هل تصمد النظرية الاشتراكية؟
عندما يجري المرء أية مقارنة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، في ظروف العالم الراهنة، فسوف ينتهي حتمًا إلى تأكيد تفوق الأول على الثاني في نواحٍ هامة وحيوية، على رأسها الاقتصادية. غير أن إجراء مثل هذه المقارنة ينطوي على قدر من الظلم؛ إذ إن التجربة الاشتراكية أولًا، أحدث عهدًا بكثير من التجربة الرأسمالية، فالأولى امتدت أربعة قرون على الأقل، منذ مطلع العصر الحديث، بينما الثانية لم تبدأ إلا منذ سبعين سنة في دولة واحدة، ومنذ أقل من خمس وأربعين سنة في بقية الدول الاشتراكية في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، ومن المتوقع في فترة قصيرة كهذه أن يكون النظام في مرحلة لا يزال يسودها طابع التجريب، وأن يقع خلال تجاربه في أخطاء فادحة.
ومن ناحية اخرى فإن هذه الفترة القصيرة لم تكن على الإطلاق، بالنسبة إلى أصحاب هذه التجربة، فترة هدوء يستكشفون فيها أبعاد تجربتهم ويعملون على تطويرها بصورة إيجابية، وإنما كانت فترة صراع ضد المقاومة الداخلية في البلاد الاشتراكية من جهة، وضد المقاومة الخارجية الضارية التي حاول بها النظام الرأسمالي وأد التجربة الجديدة منذ لحظة ولادتها من جهة أخرى. وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة، فلا بُدَّ أن نذكر أن العالم، عند مطلع العصر الحديث، كان خالصًا للرأسمالية، وكان في حالة «فراغ أيديولوجي»، إن جاز أن نستخدم في وصفه تعبيرًا معاصرًا، فلم تكن هناك مقاومة تذكر لأن الإقطاع والكنيسة كانا في زمن الأفول، بل يمكن القول، على العكس من ذلك، أن موارد العالم كله قد سُخِّرت من أجل إنجاح التجربة الرأسمالية، وذلك عن طريق الاستعمار وغزو الأسواق واستجلاب الأيدي العاملة المجانية بالرق، إلخ. وهكذا استطاعت الرأسمالية أن تطور نفسها بالتدريج، وتحقق جميع إمكاناتها، في جو عالمي مواتٍ وملائم إلى أبعد حد. أما الاشتراكية فقد ظهرت إلى الوجود في وقت كان فيه النظام الذي تسعى هي إلى الحلول محله قد بلغ أوج قوته؛ ومن ثم فإنه قد مارس ضدها منذ بدء ظهورها وحتى اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور، مقاومة ضارية، ولم يدَعْ لها فرصة للتنفس لحظة واحدة في هدوء. ولا ننسى في هذا الصدد التأثير المدمر للحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها الدولة الأم في النظام الرأسمالي سليمة متجددة الحيوية، بينما خرجت الدولة الأم في المعسكر الاشتراكي (والوحيدة حين ذلك الحين) محطمة مثخنة بالجراح.
وهكذا فإن أية مقارنة منصفة بين إنجازات النظامين ومستواهما وما حققاه لمجتمعاتهما ينبغي أن تأخذ هذه الفوارق الجوهرية بعين الاعتبار. ومع ذلك فإننا نعتقد اعتقادًا راسخًا بأن التجربة الاشتراكية، سواء تلك التي بدأت في نهاية الحرب العالمية الأولى أم تلك التي بدأت في أعقاب الثانية، قد ارتكبت أخطاء فادحة لم يكن لها ما يبررها حتى مع عمل حساب جميع الفوارق السابقة. وهذا الرأي لم يعد اليوم مجرد استنتاج فكري، وإنما تؤيده وتؤكده أصوات الجماهير الهادرة في عواصم الدول الاشتراكية، فلا بُدَّ أن يكون هناك خلل واضح في النظام الذي يقوم بناؤه الأيديولوجي على العمل لصالح القاعدة الجماهيرية العريضة، إذا كانت هذه القاعدة الجماهيرية هي ذاتها أول من يثور عليه بضراوة.
ولكن السؤال الذي يشغل العالم بأكمله اليوم، ليس تحديد مدى الخطأ في التجربة الاشتراكية، وإنما هو: هل لا زالت للاشتراكية فرصة للبقاء في عالم اليوم والاستمرار في عالم الغد؟ هل تركت لها تلك الكراهية التي تنضح بها وجوه المتظاهرين الساخطين أملًا في أن تظل أيديولوجية رئيسية عندما يحل القرن المقبل، أم أن العِقد سينفرط، سواء بالحركات القومية الانفصالية داخل الاتحاد السوفياتي، أو بالتبرؤ من كلِّ ما له صلة بالعهد السابق، في بقية الدول الاشتراكية؟ يبدو لي أن الاشتراكية، كأيديولوجية جماهيرية، تواجه في هذه الأيام أول اختبار حقيقي لها، فحتى خلال الحرب العالمية الثانية، عندما اجتاحت الجيوش النازية الجزء الأكبر من الأراضي السوفياتية الآسيوية، لم يكن الاختبار الذي تتعرض له الاشتراكية بمثل هذه القسوة؛ ذلك لأن تعبئة الشعور الوطني الذي يرتبط بتراث أقدم بكثير من التجربة الاشتراكية، قد أدت دورًا هائلًا في ذلك الصعود الأسطوري الذي تمكن السوفيات بفضله من إلحاق أفدح الهزائم بالغزاة النازيين، أي أن الاشتراكية لم تكن هي نفسها التي تتعرض للمحنة والاختبار، أما في هذه الأيام فإن المبدأ الاشتراكي ذاته هو الذي أصبح موضع التساؤل، وقدرته على الاستمرار هي التي أصبحت موضع شك.
والمخرج الذي يلجأ إليه المثقفون عادةً حين يصادفهم مأزق مماثل لهذا الذي تواجهه الاشتراكية في هذه الأيام، هو التمييز الحاد بين النظرية والتطبيق، فقد أثبتت الأحداث أن التطبيق كان سيئًا إلى أبعد حد، وأن أولئك الذين وُضعوا على قمة المجتمعات الاشتراكية لكي يكونوا حراسًا للمبدأ وأمناء عليه، قد أساءوا إليه بممارستهم اللاإنسانية أبلغ الإساءة، ولكن المثقف يظل مصرًّا على أن النظرية ذاتها غير مسئولة عن أخطاء التطبيق، وعلى أن ما حدث لم يكن إلا انحرافًا للممارسات عن المبدأ القويم. ومع ذلك فإن هذه الإجابة لا تقنع الكثيرين؛ ذلك لأن من حق المرء أن يشك في أية نظرية تعجِز عن تجسيد نفسها في الواقع العملي إلى هذا الحد، أو تسفر عن نتائج مخيبة للآمال كلما طُبقت.
ولا بُدَّ أن تكون النظرية التي تؤدي، في كلِّ مرة تطبق فيها عمليًّا، إلى ظهور طغاة أو مجموعات حاكمة متحجرة تستغل نفوذها أسوأ استغلال، لا بُدَّ أن تكون هذه النظرية مشوبة بعيوب أساسية؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يفصل بين الميدان النظري والميدان العملي التطبيقي إلى حد تصويرهما بأنهما ينتميان إلى عالمين متباعدين لا يلتقيان.
نعم، كانت هناك عيوب أساسية في النظرية ذاتها، بالإضافة إلى التجاوزات القاتلة في التطبيق. ولا جدال في أن مناقشة هذه العيوب تقتضي جهدًا ووقتًا كبيرين، وقد قدم الكثيرون، على مدى سنوات طويلة آراء خصبة في هذا الشأن، يستحيل أن يتسع المجال للحديث عنها في مثل هذا الحيز المحدود، وربما كان الأمر المجدي حقًّا، في هذا السياق، هو أن نورد أهم ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة من عيوب في النظرية ذاتها؛ لأن الوعي بهذه العيوب سيكون هو المدخل إلى عملية التصحيح الكبرى التي ستحاول الاشتراكية القيام بها في الأعوام القليلة القادمة، إذا لم تطرأ عوامل تبدد فرصتها في القيام بأي تصحيح.
أول هذه العيوب تجاهل إنسانية الإنسان، صحيح أن مبدأ الاشتراكية يقوم أصلًا على تحرير الإنسان من عبودية الاستغلال الذي يمارسه رأس المال، ومن تعامل الرأسمالية معه كما لو كان «شيئًا» يباع ويُشترى، غير أن الفكر الاشتراكي قد طور على مر السنين مفهومًا للإنسان يؤكد الجانب الاجتماعي فيه أكثر مما يراعي الجانب الفردي، فالإنسان الذي تمجده الأعمال الأدبية والفنية والفكرية، التي تسودها الروح الاشتراكية، سواء أكانت اشتراكية ماركس أم غيره، هو الإنسان الذي تندمج أهدافه كلية مع أهداف المجتمع، وهو الذي ينسى نفسه كفرد له عالمه الخاص، لكي يوحد ذاته مع الكل الأكبر الذي ينتمي إليه. ومن السهل جدًّا، عند التطبيق، أن يتحول هذا المبدأ، الذي كان هدفه في الأصل نبيلًا، إلى مبرر لقهر الإنسان وظلمه، فما أسهل أن يتهم أي حاكم مستبد مثل ستالين من يعارضه بأنه يتآمر ضد مصلحة المجتمع، فيصدر حكمًا بإعدامه وهو مرتاح الضمير؛ لأن «الكل الأكبر» هو الغاية القصوى، وفي سبيله يهون كل شيء. وما أسهل أن توضع مصالح «الخطة» الشاملة فوق مصالح فئات كثيرة قد تجد من المستحيل، أو من المرهق، تنفيذها تبعًا لرؤية المخططين الذين لا يرون إلا الصورة «الكلية» ويتجاهلون كل ما في داخلها من جزئيات إنسانية. وما أسهل أن تتم التضحية بكثير من ضرورات الحياة في هذا البلد أو ذاك من أجل مصلحة «المعسكر الاشتراكي» ككل. وهكذا فإن المبدأ الذي يوضع في الأصل لتحقيق مصالح أوسع قطاعات من الجماهير، يتحول بالتدريج إلى مبرر فكري لقهر الجماهير وتجاهل مطالبها المشروعة.
ولقد حاول الكثيرون، طوال تاريخ الحركة الاشتراكية، أن يؤكدوا أهمية هذا الجانب الإنساني، ويقنعوا الأحزاب الاشتراكية، سواء أكانت في الحكم أم خارجه، بأن إعطاء جرعة من النزعة الإنسانية إلى مذهب سوف ينشطه ويزيد من عافيته. غير أن هذه المحاولات كانت تصطدم دائمًا بموقف المدافعين عن «الصرامة» و«القوانين الموضوعية»، وكانت تتهم بأنها اشتراكية «رخوة» أو «غير علمية»؛ لأن الاشتراكية الحقيقية في نظر هؤلاء المتشددين يجب أن تضع في اعتبارها العوامل العامة التي تتحكم في مسار التاريخ، وهذا وحده هو ما يجعلها «اشتراكية علمية» بالمعنى الصحيح، أما تلك الرهافة الإنسانية فإنها تحول السياسة إلى شيء أشبه بالشعر أو الفن. ولعل في هذا ما يفسر، إلى حد بعيد، تلك الأزمات المتلاحقة التي كانت تثور بين سلطة الحزب وبين الفنانين والأدباء، منذ بداية الثورة الشيوعية في ١٩١٧م حتى اليوم، ولعل فيه أيضًا ما يفسر تلك الظاهرة الفريدة في تاريخ الإنسانية، وهي قيام الجماهير الثائرة على الاستبداد الصارم للحزب في تشيكوسلوفاكيا، خلال الأحداث الأخيرة، باختيار «كاتب مسرحي» رئيسًا للجمهورية (وهي فيما أتصور المرة الأولى التي يحكم فيها أحد رجال المسرح بلدًا بأكمله؛ مما يطرح تساؤلات طريفة، ينتظر المرء الإجابة عنها بشوق وتلهف، حول الطريقة التي سيتحول بها تفكير «هافيل» من استخدام خياله في تحريك شخوص المسرح وأحداثه بحرية كاملة، إلى استخدام عقله في تحريك أوضاع الاقتصاد والدبلوماسية والدفاع في عالم الواقع الذي لا يلين!) — هذا فضلًا عن الدور الكبير الذي أسهم به الأدباء والفنانون والكتاب في أحداث البلاد الشرقية الأخرى، والاتحاد السوفياتي نفسه، ووصول عدد منهم إلى مراكز قيادته في المجر ورومانيا وغيرهما بعد الثورات الجماهيرية الأخيرة.
إن التجاء الشعوب إلى الكتاب والفنانين في مثل هذه الظروف يمثل رد فعل واضحًا على تجاهل الإنسان النابض بالحياة في الأنظمة السابقة سعيًا لا شبهة فيه من أجل إضفاء اللمسة الإنسانية التي حرمت منها تلك الشعوب طويلًا، باسم «الموضوعية العلمية» على أسلوب إدارة المجتمع في تلك البلاد. وإذا كانت تلك التحولات تبدو في ظاهرها ثورة على التطبيق السيئ لمبدأ نبيل، فإنها في حقيقتها احتجاج على عناصر أساسية في المبدأ نفسه، تفتح المجال واسعًا أمام كلِّ من يريد إساءة التطبيق.
لقد كانت «الاشتراكية الإنسانية» توصف دائمًا بأنها «حريفية»، بل لقد بُذلت محاولات لإلقاء ظل من النسيان على كتابات هامة لكارل ماركس، ألفها في وقت مبكر، لمجرد أنها تؤكد هذا الجانب الإنساني في الاشتراكية، مع أن هؤلاء الذين تجاهلوها لم يكونوا يتركون سطرًا واحدًا لماركس دون أن يحللوه ويستشهدوا به، ووصل الأمر ببعضهم إلى حد النظر إلى هذه الكتابات كما لو كانت تمثل المرحلة «الجاهلية» في فكر ماركس، قبل أن تهبط عليه «رسالة» الاشتراكية العلمية، وكم من اشتراكيين مخلصين طردتهم الأحزاب الشيوعية لمجرد أنهم سعَوْا إلى تطعيم النظرية بهذا الجانب الإنساني، فقد كانت تدور داخل تلك الأحزاب عملية «تكفير» مماثلة لما نجده لدى أشد الجماعات الإسلامية المعاصرة تطرفًا، وكان الدفاع عن شكل من أشكال الحريات «الليبرالية» كافيًا لطرد صاحبه من الحزب، وهو ما يعني الخروج من الجنة، والحكم عليه بأن يظل مشردًا منبوذًا.
وقد ينتهز المعسكر الآخر الفرصة كيما يجتذب هذا المطرود أو يستغل انتقاداته في دعايته ضد خصومه، فيتمزق صاحبنا من الداخل، ويظل عاجزًا عن الانتماء، وتغمره الحسرة الأبدية وهو يرى التيار العام للمعسكر الذي يؤمن به يسير في طريق غير طريقه.
وإني لعلى يقين من أن جورباتشوف لو كان قد ظهر بأفكاره هذه في العهد الستاليني، أو كان قد جهر بها صراحة في «عصر الجمود» أيام بريجنيف، لاتُّهم بأنه أكبر تحريفي، ولكان الآن مجرد ذكرى باهتة لسياسي معارض مدفون في سيبريا، أو محكوم عليه بشغل وظيفة كاتب صغير في مزرعة جماعية نائية. ولكن من حسن حظ جورباتشوف — وحظ العالم — أن أفكاره لم تظهر بكلِّ أبعادها الإنسانية والديمقراطية إلا بعد أن أصبح مستقرًّا في الحكم، قادرًا على دعم هذه الأفكار بكلِّ الثقل الذي يضفيه الوجود في السلطة. ولعل في هذا تطبيقًا آخر لتلك القاعدة التي يزخر عالمنا العربي بأمثلة صارخة لها، وأعني بها أن الفرق بين الحاكم الوطني حبيب الشعب ووليِّ نِعمته، وبين العميل الخائن عدو الشعب والمحرِّض على الفتنة، كثيرًا ما يكون هو الفرق بين النجاح في الاستيلاء على السلطة والإخفاق فيه!
وإذا كنا قد توسعنا في الحديث عن هذا العيب الأول في النظرية الاشتراكية، فذلك لأنه هو الأصل الحقيقي لمعظم الأخطاء الأخرى التي وقعت فيها تلك النظرية، فمن السهل، مثلًا، أن ينتقد المرء منهج التفكير لدى معظم الماركسيين الكبار بأنه منهج «سلطوي» أكثر مما ينبغي. وأعني بالسلطوية أن كتابات ماركس وإنجلز، ومن بعدهما لينين، يُنظَر إليها كما لو كانت هي المرجع الأول والأخير في كلِّ مشكلة تواجه الفرد أو المجتمع، ولا بُدَّ لكي يثبت الكاتب أنه مخلص للأيديولوجية، من أن تمتلئ كتابته بالهوامش التي تشير إلى اقتباسات من ماركس أو لينين. وكثيرًا ما يشعر المرء بأن الاقتباس مصطنع، لا يقصد به إلا إثبات «ولاء» الكاتب؛ لأن الموضوع يتناول مشكلة مستجدة يستحيل أن يعمل مفكر في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، مهما علت مكانته، حسابًا كاملًا لها، (ولست في حاجة إلى تنبيه القارئ، في هذه الحالة أيضًا، إلى التشابه الواضح مع المنهج الفكري لكثير من منظِّري الحركة الإسلامية المعاصرة).
وليس هذا النقد مجرد خطأ منهجي له تأثيره على الميدان الثقافي فحسب، بل إن تأثيره يمتد إلى مجالات واسعة؛ إذ إن اتباع هذا الأسلوب يشجع النفاق الفكري، ويجعل المتملِّقين هم الأقدر على التسلق إلى قمة المجتمع، وهو يَحُول دون ظهور التجديد والإبداع في ابتكار أساليب تتم بها مواجهة المشكلات في عالم سريع التقلب؛ ومن ثم فإنه مسئول إلى حد بعيد عن كلِّ ما تتصف به الفترات السابقة على جورباتشوف من جمود.
وأخيرًا، فإن من أوضح العيوب النظرية في الفكر الاشتراكي السائد حتى عهد قريب، إفراطه في التنظير، فقد كان إخضاع الواقع المتغير للقوالب المستمدة من النظرية الماركسية سمة أساسية لهذا الفكر، وكان المبرر الذي يُقدَّم لذلك هو أن من المستحيل على أية حركة سياسية أن تنجح في ممارستها ما لم تسترشد «ببوصلة» فكرية تعلو بها على مستوى الارتجالية والتخبط. والمبدأ في ذاته سليم، غير أن الإفراط في استخدامه كثيرًا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، ففي حالات كثيرة لم تكن الأحزاب الماركسية تخطو خطوة واحدة إلا بعد أن تقوم بتحليلات نظرية شاملة للموقف في ضوء النظرية الأم. وأعجب ما في الأمر أن هذه التحليلات كثيرًا ما كانت تتناقض فيما بينها، فيصل حزب إلى نتيجة معينة، ويصل حزب آخر، أو الحزب الأول نفسه في مرحلة لاحقة، إلى نتيجة مضادة، إزاء الظاهرة الواحدة، مستخدمين نفس المنهج. وكثيرًا ما كان يتكرر هنا نفس الخطأ الذي لاحظه فلاسفة العصر الحديث على علماء اللاهوت في العصور الوسطى حين كانوا يجعلون من القوالب اللفظية حاجزًا كثيفًا يحجب عنهم عالم الواقع بكلِّ ما فيه من ثراء وتغيير، بل إن بعض الشباب المنتمين إلى حركات يسارية كانوا يقضون الليالي في التراشق برطانات لفظية وتقليب مجموعة من الكلمات الضخمة المحفوظة ذات اليمين وذات اليسار، ويخرجون من السهرة قريري العين، متوهمين أنهم تمكنوا بذلك من تحليل الواقع المعقد وحل مشاكله.
هذا الاتجاه إلى الإفراط في إخضاع الواقع للنظرية، بدلًا من إخضاع النظرية للواقع، كما ينبغي أن يفعل أي تيار سياسي يريد حقًّا أن يكون له دور فعال؛ يبدو لي ناجمًا عن الأصول الهيجلية للفلسفة الماركسية. وأرجو ألا ينزعج القارئ من هذه الإشارة التي قد لا تكون واضحة لدى الكثيرين، ولكني لن أطيل في هذا الموضوع الفلسفي المعقد، ويكفي أن أشير إشارة عاجلة إلى أن فكر ماركس، وهو أكبر بناء متكامل للفلسفة المادية، قد انبثق عن فكر هيجل الذي شيد أعظم بناء نظري متكامل للفلسفة المثالية، يُخضِع الكون والتاريخ والفلسفة والفن لإطار فكري واحد. وكان لا بُدَّ أن يؤثر هذا الأصل في تحديد المنهج الفكري الذي يسير عليه ماركس والماركسيون، وأن يكون منهج الرجوع الدائم إلى القالب النظري الجاهز داء مستحكمًا في الفكر الاشتراكي اللاحق، يمارس تأثيره ويترك بصماته بوضوح على الممارسات العملية لمعظم التجارب الاشتراكية في الحكم.
ومن الطريف أن يقارن المرء بين هذا المنهج الفكري الذي سارت عليه التجارب الاشتراكية، وبين الأسلوب الذي تُتَّخَذ به القرارات الهامة في قلعة النظام الرأسمالي، أعني في أميركا. ففي أميركا تسود فلسفة مضادة، قوامها أن «ما ينجح عمليًّا هو الصحيح» (وهو المبدأ الأساسي في الفلسفة البرجماتية، التي هي من حيث الأصل فلسفة أميركية خالصة)؛ ويترتب على ذلك أن العقلية الأميركية لا تسرف في التحليل النظري، ولا تعبأ كثيرًا بتفسير الأحداث من خلال قوالب مسبقة، وإنما تعالج كل حالة على حدة، وتتصرف فيها تبعًا لمقتضياتها الخاصة، وتشكل نفسها تبعًا لكلِّ موقف. وعلى حين أن الفكر الماركسي يسرف كثيرًا في الحديث عن قوانين التاريخ، وعن حتمية التحولات الكبرى فيه، ويصل في ذلك أحيانًا إلى حد تغليب النظرية على الواقع المعقد المتجدد، فإن طريقة التفكير الأميركية تنحني مع الواقع كيفما تشكَّل، وتكاد في التزامها بهذا الواقع أن تلغي النظرية من الأساس.
ويؤدي الإسراف في الفكر النظري إلى الإفراط في التنبؤ، فيبدو التاريخ وكأنه مراحل حتمية لا مفر من حدوثها؛ وعلى ذلك فكما انتقل التاريخ من مرحلة العبودية إلى مرحلة الإقطاع، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، فلا مفر من أن تكون الخطوة التالية هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية. ويُصوَّر هذا الانتقال كما لو كان قدَرًا محتومًا لا فكاك منه، ويُقنع الماركسيُّ المتحمس نفسه بأن هناك قوة تعلو على الأفراد والأنظمة والحكومات، اسمها «حتمية التاريخ»، تعمل على دفع الأحداث في الاتجاه الذي تتنبأ به النظرية، وأية مقاومة لحتمية التاريخ هذه لن تكون لها من نتيجة سوى أن ترجئ المحتوم بعض الوقت، ولكن ما سيحدث لا بُدَّ أن يحدث. وعلى هذا الأساس ساد التفاؤل المطلق بين الماركسيين الأوائل في أعقاب ثورة ١٩١٧م، وكان منهم كثيرون ينتظرون اللحظة التي تسقط فيها الرأسمالية كالثمرة المعطوبة. وبرغم تقلب الأحداث وتعقد الواقع وتجاوز إطار النظرية مرارًا، ظل التفاؤل هو النغمة الغالبة، حتى رأينا خروتشوف يهتف في وجه الرأسماليين الأميركيين في عام ١٩٥٦م: «سندفنكم!» ويتنبأ من خلال تحليلات «علمية» مبنية على قوالب النظرية أكثر مما هي مرتكزة على معطيات الواقع، أن الاقتصاد في البلاد الاشتراكية سوف يلحق بالاقتصاد الرأسمالي في عام ١٩٨٠م، ثم يتجاوزه بعد ذلك بمراحل. ويسجل هذا التنبؤ الخطير في وثيقة عظيمة الأهمية، هي أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.
كل هذا التفاؤل كان مبنيًّا على تلك السمة التي أشرت إليها أكثر من مرة من قبل، وهي تحليل التاريخ من طرف واحد، هو الطرف الذي ينتمي إليه المحلل نفسه، وعدم حساب ردود الفعل المتغيرة والمتجددة التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل إفساد هذا التنبؤ وإبطاله. والأساس الذي يرتكز عليه هذا الخطأ المنهجي هو الاعتقاد بأن المرء يمتلك الحقيقة المطلقة، وكل ما عداها تحريف أو انحراف أو بطلان صريح (هل هناك حاجة إلى إشارة أخرى إلى التشابه بين هذا الإطار الفكري وبين نظيره في الأصولية الإسلامية المعاصرة؟) ومن هنا تأتي الثقة الزائدة بالنفس؛ لأنه لا شيء يبعث على هذه الثقة بقدر اعتقاد المرء بأن التاريخ يسير لصالحه، أو بأنه يمثل في سلوكه إرادة التاريخ، وما دام يسير في الاتجاه الصحيح لحركة التاريخ، فماذا يضير لو حدثت أخطاء هنا أو تجاوزات هناك؟ ولماذا يستمع الحاكم إلى أصوات المعارضين أو يحترمها، ما دام يعلم أن هذه الأصوات تعارض حتمية التاريخ، التي يجسدها هو نفسه.
ولكن المفارقة الساخرة تظهر في أن أولئك الذين كانوا دائمًا واثقين من امتلاكهم لناصية التطور، ومعرفتهم لاتجاه المستقبل، وتجسيدهم لحتمية التاريخ، هم الذين فشلت تنبؤاتهم، ولم تتحقق «حتمياتهم»، على حين أن أصحاب الأيديولوجية المضادة، الذين يفكرون يومًا بيوم، وحادثًا بحادث، هم الذين تحكموا بصورة أكبر في مجرى التاريخ المعاصر. وهكذا كان الدرس واضحًا: من يظن أن التاريخ حصان يمكن امتطاؤه، سينتهي به الأمر إلى أن يمتطيه التاريخ … تعقُّد الحياة المعاصرة لا يمكن استيعابه إلا بالمزيد من المرونة، والإقلال من الحديث عن «الحتميات»؛ لأن التاريخ في نهاية الأمر ينقاد لمن يشكله، لا لمن يتشكل به.
إن سلسلة المآسي التي حدثت أمام أعيننا في أوروبا الشرقية إنما هي نموذج واضح كل الوضوح للأخطاء التي تتفاعل فيها النظرية مع التطبيق، فقد كانت في النظرية ذاتها ثغرات، حاولنا أن نكشف هنا عن بعضٍ من أهمها، هي التي فتحت الباب للأخطاء الفادحة في التطبيق، ولم يعد هناك مجال للقول إن النظرية تظل محتفظة بعصمتها وقدسيتها، وإن من يتبنَّوْنَها هم وحدَهم المدنسون، فلا مفر من العودة إلى الجذور، واستئصال ما جف منها وما ذبل.
وفي تصوري أن جورباتشوف، الذي ينتمي إلى جيل لم يشارك في الأحداث الرائدة الأولى ولم يغرق في جدليات الثورة العالمية أو الثورة المحلية، هو أول زعيم ينظر إلى الاشتراكية بوصفها هدفًا إنسانيًّا رحبًا، يمكن أن يتخذ أشكالًا متباينة، ولا يتعين حصره في قالب واحد. ومن المؤكد أنه أدرك أن العناد المفرط والثقة الزائدة التي كان يتصرف بها أولئك الذين كانوا يعتقدون أن «حتمية التاريخ» تعمل لصالحهم، هو الذي يمكن أن يقضي على التجربة من أساسها، فجميع تصرفاته تدل على أنه يدعو إلى إدخال عنصر المرونة في النظرية نفسها، إلى جانب العنصر الإنساني في التطبيق.