي البريء مع راشيل؛ فلقد كانت بالمبالغة في حبي وبالشقاء الذي تحسه إزاء ما كنت أفعل — وهو ما حملتني هي حقًّا على فعله — تضغط عليَّ، وتحاول أن تقيد حريتي، ولكنها كانت أثناء ذلك تعسة حقًّا. ومع أني كنت أمقتها لتهديدها لي بهذه التعاسة فقد أشفقت عليها كل الإشفاق؛ وأعني الإشفاق لا الرحمة؛ فالرحمة مشاركة في الألم، وأما ما كنت أريده بأي ثمن فهو أن أتحاشى الألم الذي كانت تسببه لي معاناتها، وأن أتجنب التضحيات المؤلمة التي أستطيع أن أنهي بها ما تعاني. فكانت استجابتي للموقف هي الإشفاق، آسَف لها من خارجي؛ إن كنت تدركين ما أعني، آسَف لها كما يأسف المشاهد، أو عاشق الفن أو الخبير بأسباب العذاب. وهذا الإشفاق الذي مصدره التذوق الفني كان يستبد بي كلما بلغت بها التعاسة ذروتها حتى لقد كدت أظنه حبًّا. أقول «كدت» لأني لم أخدع نفسي تمامًا. وعندما كنت أعبِّر عن إشفاقي بالعطف البدني (وهو ما فعلته لأن ذلك كان الوسيلة الوحيدة لإيقاف تعاستها وإيقاف الألم الذي كانت تعاستها تصيبني به ولو إلى حين) كان هذا العطف يبوء بالفشل قبل أن يبلغ ذروته الطبيعية. أقول كنت أبوء بالفشل لأنها كانت — بحكم مزاجها — مجرد «أخت رحيمة» ولم تكن زوجة. ومع ذلك فلقد أحبَّتني — على كل مستوًى خلا المستوى الحسي — بالالتزام المطلق؛ وهو التزام كان يتطلب الرد بالالتزام من جانبي. ولكني لم أُرِد أن ألتزم، وربما لم يكن ذلك بوسعي في الواقع، فبدلًا من أن أشكر لها عطاءها نفسها لي. كنت أشعر بالاستياء؛ فلقد كان لهذا العطاء حقوق عليَّ أن أؤديها، وهي حقوق رفضت أن أعترف بها. وهكذا كنا في نهاية كل أزمة من الأزمات؛ نعود إلى بداية المسرحية القديمة؛ مسرحية الحب الذي يُعوزه الحس يكلف بالالتزام إزاء حسٍّ يُعوزه الحب، فيثير ردود أفعال مختلطة بشكل عجيب من الإثم والسخط، والإشفاق والامتعاض، وأحيانًا من البُغض الفعلي (وهناك دائمًا إحساس دفين بتأنيب الضمير). وكانت تصاحب ذلك في جميع الحالات وتسير معه في تناغم سلسلة من الأماسي المختلسة أقضيها مع «المصورة الصغيرة الفظة».
قالت سوزيلا: أرجو أن تكون على الأقل قد استمتعت بهذه الأماسي.
– ومتى كان ذلك؟
– منذ أكثر قليلًا من عام، في أفريقيا.
– أفريقيا؟
– بعث بي إلى هناك جو ألديهايد.
– ذلك الرجل الذي يملك الصحف؟
– وغير ذلك. وكان متزوجًا من إيلين عمة مولي. وكان فوق ذلك رب أسرةٍ مثالي. ومن أجل ذلك كان على ثقة تامة من استقامته حتى حينما كانت تشغله العمليات المالية المشينة.
– وأنت تعمل لحسابه؟
وأومأ ويل برأسه إيجابًا وقال: تلك كانت هديته لمولي بمناسبة قرانها؛ وظيفة لي في صحف ألديهايد تقريبًا بضعف المرتب الذي كنت أتقاضاه ممن كنت أعمل معهم من قبلُ، هدية سخيفة! ولكنه كان شديد الولع بمولي.
– وماذا كان رد الفعل عنده بالنسبة لبابز؟
– لم يعلم عنها شيئًا قط؛ ولم يعلم أن هناك سببًا ما لحادثة مولي.
– ومن ثم فهو يستمر في استخدامك من أجل زوجتك المتوفاة؟
هز ويل كتفيه وقال: المبرر هو أن أمي بحاجة إلى أن أعولها.
– وبالطبع أنت لا ترضى عن فقرك؟
– طبعًا لا أرضى.
ثم كانت فترة سكون.
وأخيرًا قالت سوزيلا: لنعُد إلى أفريقيا.
– بعثوا بي إلى هناك لأكتب سلسلة عن وطنية الزنوج. ولست بحاجة إلى القول بأني قمت كذلك بعمليات احتيال صغيرة خاصة في شئون التجارة لصالح العم جو. وفي الطائرة وأنا في طريق العودة من نيروبي وجدت نفسي جالسًا إلى جوارها.
– إلى جوار الشابة التي أنت أشد ما تكون بغضًا لها؟ نعم أشد ما أكون بغضًا لها وأكثر ما أكون رفضًا لها. ولكن إذا كان المرء مدمنًا فلا بد له من جرعة من المخدر؛ وهي الجرعة التي تعلم سلفًا أن فيها هلاكك.
وقالت وهي تفكر: هذا شيء عجيب، ونحن في بالا ليس لدينا مدمنون.
– ليس لديكم مدمنون حتى في العلاقة الجنسية؟
– مدمنو الجنس هم كذلك مدمنو أشخاص، أو بعبارة أخرى هم محبون.
– ولكن المحبين أحيانًا يمقتون من يحبون.
– هذا أمر طبيعي؛ فانا مثلًا لي اسم واحد وأنف واحد وعينان لا يتغيران. ولكن ذلك لا يستتبع أني دائمًا نفس المرأة. والعلم بهذه الحقيقة والاستجابة لها بشكل معقول جانب من جوانب فن الحب.
وبأقصى ما يمكن من إيجاز روى لها ويل بقية القصة. وهي نفس القصة، بعدما ظهرت بابز في الصورة، كما حدث من قبلُ. نفس القصة مع الإمعان فيها؛ فبابز ليست إلا راشيل وقد ارتفعت إلى قوة أعظم، قل هي راشيل تربيع، أو راشيل أُس ن. كما أن الشقاء الذي أحلقه بمولي بسبب بابز أكبر نسبيًّا مما كابدته من ألم بسبب راشيل، وكذلك كان سخطه، وإحساسه بالغضب من تهديدها له بحبها آلامها. وتأنبيه لضميره وإشفاقه، وتصميمه — على الرغم من تأنيب الضمير ومن الإشفاق — على أن يستمر في حصوله على ما يريد، وعلى ما كان يكره نفسه لرغبته فيه، وعلى ما رفض رفضًا باتًّا أن يتخلى عنه؛ كل هذه المشاعر والأحاسيس كانت كذلك أقوى نسبيًّا في حالة بابز منها في حالة راشيل. وفي الوقت نفسه كانت بابز أشد إلحاحًا، وتطلب منه مزيدًا من الوقت؛ لا لينفقه فقط في الفجوة القرنفلية. ولكن خارجها كذلك، في المطاعم، والملاهي الليلية، وفي حفلات الكوكتيل الفظيعة التي تدعو إليها أصدقاؤها. وفي قضاء عطلات نهاية الأسبوع في الريف. كانت تقول له: سنكون أنا وأنت وحدنا يا حبيبي. معًا في عزلة. معًا في عزلة تهيئ له الفرصة لكي يسبر الأغوار السحيقة لتفاهة عقلها وسوقيتها. ولكن شهوته استبدت به على الرغم مما كان يحس من ملل وانحطاط في الذوق، ومن نفور خلقي وثقافي. وبعد إحدى عطلات نهاية الأسبوع هذه أمسى مدمنًا لبابز كما كان من قبلُ بدرجة لا رجاء فيها. وبقيت مولي، من جانبها — من جانب موقفها كأخت رحيمة — على الرغم من كل شيء كذلك مدمنة لويل فارنبي بنفس الدرجة التي لا رجاء فيها. درجة لا رجاء فيها بالنسبة إليه؛ لأن رغبته الوحيدة هي أن تخفف من حبها وأن تسمح له أن يذهب إلى الجحيم في هدوء. أما فيما يتعلق بمولي فقد كان إدمانها دائمًا وبغير كبت مفعمًا بالأمل. فلم تكفَّ قط عن توقُّعها لمعجزة تغير مجرى الأمور فتحوله إلى ويل فارنبي عطوفًا، بعيدًا عن الأنانية، محبًّا، وهو (على الرغم من كل الشواهد، وعلى الرغم من كل ما تكرر من خيبة الأمل) ما أصرَّت في عناد شديد على اعتباره نفسه الحقة. والواقع أنه لم يفصح عن عزمه على هجرها للعيش مع بابز إلا من خلال تلك المقابلة الأخيرة القاضية، عندما كبت إشفاقه وأرخى العنان لاستيائه من تهديدها له بإحساسها بالتعاسة؛ عندئذٍ فقط حل اليأس نهائيًّا محل الأمل. هل تعني ما تقول يا ويل؟ هل تعنيه حقًّا؟ نعم أعنيه حقًّا. وفي يأس مطلق سارت إلى العربة وانطلقت بها والمطر يَهْمِي؛ نحو موتها. وفي موكب الجنازة وهم يوارونها التراب أخذ عهدًا على نفسه ألا يرى بابز بعد ذلك. أبدًا، أبدًا لن يراها. وفي ذلك المساء، وهو منكبٌّ على مكتبه يكتب مقالًا عنوانه «ماذا أصاب الشاب» محاولًا ألَّا يتذكر المستشفى، والقبر المفتوح، ومسئوليته عن كل ما حدث، تنبَّه مذعورًا عندما سمع رنينًا قويًّا من جرس الباب. هذه رسالة عزاء متأخرة من غير شك … وفتح الباب، وبدلًا من البرقية ألفى بابز حزينة بغير زينة ومرتدية ثيابًا سوداء.
– عزيزي ويل! وجلسا على الأريكة في غرفة الجلوس، تُربِّت شعره وكلاهما يبكي.
– عندما يتقطب الجبين من الألم والكروب، تكونين لي كالملاك المُعين. ولست بحاجة إلى القول بأنهما أويا إلى الفراش عاريين بعد ساعة من زمان. وبعد ذلك انتقل إلى جوارها في الفجوة القرنفلية. ولا يفوت أي غافل أن يدرك أن بابز في غضون ثلاثة أشهر بدأت تملُّه، وفي غضون أربعة أشهر ظهر في إحدى حفلات الكوكتيل رجل هائل وافدًا من كينيا.
وتسلسلت الحوادث، وبعد ثلاثة أيام عادت بابز إلى بيتها تُعِد الفجوة لمستأجر جديد ولتنذر المستأجر القديم بالإخلاء.
– هل تعنين ذلك فعلًا يا بابز؟
نعم لقد عنت ذلك فعلًا.
وسمعت بين الأشجار خارج النافذة خشخشة، وبعد برهة من الزمن بصوت مرتفع مزعج وفي موعد غير مرتقب صاح طائر ناطق يقول: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم.
وردَّ عليه ويل صائحًا: اسكت!
وعادت المَيْنة تكرِّر قولها: الآن، وفي هذا المكان أيها القوم. الآن …
– اسكت!
ثم ساد الصمت.
وقال ويل: كان لا بُدَّ لي أن أُسكته لأنه طبعًا كان على صواب مطلق. هنا يا قوم، والآن يا قوم. أما هناك وآنذاك فلا محل لهما. أليس كذلك؟ وماذا عن موت زوجك مثلًا؟ هل هذا أمر لا محل له؟
وحدقت فيه سوزيلا لحظة في صمت، ثم هزت رأسها في بطء شديد وقالت: في إطار ما عليَّ أن أفعله الآن؛ نعم الأمر لا محل له بتاتًا. وهذا شيء كان لا بُدَّ لي أن أتعلمه.
– وهل يتعلم المرء كيف ينسى؟
– ليس الأمر أمر نسيان. ما على المرء أن يتعلمه هو كيف يذكر ويبقى مع ذلك متحررًا من الماضي. كيف يكون هناك مع الموتى ومع ذلك يبقى هنا في مكانه مع الأحياء. وابتسمت له ابتسامة حزينة يسيرة وأضافت قولها: ليس الأمر هينًا.
وكرر هذه العبارة ويل وقال: نعم ليس الأمر هينًا. وفجأة فقدَ كل حصانته وزال عنه كبرياؤه وقال لها: هل تُعينيني؟
قالت وقد مدت يدها إليه: هذا اتفاق بيننا. وسُمع وقْع أقدام دفعهما إلى الالتفات. وإذا بالدكتور ماك فيل يدخل الغرفة.