الفصل الثامن
– مساء الخير يا عزيزتي. مساء الخير يا مستر فارنبي.
قالها بنغمة تنمُّ عن السرور، ولم يكن سرورًا مفتعلًا، ولكنه طبيعي وصادق كما بدا لسوزيلا لأول وهلة. ومع ذلك فلا بد أن يكون قبل قدومه إلى هنا قد توقَّف عند المستشفى، ولا بد أن يكون قد قام بزيارة للاكشمي؛ لأنَّ سوزيلا نفسها قد رأتها منذ ساعة أو ساعتين أكثر هزالًا من أي وقتٍ سلف. وقد برزت عظامها وتغيَّر لونها. نصف حياة طويلة من الحب والإخلاص والتسامح المتبادل؛ وبعد يوم أو يومين ينتهي كل شيء، ويُمسي وحيدًا. ولكن يكفي اليوم ما به من شر، كما يكفي المكان ويكفي الإنسان ما ناله من شر. وكان حموها قد قال لها ذات يوم وهما يغادران المستشفى معًا: ليس من حق الإنسان أن يخلع حزنه على الآخرين. وليس من حقه بطبيعة الحال أن يزعم أنه ليس حزينًا. على المرء أن يقبل مآسيه ومحاولاته العابثة أن يكون رواقيًّا، وأن يقبل، ويقبل … ثم خانه صوته، ورفعت بصرها إليه وإذا بوجهه تسيل فوقه الدموع، وبعد خمس دقائق كانا جالسَين على مقعدٍ على حافَّة بركة اللوتس في ظل تمثال بوذا الصخري الضخم، وإذا بضفدعة غير مرئية تقفز من إفريزها المستدير المورق وتغطس في الماء محدِثةً صوتًا مسموعًا ومندفِعةً في شوق إلى الماء، وبرزت من الطين الأعواد الغليظة الخضراء ببراعمها المنتفخة وشقَّت الهواء، وشوهدت هنا وهناك رموز الاستنارة زرقاء أو وردية اللون تتفتح بَتَلاتها نحو الشمس ونحو زيارات التفقد التي يقوم بها الذباب والخنافس الصغيرة والنحل المتوحش منبعثة من الغابة. كما شوهد سرب من اليعاسيب الزرقاء والخضراء المتلألئة تندفع طائرة، ثم تتوقف أثناء الطيران، ثم تندفع مرة أخرى سعيًا وراء اصطياد الذباب الصغير.
وفي صوت هامس قال الدكتور روبرت «تاثاتا» (صورة مثالية).
ولبثا مكانهما صامتَين لفترة طويلة. وفجأة لمس كتفها: انظري!
ورفعت عينيها تجاه ما أشار إليه، ورأت ببغاوين صغيرين وقد حطَّا على يد بوذا اليمنى يؤديان شعائر الغزل.
وسألت سوزيلا بصوت مرتفع: هل توقفت مرة أخرى عند بركة اللوتس؟
ابتسم لها الدكتور روبرت ابتسامة خفيفة وأومأ براسه.
وسأله ويل: وكيف وجدت شيفا بورام؟
أجاب الدكتور: بهيجة ولا يعيبها إلا اقترابها الشديد من العالم الخارجي. هنا يستطيع المرء أن يتجاهل الحماقات المنظمة ويباشر عمله. أما هناك فالعالم الخارجي يخنقك في كل لحظة لوجود أجهزة الاستشعار ومحطات الاستماع وقنوات الاتصال التي لا بُدَّ للحكومة من امتلاكها. أنت تسمع العالم الخارجي، وتحسه، وتشمه؛ نعم، تشمه.
– هل حدث منذ ما كنت هناك شيء مشئوم فوق العادة؟
– لا شيء فوق العادة في طرفكم من العالم. وكم وددت لو استطعت أن أقول ذلك عن طرفنا منه.
– ممَّ تشكون؟
– نشكو جارنا الملاصق، الكولونيل ديبا؛ فأولًا عقد اتفاقية أخرى مع التشيك.
– مزيد من السلاح؟
– بما قيمته ستون مليونًا، ذكر ذلك الراديو هذا الصباح.
– وما الداعي؟
– الأسباب المألوفة؛ المجد والقوة، لذة الغرور ولذة تهديد الآخرين، إرهاب واستعراضات عسكرية في الداخل، وغزوات وموسيقى النصر في الخارج. ويؤدي بي هذا إلى البند الثاني من الأخبار السيئة، أمس مساءً ألقى الكولونيل خطبة أخرى من خطبه الشهيرة عن راندنج العظمى.
– راندنج العظمى؟ ما هذه؟
قال الدكتور روبرت: لك أن تسأل، راندنج العظمى هي الأرض التي حكمها سلاطين راندنج لوبو فيما بين ١٤٤٧م و١٤٨٣م. وكانت تشمل راندنج وجزر نيكوبار وثلاثين في المائة تقريبًا من سومطرة وكل بالا. أما اليوم فهي تقتصر على مقاطعة الكولونيل ديبا الذي يريد أن يسترد كل ما فقدت بلاده من أراضٍ.
– وهل هو جاد؟
– بالوجه المستقيم: كلا، أنا مخطئ. بالوجه الأرجواني المشوَّه وبأعلى الصوت الذي تدرب — بعد طول مران — على أن يجعله شبيهًا تمامًا بصوت هتلر: راندنج العظمى أو الموت!
– ولكن الدول الكبرى لن تسمح بقيامها.
– ربما لا تحب هذه الدول أن تراه في سومطرة. أما بالا؛ فذلك أمر آخر. ثم هز رأسه وواصل الحديث: بالا — لسوء الحظ — لا ذكر لها في أي سجل. نحن لا نريد الشيوعيين، ولا نريد كذلك الرأسماليين. ونَمْقت أشد المقت التصنيع الكامل الذي يسعى أولئك وهؤلاء إلى فرضه عليها؛ لأسباب مختلفة بطبيعة الحال؛ فالغرب يريد ذلك لأن أجور العمل منخفضة ومن ثم فإن أنصبة المستثمرين مرتفعة. والشرق يريده لأن التصنيع يخلق طبقة البروليتاريا، ويفتح ميادين جديدة للثورة الشيوعية وقد ينتهي إلى إنشاء ديمقراطية شعبية أخرى. ونحن نقول لا لكما؛ ولذلك فنحن لا نكتسب شعبية في أي مكان. إن الدول العظمى كلها — بغضِّ النظر عن أيديولوجياتها — قد تؤثِّر بالا محكومة من راندنج بما فيها من حقول البترول على بالا مستقلة بغير هذه الحقول. وإذا ما هاجمنا ديبا قالت هذه الدول إن الموقف يُرثى له، ولكنها لا ترفع إصبعًا. وإذا ما استولى علينا ودعا رجال البترول لدخول البلاد فاضوا سرورًا.
سأل ويل: وماذا يمكنكم أن تفعلوا بالكولونيل ديبا؟
– لا شيء غير المقاومة السلبية. ليس لدينا جيش وليس لنا أصدقاء أقوياء. في حين أن الكولونيل لديه الجيش والأصدقاء الأقوياء. أكثر ما نستطيع أن نصنعه إذا بدأ يثير المتاعب أن نلجأ إلى الأمم المتحدة. وفي نفس الوقت نحتج لدى الكولونيل على هذه الإفاضة في الحديث أخيرًا عن راندنج العظمى. نحتج عن طريق وزيرنا في راندنج لوبو. ونحتج في وجه الرجل العظيم شخصيًّا عندما يقوم بزيارته الرسمية لبالا بعد عشرة أيام.
– زيارة رسمية؟
– بمناسبة الاحتفال ببلوغ راجا الصغير سن الرشد، وجهت إليه الدعوة منذ زمن بعيد، ولكنه لم يخطرنا مؤكِّدًا تلبية الدعوة أو رفضها. واليوم تقرر الأمر نهائيًّا؛ فسوف نعقد مؤتمر قمة كما نحتفل بعيد الميلاد. ولكن دعنا الآن نتحدث فيما هو أجدى، كيف حالك اليوم يا مستر فارنبي؟
– حالتي ليست جيدة فحسب، إنها رائعة. ولقد شرفت اليوم بزيارة من ملككم الذي يسود بلادكم؟
– موروجان؟
– لماذا لم تخبرني أنه ملككم الذي يسود بلادكم؟
وضحك الدكتور روبرت وقال: لو فعلنا فربما طلبت المقابلة.
ولكني لم أطلبها لا معه ولا مع الأم الملكة.
– وهل أتت الراني كذلك؟
– بوحيٍ من صوتها الضعيف. ولقد أرشدها صوتها الضعيف بالتأكيد إلى العنوان الصحيح. إن رئيسي، جون ألديهايد، من أعز أصدقائها.
– وهل أخبرتك بأنها تحاول أن تأتي برئيسك هنا لاستغلال ما عندنا من بترول؟
– نعم بالتأكيد.
– رفضنا عرضه الأخير منذ أقل من شهر. هل علمت بذلك؟
وابتهج ويل لأنه استطاع أن يجيب بصدق بأنه لم يعلم، فلم ينبئه بهذا الرفض الأخير جو ألديهايد أو الراني. وعاد إلى حديثه يقول، ليس بكل الصدق: عملي يتعلق بقسم لُباب الأخشاب وليس بقسم البترول. ثم كانت فترة سكون، وأخيرًا سأل: ما وضعي هنا؟ أجنبي غير مرغوب فيه؟
– على كل حال — لحسن الحظ — أنت لست من بائعي الأسلحة.
قالت سوزيلا: ولست مبشرًا.
– ولست من رجال البترول؛ وإن كنت في هذا الصدد قد تُعَد مذنِبًا لارتباطك بهم.
– ولست فيما نعلم باحثًا عن اليورانيوم.
قال الدكتور روبرت: هؤلاء بالدرجة الأولى هم غير المرغوب فيهم. أما كصحافي فأنت في المرتبة الثانية. لست مطلقًا الرجل الذي نحلم بدعوته إلى بالا. ولكنك كذلك لست الرجل الذي أفلح في الوصول إلى هنا ونطلب إبعاده فورًا.
قال ويل: أحب أن أبقى هنا بمقدار ما يسمح القانون.
– هل لي أن أسألك لماذا؟
تردَّد ويل؛ فباعتباره وكيلًا سريًّا لجو ألديهايد ومراسلًا صحافيًّا يهوى الأدب هواية قصوى كان لا بُدَّ له أن يطيل من مقامه ما استطاع لكي يتفاوض مع باهو ويكتسب سنة التحرر التي وعد بها. ولكن كانت هناك أسباب أخرى يمكن الإباحة بها فقال: أقول لك إذا لم يكن لديك اعتراض على الملاحظات الشخصية.
قال الدكتور روبرت: أفصح؟
– الواقع أنني كلما زادت معرفتي بكم اشتد حبي لكم. وأنا أريد أن أعرف المزيد عنكم. ثم أضاف إلى ذلك وهو يرمق سوزيلا بنظره: وفي غضون ذلك قد تتبين لي جوانب شائقة عن نفسي، حتامَ تسمحون لي بالبقاء؟
– الأمر الطبيعي أن نخرجك بمجرد ما تسمح لك صحتك بالسفر. أما إن كنت شديد الحفاوة ببالا — وإن كنت فوق ذلك شديد الاهتمام بنفسك — فقد نطيل بقاءك قليلًا. أم هل ذلك لا يجوز؟ ما رأيك يا سوزيلا؟ مع العلم بأنه يعمل فعلًا مع لورد ألديهايد.
وكاد ويل أن يحتج ثانيةً بأن عمله يتعلق بقسم لُباب الأخشاب. ولكن الألفاظ انحاشت في حلقه فلم ينبس ببنت شفة. ومرت ثوانٍ فأعاد الدكتور روبرت السؤال.
فقالت سوزيلا أخيرًا: نعم؛ لأننا لو سمحنا له بالبقاء كنا مخاطِرين. ومن ناحيتي الشخصية أنا على استعداد لأن أخاطر. فهل أنا على صواب؟ والتفتت نحو ويل.
فضحك وحاول أن يجعل من الموضوع فكاهة وقال: أظن أن بوسعك أن تثقي فيَّ. على الأقل أرجو أن يكون ذلك بوسعك. ولشدَّ ما كان ضيقه بنفسه وحيرته من أمره حينما شعر بالخجل. ممَّ يخجل؟ وجَّه هذا السؤال إلى ضميره وهو على مضض. إذا كان هناك كسب لغير من يستحق فهو لشركة ستاندارد بكاليفورنيا. وإذا ما تقدم ديبا، فأي فارق عنده لمن يكون الامتياز؟ من تؤثر أن يلتهمك: ذئب أم نمر؟ إن الأمر لا يهم الحمل. وجو لن يكون أسوأ حالًا من منافسيه. ومع ذلك فلكَم تمنى لو أنه لم يتعجل بإرسال الخطاب الذي بعث به، ثم لماذا لم تتركه وشأنه تلك المرأة الشنيعة؟
وأحس من خلال الملاءة أن يدًا تمسُّ رُكبته السليمة. وقد أكبَّ عليه الدكتور روبرت وابتسم له.
قال: تستطيع أن تقضي شهرًا هنا. وسأكون مسئولًا عنك مسئولية كاملة، وسوف نبذل جهدنا لكي نطلعك على كل شيء.
– أشكرك شكرًا جزيلًا.
قال الدكتور روبرت: حينما تشك اعمل دائمًا على فرض أن الناس أكثر شرفًا مما تظن بناء على أسباب ملموسة. هذه النصيحة أسداها إليَّ راجا العجوز حينما كنت شابًّا والتفت إلى سوزيلا وقال لها: خبِّريني، كم كان عمرك عندما مات راجا العجوز؟
– ثمانية أعوام تمامًا.
– وإذن فأنت تذكرينه جيدًا.
وضحكت سوزيلا: وهل يمكن لأحد أن ينسى الطريقة التي كان يتحدث بها عن نفسه مؤكِّدًا بها ذاته فوق كل شيء يا له من رجل عزيز على نفسي.
– ويا له من رجل عظيم!
ونهض الدكتور ماك فيل واتَّجه نحو خزانة الكتب التي كانت قائمة بين الباب ودولاب الملابس، واستلَّ من رفِّها الأسفل ألبوم صور سميك أحمر. وقد تهلهل من أثر الجو الاستوائي ومن أكل الحشرات. وقال وهو يقلب صفحاته: له صورة هنا في مكان ما. ها هي ذي.
ونظر ويل إلى الصورة الباهتة، وهي صورة هندوكي ضئيل عجوز بنظارة ومئزر، يُفرغ محتويات صحن فضي كثير الزخرفة فوق عمود قصير سميك.
سأل: ماذا يفعل؟
أجاب الدكتور: إنه يصب الزيت المقدَّس فوق رمز للجنس، وهي عادة لم يستطع أبي المسكين أن يصرفه عنها.
– وهل كان أبوك لا يرضى عن الأعضاء الجنسية؟
قال الدكتور ماك فيل: كلا، كلا، بل كان يحبذها، وإنما كان لا يرضى عن الرمز.
– ولماذا الرمز؟
– لأنه كان يعتقد أن الناس لا بُدَّ أن يأخذوا دينهم بطريق مباشر. إن كنت تفهم ما أعني، بغير تنقيح أو تحريف. ولم يكن يحب أن تصاغ العقيدة في عبارات لاهوتية أو في شعائر أو طقوس.
– وكان الراجا يميل إلى مثل هذه العبارات وهذه الطقوس؟
– ليس بوجه عام، ولكن في هذا الموضوع بالذات، كان يرتبط بصفة خاصة بهذا الرمز الجنسي للأسرة. وقد صنع من البازلت الأسود، ويبلغ من العمر ثمانمائة عام على الأقل.
قال ويل فارنبي: لقد فهمت.
– يصب فوقه الزيت؛ كان هذا عنده نوعًا من العبادة التي تعبِّر عن عاطفة جميلة نحو فكرة سامية. ولكن حتى أسمى الأفكار تختلف اختلافًا بيِّنًا عن اللغز الكوني الذي تمثله. والعواطف الجميلة التي ترتبط بالأفكار السامية إذن ليس بينها وبين التجربة المباشرة من اللغز الكوني عنصر مشترك. بتاتًا. ولست في حاجة إلى أن أذكر لك أن الراجا العجوز كان يعلم ذلك حق العلم، أكثر مما كان يعلمه أبي. لقد شرب اللبن من ضرع البقرة رأسًا، بل لقد كان هو واللبن شيئًا واحدًا. بَيْدَ أن مسح رمز التناسل بالزيت كان عملًا مقدَّسًا لم يحتمل أن يتخلى عنه. ولست في حاجة إلى أن أقول لك إنه ما كان ينبغي لأحد أن يطلب إليه أن يتخلى عنه. وإذا كان الأمر يتعلق بالرموز فإن أبي يكون دائمًا من المتزمتين، وعلى خلاف مع جيته كان مثله الأعلى العلم التجريبي البحت في طرف والتصوف التجريبي البحت في طرف آخر من الطيف. الخبرة المباشرة على كل مستوى، ثم التعبير الواضح العقلي عن هذه الخبرات. رمز الجنس، الصليب، الزيت، الماء المقدَّس، الحكم البوذية، التماثيل، الأناشيد؛ كم كان يودُّ أن يُلغيها جميعًا.
وسأل ويل: وأين كان موقع الفنون؟
أجاب الدكتور ماك فيل: لم يكن لها البتَّة موقع. الشعر وحده كان النقطة السوداء عند أبي. قال إنه يحبه. والواقع أنه لم يكن يحبه، الشعر من أجل الشعر، الشعر باعتباره عالمًا مستقلًّا، يقع بين الخبرة المباشرة ورموز العلم؛ ذلك شيء لم يدركه، دعني أبحث عن صورته.
وتصفَّح الدكتور ماك فيل ألبوم الصور مرة أخرى ثم أشار إلى الصورة الجانبية العجفاء ذات الحاجبين الكثيفين.
وعلق ويل عليها بقوله: يا له من رجل أسكتلندي!
– ومع ذلك كانت أمه وجدَّته لأمه من أهل بالا.
– إنني لا أرى لهما أثرًا.
وحدق ويل في الصورة الفوتوغرافية القديمة لشاب ذي وجه بيضاوي وسبلتين جانبيتين سوداوين، يرتكز بمرفقيه على قاعدة من المرمر فوقها قبعته الطويلة الفارعة وقاعها إلى أعلى.
– هل هذا هو جدك الأكبر؟
– أول من وفد إلى بالا من آل ماك فيل، الدكتور أندرو، ولد في عام ١٨٢٢م في مدينة أسكتلندية (رويال بارا) حيث كان والده جيمس ماك فيل يملك مصنع حبال. وكانت هذه الحبال رمزًا ملائمًا؛ لأن جيمس كان كالفينيًّا مخلصًا لمذهبه. ولما كان يؤمن بأنه من الخيار فقد كان يستمد طمأنينة نفسية مشرقة من أن هؤلاء الملايين من زملائه يقضون حياتهم وحبل القدر ملتف حول أعناقهم وفي السماء ملاك يعد الدقائق ليوقِعهم في شرَك الموت.
وضحك ويل.
ووافقه الدكتور روبرت قائلًا: نعم، إن الأمر يبدو مضحكًا حقًّا، ولكنه لم يكن كذلك في ذلك الحين، بل كان جدًّا وأكثر جدية من القنبلة الهيدروجينية في هذه الأيام. كان من المعروف أن تسعة وتسعين وتسعة أعشار في المائة من البشر محكوم عليهم بالجحيم الأبدي. لماذا؟ إما لأنهم لم يسمعوا قط عن يسوع، وإما — إن كانوا قد سمعوا به — لأنهم لم يؤمنوا إيمانًا كافيًا بأن يسوع قد أنقذهم من عذاب النار. والدليل على أن إيمانهم لم يكن كافيًا هو أنه كان من الواضح ومن الناحية العملية أن نفوسهم غير مطمئنة. والإيمان الكامل شيء يعود بالطمأنينة الكاملة للنفوس. ولكن طمأنينة النفس الكاملة شيء لا يملكه في الواقع أحد؛ ومن ثَمَّ فإن أحدًا — من الناحية العملية — لا يملك الإيمان الكامل؛ ولذلك فكل امرئ مكتوب عليه العقوبة الأبدية.
قالت سوزيلا: إني لأعجب لماذا لما يصابوا جميعًا بالجنون؟
وكان لا بُدَّ لهم من الإيمان بكل كيانهم. وليس فقط في قمم رءوسهم. لا بُدَّ من إرغامهم على الإيمان الكامل وعلى الطمأنينة القصوى التي تُلازم هذا الإيمان، وكيف يكون ذلك؟ بأن يذيقهم النار الآن ويتوعدهم بالنار فيما بعدُ، وإذا ركب الشيطان رءوسهم عنادًا فرفضوا الإيمان الكامل وما يجلبه من طمأنينة زادهم نارًا وتوعدهم جحيمًا أشد سعيرًا، ويقول لهم في الوقت نفسه إن الله غني عما يعملون، ولكنه يوقِع بهم عقوبات وحشية لكل مسلك مشين. ويقول لهم إنهم بالطبيعة فاسقون ويضربهم على ما لا مفرَّ لهم منه.
وعاد ويل فارنبي يتصفح ألبوم الصور.
– هل لديك صورة لجدِّك الممتع هذا؟
قال الدكتور ماك فيل: كانت عندنا صورة زيتية. ولكن الرطوبة أفسدت اللوحة وأخذت تأكلها الحشرات. كان نموذجَا رائعًا، شبيهًا بصورة أرميا التي رُسمت في عهد النهضة، جليل الطلعة، في عينه الوحي، ذو لحية نبوية تغطي كثيرًا من العيوب الخلقية. ولم يبقَ له أثر سوى رسم بقلم الرصاص لبيته الذي كان يعيش فيه.
وقلب صفحة أخرى فوقعت عينه على الصورة.
واستمر في حديثه: من الجرانيت الصلب، وعلى كل نوافذه قضبان. وفي داخل هذا الباستيل العائلي الدافئ أعمال نظامية من اللاإنسانية! لا إنسانية نظامية تُرتكب — ولست في حاجة إلى ذكر ذلك — باسم المسيح ومن أجل العمل الصالح. وقد ترك لنا الدكتور أندرو سيرة ذاتية لم يكملها، ومنها عرفنا كل شيء.
– ألم يتلقَّ الأطفال عونًا من أمهم؟
وهزَّ الدكتور ماك فيل رأسه.
قالت سوزيلا: إنني أشمئز لسماع ذلك، وإن هي إلا محض سادية.
قال الدكتور ماك فيل: لا ليست سادية محضة، إنما هي سادية تطبيقية، سادية بواعثها عميقة، هي ساديةٌ في سبيل مَثلٍ أعلى معيَّن، وهي تعبير عن عقيدة دينية معينة. ثم التفت إلى ويل وأضاف إلى ذلك قوله: وهذا موضوع لا بُدَّ أن يقوم أحد بدراسته دراسة عميقة تاريخية؛ أعني العلاقة بين اللاهوت وعقوبة الأطفال بدنيًّا. عندي نظرية مؤداها أن البلاد التي يُجلد فيها البنون والبنات بطريقة نظامية تنشأ فيه ضحايا التعذيب على تصوُّر الله بأنه هو «الآخر الكامل»؛ أليست هذه هي اللغة التي تتحدثونها في ذلك الجزء من العالم الذي تسكنونه؟ في حين — على عكس ذلك — أن الأطفال الذين ينشئُون دون أن يتعرضوا للقسوة البدنية يرون أن الله موجود في كل الوجود. إن العقيدة الدينية لشعب من الشعوب تعكس مدى تعرُّض أطفاله للعقوبة البدنية. انظر إلى العبرانيين؛ وهم شعب يضرب أطفاله في حماسة شديدة، وكذلك كان كل المسيحيين الطيبين في عهود الإيمان. من هنا كانت فكرة يهوه، والخطيئة الأولى والآب الذي أخطأ الإنسان في حقه خطأً شنيعًا في العقيدة الأصيلة الرومانية والبروتستانتية. في حين أن التربية عند الهندوس والبوذيين اتسمت دائمًا بعدم العنف، انعدمت عندهم العقوبات البدنية؛ ومن ثم كانت عقيدتهم في أن المرء هو كذلك «روحه من الروح الأعلى». ثم انظر إلى الصاحبيين (الكويكرز)، لقد عدُّوهم من الزنادقة لأنهم آمنوا «بالضوء الباطني»، فماذا حدث؟ تخلَّوا عن ضرب الأطفال، وكانوا أول طائفة مسيحية احتجَّت على نظام الرق.
واعترض على ذلك ويل بقوله: إن ضرب الأطفال لم يعُد شائعًا في هذه الأيام، ومع ذلك ففي هذه الآونة نفسها أمست الإباحة بفكرة «الآخر الكامل» هي من الفكر المتقدم الحديث.
ثم سادت فترة من الصمت. وتطلَّع ويل فارنبي مرة أخرى إلى رسم ذلك الشخص الصخري في مصنع الحبال، وطافت بذهنه كل الصور الخيالية البشعة القبيحة التي ارتفعت إلى مستوى الأمور الخارقة للطبيعة، وكل القساوات الدنيئة التي أوحت بها تلك الصور الخيالية، وكل الآلام التي فُرضت على الناس وأسباب الشقاء التي تحمَّلوها بسببها. إذا لم يكن أوغسطين بقسوته المحتملة كان روبسبيير، أو استالين. وإذا لم يكن لوثر يحض الأمراء على قتل الفلاحين كان ماو المعتدل الذي يهبط بهم إلى مستوى العبودية.
وسأله ويل: ألا يصيبك اليأس أحيانًا؟
وهز ماك فيل رأسه وقال: نحن لا نيأس لأننا نعلم بأن الأمور لا يتحتم بالضرورة أن تكون سيئة كما كانت دائمًا في الواقع.
وأضافت سوزيلا: نعلم أنه من الممكن أن يكون أفضل كثيرًا. نعلم ذلك لأنها بالفعل أفضل، الآن، وفي هذا المكان، فوق هذه الجزيرة غير المعقولة.
قال الدكتور ماك فيل: ولكن هل سنستطيع أن نغريكم أيها القوم لكي تحذوا حذونا، أو هل حتى أن نحافظ على واحتنا الإنسانية الصغيرة هذه وسط بيدائكم الفسيحة التي تسكنها القردة؛ هذا للأسف أمر آخر. ولعل لدينا ما يبرر الشعور بالتشاؤم الشديد فيما يتعلق بالموقف الحالي، أما اليأس، اليأس المطلق، فأنا لا أرى البتَّة أي مبرر له.
– حتى وأنت تقرأ التاريخ؟
– حتى وأنا أقرأ التاريخ.
– إني أحسدكم. وكيف استطعتم ذلك؟
– بتذكُّرنا حقيقة التاريخ؛ إنه سجلٌّ لما أُكرِه البشر على فعله من جهلهم، وهو الغرور الأحمق الشديد الذي يجعلهم يقنِّنون جهالتهم لتكون عقيدة سياسية أو دينية.
ثم عاد إلى ألبوم الصور وقال: لنعُد إلى بيت «رويال بارا» وإلى جيمس وجانيت وإلى الأطفال الستة الذين وضعهم إله كالفين — بحقده الشديد — تحت رحمتها. «العصا والتأنيب يؤديان إلى الحكمة. والطفل إذا تُرك وشأنه جلب على أمه العار.» هذه التعاليم — يعززها التأكيد السيكولوجي والعذاب البدني — هي البنية الكاملة لتجربة بافلوف. ولكن البشر — لسوء حظ الديانة النظامية والدكتاتورية السياسية — لا يخضعون لنتائج التجارب المعملية كما تخضع الكلاب. ولقد أدت عملية التكيف إلى ما قُصد منها مع توم وماري وجين؛ فلقد أصبح توم قسيسًا، وتزوجت ماري من قسيس وماتت أثناء الوضع، وبقيت جين في البيت وقامت بتمريض أمها وهي تعاني طويلًا من سرطان شرس، ولعشرين عامًا بعد ذلك ضحت بنفسها شيئًا فشيئًا من أجل الشيخ الجليل الذي أدركه الهرم وانتهى بشيخوخة عادت به إلى عقل الطفولة. إلى هنا سارت الأمور سيرًا طبيعيًّا. أما مع آني — الطفلة الرابعة — فقد تغير النمط. كانت آني جميلة، ولما بلغت الثامنة عشرة من عمرها عرض عليها الزواج ضابط في سلاح الفرسان، وكان هذا الضابط إنجليكانيًّا ورأيه في الفساد الكامل وفيما يرضي الله إجرامي يجانبه الصواب؛ ولذلك كان الزواج محرَّمًا. وبدا كأن آني قد كُتب عليها ما كتب على جين، واحتملت ذلك عشر سنوات. ولما بلغت الثامنة والعشرين وقعت فريسةً لإغراء رجل آخر من سلاح الهند الشرقية. وقضت معه سبعة أسابيع في سعادة شبه جنونية، لم تشعر بمثلها من قبلُ. وبدت على وجهها مسحة من الجمال غير الطبيعي، وأشرق جسمها بالحياة، ثم أبحر الضابط في سلاح الهند الشرقية في رحلة إلى مدراس وماكاو تستغرق عامين. وبعد أربعة أشهر، وهي حامل، وبغير صديق، ألقت بنفسها في نهر تاي يأسًا من الحياة. أما إسكندر وهو الذي يليها في الأبناء فقد هرب من المدرسة والتحق بفرقة ممثلين. ومنذ ذلك الحين لم يُسمح لأحد في البيت المجاور لمصنع الحبال بذكره. وأخيرًا كان هناك أندرو، وهو أصغرهم، وما أشبهه ببنيامين! ويا له من طفل نموذجي! كان طائعًا، يحب دروسه، وقام بحفظ الرسائل الدينية عن ظهر قلب أسرع وأدق مما فعل غيره من الأطفال. وذات مساء شهدته أمه وهو يعبث بجهازه التناسلي. وجاء ذلك في وقت ملائم رد لها إيمانها بسوء النفس البشرية. وضربته بالسوط حتى سال دمه. وعاد إلى فعلته بعد بضعة أسابيع وعادت إلى ضربه، وحكمت عليه بالحبس الانفرادي لا يتناول غير الخبز والماء، وقيل له إنه أذنب في حق الروح القدس وليس من شك في أن أمه قد أصيبت بداء السرطان بسبب ذنبه. ولبث أندرو بقية طفولته تطارده أحلام مزعجة متكررة عن الجحيم. كما طاردته كذلك أسباب الإغراء المتكررة. ولما استسلم لهذه الأسباب (وكان ذلك دائمًا في وحدته وهو في الحمام الذي يقع في أقصى الحديقة) هاجمته رؤًى أشد إزعاجًا من العقوبات التي كانت بانتظاره.
وعلَّق على ذلك ويل فارنبي بقوله: إني لأعجب كيف يشكو الناس من أن الحياة الحديثة خلوٌ من المعنى! انظر كيف كانت الحياة حينما كان لها معنًى. أيهما أفضل: قصة يرويها لك أحمق، أم قصة يرويها لك كالفِن؟ ألا فأسمعني قصة الأحمق دائمًا.
قال الدكتور ماك فيل: أنا أتفق معك. ولكن ألا يمكن أن يكون هناك احتمال ثالث؟ قصة يرويها شخص لا هو بالأحمق ولا هو بالمجنون المرتاب؟
قالت سوزيلا: شخص عاقل كل العقل على سبيل التغيير.
وأعاد الدكتور عبارتها: نعم على سبيل التغيير، التغيير المبارك. ومن حسن الحظ كان هناك — حتى في ظل النظام القديم — كثيرون لم تُفسدهم التربية الشيطانية حتى وهي في ذروتها. إذا أخذنا بقوانين فرويد وبافلوف كان ينبغي أن ينشأ جدي الأكبر على انحراف عقلي. والواقع أنه نشأ سليم العقل. وأضاف إلى ذلك الدكتور روبرت في عبارة معترضة قوله: وهو يدل دلالة قاطعة على أن النظريتين السيكولوجيتين اللتين أشدتم بهما ناقصتان نقصًا فاحشًا. نظرية فرويد، والنظرية السلوكية — على ما بينهما من خلاف شديد — تتفقان تمامًا عند تطبيقهما على الفوارق الطبيعية الفطرية بين الأفراد. كيف يعالج علماء النفس عندكم الذين تعزُّونهم إعزازًا شديدًا هذه الفوارق؟ بمنتهى البساطة، يتجاهلونها، ويزعمون بكل رفق أنها لا وجود لها؛ ومن ثَمَّ كان عجزهم التام عن مواجهة الموقف الإنساني كما هو قائم، بل عجزهم عن تعليله نظريًّا. انظر — مثلًا — إلى ما حدث في هذه الحالة الخاصة. إن إخوة أندرو وأخواته إما روضوا بتكييعهم وأما تحطموا، في حين أن أندرو لم يروض ولم يحطم. لماذا؟ لأن عجلة الوراثة لم تدُر حوله. كانت بنيته أكثر مرونة من غيره، تشريحه البدني على خلاف مع الآخرين، كيمياؤه الحيوية مختلفة، مزاجه مختلف. بذل أبواه معه من الجهد ما بذلا مع بقية إخوته أصحاب الحظ السيئ، ولكنهما باءا بالفشل؛ فلقد خرج أندرو من المعركة مرفوع الراية دون أن يصيبه أذًى.
– برغم ما اقترف من ذنب ضد الروح القدس؟
– ذلك لحسن الحظ شيء تخلص منه خلال سنته الأولى من دراسة الطب في أدنبره. كان آنئذٍ فتًى لا يجاوز السابعة عشرة من عمره إلا قليلًا (فقد كانوا يبدءون تعليمهم صغارًا في تلك الأيام). وفي غرفة التشريح ألفى الفتى نفسه مصغيًا لأسوأ الألفاظ الفاحشة والسباب مما كان زملاؤه يتفوهون به لكي يرفعوا من روحهم المعنوية وهم بين الجثث التي أخذت في التعفن. كان يُصغي أول الأمر مذعورًا، وهو في خشية يقشعر لها بدنه من أن الله لا بُدَّ أن ينتقم. ولكن شيئًا لم يحدث؛ فلقد ازدهر المجدفون، ونجا من تلوثت شفاههم بألفاظ السباب السافلة ولم تصبهم سوى لوثة من الأمراض السرية بين الحين والآخر. واختفى الخوف من نفس أندرو وحل محله إحساس عجيب بالفرج والخلاص، واكتسب جرأة شديدة فبدأ يخاطر ببعض النكات البذيئة من عنده. نطق أول لفظة بذيئة. ما كان أشد إحساسه بالتحرر، وما كان أغزرها من خبرة دينية صادقة! وفي أوقات فراغه قرأ قصة «توم جونز» وقرأ مقال هيوم عن «المعجزات»، وقرأ الكافر جيبون. واستغل الفرنسية التي درسها في المدرسة فقرأ «لامتري» وقرأ «الدكتور كابانيه». الإنسان آلة، يفرز منها المخ فكرًا كما تفرز الكبد الصفراء. الأمر في غاية البساطة، وفي غاية الوضوح المضيء! وبكل حماسة المهتدي في اجتماع ديني قرر أن يُلحد، وما كان يتوقع منه غير ذلك في مثل هذه الظروف، لم يستطع أن يستسيغ القديس أوغسطين، ولم يكن بوسعه أن يكرر الهراء الذي وردَ على لسان أثاناسيوس. وكما يتخلص المرء من الماء القذر في الحوض بفتح البالوعة، فعل ذلك! ما أشد سعادته! ولكن هذه السعادة لم تدُم طويلًا؛ فقد تبيَّن له أن شيئًا ما ينقصه. نعم لقد لفظ الطفل التجريبي مع المخلفات اللاهوتية القذرة. ولكن الطبيعة تمقت الفراغ المطلق. فزالت عن نفسه سعادتها وحل محلها قلقٌ مزمن، وأصيب كما أصيبت بعده الأجيال المتلاحقة بما جاء به وزلي وبوزي ومودي وبيلي وأمثالهم — سندي وجراهام — كلهم يعمل كالآلة لاسترداد اللاهوت الذي سقط في البالوعة. إنهم بالطبع يأملون في استرداد الطفل التجريبي، ولكنهم لا ينجحون أبدًا. كل ما يستطيعه من يحاول إحياء الدين أن يسترد مما تردَّى في البالوعة قليلًا من الماء القذر، الذي يُلقي به مرة أخرى بمرور الأيام، وهكذا إلى ما لا نهاية. الأمر في الواقع مملٌّ إلى أقصى الحدود، ولا ضرورة له بتاتًا كما أدرك ذلك الدكتور أندرو في نهاية الأمر. وها هو ذا الآن في بداية استرداده لحريته الجديدة، منفعلًا، جذلًا؛ ولكنه منفعل في هدوء، وجذل خلف ظاهر من الانعزال الجاد الدمث الذي يُبديه عادةً على الملأ.
وسأل ويل: وماذا عن أبيه؟ هل نشبت بينهما معركة؟
– لم تنشب لأن أندرو لم يحب المعارك. كان من ذلك الطراز من الرجال الذين يذهبون مذهبهم دائمًا، وإن كان لا يعلن عن هذه الحقيقة، ولا يجادل غيره ممن يسلكون مسلكًا آخر. ولم يعطِ الرجل العجوز قط فرصة لكي يفعل ما فعل أرميا، ولم يفصح بشيء ما عن هيوم ولامتري وأدى الحركات التقليدية. ولما انتهت دراسته لم يعُد إلى بيته وتوجَّه إلى لندن واشتغل جرَّاحًا وعالمًا في الطبيعة على سفينة ميلامبوس، وأرسل إلى البحار الجنوبية يحمل تعليمات ليرسم ويمسح ويجمع عينات مختلفة ولكي يحمي البعثات البروتستانتية والمصالح البريطانية. واستغرقت رحلة السفينة ميلامبوس ثلاث سنوات. وتوقَّف عند تاهايتي، وقضى شهرين في ساموا وشهرًا في جزر ماركيساس. وبعد بيرث بدت الجُزر وكأنها جنة عدن؛ ولكنها جنة خلَت من الكالفينية والرأسمالية ومن الأحياء الصناعية الفقيرة ولكنها — لسوء الحظ — خلَت كذلك من شيكسبير وموزار، ومن المعارف العلمية والتفكير المنطقي. كانت فردوسًا، ولكنها لا تكفي.
وواصل رحلته البحرية، وزار فيجي وكارولينز وسولومونز. ورسموا خريطة السواحل الشمالية لغينيا الجديدة. ولما بلغوا بورنيو نزلت جماعة منهم على البر، واصطادوا أورانجوتان حاملًا، ثم تسلَّقوا قمة جبل كينابالو، وقضوا بعد ذلك أسبوعًا في باناي وأسبوعين في أرخبيل ميرجوي، واتجهوا بعد ذلك غربًا حتى إندامانز ومنها إلى أرض الهند الرئيسية.
وبينما كانوا على الساحل سقط جدِّي الأكبر من فوق ظهر حصانه وانكسرت ساقه اليمنى. واختار قائد السفينة ميلامبوس جرَّاحًا آخر وأبحر عائدًا إلى الوطن. وبعد شهرين بدأ أندرو يعمل من جديد طبيبًا في مدراس. وكان الأطباء ندرة في تلك الأيام والأمراض منتشرة بصورة مزعجة. ونجح الشاب في عمله. غير أن الحياة مع التجار والموظفين في مقر الرياسة كانت مملة لا تطاق. كان في المنفى، ولكنه منفًى يخلو مما يعوض عنه؛ فلا مغامرة ولا غرابة؛ إبعاد إلى الأقاليم، إلى ما يشبه سوانسي وهدرسفليد في المناطق الاستوائية. ومع ذلك فقد قاوم الإغراء بحجز مكان في أول سفينة تبحر عائدة إلى الوطن؛ لأنه إن احتمل العيش هنا خمس سنوات استطاع أن يجمع من المال ما يفتح به عيادة طبية في أدنبره؛ لا، بل في لندن، في الحي الغربي. وبدا له المستقبل ذهبيًّا ورديًّا؛ سوف تكون له زوجة يؤثِر أن تكون ذات شعر ذهبي داكن، متواضعة في ثرائها، وسوف يكون له من الأطفال أربعة أو خمسة، سعداء، من الملحدين الذين لا يُجلدون، وسوف ينمو في مهنته، يقصده المرضى من طبقات مرتفعة. الثراء، والشهرة، والكرامة، بل ورتبة الفروسية. تصوَّر نفسه السير أندرو ماك فيل ينزل من سيارته في ميدان بلجريف. السير أندرو العظيم، طبيب الملكة. يُستدعى لِسنت بيترزبورج ليُجري عملية جراحية للدوق العظيم، ويُستدعى للتويلري، وللفاتيكان، وللباب العالي. ما أحلى هذه الخيالات! ولكن ما حدث كان أروع كثيرًا من ذلك. جاء إلى غرفة العمليات ذات صباح جميل رجل غريب أسمر البشرة. وعرَّفه بنفسه في إنجليزية متعثرة. إنه من بالا وقد أمره صحب السمو الراجا أن يبحث عن جرَّاح ماهر من الغرب ويعود به. وسيكون الجزاء مَلكيًّا. وأكد له ذلك: جزاء ملكي. وفي التوِّ والحين قبِل الدكتور أندرو الدعوة من أجل المال إلى حدٍّ ما. ولكن في الأغلب لأنه كان قد سئم، وبحاجة إلى التغيير، وبحاجة إلى نوع من المغامرة، هذه رحلة إلى الأرض المحرَّمة؛ والأغراء لا يقاوم.
وقاطعته سوزيلا قائلة: واذكر أن بالا في تلك الأيام كانت أشد تحريمًا منها الآن.
وهكذا تستطيع أن تتصور كيف أن دكتور أندرو الشاب قد اغتنم متلهفًا هذه الفرصة التي هيأها له سفير الراجا. وبعد عشرة أيام رست سفينته بعيدًا عن الشاطئ الشمالي للأرض المحرَّمة، واستقل قاربًا صغيرًا ملحقًا بالسفينة وشق به عباب الموج وهو يحمل صندوق الدواء وحقيبة الأدوات وصندوقًا كبيرًا من الصفيح بداخله ملابسه وبضعة كتب لا غنى عنها. ولما بلغ الساحل حملوه فوق محفَّة وساروا به خلال شوارع شيفا بورام واستقر في الفناء الداخلي للقصر الملكي. وكان مريضه الملكي بانتظاره في شعف. ولم تُتَح له فرصة يحلق فيها ذقنه أو يغيِّر ملابسه، قبل أن يسمحوا له بالمقابلة. فمثُل وهو مشفِقٌ في حضرة رجل ضئيل أسمر في أوائل الأربعينيات من العمر، نحيل الجسم يرتدي عباءة فاخرة مطرزة، وجهه منتفخ مشوَّه حتى لا تكاد تحسبه من البشر، وقد انخفض صوته حتى أمسى همسًا فيه خشونة. وفحصه الدكتور أندرو، وألفى تورُّمًا منتشرًا في كل اتجاه في أحد جيوب فكه الأعلى حيث تبدأ جذور الورم. وامتد الورم حتى ملأ الأنف، وانتشر إلى أعلى حتى بلغ محجر عينه اليمنى، وسدَّ نصف حلقه، وتعذَّر التنفس، وأصبح الابتلاع أليمًا، والنوم مستحيلًا؛ إذ كلما غفا اختنق وتيقَّظ كالمجنون يتلمَّس الهواء.
كان واضحًا — بغير جراحة أساسية — أن الراجا يُشرف على الموت في غضون شهرين، والجراحة الأساسية تعجِّل كثيرًا بموته. ولنذكر أن ذلك كان في الزمن القديم الذي كانت تُجرى فيه عمليات التسمم الدموي بغير مخدِّر، وفي أحسن الظروف كانت الجراحة تنتهي بوفاة مريض من كل أربعة، وحينما لا تكون الظروف مواتية زادت نسبة الوفيات؛ فتبلغ خمسين في المائة، أو سبعين، أو مائة في المائة. وتشخيص هذه الحالة لم يكن مبشرًا؛ فالمريض ضعيف، والعملية قد تطول، وتزداد صعوبةً وتُسبب آلامًا مبرحة، والفرصة كبيرة في موته وهو على طاولة العمليات، ومن المؤكَّد أنه حتى إن نجا من العملية فوفاته أمر محتوم بعد بضعة أيام من تسمم الدم. وفكَّر الدكتور أندرو ماذا يكون مصيره إذا مات وقيل إن جرَّاحًا أجنبيًّا قد قضى على حياة الملك. ثم مَن ذا الذي يمسك المريض وهو يتلوَّى أثناء العملية من أثر المبضع؟ ومَن مِن خدمه أو حشمه يجرؤ على عصيان الأمر إذا صاح السيد من الألم أو طلب منهم بصراحةً أن يُخلُّوه وشأنه؟
ربما كان التصرف الحكيم أن يقول فورًا إن الحالة ميؤس منها، وأنه لا يستطيع أن يقوم بعمل ما، ويرجو إعادته إلى مدراس في الحال. ثم أعاد النظر إلى الرجل المريض، وبادله الراجا بنظرة من خلال القناع البشع الذي بدا فيه وجهه المشوَّه، وقد حدق بعينين كأنهما عينا مجرم مُدَان يتوسل إلى القاضي أن يشمله برحمته. ومسَّ هذا الرجاء شغاف القلب من الدكتور أندرو فابتسم له مشجِّعًا، وربَّت على يده النحيلة. وفي أثناء ذلك نبتت في ذهنه فكرة؛ فكرة سخيفة لا يفكر فيها إلا مخبول العقل، فكرة مخزية، ولكن على الرغم من ذلك …
تذكَّر أنه منذ خمس سنوات، عندما كان لا يزال في أدنبره، اطَّلع على مقال في مجلة «لانست» يهاجم فيه كاتبه الأستاذ أليتسون، ذلك الرجل الذي ساءت سُمعته، لأنه تحدَّث بحماسة عن إمكان تنويم الحيوان تنويمًا مغناطيسيًّا. وقد بلغت به جرأة الرأي أن يتحدث عن إجراء عمليات بغير ألم حينما يكون المرضى في غيبوبة تنويم مغناطيسي.
فالرجل إما أحمق ساذج وإما وغد بلا ضمير؛ لأن الأدلة التي يبرر بها هذا الهراء كانت تافهة بشكل واضح. الأمر كله احتيال ودجل وخداع؛ وغير ذلك مما وردَ في مقالٍ من ستة أعمدة كلها استنكار لما ينطوي عليه هذا الادعاء من انحطاط خلقي. وقد قرأ الدكتور أندرو هذا المقال في ذلك الحين بدرجة من التصديق؛ لأنه كان ما يزال متأثرًا بلامتري وهيوم وكابانيه. ثم نسي بعد ذلك كل ما يتعلق بتنويم الحيوان مغناطيسيًّا. والآن وهو إلى جوار سرير الراجا عادت إليه الذكريات؛ الأستاذ المخبول، والإشارات المغناطيسية، والبتر بغير ألم، وانخفاض نسبة الوفيات والشفاء العاجل. ربما كان في الأمر شيء. وكان مستغرقًا في هذه الأفكار عندما قاطع سكونه الرجل المريض بحديثه إليه. وقد تعلَّم الراجا الحديث بالإنجليزية بطلاقة ولكن بمحاكاة تامة للرجل الذي علَّمه إياها فكان في نطقه لكنة عامية قوية. وقد أخذ اللغة عن فلاح شاب ترك سفينته عند راندنج بولو واستطاع أن يعبُر المضيق ليصل إلى الراجا.
– وكانت هذه الضراعة حاسمة؛ فقد تناول الدكتور أندرو يدَي المريض النحيلتين — دون أدنى تردد — ووضعهما بين يديه، وبدأ يتكلم بنغمة الواثق عن علاجٍ عجيب جديد كُشف عنه في أوروبا حديثًا ولم يمارسه حتى الآن سوى حفنة من مشاهير الأطباء. ثم التفت إلى الحاضرين الذين كانوا طوال هذا الوقت يطوفون حول المكان، وأمرهم أن يغادروا الغرفة. ولم يفقهوا قوله، ولكن نغمة الكلام وما صاحبها من إشارات كانت واضحة لا لبس فيها، فانحنوا احترامًا وانسحبوا. وخلع الدكتور أندرو معطفه وطوى أكمام قميصه وشرع في أداء الإشارات اليدوية المغناطيسية المعروفة والتي قرأ عنها في مجلة لانست مستمتعًا بها شاكًّا فيها، من قمة الرأس إلى الوجه إلى الجذع حتى البطن، مرة تلو المرة حتى يصل المريض إلى حالة الغيبوبة؛ أو حتى يرى الدجال المسيطر أنه قد آن له أن يُعلن أن مريضه المخدوع أصبح الآن تحت تأثير المغناطيس، (وقد ذكر حينئذٍ التعليق التهكمي الذي أدلى به كاتب المقال المجهول). دجل وهراء وخداع. ولكن على الرغم من ذلك … بدأ يعمل في صمت، عشرون إشارة، خمسون إشارة، وبعدها تنهَّد المريض وأغمض عينيه، ستون، ثمانون، مائة، مائة وعشرون. وكانت الحرارة خانقة، وقميص الدكتور أندرو مبتلًّا بالعرق، وذراعاه تؤلمانه، ولبث يكرر حركاته العابثة وهو متجهم، وبلغ مائة وخمسين، ثم مائة وخمسًا وسبعين، ثم مائتين. وكل ذلك خداع وهراء، ولكنه على الرغم من ذلك كان مصممًا على أن يسوق هذا البائس إلى النوم حتى إنِ استغرق في ذلك يومه كله، وقال بصوت مرتفع وهو يؤدي الإشارة للمرة الحادية عشرة بعد المائتين: أنت ستنام. وبدا كأن الرجل المريض قد غرق في وساداته، وفجأة نمى إلى سمع الدكتور أندرو صوت صفيرٍ مخشخش، وهو صوت التنفس، فقال على عجل، إنك لن تختنق هذه المرة؛ فهنا مكان فسيح يسمح للهواء أن يتحرك، ولن تختنق. وبدأ الراجا يتنفس في هدوء وقام الدكتور أندرو ببضع إشارات أخرى، ثم رأى أن يستريح قليلًا ليكون في جانب الأمان، ومسح وجهه، ثم نهض ومد ذراعيه وذرع الغرفة جيئة وذهابًا. وعاد إلى جوار السرير وتناول أحد معصمي الراجا وكان أشبه بالعصا، وجس النبض. وكان منذ ساعة قريبًا من مائة، أما الآن فقد هبط إلى سبعين. ورفع الذراع، وتعلَّقت يد الرجل مرتخية كأنها يد ميت من الأموات. ثم ترك هذه اليد فسقطت الذراع من تلقاء نفسها من أثر ثقلها، جامدة لا تتحرك من مكان سقوطها. وصاح به: «يا صاحب السمو!» ورفع صوته ثانيةً صائحًا: «يا صاحب السمو!» فلم يُحِرْ جوابًا. الأمر كله دجل وهراء وخداع، ولكنه — مع ذلك — فعل فعله، ما في ذلك شك.
ورفرفت حشرة كبيرة برَّاقة اللون (هي فرس النبي) حول إحدى قواعد السرير الذي كان يستلقي عليه ويل، وطوت الحشرة جناحيها القرنفلي والأبيض، ورفعت رأسها الصغير المسطَّح، ومدت رجليها الأماميتين ذواتَي العضلات القوية التي لم يعهدها واتخذت وضع الصلاة. واجتذب الدكتور ماك فيل منظارًا مكبرًا وانحنى إلى الأمام لفحص هذه الحشرة.
ونطق اسمها باللاتينية وقال: إنها تشكِّل نفسها لتبدو كالزهرة. وعندما يأتي الذباب والسوس ليرشف رحيق النبات ترشفها الحشرة، وإذا كانت أنثى أكلت عشاقها. ثم نحَّى المنظار جانبًا واتكأ على مسند مقعده وقال مخاطِبًا ويل فارنبي: أكثر ما أُحبه في الكون ما فيه مما هو بعيد الاحتمال. انظر إلى هذه الحشرة، وإلى الإنسان المفكر، وإلى مقدم جدي الأكبر إلى بالا، وإلى التنويم المغناطيسي. هل هناك ما هو أبعد من هذا احتمالًا؟
قال ويل: لا شيء اللهم إلا قدومي إلى بالا والتنويم المغناطيسي، بالا التي بلغتها عن طريق سفينة محطمة وصخرة ناتئة، والتنويم المغناطيسي عن طريق مناجاتي لنفسي عن كاتدرائية إنجليزية.
وضحكت سوزيلا وقالت: لم أكن مضطرة لحسن الحظ أن أقوم معك بكل هذه الإشارات، في مثل هذا الجو! إني معجبة حقًّا بالدكتور أندرو، والتخدير بهذه الإشارات يستغرق أحيانًا ثلاث ساعات.
– ولكنه أفلح في النهاية؟
– وانتصر.
– وهل أجرى العملية فعلًا؟
قال الدكتور ماك فيل: نعم أجراها. ولكن ليس في التوِّ؛ فلقد أعد لها إعدادًا طويلًا. وقد بدأ الدكتور أندرو بأن أوعز إلى مريضه بأنه سوف يستطيع منذ ذلك الحين أن يبتلع بغير ألم، وفي خلال الأسابيع الثلاثة التالية تولى إطعامه، وفيما بين الوجبة والوجبة كان يدخله في غيبوبة ويُبقيه نائمًا حتى يحل موعد الوجبة التالية. ما أعجب ما يقدمه جسم المرء لصاحبه إذا هو أعطاه الفرصة. استرد الراجا اثني عشر رطلًا وأحس كأنه رجل آخر، رجل آخر مليء بالثقة والأمل المتجدد. وعرف أنه سوف يجتاز المحنة، وكذلك أيضًا عرف الدكتور أندرو. وبينما كان الدكتور يقوِّي من إيمان الراجا كان في الوقت عينه يقوِّي من إيمانه الشخصي، ولم يكن إيمانًا أعمى؛ فقد كان على ثقةٍ تامة من أن العملية سوف تحظى بالنجاح. ولكن هذه الثقة التي لم تتزعزع لم تمنعه من أن يفعل كل ما يمكن أن يعاون على نجاحها؛ فمنذ بداية ما اتخذ من إجراء كان يستغل الغيبوبة، وكان يقول لمريضه إن هذه الغيبوبة تشتد عمقًا يومًا بعد يوم، وسوف تكون في يوم العملية أعمق منها في أي وقت سبق، وكذلك سوف يطول أمدها. وكان يؤكد للراجا أنه سوف ينام أربع ساعات كاملة بعد انتهاء العملية، ولن يحس أدنى ألم بعد أن يفيق. وقد عبَّر الدكتور أندرو عن هذه التأكيدات بمزيج من الشك المطلق والثقة التامة؛ ذلك أن العقل وخبراته الماضية كانت تؤكد له أن ذلك كله من ضروب المستحيل. ولكن الخبرة الماضية أثبتت غير ذلك في هذه الحالة التي يعالجها؛ فلقد حدث المستحيل فعلًا عدة مرات، ولم يكن ثمت ما يدعو إلى ألَّا يتكرر وقوع المستحيل. المهم هو أن «يقول» إنه سوف يحدث؛ لهذا قال به مرة بعد أخرى. كل ذلك حسن، وخير منه ابتداعه فكرة إجراء التجربة.
– أي تجربة؟
– تجربة الجراحة؛ فقد أدى إجراءاتها ست مرات. وكانت التجربة الأخيرة صبيحة يوم العملية؛ في السادسة صباحًا جاء الدكتور أندرو إلى غرفة الراجا، وبعدما بادله حديثًا مرحًا قصيرًا بدأ في إجراء إشاراته. وبعد بضع دقائق استغرق المريض في غيبوبة عميقة، وأخذ الدكتور أندرو في وصف ما كان مقدِمًا على أدائه خطوة خطوة. ولمس عظم الخد عند العين اليمنى للراجا وقال له: سأبدأ بمطِّ الجلد وبهذا المشرط (وسيَّر فوق الخد طرف قلم من الرصاص) أشُقُّ الجلد، ولن تحسَّ ألمًا بطبيعة الحال؛ لا مشقة على الإطلاق. عندئذٍ أقطع الأنسجة السفلى ولن تشعر بأي شيء بتاتًا. ما عليك إلا أن تستلقي هنا، في سُبات مريح أثناء قيامي بقطع الخد حتى الأنف. وبين الفينة والفينة أتوقف قليلًا، أتوقف قليلًا لأربط أحد الأوعية الدموية، ثم أواصل العمل. وبعدما أنتهي من هذا الجزء من العمل أكون على استعداد لأبدأ في الورم الذي تقع جذوره في تحويف العظم وقد امتد إلى أعلى تحت عظم الخد حتى بلغ محجر العين ثم إلى أسفل حتى المريء، وبعدما أنزع الورم تكون مستلقيًّا هنا كما كنت لا تحس شيئًا، في أتم شعور بالراحة، مسترخيًا استرخاءً كاملًا، وعندئذٍ أرفع رأسك. وطابق الدكتور أندرو بين حركاته وكلماته ورفع رأس الراجا وأمالها إلى الأمام فوق عنقه المرتخي وقال: أنا أرفع الرأس وأثنيه لكي تتخلص من الدماء التي سالت في فمك وحلقك. وقد تسرَّب شيء من الدم في القصبة الهوائية، فعليك أن تسعل قليلًا لتتخلص منه، ولن يوقظك هذا من نومك. وسعل الراجا مرة أو مرتين. وبعدما أرخى الدكتور أندرو قبضته سقط الرأس فوق الوسادة والمريض ما يزال مستغرقًا في نومه. «ولن تختنق حتى وأنا أعمل في الطرف الأسفل من ورم المريء.» وفتح الدكتور أندرو فم الراجا ودفع بإصبعين في حلقه. الأمر كله لا يعدو مجرد النزع. وليس في ذلك ما يجعلك تختنق. وإذا لزمك أن تطرد الدم بالسعال فأنت تستطيع ذلك أثناء النوم، نعم أثناء نومك، هذا النوم العميق العميق.
– تلك كانت نهاية التجربة. وبعد عشر دقائق بعدما قام ببضع إشارات أخرى وأوحى إلى مريضه أن يعمِّق من نومه، شرع في إجراء العملية. مط الجلد، وشقَّه، وشرح الخد، وقطع الورم من جذوره في التجويف العظمي. واستلقى الراجا مكانه مسترخيًا تمامًا، ثابت النبض معتدلًا فيه وهو في الخامسة والسبعين، ولم يحس ألمًا أكثر مما أحس والطبيب يجري له تجربة العملية ويوهمه بإجرائها. وأعمل الدكتور أندرو مبضعه في الحلق ولم يحدث أي اختناق، وتدفَّق الدم في القصبة الهوائية، وسعل الراجا ولم يتيقظ. وبعدما انتهت العملية بأربع ساعات كان لا يزال نائمًا، وفي اللحظة المقدَّرة تمامًا فتح عينيه وابتسم للدكتور أندرو من خلال ضماداته، وسأل بعاميته الإنجليزية الرتيبة متى تبدأ العملية. وبعد إطعامه وغسله، قام الدكتور بإجراء بضع إشارات أخرى وأوحى إليه أن ينام أربع ساعات أخرى وأن يبرأ بسرعة. ساعة من الغيبوبة كل يوم، وثمان ساعات من الصحو. وكاد الراجا ألَّا يحس ألمًا من أي نوع. وعلى الرغم من ظروف التلوث التي أجرى الطبيب فيها العملية، والتي كان يجدد فيها الغيارات، التأمت الجروح دون تقيُّح، وكاد الدكتور أندرو ألا يصدق عينيه وقد تذكَّر الأهوال التي شهدها في مصحة أدنبره، وما هو أشد منها في عنابر الجراحة في مدراس. وكانت هذه فرصة ثانية بالنسبة إليه تُثبت له ما يمكن أن يفعله المغناطيس الحيواني. وكانت كبرى بنات الراجا في شهرها التاسع من حملها الأول، فأرسلت الراني في طلب الدكتور أندرو متأثرة بما قام به لزوجها، وألفاها جالسة مع فتاة ضعيفة مرتاعة في السادسة عشرة من عمرها لا تتحدث إلا قليلًا من العامية الإنجليزية المتعثرة التي مكَّنتها من أن تقول له إنها سوف تموت هي ووليدها. أكدت لها ذلك ثلاثة طيور سوداء حلَّقت في طريقها في ثلاثة أيام متتالية. ولم يحاول الدكتور أندرو أن يجادلها، بل طلب إليها أن تستلقي، ثم بدأ يؤدي إشاراته. وبعد عشرين دقيقة استغرقت الفتاة في غيبوبة عميقة، وأكد لها الدكتور أندرو أن الطيور السوداء في بلده تبشر بالخير، وهي علامة على الميلاد والرِّفاء، سوف تلد طفلها بسهولة وبغير ألم، نعم، بغير ألم مثلما فعل والدها أثناء العملية الجراحية. ووعدها بانعدام الألم بتاتًا.
– وبعد ثلاثة أيام، وبعد ثلاث أو أربع ساعات من الإيحاء المركَّز، حدث كل شيء كما توقَّع، ولما تيقَّظ الراجا ليتناول طعام العشاء ألفى زوجته إلى جواره، وقالت له: لنا الآن حفيد وابنتنا في صحة جيدة. ولقد قال الدكتور أندور إنك غدًا يمكن أن تُنقل إلى غرفتها لكي تبارك لها ولطفلها. وبعد شهر حل الراجا مجلس الوصاية وعاد إلى ممارسة سلطاته الملكية، شاكرًا للرجل الذي أنقذ حياته وأنقذ حياة ابنته كذلك (وكانت الراني مقتنعة بذلك كل الاقتناع) وعيَّن الدكتور أندرو كبيرًا لمستشاريه.
– ولذلك لم يعُد إلى مدراس؟
– لا إلى مدراس، ولا حتى إلى لندن، وبقي هنا في بالا.
– وحاول أن يغيِّر لهجة الراجا؟
– كما حاول — وبدرجة أكبر من النجاح — أن يغيِّر مملكة الراجا.
– إلى أية صورة من الصور؟
– ذلك هو السؤال الذي لم يكن بوسعه أن يجيب عنه. في الأيام البعيدة، لم يكن لديه خطة من الخطط. كل ما كان يملكه مجموعة من الاتجاهات التي يحبها ومجموعة أخرى لا يحبها. كانت في بالا أشياء أحبها وأشياء كثيرة أخرى لم يحبها بتاتًا، كما كانت هناك في أوروبا أشياء يمقتها وأشياء أخرى يتحمس لها أشد الحماسة. لقي في أسفاره أمورًا لها معنًى وأمورًا أخرى اشمأزت لها نفسه، وبدأ يدرك أن الناس ينتفعون من ثقافتهم وهم في الوقت نفسه من ضحاياها؛ ثقافتهم تُزهرهم كما تُميتهم أو تُصيبهم بالآفات التي تفتِك بازدهارهم في الصميم. فهلَّا يمكن في هذه الجزيرة المحرَّمة أن يتفادى سكانها الآفات وأن يبلغوا بذبول ازدهارهم حدَّه الأدنى، وأن يترعرع الفرد في صورة أكثر جمالًا؟ هذا هو السؤال الذي حاول الدكتور أندرو والراجا أن يجدا له الإجابة عرَضًا في أول الأمر ثم بوعي متزايد بعد ذلك بما كانا يتصديان له.
– وهل وجدا حلًّا؟
ومن الأمثال روى ويل ما قيل من أن الأحمق إذا أصر على حماقته أصبح حكيمًا.
ووافقه على ذلك الدكتور روبرت وقال: تمامًا. ولعل أشد الحماقات إسرافًا الحماقة التي وصفها بليك؛ وهي الحماقة التي كان الراجا والدكتور أندرو يفكران فيها حينذاك؛ الحماقة الكبرى التي تحث على المزاوجة بين الجحيم والنعيم. ولكنك إن أصررت على هذه الحماقة الكبرى كان جزاؤك وافرًا! بشرط أن تصرَّ بذكاء بطبيعة الحال؛ لأن الحمقى الأغبياء لا يحققون شيئًا ما. العارفون والماهرون وحدهم هم الذين تجعلهم حماقتهم حكماء أو الذين تعود عليهم حماقتهم بنتائج طيبة. ولحسن الحظ كان هذان الأحمقان على مهارة؛ فقد بلغا من المهارة — مثلًا — ما جعلهما يرتكبان حماقتهما بطريقة متواضعة مقبولة. بدآ بما يخفف الالام. وأهل بالا بوذيون، وعرفوا الصلة بين البؤس والعقل. إذا تعلقت بأمرٍ ما وتشبثت به، وإذا اشتدت رغبتك، وإذا فرضت نفسك عشت في جحيم صنعته لنفسك بنفسك، وإذا عزلت نفسك عشت مطمئنًّا. قال بوذا: «أنا أريكم الأحزان، وأنا أريكم نهاية الأحزان.» وهذا هو الدكتور أندرو بنوع معين من العزلة الفعلية استطاع أن يقضي على الأقل على نوع من أنواع الأحزان؛ أقصد الآلام البدنية. وقد استخدم الراجا نفسه، كما استخدم — من النساء — الراني وابنتها مترجمين له وهو يُلقي الدروس في فنه الذي كشف عنه أخيرًا لجماعات من القابلات والأطباء والمعلمين والأمهات والمرضى العاجزين. الولادة بغير ألم؛ بهذا انضم إلى جانب المجددين بحماسة شديدة كل نساء بالا. والعمليات الجراحية بغير ألم في حالات الحصوة وإعتام العين والنزيف؛ بذلك اكتسبوا ثقة الشيوخ والمصابين، وبضربة لازب انضم إلى صفوفهم أكثر من نصف السكان البالغين، وانحازوا لجانبهم، وتودَّدوا إليهم، أو على الأقل تفتحت عقولهم للإصلاح القادم.
قال ويل: وإلى أين ذهبوا بعد الآلام؟
– إلى الزراعة واللغة، إلى الخبز والمواصلات، استقدموا رجلًا من إنجلترا لينشئ لهم روثامستد في المناطق الحارة، وانكبُّوا على تعليم أهل بالا لغة ثانية.
وكان لا بُدَّ أن تبقى بالا جزيرة محرمة؛ لأن الدكتور أندرو اتفق مع الراجا بكل قلبه على أن المبشرين والمزارعين والتجار خطر على بالا لا يمكن أن يُحتمل. ولكن إذا هم لم يسمحوا لهؤلاء المخربين الأجانب بدخول البلاد، فلا بد لهم بطريقةٍ ما أن يعاونوا الأهالي على الخروج منها، إن لم يكن بأشخاصهم فبعقولهم على الأقل. غير أن لغتهم، وكتابتهم العتيقة للأبجدية البراهمية كانت سجنًا بغير نوافذ. ولا مخرج لهم، ولا أمل في النظر إلى العالم الخارجي إلا إذا هم تعلَّموا الإنجليزية وأمكنهم أن يقرءوا الخط اللاتيني. وما أحرزه الراجا في مجال اللغة كان مثالًا يحتذيه رجال القصر الملكي. وأدخل السادة والسيدات في حديثهم نتفًا من العامية الإنجليزية، بل لقد بعث بعضهم إلى سيلان في طلب مربِّين يتكلمون الإنجليزية. وسرعان ما تحوَّل الأمر من تظاهر بالتجديد إلى سياسة مرسومة. وأُنشئت المدارس الإنجليزية واستوردت البلاد من كلكتا مجموعة من الطباعين البنغاليين ومعهم مطابعهم والأطقم الكاملة من الحروف المطبعية بصنوفها كافة. وكان أول كتاب إنجليزي نُشر في شيفا بورام مختارات من «ألف ليلة وليلة» والكتاب الثاني ترجمة للحكم الهندوكية، ولم تكن قبل ذلك ميسورة إلا بالسانسيكريتية وفي المخطوطات. وأمسى تعلُّم الإنجليزية لازمًا لمن أراد أن يقرأ عن سندباد أو معروف أو لمن كان مهتمًّا بما جاء في «حكمة الشاطئ الآخر»؛ وذلك لسببين هامين. وكانت تلك بداية لعملية تربوية طويلة تحوَّلنا بها في نهاية الأمر إلى شعب يعرف لغتين؛ نتكلم لغة بالا ونحن نطهو، أو نلهو بالفكاهة. وعندما نتكلم عن الحب أو نمارسه.
وبهذه المناسبة نحن هنا في جنوب شرقي آسيا لدينا أغنى محصول لغوي يعبِّر عن الحب وعن العواطف. أما في شئون التجارة والعلم أو الفلسفة التأملية فنحن نتكلم عادةً بالإنجليزية، وأكثرنا يؤثِر أن يكتب بالإنجليزية. وكل كاتب بحاجة إلى أدب يكون له مرجعًا، وبحاجة إلى نماذج يحتذيها أو يعارضها. وبالا لديها تصوير ونحت غاية في الجودة، وفن معماري رائع، ورقص مدهش، وموسيقى تعبيرية دقيقة؛ ولكن ليس لديها أدب بالمعنى الصحيح. وليس لديها شعراء أو كتَّاب مسرحيات أو قصَّاصون وطنيون. ليس بها سوى شعراء شعبيين يروون الأساطير البوذية والهندوكية، ومجموعة من الرهبان يُلقون المواعظ ويتحدَّثون حديثًا مفصَّلًا في الميتافيزيقا.
ولما اتخذنا الإنجليزية لغة قومية ثانية اكتسبنا أدبًا له ماضٍ عريق في القِدم ومن أكثر الآداب انتشارًا في الوقت الحاضر من غير شك، أصبحت لدينا خلفية، ومقياس روحي، وكنز من الأساليب وطرق التعبير، ومصدر للوحي لا ينفد. وبعبارة موجزة: أمست لدينا القدرة على الإبداع في مجال لم نكن من قبلُ قط من المبدعين فيه. وبفضل الراجا وجدِّي الأكبر أصبح لدينا أدب أنجلوبالي؛ وسوزيلا مثال طيب معاصر لهذا الأدب.
وعارضت سوزيلا قائلة: إنما أنا أمثِّل الجانب القاتم منه. وأغمض الدكتور ماك فيل عينيه وابتسم لنفسه وأخذ ينشد مقطوعة شعرية عن جلال الصمت.
ثم فتح عينيه ثانيةً وقال: ولا أذكر هذا الشعر الذي يمجد الصمت فحسب، بل أذكر كذلك العلم، والفلسفة، وأصول الدين الذي يدعو إلى الصمت … والآن آن الأوان لكي تنام. ثم نهض واتجه نحو الباب وهو يقول: سآتي لك بكوبٍ من عصير الفواكه.