لعنة التسلح
قلت في الفصل السابق إن جورباتشوف كان يستطيع، من الوجهة النظرية، أن يحافظ على الأوضاع التي ظلت سائدة في الكتلة الشرقية منذ الخمسينات، وفي بلاده قبل ذلك، وإن أية صعوبات كانت تواجه أنظمة تلك البلاد في المرحلة التي سبقت ثورته التاريخية مباشرة، ما كانت لتتجاوز ما سبق أن مرت به من مشاكل طوال العقود السابقة. ولكن هذا الفرض النظري يعني تجميد الأوضاع إلى ما لا نهاية، ويعني الحكم على النظام الاشتراكي كله بالتحجر في قت تجتاح فيه العالم ثورة علمية وتكنولوجية ستنتقل به خلال القرن القادم إلى أنماط من الحياة تبدو معها أنماطنا الحالية عتيقة، وربما بدائية. ومن المؤكد أن عملية اختيار جورباتشوف زعيمًا للاتحاد السوفيتي كانت منذ البدء دليلًا على قوة إرادة التغيير في هذا البلد الكبير، فمن المرجح، إن لم تقع مفاجأة، أن يكون هذا الرجل نفسه، أو واحد ممن يسيرون على نهجه، هو الذي يقود بلاده عند مطلع القرن الحادي والعشرين. وهكذا، اختير الرجل على أساس أن مهمته هي العبور إلى المستقبل، ولا بُدَّ أن الذين اختاره كانوا على وعي بأن أوان التغيير قد آن، وبأن هناك ظروفًا هي التي تحتم هذا التحول الحاسم.
ويمكن القول إذن إن جورباتشوف قد جاء إلى السلطة وهو يحمل تفويضًا بإحداث تحول هام في أسلوب الحكم، غير أن الرجل تجاوز هذا التفويض بمراحل، وكان العامل الرئيسي الذي ساعده على ذلك أن لديه رؤية كونية شاملة، فالتغيير في نظره يبدأ أولًا من الداخل، من بلاده ذاتها، ثم ينتقل إلى بقية البلاد الاشتراكية، وبعد ذلك تمتد إشعاعاته حتمًا إلى العالم الغربي الرأسمالي؛ ومن ثم إلى العالم الثالث. وسواء تمكن جورباتشوف من تجسيد رؤيته هذه في عالم الواقع، أم أخفق في ذلك لسبب أو آخر، فإن الدلائل كلها تشير إلى أن البشرية لن تستطيع أن تشق طريقها بأمان في القرن القادم إلا إذا تمكنت من وضع نظام جديد للعلاقات بين الدول، يرتكز على تحقيق توازن بين قدرة الإنسان على التحكم في تصرفاته، وضبط علاقاته مع الآخرين بطريقة حضارية (وهي حاليًّا قدرة متخلفة إلى حد بعيد)، وبين قدرته على التحكم في الطبيعة المادية وتسخيرها لخدمة أغراضه (وهي حاليًّا قدرة متقدمة إلى حد هائل).
فما هي إذن تلك الأسباب التي جعلت هذه الرؤية الجديدة ضرورة مُلحة؟ وما العوامل التي دفعت جورباتشوف إلى تلك المقامرة الكبرى التي أذهلت الخصوم قبل الأصدقاء، والتي قلبت جميع الحسابات التقليدية، على صعيد السياسات المحلية والعالمية، رأسًا على عقب؟ لنبدأ أولًا بأعم الأسباب وأهمها، وأعني به الحاجة الملحة إلى إنهاء سباق التسلح، فقد فُرض هذا السباق الشيطاني على العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مع أن ميثاق الأمم المتحدة الذي أُعلن في نهاية تلك الحرب كان يشير بوضوح إلى هدف إنهاء كافة الحروب وإقامة العلاقات بين الدول على أساس السلام الدائم، ولكن الحرب الباردة سرعان ما ابتكرت صيغة أخرى في العلاقات الدولية، وخاصةً بين المعسكرين الكبيرين، هي علاقة الخوف المتبادل، والردع المتبادل: أي إن كلًّا منها يرهب الآخر ويمنعه من مهاجمته عن طريق تهديده بالدمار الشامل، فتكون النتيجة استمرار السلام، ولكنه سلام متوتر يهدد في أي لحظة بالانفجار.
ولكي نكون موضوعيين فلنقل إن صاحب المصلحة في هذا الطابع الذي اتخذته الحرب البادرة كان الولايات المتحدة وليس الاتحاد السوفياتي، غير أن السوفيات لم يكن في استطاعتهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء التصعيد الأميركي للتسلح، فاندمجوا في اللعبة على الرغم من الأضرار الفادحة التي ألحقها بهم التسلح المكثف. وكان السياسي الوحيد الذي قرر أن يوقف هذه اللعبة بتخطيط بارع هو جورباتشوف.
إن النظام الرأسمالي يستطيع أن يتحمل دون عناء التسلح ونفقاته الباهظة، بل إن إنتاج السلاح وتطويره وتجديده المستمر من أهم العوامل التي تساعد على استمرار هذا النظام في الحياة وازدهار اقتصاده وتشغيل مصانعه وإيجاد فرص عمل للعاطلين فيه. وأما النظام الاشتراكي فإن التسلح بالنسبة إليه عبء ثقيل يؤثر تأثيرًا واضحًا في مستوى نموه؛ وذلك لأن السلاح في هذه الحالة لا تنتجه شركة تحقق أرباحًا هائلة من بيعه أو تصديره، وإنما تنتجه الدولة التي تخطط اقتصادها بحيث يؤدي التوسع الزائد في أي ميدان إلى التضييق في الميادين الأخرى. وهكذا فإن إنتاج أسلحة باهظة التكاليف، في المجتمع الاشتراكي، لا بُدَّ أن تُقتطَع نفقاته من قوت الناس ومن ملبسهم ومسكنهم وسائر الخدمات التي تقدم إليهم … إن التطوير المستمر للأسلحة يحدث أولًا في البلاد الرأسمالية، والقنبلة الذرية، ثم الهيدروجينية، والطائرات الأسرع من الصوت، كل ذلك بدأت به بلاد رأسمالية … هذا التطوير المستمر لا يعني فقط مزيدًا من الروح العدوانية لدى مبتكريه، بل إنه موجه في الأساس نحو الخصوم، والهدف الأساسي منه — في رأيي — ليس عسكريًّا فحسب، وإنما هو أيضًا أيديولوجي واقتصادي، فقد أصبح التوازن الدولي يحتم على كل من القوتين العظميين أن تلحق بالأخرى في قدراتها العسكرية، وكل تصعيد في مستوى التسلح ونفقاته يعني مزيدًا من الإرهاق لاقتصاد المعسكر الشرقي، ويعني اقتطاعًا من ضرورات الحياة لدى شعوب هذا المعسكر من أجل هدف أهم: هو أن تكون هذه الدول أو لا تكون … وكما قلت، فإن الاقتصاد الاشتراكي لم تنشأ فكرته أصلًا من أجل عالم تسوده المنافسات العسكرية وصراعات الحياة والموت، بل إن مؤسسيه تصوروا قيام تنافس سلمي بين الرأسمالية والاشتراكية، وبنوا تنبؤاتهم بحتمية انتصار الاشتراكية.
استطاع المعسكر الرأسمالي بالفعل أن يوقف مسيرة المعسكر الخصم، بل أن يوسع الهوة المعيشية التي تفصله عنه، وكل من يزور بلدان المعسكر الاشتراكي ويقارنها بالبلاد الرأسمالية المتقدمة، لا بُدَّ أن يصدمه الفارق الهائل في مستوى المعيشة بين الجانبين … هذا القصور لا يرجع إلا إلى الاستنزاف المتعمد الذي يفرضه النظام الرأسمالي على اقتصاد المعسكر الخصم في ميدان التسلح، الذي أصبح الآن باهظ التكاليف، بل إن نقص الاستهلاك الذي يلاحظه الإنسان العادي بسهولة في عالم لم تعد تقوم فيه حواجز بين المجتمعات ذات الأنظمة المختلفة هو المسئول عن عدم الاستقرار وعن تلك الثورات التي تشب من آنٍ لآخر في بلاد المعسكر الاشتراكي، كالمجر وتشيكوسلوفاكيا، وأخيرًا بولندا. ونتيجة لتلك الثورات تفرض السلطات مزيدًا من القيود، فيؤدي ذلك إلى مزيد من الغضب المكتوم. وهكذا تستمر الحلقة الجهنمية في تضييق الخناق على هذا المعسكر، بعد أن نجح المعسكر الرأسمالي في فرضها على خصومه حتى يلعبوا لعبة الصراع الدولي بقواعده هو، وعلى أرضه هو.
هكذا الكلام قيل منذ خمس سنوات، ولعل القارئ قد أدرك أنه يلقي ضوءً واضحًا، منذ ذلك الوقت المبكر، على الكثير مما يقع اليوم من أحداث في الاتحاد السوفياتي وبقية بلاد المعسكر الاشتراكي.
إن الحرب الباردة اختراع أميركي صرف، وكل من عرف شيئًا عن أحداث الحرب العالمية الثانية يعلم أن أميركا لم تُطلَق في داخلها رصاصة واحدة طوال هذه الحرب، على حين أن الاتحاد السوفياتي قد اكتُسحت معظم أراضيه وأُحرقت حقوله وقراه، وفقد أكثر من عشرين مليون قتيل. ولقد تمكنت أجهزة الإعلام الأميركية من خلق صورة وهمية عن الخطر الزاحف من أرض السوفيات، والذي يهدد بابتلاع العالم ما لم يتم ردعه بقوة السلاح، وانطلت هذه الأسطورة على الشعوب في أوروبا الغربية وفي أميركا بوجه خاص، مع أنها لم تكن إلا أكذوبة كبرى. وأغلب الظن أن مروجيها أنفسهم كانوا يعلمون ذلك، ولكن لهم مصلحة مؤكدة في تثبيتها في الأذهان؛ وذلك لأن الشعب السوفياتي ما زال حتى هذه اللحظة، وبعد مضى خمسة وأربعين عامًا على انتهاء تلك الحرب، يعيش آلامها ومرارتها. وإذا كانت فنون الشعوب وآدابها خير شاهد على نفسياتها، فمن السهل أن يلاحظ المرء أن فظائع الحرب العالمية الثانية ما زالت حية بقوة في وعي الشعب السوفياتي ولا وعيه معًا، بدليل أنها هي الموضوع الذي تدور حوله نسبة كبيرة من الأفلام السينمائية والأعمال الأدبية السوفياتية حتى اليوم، وهو أمر يثير في كثير من الأحيان دهشة بالغة لدى مشاهدي هذه الأعمال وقرائها من الأجانب.
وهكذا فإن العامل المادي، المتمثل في الأعباء الاقتصادية الفادحة، والعامل المعنوي، المتمثل في الذكرى الأليمة والحية لأهوال الحرب الأخيرة، كليهما يؤكد أن أسطورة «الخطر الروسي» على الغرب، وعلى العالم، لم تكن إلا محاولة بارعة لتبرير سباق التسلح، الذي يؤدي إلى تشغيل المصانع وتخفيف البطالة وإنعاش الاقتصاد في بلد رأسمالي، و«ليبرمج» الرأي العام في اتجاه يساعده على دفع الضرائب المتزايدة التي تقتضيها ميزانيات التسلح.
ولقد كانت ذروة التصعيد في سباق التسلح هي ذلك البرنامج الشيطاني الذي عُرف باسم «حرب النجوم» والذي يستهدف إقامة نظام لتدمير صواريخ العدو بأشعة الليزر في الفضاء قبل وصولها إلى أهدافها، وكان واضعو هذا النظام في عهد «الرئيس الكاوبوي» رونالد ريجان مؤمنين بأن خطتهم الْجَهنمية لن تجلب لهم إلا المكاسب:
فهي أولًا تضمن إنفاق عشرات المليارات كل عام على هذا البرنامج وحده، بالإضافة إلى ما يُنفَق على برامج التسلح وبرامج الفضاء الأخرى، وتحقق انتعاشًا هائلًا لمجموعة ضخمة من الشركات المرتبطة به على نحو مباشر أو غير مباشر. ومن جهة أخرى فسوف يكون السوفيات مرغمين على التحرك لمواجهة هذا البرنامج، وعندئذ تكون النتيجة أحد أمرين: فلو نجحوا سيكونون قد أرهقوا اقتصادهم، الذي هو أصلًا غير مهيأ لذلك، إلى حد يبذر بذرة الثورة في تلك المجتمعات التي سيصل مستوى معيشتها عندئذ إلى الحضيض. ولو أخفقوا فسوف ينفرد الأميركيون بهذه الميزة الاستراتيجية الهائلة، ميزة القدرة على تدمير صواريخ العدو وهي في الفضاء الخارجي؛ مما يجعل أيديهم طليقة كيما تعبث بالعالم كيفما شاءت، ويضع حدًّا لوضع التنافس العسكري المتكافئ الذي ساد منذ الحرب العالمية الثانية. وفي اعتقادي الخاص أن هذا العامل بالذات كان له دور أكبر بكثير مما يتصور معظم الناس في تحديد الاتجاه الذي سارت فيه سياسة جورباتشوف منذ بداية حكمه، فقد فرضت عليه السياسة الأميركية في عهد ريجان أن يختار بين أمرين كليهما مر: فإما أن يدخل في منافسة ستقضي على البقية الباقية من قدرة اقتصاد بلاده والكتلة الشرقية كلها على الصمود، وإما أن يتراجع عن المنافسة ويترك الخصوم طلقاء يتحكمون في عالم الغد كما يشاءون.
وكان القرار الذكي الذي اختاره، والذي اعتمد فيه على تراث النزعة السلمية وكراهية الحرب المتأصل في بلاده، وعلى مخاوف الأوروبيين من أن تكون بلادهم هي الساحة الأولى لأية حرب نووية بين العملاقين — كان هذا القرار هو أن يشن حملة سلام كبرى، يرغم فيها صقور التسلح في الولايات المتحدة على التراجع التدريجي رغم أنوفهم.
كان الأسلوب الذي اتبعه جورباتشوف في إبطاء قطار التسلح الذي كان يزداد اندفاعًا عامًا بعد عام، أسلوبًا بارعًا بحق، وهو يستحق في رأيي دراسة متعمقة يقوم بها المتخصصون في العلوم السياسية وفي فن التفاوض بوجهٍ خاص، بوصفه نموذجًا فريدًا للطريقة التي يمكن بها إرغام عملاق جبار على التخلي عن مواقفه وقبول مواقف الخصم دون أن يتمكن من التهرب أو المقاومة. ويمكن تلخيص هذا الأسلوب على النحو الآتي: كان جورباتشوف يبدأ (ودائمًا كان هو البادئ) باقتراح في ميدان نزع السلاح يثير تعاطفًا شعبيًّا على أوسع نطاق، وخاصةً في أوروبا، كعقد معاهدة لخفض عدد الصواريخ بعيدة المدى، أو تدمير الصواريخ المتوسطة «التي تخشاها أوروبا بوجه خاص»، وبالطبع يكون رد الفعل الأميركي المباشر هو الرفض، وعادةً «يكون» هذا الرفض مصحوبًا بحجة تبرره، مثل ضرورة التفتيش على الصواريخ في مواقعها ضمانًا لعدم الخداع. وحين يضع الأميركيون شرطًا كهذا، فإنهم يعلمون جيدًا أن الجانب السوفياتي، الذي ظل دائمًا يخشى التغلغل والتجسس الأميركى في بلاده سيرفضه حتمًا. ويظل جورباتشوف يلح، ويظل الأميركيون مصرِّين على شرطهم، حتى يرسخ هذا الشرط في أذهان العالم.
وفجأة يعلن جورباتشوف قبول هذا الشرط، ولا يجد الأميركيون مفرًّا من توقيع المعاهدة بعد أن يكونوا قد فقدوا ذريعة الرفض أمام العالم أجمع. وبالمثل فإن مشروعات كثيرة لنزع السلاح كانت تصطدم دائمًا برفض أميركي مبني على شروط مثل ضرورة الإقلال من حجم القوات التقليدية السوفياتية في أوروبا، وبعد أن يرسخ هذا الشرط في أذهان العالم، يعلن جورباتشوف فجأة عن خفض كبير في قواته وأسلحته التقليدية، فيسقط في يد المتشددين، ولا يملكون إلا الاستجابة لطلبه.
ولقد كان يبدو أن جورباتشوف لا يُقدِّم، في مسألة نزع السلاح إلا التنازلات، وأنه يستجيب دائمًا للشروط الأميركية، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يتنبه إليه من ينتقدونه على هذه التنازلات، أن الهزيمة في هذا الميدان انتصار، والضعف فيه قوة، فلو وقف السوفيات بدورهم موقف التشدد لكان معنى ذلك تصعيد سباق التسلح، وتبديد موارد هائلة يحتاج إليها اقتصادهم المخطط مركزيًّا أشد الاحتياج، على صنع موديلات جديدة من الأسلحة سرعان ما تصبح عديمة الجدوى بعد ظهور «جيل» الأسلحة الأحدث منها، أما التنازل، الذي يبدو في ظاهره هزيمة، فهو في حقيقة الأمر انتصار كبير؛ إذ إنه يرغم الخصم على التراجع وقبول الشروط التي وضعها هو ذاته ويضعف اقتصاد الخصم الذي ينعشه التسلح المكثف، بينما يقوي اقتصاد الطرف المتنازل، فيجني من هذا الضعف الظاهري مزيدًا من القوة.
بمثل هذه الأساليب البارعة استطاع جورباتشوف أن يزيل بالتدريج وهم «الخطر السوفياتي» الذي رسخته أجهزة الإعلام الغربية، والأميركية بوجهٍ خاص، في أذهان الناس في العالم غير الاشتراكي. ولقد كان ذلك الخطر المزعوم وهمًا بالفعل، لا لأن السوفيات ملائكة، بل لأنهم أكثر شعوب الأرض معاناة من ويلات الحروب، فضلًا عن الاستنزاف الذي لا يتحمله اقتصادهم، ولكن هذه الأسطورة كانت ضرورية لكي تقوم الأحلاف العسكرية، وتعمل مصانع الأسلحة بكامل طاقاتها، وتهنأ الحياة بفضل تجارة الموت.
كل هذا بدده جورباتشوف بأفعال واقعية ملموسة، ولكم حاول المتشددون التشكيك في هذه الأفعال، ولكنه كان يثبت جديته بمبادرات متجددة بلا انقطاع. كانت قصة الذئب والحَمَل تتكرر، ولكن بطريقة معكوسة؛ إذ كان الحَمَل في هذه المرة واعيًا، فلم يسمح للذئب بأن يلتهمه، بل لم يعطِه فرصة اتهامه بتعكير الماء الذي يشربه.
وما إن انقضت سنوات قلائل من حكم جورباتشوف، حتى اختفت تمامًا صورة «الدب الروسي» المسلح حتى الأسنان، والمتأهب دائمًا للعدوان، وأصبحت شعوب العالم مقتنعة بأن جورباتشوف يريد بحق سلامًا شاملًا، ويقرن كل ما يقول في هذا الصدد بالأفعال. وكان امتناعه عن التدخل في أحداث أوروبا الشرقية الأخيرة، في جانب منه، تعبيرًا عن الرفض النهائي لسياسة حل المنازعات بالقوة المسلحة، وتمسكًا بالصورة السلمية التي رسمها بصبر وحرص شديدين طوال السنوات السابقة. بل إن أميركا والاتحاد السوفيتي تبادلا الأدوار في الشهر الأخير من العام الذي انقضى: إذ تدخلت الجيوش الأميركية تدخلًا سافرًا في بنما، وساقت من أجل ذلك حجة لا تختلف عن حجج عتاة الاستعماريين في القرن التاسع عشر، على حين أن القوات السوفياتية رفضت إطلاق رصاصة واحدة في أوروبا الشرقية، بل رفضت التدخل الذي أغرتها عليه أميركا وفرنسا، ضد الحاكم الطاغية في رومانيا، ولم تقع في الفخ، وأصبحت صورة المعتدي ملتصقة، في نظر العالم، بأميركا وحدها.
في هذا الجو، يحاول صقور التسلح، مثل ديك تشيني، وزير الدفاع الأميركي، أن يعودوا من آنٍ لآخر إلى عزف النغمة القديمة، ولا سيما حين يقترب موعد تحديد ميزانية التسلح، ولكن صيحاتهم لم تعد تجد من يستمع إليها. ومن المؤكد أن أي حديث عن «حرب النجوم» قد أصبح في أيامنا هذه صوتًا نشازًا وسط جو التهدئة والتفاهم الذي أشاعته سياسة جورباتشوف وأنعشت به الآمال في سلام دائم.
ويكاد المرء يلمح في تصريحات المسئولين الأميركيين نوعًا من الحرص المكتوم على بقاء حلف وارسو العسكري، على الرغم من أنه هو الحلف المناوئ لهم؛ إذ كيف يمكن تبرير المبالغ الضخمة التي تستقطع كضرائب من المواطن الأميركي من أجل صنع السلاح، ما لم يكن هناك حلف مضاد يصور للناس على أنه مصدر خطر دائم؟ لقد ظلت الاستراتيجية الأميركية تستهدف مواجهة حلف وارسو والتفوق عليه، ولكن حين ظهرت بوادر لحل هذا الحلف أو تغيير طبيعته العسكرية، بدأ القلق ينتاب واضعي هذه الاستراتيجية من ألا يجدوا أمامهم «خصمًا» يتسلحون من أجله. وهكذا فإن حلف وارسو هو، بالنسبة إلى العسكرية الغربية، خصمها ومبرر وجودها في آنٍ واحد، ومن أجل هذا كان المرء يستشعر، في تصريحات بعض القادة الغربيين، نغمة قلق خفي من الأحداث الأخيرة التي يُفترض أنها كانت انتصارًا كبيرًا لهم.
لقد كان سباق التسلح إذن عاملًا حاسمًا في ذلك التغيير الثوري الذي أدخله جورباتشوف على سياسة بلاده، وكان في الوقت ذاته من العوامل الهامة التي أدت إلى سلسلة الانقلابات المفاجئة في بلدان المعسكر الاشتراكي؛ ذلك لأن أعباء التسلح كانت تُوزَّع على الجميع، وكان لكل بلد اشتراكي نصيبه من تلك النفقات الباهظة التي تتكلفها عملية مجاراة التطور السريع والمتلاحق في صنع أدوات الدمار. ولم يكن إسهام هذه الدول في أعباء التسلح يتخذ بالضرورة شكل المشاركة في صنع السلاح أو في الميزانية العسكرية، بل كان في أحيان كثيرة يتخذ شكل تقديم منتجات وسلع من إنتاجها إلى دول أخرى في المعسكر نفسه، تعويضًا لهذه الأخيرة عن الخسائر التي تتكبدها في صنع السلاح. وهكذا كانت الخسارة تعم الجميع، ويترتب عليها حتمًا تدهور عام في الاقتصاد، وانخفاض في مستويات المعيشة، وافتقار مواطني أي بلد معين لكثير من المواد الأساسية التي يعلمون أن بلادهم تنتجها بوفرة.
ومع هذا كله فإن تأكيدنا لأهمية سباق التسلح في تفسير الأحداث الأخيرة، سواء منها «هجوم السلام» الكاسح الذي يقوم به جورباتشوف أو تمرد البلاد الاشتراكية العنيف ضد أنظمتها — هذا التأكيد، مع أهميته القصوى، لا ينبغي أن يحجب عن أذهاننا مجموعة أخرى من العوامل الهامة؛ ذلك لأن التركيز على الأضرار المترتبة على التسلح المرهق، قد يولد لدى القارئ اعتقادًا بأن سوء الأوضاع الاقتصادية وربما الاجتماعية والسياسة أيضًا، كان أمرًا مفروضًا من الخارج على هذا المعسكر، وبأن أنظمة هذه البلدان كانت ضحية خطة ذكية رسمها المعسكر المضاد، ولكن هذه النتيجة أبعد ما تكون عما أرمي إليه، فحقيقة الأمر أنه كانت هناك، إلى جانب العامل الخارجي السابق، أخطاء داخلية فادحة، وكان النظام الاشتراكي يتعرض لأسوأ تطبيق وأفظع تشويه يمكن تصوره، على أيدي من يُفترض أنهم حراسه والأمناء عليه.
ولا بُدَّ أن يكون لهذا الموضوع الهام حديث آخر حين نواصل عرضنا لأسباب هذا الانقلاب المفاجئ في أوضاع المعسكر الاشتراكي.