الخلل في الداخل
لا جدال في أن سباق التسلح قد وضع الكتلة الشرقية في مأزق يجعلها عاجزة عن تحقيق الكثير من إمكانات تجربتها الاشتراكية؛ ذلك لأن مؤسسي هذه التجربة، مثل ماركس وإنجلز ولينين، لم يعملوا حسابًا للتنافس في ظل حرب باردة وتسلح ثقيل تمتص تكاليفه عرق الناس وجهدهم عامًا بعد عام، بل تخيلوا جوًّا من التنافس السلمي، وتفاءلوا بحتمية انتصار الاشتراكية على الرأسمالية في مثل هذا الجو. ولقد تمثلت براعة النظام الرأسمالي في خلق أوضاع لم تخطر ببال هؤلاء المؤسسين، يدور في ظلها التنافس داخل إطار مختلف تمامًا عن ذلك الذي تصورته النظرية الاشتراكية، فنجح بذلك في إبطاء نمو المجتمعات الاشتراكية وإبعادها عن السباق معه وفرض التخلف عليها في جوانب كثيرة من حياتها.
ويستطيع القارئ العربي أن يستوعب هذه النقطة بسهولة تذكُّر ما قام به الاستعمار العالمي تجاه مجتمعاتنا العربية من أجل إيقاف نموها، فبعد أن أيقن أن عصر الاحتلال المباشر لأراضي الغير قد ولى، وأن للمنطقة العربية موقعًا استراتيجيًّا عظيم الأهمية بين الشرق والغرب الجغرافيَّيْن، وبين الشرق والغرب الأيديولوجيَّيْن، وعرف أن هذه المنطقة تضم أضخم مخزون لأهم مصدر عالمي للطاقة، وأن موارد النفط يمكن أن تكفل لها نموًّا اقتصاديًّا واجتماعيًّا هائلًا، توصل إلى أن زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي هو خير وسيلة لإيقاف هذا النمو، فضلًا عن أن هذا الكيان الغريب هو في الوقت ذاته ركيزة وقاعدة كبرى للاستعمار في المنطقة، ومن المؤكد أن النهضة والتنمية العربية كانتا ستتخذان طريقًا أكثر إيجابية بكثير مما هو عليه الآن، لو لم تكن إسرائيل قد غُرزت في قلب هذه المنطقة.
لقد كان الأسلوب واحدًا في الحالتين، وعن طريقه نجح الغرب الرأسمالي في خلق ظروف مصطنعة تحول دون تمكين القوى المناوئة له من تحقيق إمكاناتها الكامنة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن إخفاق التنمية، في الحالتين أيضًا، لم يكن له من سبب سوى تلك المؤامرة الاستراتيجية الكبرى، فقد كانت الأخطاء الداخلية فادحة، ولما كان الحديث عن التجربة العربية خارجًا عن إطار بحثنا الحالي، فسنحاول الآن استخلاص أهم العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع الذي يبدو في نظر العالم كما لو كان انهيارًا تامًّا للتجربة الاشتراكية ككل.
لقد كان العامل الاقتصادي حاسمًا في الثورة التي زلزلت أنظمة الدول الاشتراكية خلال شهور قلائل، ولكن هذا العامل لن يعالج مستقلًّا في هذا البحث الذي نقوم به؛ وذلك لسببين: أولهما أن كاتب هذه السطور لا يعرف عنه، بحكم تكوينه الثقافي، إلا القشور، فالبحث في تأثير ابتعاد الاقتصاد الاشتراكي عن نظام السوق، وعيوب نظام تحديد الأسعار، والمشكلات المترتبة على التخطيط المركزي، إلى آخر هذه الموضوعات الاقتصادية ذات الأهمية العظمى، يفوق قدراتي إلى حد لا يسمح لي بإصدار أي حكم مفيد بشأنه، غير أن هناك سببًا آخر هامًّا لعدم لجوئي إلى معالجة العامل الاقتصادي على نحو مستقل، هذا السبب هو أن الإنسان الذي خرج يتظاهر في الشوارع مع مئات الألوف من أقرانه في الساحات الكبرى بمدينة بودابست أو براغ، والذي عرض صدره للرصاص في تيمشوارا، لم يكن يثور من أجل عامل منعزل عن بقية العوامل فالكيان الإنساني وحدة لا تتجزأ، وحين يخاطر المرء بحياته من أجل إحداث تغيير جذري في مجتمعه، فإنه يفعل ذلك بكيانه كله، ولا يستجيب فقط لنداء معدته حين لا تجد ما يشبعها، أو جلده حين لا يجد ما يدفئه، وإنما يستجيب أيضًا لنداء عقله الذي يرفض كبت رأيه، وروحه التي تأبى الظلم الواقع عليه. وفي الوعي السياسي والاجتماعي للمواطن العادي، لا ينفصل الاقتصاد عن علاقة هذا المواطن بحكامه ورؤسائه وأقرانه، وعن رأيه في الطريقة التي يُدار بها مجتمعه ككل. وهكذا فإن الاقتصاد، الذي يمكن أن يعالج مستقلًّا لأغراض التحليل العلمي، يكون جزءًا من كلٍّ أشمل منه في الحياة الفعلية للإنسان، وفي مختلف ممارساته الاجتماعية، ولما كان هذا الأمير الأخير هو الذي يعنينا، فإن هذا يعطينا مبررًا آخر لمعالجة موضوع الاقتصاد في سياقه الأوسع والأعم.
ولأضرب مثلًا لفكرتي هذه، بالحديث عن إنتاجية الإنسان العامل في بلدان المعسكر الاشتراكي، هذا بالطبع موضوع يستطيع المتخصصون أن يزودونا فيه بأرقام وإحصاءات وجداول دقيقة، ولكن أغلب الظن أن هذه المعلومات الكمية المفيدة ستؤدي، آخر الأمر، إلى تأكيد ذلك الانطباع الذي يخرج به كل من زار بلدًا من هذه البلدان، وهو أن العامل — بأوسع معاني هذه الكلمة أي بمعنى كل من يمارس عملًا من أي نوع — أقل إنتاجية بشكل واضح من نظيره في بلاد أوروبا الغربية، ناهيك عن أميركا واليابان، فحصيلة عمله محدودة، وطريقة إنجازه لهذا العمل تتسم بقدر كبير من البطء والتكاسل. وعلى الرغم من أن هذا حكم انطباعي تولد في نفس كاتب هذه السطور نتيجة زياراته لمعظم بلدان المعسكر الاشتراكي، واتفق فيه مع كثيرين غيره ممن كانت لهم مع هذه البلاد تجربة أطول، فإن أمثال هذه الانطباعات، حين تكون حصيلة ملاحظة دقيقة، لا يجوز تجاهلها، وخاصةً إذا كان الفارق واضحًا بينها وبين الانطباعات التي تتكون لدى من يزور بلدًا من بلدان المعسكر الغربي.
المهم في الأمر أن الإنتاجية الضئيلة للعامل تشكل خطورة كبرى على حياة أي مجتمع؛ ذلك لأن ثروة هذا المجتمع هي، إلى حد بعيد، حصيلة إنتاج العاملين فيه، فإذا كان كل عامل في موقعه لا يتحرك إلا ببطء، ولا ينجز إلا الحد الأدنى، فإن المجتمع ككل لا بُدَّ أن يعاني أزمات اقتصادية خانقة.
ولكننا حين نبحث في الأسباب التي تجعل قدرات العامل الإنتاجية محدودة، نجد أنفسنا مضطرين إلى الجمع بين الميدان الاقتصادي والميدان السياسي والاجتماعي، وربما الأخلاقي، في وحدة واحدة، ففي استطاعة المرء، حين يتعمق التفكير في ظاهرة التكاسل والتباطؤ هذه أن يدرك وجود نوع من المقاومة الصامتة لدى شعوب أوروبا الشرقية على الأنظمة الجائرة التي كانت تحكمها، لقد كانت تلك الأنظمة قمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان أوضح مظاهر القمع أن تنص معظم دساتيرها على أن حزبًا بعينه، هو الحزب الشيوعي، أيًّا كانت تسميته في كل دولة على حدة، هو الحزب الحاكم، مما يترتب عليه أن يصبح أي خروج عن تعاليم ذلك الحزب أو أية محاولة لإحلال حزب آخر محله، خروجًا عن الدستور يستحق أشد العقاب. فما معنى أن يعطي أي حزب لنفسه هذا «الحق الإلهي» في أن يكون هو الحاكم إلى الأبد؟ وإذا كانت مبادئه الأساسية تقول إنه هو المدافع الحقيقي عن العمال والفلاحين لأنه هو الذي يمثل طبقتهم تمثيلًا أمينًا، وإذا كان العمال والفلاحون هم الأغلبية الساحقة في أي شعب، فلماذا لا يجعل سلطته مرتكزة على اختيار يمارسه هذا الشعب بحرية تامة؟
وبطبيعة الحال فإن هذا القمع الرئيسي، الذي يتمثل في ذلك الإهدار «الدستوري» لأية فرصة أمام الشعب كيما يختار السلطة التي تحكمه، لا بُدَّ أن تتفرع عنه ألوان أخرى من القمع لا تقل عنه قسوة وضراوة، فحرية الكلام والتعبير عن الرأي مُصادَرةٌ إلا في الحدود التي تساير النظام، وحرية السفر محظورة إلا للوفود الرسمية وفي ظل رقابة مشددة. ولقد كان لضياع هذه الحرية الأخيرة بالذات أسوأ الأثر في نفوس جماهير أوروبا الشرقية التي ترى كل بلد أوروبي غربي يكاد يفرغ سكانه خلال العطلات الصيفية لكي يوزعهم سياحيًّا على بقية البلدان، أما المركزية الشديدة للسلطة فتقضي تمامًا على قدرة الفرد على التصرف، ولو في أضيق الحدود، فأبسط مطلب يحتاج إلى قرار يمكن أن يمر على عشرات من الموظفين، حسب تدرجهم الهرمي، ولا يجاب إلا بعد وقت طويل وتعقيدات إدارية مملة. ولم تكن الأضرار التي يسببها سرطان البيروقراطية مقتصرة على جهاز الدولة، بل إنها كانت تولد خميرة سخط تتجدد دائمًا بين الجماهير.
ومن جانب آخر فإن الحزب الذي جاء من أجل القضاء على الفوارق بين الطبقات، قد صنع هو نفسه تفاوتًا طبقيًّا صارخًا بين أعضائه وبين بقية الشعب؛ إذ كان أعضاء «الحزب» يتمتعون بامتيازات مادية ومعنوية ملموسة، بل كان لهم في بعض هذه البلاد امتيازات خاصة حتى في ميدان التعليم، ومن أجل حماية هذه الأوضاع الجائرة كان لا بُدَّ من وضع نظام صارم يضمن إسكات الأصوات المعارضة، والتجسس على المواطنين عن طريق زرع عملاء السلطة في مواقع العمل العادية أو تجنيدهم من داخلها، وإقامة أجهزة صارمة للأمن تسهر على إقلاق راحة المواطنين وتضمن انضباطهم وتعاقبهم بقسوة لو خرجوا عن الخط المرسوم.
وليس ثمة شيء يثير نقمة الشعوب بقدر التناقض بين الشعارات المعلنة والممارسات الفعلية لحكامها، فحين ترى الشعوب كبار «الثوار» فيها يعيشون حياة الإقطاعيين المترفين، وحين ترى أساطين «الاشتراكية» ينعمون بأجمل الملذات «البورجوازية» عندئذ يتجاوز ذلك التناقض طاقتهم على التحمل، ولو كان النظام يعلن على الملأ أنه رأسمالي أو إقطاعي، ويعترف مقدمًا بالتفاوت الحاد بين الطبقات و«يفلسفه» على طريقته الخاصة، لَتَحملَتْه الجماهير بمزيد من رحابة الصدر، فحين يعلن الأميركيون مثلًا أنهم دولة رأسمالية تقوم على مجتمع الفرصة «وأن أساس نظامهم يقتضي أن يكون البعض من أصحاب الملايين والبعض الآخر من العاطلين المعدمين، ويسود لديهم شعار «كل واحد وشطارته»، عندئذ لا يكون سخط الناس عميقًا حين يشاهدون مظاهر البذخ التي يعيش بها آل روكفلر أو آل ديبونت، بل ربما كانت هذه المظاهر ذاتها من عوامل تقوية النظام وتدعيمه؛ لأنها ترسخ في نفس كل إنسان «الحلم الأميركي»، وتوهمه بأن «نادي المليونيرات» ليس مغلقًا، بل إن أبوابه المفتوحة ترحب بكل من يملك الموهبة المطلوبة، أو يتحين الفرصة الملائمة».
أما حين يعلن الحكام أنهم إنما جاءوا من قاع الجماهير الشعبية، وأنهم يمثلون مطالب الأغلبية المسحوقة ويجسدون أمنياتهم، ثم يراهم الناس يعيشون حياة مرفهة منعمة يتمتعون فيها بكل الملذات التي حُرمت منها الجماهير، فعندئذ تتراكم عوامل الثورة ويغلي الإناء المكتوم.
وبطبيعة الحال فإنني لا أقصد بهذه المقارنة القول إنه لا توجد أسباب للسخط بين الزنوج والملونين وغيرهم ممن يعيشون على حافة الفقر في «جنة الرأسمالية» (وهم أكثر مما يتصور معظم الناس)، بل إن كل ما أعنيه هو أنه حين يكون ذلك التفاوت بين الطبقات جزءًا لا يتجزأ من الفلسفة المعلنة والمعترف بها للمجتمع، تكون دواعي السخط عليه أقل مما هي في المجتمعات التي يقوم نظامها على إلغاء الفوارق الطبقية، ويكون أصحاب السلطة فيهم هم أنفسهم أوضح تجسيد لهذه الفوارق.
ولعل الكثيرين من الجيل الأوسط والأكبر في مصر وكثير من الأقطار العربية يذكرون اسم «الشيخ عاشور»، الذي كان إمامًا غير متميز في أحد مساجد الإسكندرية، وانتابته في إحدى خطبه، خلال الستينات، نوبة غضب فتحدث عن الاتحاد «الاشتراكي» الذي يركب قادته المرسيدس وترتدي نساؤهم أغلى أنواع الفراء … إلخ … فوقع عليه اضطهاد من السلطة (اختلفت الآراء في نوعه ومداه). ولكن ما يهمنا من القصة هو أن هذا الرجل، بإمكاناته المحدودة، حين رشح نفسه بعد سنوات لعضوية المجلس النيابي فاز فوزًا ساحقًا، بلا مجهود، واكتسح مرشحين أنفقوا في حملتهم الانتخابية ألوفًا مؤلفة، وحين عاد إلى ممارسة هوايته في النقد الصريح والساذج داخل المجلس، طردته منه الحكومة «بالقانون» (!)، فحاول ترشيح نفسه مرة أخرى، وكان واضحًا أنه سيكتسح الدائرة للمرة الثانية، فاضطُرَّت الحكومة إلى «تفصيل» قانون يحول دون إعادة ترشيحه. والنتيجة التي أريد أن أخلص إليها من هذه القصة هي أن الجماهير تتعاطف بقوة وعفوية مع كل من يفضح التناقض بين الشعارات المعلنة لأنظمة الحكم وبين ممارستها الفعلية.
ولكي تبرر تلك الأنظمة الاشتراكية الممسوخة تصرفاتها، لجأت إلى نشر الدعوة إلى الزهد بين الجماهير، على نحو يذكرنا كثيرًا برجال الكنيسة في العصور الوسطى، الذين كانت مواعظهم كلها تدور حول العزوف عن متع الدنيا والعمل من أجل الآخرة، بينما كانوا هم أنفسهم يعيشون حياة يستمتعون فيها بكل ما تقدمه «الدنيا الفانية» من ملذات. وتجسدت هذه الدعوة على شكل عقيدة معادية للاستهلاك، فنجحت في إقناع عقول كثيرة بأن الاستهلاك يتعارض مع شعور المواطن بالمسئولية. وتبنى هذه الدعوة عدد كبير من مثقفي العالم الثالث، حتى اتخذت لدى البعض طابعًا مضحكًا مبكيًا، حين أخذوا يلومون شعبًا كالشعب المصري، مثلًا، على إفراطه في استهلاك الخبز!
وبطبيعة الحال فإن أبعد الأمور عن ذهني أن أدافع عن نمط الحياة الباذخة، الذي يجعل من الاستهلاك الترفي لسلع مادية معقدة وغير ضرورية على الإطلاق، هدفًا أساسيًّا لحياة الإنسان، ولا سيما حين يكون معظم أفراد مجتمعه محرومين من الضرورات الأساسية في الحياة، فمثل هذه الحياة المفرطة في الترف ظالمة؛ لأنها تتم دائمًا على حساب شقاء الآخرين، فضلًا عن أنها تافهة؛ لأنها تستعيض عن الجوهر الداخلي العميق بالمظهر الخارجي السطحي. ومع ذلك فليس من العدل أن يتطرف مذهب من المذاهب في التنديد بالاستهلاك إلى حد يولد شعورًا بالذنب لدى كل من يمارسه في حدود ضيقة؛ ذلك لأن الاستهلاك هو، في نهاية المطاف، أحد المؤشرات الهامة للنصيب الذي يناله الإنسان من الدنيا، ومن الظلم البين أن نخدع الناس فنوهمهم بأنهم يخونون مجتمعهم حين يتطلعون إلى نيل نصيبهم هذا، لمجرد أن السياسة الخرقاء التي يتبعها نظام ما جعلته عاجزًا عن أن يضمن لشعبه مستوًى آدميًّا للمعيشة.
المهم في الأمر أن القهر المعنوي والفقر المادي كانا يسيران، في تلك التجربة، جنبًا إلى جنب؛ ولذا فإن من غير المجدي أن نحاول فصل أحدهما عن الآخر، ومن هنا كانت الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الإنسان، في تلك المجتمعات، أن يقاوم النظام، ويعبر عن احتجاجه على ممارسته، هي أن يتلكأ في عمله ويقلل إنتاجيته، وكان ذلك — كما قلت — أحد الأسباب الرئيسية لضعف الاقتصاد في الدول الاشتراكية، بل إن تبادل التأثير بين القهر المعنوي والفقر المادي يؤدي إلى حلقة جَهَنَّمية، تظل تدور بلا نهاية. فمقاومة القهر السياسي والاجتماعي، عن وعي أو بغير وعي، باللجوء إلى التراخي في العمل، تؤدي إلى مزيد من النقص في موارد المجتمع ككل؛ مما يزيد من شحن طاقة السخط لدى الجماهير، فيترتب على ذلك اشتداد القمع والقهر، وتظل القصة تتكرر إلى ما لا نهاية.
على أن من الخطأ الفادح أن يترك الكاتب في هذا الموضوع لدى قرائه انطباعًا بأن الصورة كانت قاتمة كلها، فقد حققت التجربة الاشتراكية، حتى في أحلك نماذجها، إنجازات: المجانية الكاملة في التعليم والعلاج الطبي مع رفع مستواها باستمرار، وحل مشكلات معقدة كالمواصلات والإسكان بأساليب تخفف الأعباء عن عاتق الطبقات الشعبية، حتى لو كانت بعيدة مع معايير الترف كما تفهمها الشعوب المحظوظة، ورعاية الدولة للثقافة مع إتاحتها لقاعدة جماهيرية واسعة. ولعل أعظم الإنجازات جميعًا هو ذلك الأمان الذي يحيط بالإنسان في عمله وحياته: فالمجتمع لا يعرف البطالة، والشيخوخة مؤمَّنة (بتشديد الميم)، ووفاة العائل لا تعني تشريد أسرته، والأسعار المحددة مقدمًا، والموحدة في كل مكان، تعطي المشتري أمانًا لا يحس به إلا من عانى خداع البائعين ومناوراتهم. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الاشتراكية في المعسكر الشرقي قد طُبقت في بلاد كانت كلها — باستثناء تشكوسلوفاكيا — تمثل «الريف» الأوروبي، أمكننا أن ندرك أن هذه الإنجازات لم تكن بالأمر الهين على الإطلاق.
على أنني أود، قبل أن أترك هذا الموضوع، أن أعلق قليلًا على ميزة الأمان الاجتماعي هذه؛ إذ يبدو أن الأمان المفرط يؤدي إلى عكس الهدف المقصود منه، ويبدو أن العامل في المجتمع الذي لا يمنحه مثل هذا الأمان التام يمارس عمله بحماس أكبر، وبإنتاجية أعظم، مع أن الذهن يميل نظريًّا إلى تخيل عكس ذلك، ويُخيَّل إليَّ أننا هنا إزاء مشكلة فلسفية في المحل الأول: فهل من الصحيح أن الإنسان يحتاج إلى قدر معين من الشعور بالخطر كيما يقدم أفضل ما لديه؟ هذا سؤال يكفينا أن نطرحه الآن على القارئ؛ لأن الخوض في تفاصيله سيبعدنا كثيرًا عن موضوعنا الأصلي.
لقد كانت الإيجابيات كثيرة بغير شك، ومع ذلك فإن المرء لا يملك إلا أن يأسف بمرارة؛ لأن التجربة كان في وسعها أن تحرز نجاحًا يفوق ما حققته بمراحل، لو لم يكن الفساد الداخلي والخلل التنظيمي والاستبداد القيادي قد وصل فيها إلى هذا الحد المؤلم. ويبدو لي أن السبب الرئيسي لهذا الخلل هو أن بلدان المعسكر الشرقي في أوروبا لم تنتقل إلى الاشتراكي من خلال تجربة أصيلة، وإنما فُرضت عليها الاشتراكية بشكل أو آخر، نتيجة لغزو الجيوش السوفياتية لهذه البلاد خلال المراحل الأخيرة من قتالها ضد جيوش هتلر المنسحبة في الحرب العالمية الثانية، وكان نصيب الاتحاد السوفياتي من الغنيمة، بعد حرب كان له فيها الدور الأعظم بلا جدال، هو أن يقيم حوله حزامًا من الدول ذات الأنظمة المؤيدة له والمندمجة فيه. وهكذا لم تتكون «الكتلة الشرقية» نتيجة كفاح مماثل لذلك الذي خاضه لينين والبلشفيون في روسيا قبل عام ١٩١٧م، وإنما جاءت الأحزاب الشيوعية فيها إلى الحكم «بالتعيين» إن جاز هذا التعبير. ومن هنا كانت الفجوة عميقة بينها وبين قطاعات جماهيرية تزداد اتساعًا كلما أمعن النظام في ممارسة أساليب القمع. وكان وجود القوات، أو «الحاميات» السوفياتية في هذه البلاد هو السند الأساسي لهذه الأنظمة، وهو الذي يقيها سخط الجماهير في أوقات الشدة.
ومن المؤكد أن هذه الجماهير كانت تختزن في داخلها قدرًا هائلًا من الثورة المكبوتة، بدليل أنها تحركت بمجرد أن تأكدت من أن سياسة جورباتشوف لا تؤيد التدخل العسكري من أجل دعم أي نظام للحكم لا يرضى عنه شعبه، وحين تبين بالدليل العملي، بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان في أوائل العام الماضي، أن هذه السياسة حقيقة لا رجعة فيها، كانت تلك إشارة الانطلاق نحو الثورة المكبوتة.
إن جميع الدلائل تدل على أن جورباتشوف كان منذ البدء واعيًا بأن الوضع الذي كان سائدًا في الكتلة الشرقية يستحيل أن يستمر إلى الأبد، وبأن تغييره بات محتمًا، وكلما كان التغيير أسرع كان ذلك أفضل، وجميع تصرفاته تؤكد أنه يدرك استحالة بقاء نظام يعلن أنه قام لمصلحة الإنسان، وفي الوقت ذاته يقهر الإنسان ويقمعه.
ومن الواضح أن سياسته تقوم على مبدأ أساسي هو، في ظروف العالم الراهنة، مقامرة كبرى، وأعني به أن على هذه الأنظمة أن تثبت جدارتها بالبقاء بقواها الخاصة، وليس بمساندة الجيوش وقوات الأمن السرية، وإلا فلا مفر من أن تخوض مجتمعاتها تجربة جديدة وتبدأ من الصفر. وبطبيعة الحال فقد رأينا حولنا في الأشهر الأخيرة نماذج كثيرة لمثقفين من المتعاطفين مع الاشتراكية، يلومون الزعيم السوفياتي لأنه فتح على نفسه بابًا لن يستطيع إغلاقه، ولأن النتيجة العملية لسياسته توشك على أن تؤدي إلى تصفية المعسكر الاشتراكي برُمَّته، ولكن من يوجهون هذا النقد يغفلون مسائل أساسية: فهل كان المطلوب ترك الأوضاع الفاسدة على ما هي عليه، من أجل الحفاظ على وحدة المعسكر؟ وهل يكون من حق أحد، بعد أن اتضح له مقدار السخط المتراكم لدى الشعوب نفسها، أن يعترض على ما حدث؟ هل كانت تلك اشتراكية بحق، إذا كانت الجماهير قد رفضتها إلى هذا الحد؟ الحق أن أصحاب هذا الاعتراض يسيئون إلى الاشتراكية، التي يزعمون الدفاع عنها، إساءة بالغة حين يستنكرون عملية إطلاق المشاعر الحبيسة لدى الجماهير؛ لأنهم يفترضون ضمنًا أن بقاء الاشتراكية رهن باستمرار القمع واستخدام القوة لإخماد كل صوت معارض.
وأخيرًا فإنني إذا كنت قد ركزت في هذا الفصل على العوامل الداخلية التي أساءت أبلغ الإساءة إلى صورة الاشتراكية في مجتمعات الكتلة الشرقية، وأكدت أن هذه العوامل تفسر إلى حد بعيد عنف رد الفعل الذي لمسه العالم كله بين شعوب هذه الكتلة ضد أنظمتها الحاكمة، فإن هناك عاملًا أخيرًا ينبغي ألا يغيب عن بالنا، ما دمنا بصدد استقصاء الأسباب المؤدية إلى هذا التحول الحاد، فمن المؤكد أن هناك أصابع متآمرة تستغل الأخطاء الفادحة لكي تزيد النار اشتعالًا، وتوجه حركة الجماهير العفوية إلى طريق تقطع فيه جميع روابطها الماضية، إلى الأبد. وكل من يتابع الأخبار بإمعان، يستطيع أن يدرك بسهولة الدور الذي تلعبه وكالات الأنباء الغربية في تشويه كثير من الأحداث؛ فإذا غير أحد الأحزاب الشيوعية اسمه نُقل الخبر بصيغة توحي بأن هذا الحزب قد حل نفسه، وإذا حُذفت مادة في الدستور تنص على احتكار هذا الحزب للسلطة، أوحت إلينا وكالات الأنباء بأنه قد استُبعد نهائيًّا من الحكم، هذا فضلًا عن الانتقائية الواضحة في اختيار الأشخاص الذين يقدَّم إليهم الميكروفون، لإبداء رأيهم في الأحداث والفجاجة المقززة في تصوير الجماهير وهي تُقبل على شراء اللحم بنهم، وتلذذ المذيع بالسخرية من الشاب الذي يمسك ثمرة «الكيوي» دون أن يعرف اسمها … إلخ. هذا كله اصطياد في الماء العكر، على المستوى الإعلامي؛ لأن الفرصة السانحة الآن لا تعوَّض، والحديد يجب أن يُطرَق وهو ساخن. أما على مستوى الأحداث نفسها فلا مفر في أن يشك المرء في وجود أصابع أجنبية في تلك التحركات التي تحرض الجماهير على استعجال قطف الثمار، مع أن الإصلاح لم يكد يبدأ إلا بالأمس القريب. ولا أظن أن الحركات الانفصالية والعرقية في الجمهوريات السوفياتية، وهي في الآونة الراهنة أخطر ما يواجه جورباتشوف، تخلو من هذا العنصر التآمري.
وعلى أية حال فإن إشارتي إلى هذا العامل لا تنفي على الإطلاق أن التجربة، بالصورة التي اتخذَتْها طوال العقود الأخيرة، كانت تحمل في طياتها بذور إخفاق صارخ، وأن ذلك المزيج من الغباء والتسلط والقمع والعناد، الذي كانت تدار به الأمور في بلاد الكتلة الشرقية حتى الأمس القريب، كان هو المسئول الأول عن ردود الفعل العنيفة التي قامت بها جماهير خابت آمالها في أنظمة كانت تُقسم ليلَ نهارَ بأغلظ الأيمان أنها لا تعمل إلا لصالحها.