هل ثبتت رؤية هلال الرأسمالية؟
في كل مجتمعات العالم تحدث تغيرات، وكثير من هذه التغيرات يسفر عن تحولات جذرية في بنية المجتمع، ومع ذلك فإن التغيرات التي حدثت خلال العام الماضي في بلدان الكتلة الشرقية هي التي أثارت اهتمام العالم بوصفها إيذانًا بمرحلة جديدة في تاريخ البشرية، وهي التي حفزت الكُتَّاب والمعلقين إلى تجنيد أقلامهم وحشد أذهانهم في محاولة للاهتداء إلى معالم في ذلك الطريق الذي أصبحت العواطف تغلفه بالضباب من كل جانب. وربما كان أحد أسباب هذا الاهتمام، ذلك التماسك الشديد والصلابة الفائقة التي كانت تبدو عليها أوضاع الكتلة الشرقية. ولست أعني بذلك أن الأنظمة الحاكمة في تلك البلاد كانت تستند إلى جبهة داخلية قوية، وإنما الذي أعنيه أن هذه الأنظمة رتبت أوضاعها بحيث تظل متمسكة بالسلطة إلى أجل غير محدود، واستبعدت منذ البدء آليات التغيير السلمي للجهاز الحاكم. ومن أجل هذا السبب بالذات، كان من الطبيعي أن تبدو أية محاولة لتغيير السلطة، كما حدث في الآونة الأخيرة، انهيارًا للنظام بأكمله.
لقد تعرض العالم الغربي في العقود الأخيرة من تاريخه لتحولات كثيرة، منها على سبيل المثال وقوف دول أساسية فيه، كفرنسا وإسبانيا، موقفًا سلبيًّا من المشاركة العسكرية في حلفه العسكري الأكبر، حلف الناتو «شمال الأطلنطي»، بعد أن حكمتها في السنوات الأخيرة أحزاب اشتراكية ديمقراطية، بل إن العالم الغربي شهد حالات تحول من النظام الرأسمالي إلى نظام ماركسي صريح، كما حدث في شيلي عند فوز الليندي في أوائل السبعينيات. وفي الولايات المتحدة نفسها، شهد النظام الرأسمالي انهيارًا خطيرًا خلال الأزمة الاقتصادية الكبرى عام ١٩٢٩م، وترتبت على هذه الأزمة كوارث اقتصادية هائلة دامت سنوات عديدة، ولحقت أضرارها جميع البلاد المرتبطة بالنظام الرأسمالي. وكانت أوسع التحليلات انتشارًا تؤكد أن هذه الأزمة ليست عارضة على الإطلاق، وإنما هي تعبير عن خلل متأصل في بنية النظام الرأسمالي ذاته.
ومن السهل أن يدرك القارئ أن شبح هذه الأزمة ما زال مخيمًا على العالم الرأسمالي حتى يومنا هذا.
بل إن ظهور الأنظمة الفاشية والنازية في إيطاليا وألمانيا واليابان وإسبانيا في فترة ما بين الحربين العالميتين، وكثير من نظائرها وامتداداتها في دول العالم الثالث منذ الحرب العالمية الثانية، هو في رأي الكثيرين تعبير عن أزمة هيكلية في النظام الرأسمالي، ومحاولة غير موفقة للخروج من إسار الأزمة. خلاصة القول أن ما يمر به العالم الاشتراكي من مشكلات خطيرة ليس هو الحالة الوحيدة لظهور أزمة عميقة في هيكل نظام عالمي رئيسي، ومع ذلك فإن الأذهان قفزت مباشرة، في هذه الحالة الأخيرة بالذات، إلى استنتاج سريع هو أن التجربة الاشتراكية كلها قد أفلست، وأنها لم تكن منذ البدء إلا حالة عارضة أو «وعكة» أصابت قطاعًا من البشر وسرعان ما تزول ليعود العالم كله رأسماليًّا كما كان قبل ١٩١٧م، فلماذا يصدر المحللون أحكامًا كهذه الآن، بينما لم يقُلْ أحد (باستثناء بعض الماركسيين) أن بناء النظام الرأسمالي ذاته كان لا بُدَّ أن ينهار بعد الكساد العظيم في ١٩٢٩م، أو أن الرأسمالية لا بُدَّ أن تُنبَذ لأنها أفرزت، بشكل مباشر أو غير مباشر، أنظمة دكتاتورية كأنظمة هتلر وموسوليني وفرانكو وسالازار؟
أغلب الظن أن الرد على هذا التساؤل يكمن في تلك المرونة الهائلة التي تواجه بها الرأسمالية أزماتها، وفي قدرتها الفائقة على إعادة التكيف بعد كل مأزق خطير تقع فيه، على حين أن الأنظمة الاشتراكية تجمدت وتحجرت إلى حد بدت معه وكأنها إما أن تحافظ على أوضاعها دون تغيير، وإما أن تنهار انهيارًا تامًّا.
وفي وسعنا أن نوضح الفارق بين الاثنين بالمقارنة بين كرة الطاولة (البنج بونج) والبيضة، فالأولى تقفز وترتد سليمة إذا أُسقِطت أو ضُرِبَت، والثانية تنكسر وتَسِيل بمجرد أن تصطدم قشرتُها بأي جسم صلب. وبالمثل فكما أن الرأسمالية تستطيع أن تتخذ ألف شكل وشكل، وتظل مع ذلك رأسمالية، فإن الاشتراكية كما طُبقت في أوروبا الشرقية لم تكن تستطيع التخلي عن طابعها الثابت والمتصلب إلا إذا عرضت بقاءها واستمرارها للخطر.
وفي تصوري أن هذه السمة بالذات كانت جزءًا أساسيًّا من خطة الإصلاح التي وضعها جورباتشوف وحرص على تطبيقها في دول أوروبا الشرقية، ومهد لها بقبول هذه التحولات العنيفة. فلماذا لا تصبح الاشتراكية بدورها نظامًا مرنًا، يقبل التطور ويتكيف وفقًا لمتطلبات العصر؟ ولماذا تحمَّلَ الفرنسيون والألمان الغربيون والأميركيون مظاهرات ١٩٦٨م العارمة، التي شارك فيها الملايين من الطلاب والمهنيين والعمال، وظل نظامهم في أساسياته سليمًا، بينما تُضْطَر الجيوش السوفياتية إلى التدخل كلما حدث اضطراب واسع الأبعاد في أي بلد اشتراكي؟ لماذا لا تتخذ هذه البلاد لنفسها آليات تسمح لها بامتصاص سخط الجماهير على أنظمتها، إذا ارتكبت أخطاء فادحة، وتتيح لها تصحيح مسارها واكتساب ثقة هذه الجماهير من جديد؟
لماذا يسود دائمًا هذا البديل الانتحاري: إما بقاء كل شيء على حاله بقوة السلاح، وإما انهيار كل شيء؟ من المؤكد أن إعلان جورباتشوف الصريح أن جيوشه لن تتدخل لمساندة أي نظام يثور عليه شعبه، وإشاراته الواضحة إلى أنه لن يؤيد القيادات الستالينية المتحجرة، بل ومشاركته الإيجابية، على ما يقال — في إزاحة بعض هذه القيادات، مع إدراكه للنتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على ذلك، وفي المدى القريب على الأقل، بالنسبة إلى وحدة المعسكر الاشتراكي وتماسكه — كل هذا دليل على أن سياسته تسعى إلى أن تضيف إلى التجربة الاشتراكية عنصرًا هامًّا تَتفوَّق عليها فيه الرأسمالية تفوقًا ملحوظًا؛ وهو عنصر المرونة في اختيار الشعب للجهاز الحاكم، وتبني آليات التغيير السلمي للحكومات، دون حاجة كسر القشرة المتصلبة. وبطبيعة الحال فإن الكثيرين قد هللوا وصفقوا لهذا التحول الذي بدا في ظاهره تراجعًا خطيرًا، وكان لسان حالهم يقول: ألم نَقُلْ لكم إن الاشتراكية بدعة زائلة؟ ها هي ذي تقتبس أهم مبادئ الحكم والسياسة من العالم الرأسمالي، وتتراجع عن طابعها «الشمولي»، الذي كان أهم سماتها المميزة، فماذا يتبقى بعد ذلك من الاشتراكية؟ على أننا سنرجئ مناقشة الشطر الأخير من هذا السؤال، وأعني به: هل يتبقى من الاشتراكية شيء إذا اتبعت آليات التغيير الديمقراطي المعروفة في الرأسمالية — سنرجئ هذه المناقشة حتى الفصل التالي. أما الآن، فلزام علينا أن نناقش الشطر الأول، وأعني به دلالة اقتباس الاشتراكية لمبادئ هامة تنتمي إلى صميم التجربة الرأسمالية.
إن الحكم على موضوع الاقتباس هذا، ينبغي أن يُنظَر إليه في سياق أوسع، تتأمل فيه مَلِيًّا تلك العناصر العديدة التي سبق للرأسمالية أن اقتبستها من النظام الاشتراكي؛ ذلك لأن النظام الرأسمالي قد عدل هيكله مرارًا، وفي كل مرة كان يدمج في داخله مبدأ من المبادئ التي تنادي بها الاشتراكية، ولكن بعد تعديله بحيث يلائم إطاره العام. ولا شك أننا قرأنا كثيرًا عن تلك الفوارق الهائلة بين الرأسمالية المعاصرة، وبين رأسمالية القرن التاسع عشر التي تنبأ كارل ماركس بانهيارها، بوصفها مرحلة في التاريخ أدت مهمتها وأصبح من الضروري تجاوزها إلى مرحلة أرقى. وفي معظم الأحيان يُشار إلى هذه الفوارق بوصفها دليلًا على إخفاق تنبؤات ماركس عن انهيار الرأسمالية الحتمي من جهة، وعلى قابلية الرأسمالية للتكيف والتطور من جهة أخرى. ولكن السؤال الحاسم في هذا الصدد هو: هل جاءت هذه التطورات الهامة من قلب الرأسمالية نفسها؛ أعني هل من طبيعة هذا النظام أن يطور نفسه بحيث يعطي العمال مزيدًا من الحقوق، ويضمن لهم نصيبًا — يقل أو يزيد — من التأمينات الاجتماعية والصحية، ويتبع في سياسته الاقتصادية والاجتماعية قدرًا — يقل أو يزداد أيضًا — من التخطيط … إلخ؟ الواقع أن التعديلات والتصحيحات التي أدخلها النظام الرأسمالي على مساره، كانت في جوهرها ردود فعل على وجود نظام مضاد …
وليس معنى ذلك أن الخوف من ذلك النظام المضاد هو وحده الذي دفع الرأسمالية إلى تطوير نفسها، بل إن هذا التطور قد حدث من أجل قطع الطريق على أية دعوة إلى شكل من أشكال الاشتراكية بين عمال البلاد الرأسمالية، ومن أجل تقديم نموذج يبدو في نواحٍ كثيرة، أكثر ازدهارًا من النظام البديل. وإذا كنا قد توسعنا من قبل في الحديث عن سباق التسلح بوصفه وسيلة بارعة — وقاتلة — ابتكرها النظام الرأسمالي من أجل إيقاف نمو الاشتراكية، وقلنا إن التنافس في ظل هذا السباق كان أمرًا استحال على ماركس أن يعمل له حسابًا في نظريته، فإن ما نتحدث عنه الآن، أعني قدرة الرأسمالية على تصحيح مسارها بتبني بعض مبادئ النظام الاشتراكي من أجل إسقاط دعوى الاشتراكية بأنها هي التي تمثل مصالح العمال في كل مكان، كانت بدورها تطورًا لم تعمل له النظرية الماركسية حسابًا، فقد افترضت هذه النظرية أن الحركة الاشتراكية ستنشط وتنمو وتجتذب مزيدًا من عمال البلاد الرأسمالية يومًا بعد يوم، بينما تظل الرأسمالية على ما هي عليه، وتسعى إلى امتصاص أكبر قدر من «فائض القيمة» من العمال؛ لأن الأفعى لا تمتلك إلا أن تكون سامة، غير أن النظام الرأسمالي استطاع أن يواجه هذا الهجوم ببراعة، وأن يطور نفسه في مواجهة أنواع عديدة من الأزمات، وتخلى عن عناصر كثيرة من تلك الرأسمالية التي كتب عنها ماركس، ولكنه كسب في مقابل ذلك قدرة كبيرة على الصمود والبقاء.
والخلاصة إذن أن ما استعارته الرأسمالية من الاشتراكية ربما كان يفوق بكثير، في تنوعه واتساق نطاقه، كل ما يبدو أن الاشتراكية تستعيره الآن من الرأسمالية.
ومع ذلك فإن أجهزة الإعلام الغربية لا تصور ما يحدث الآن على أنه مرحلة تصحح فيها الاشتراكية مسارها، تماثل عشرات المراحل التي سبق للرأسمالية أن صححت فيها مسارها باستعارة عناصر من الماركسية ذاتها، وإنما تصوره على أنه انهيار وسقوط نهائي للاشتراكية. فإذا كانت الأيديولوجية تسقط بمجرد أن تستعير عناصر أساسية من أيديولوجية أخرى، فلماذا إذن لم تسقط الرأسمالية الحالية التي تحمل سمات لن يستطيع آدم سميث، لو بُعث حيًّا من قبره، أن يتعرف على رأسماليته التقليدية في سمة واحدة منها؟
إن الرأسمالية لو كانت قد تُرِكَت لنفسها، دون وجود أيديولوجية منافسة تملك تأثيرًا دوليًّا كبيرًا، وتمارس تأثيرها أيضًا على الطبقات العاملة والمثقفة داخل الدول الرأسمالية ذاتها — لما سار تطورها في اتجاه تحقيق مصالح للعمال، كما يحدث بالفعل في البلاد الصناعية المتقدمة. وأبسط دليل على ذلك ما تمارسه الرأسمالية من استغلال بشع للعمال والفلاحين الفقراء في بلاد العالم الثالث، فحين تفتتح إحدى الشركات متعددة الجنسية مصنعًا في بلد فقير، تكون شروط العمل في هذا المصنع، وليس الأجور فحسب، أسوأ بما لا يُقاس من نظائرها في مصانع البلاد المتقدمة. وحسبنا أن نشير هنا إلى الفرق بين مصانع شركة «يونيون كاربايد» في أميركا نفسها والمصنع الذي كان تابعًا للشركة نفسها في الهند، حيث وقعت حادثة تسرب الغاز السام المشهورة في مدينة «بوبال» منذ سنوات قلائل، وتساقط المئات من العمال وأسرهم كالذباب، ووقف أصحاب الشركة يدافعون عن أنفسهم بوقاحة أمام رأي عام عالمي ساخط، ويستأجرون أبرع المحامين حتى لا يدفعوا إلا أقل القليل من التعويضات لأهل البلدة المنكوبة. وقل مثل هذا عن أية مقارنة يجريها المرء بين أوضاع العامل الزراعي الأبيض في أية مزرعة من مزارع الجنوب الأميركي، وأوضاع العمال التعساء الذين تقوم «شركة الفواكه المتحدة» بتشغيلهم بأبخس الأجور وفي أسوأ الأوضاع، لكي تكسب هي الملايين من مزارعها في جواتيمالا وهندوراس وغيرها من «جمهوريات الموز» التعيسة في أميركا الوسطى.
ولو أمعنا النظر في هذه المقارنة، لتبين لنا أن الفارق الوحيد بين الحالتين هو أن العمال لديهم في الحالة الأولى من الوعي ما يسمح لهم بالكفاح الفعال من أجل حقوقهم، فلا يجد النظام مفرًّا من إرضاءهم، أما في الحالة الثانية فإن تعاسة العمال وفقرهم وأميتهم، وتعرضهم الدائم لبطش الأنظمة الدكتاتورية التي تفرضها الشركات الأميركية العاملة في أراضيهم، كل ذلك يجعل صوتهم غير مسموع، وما دام خطرهم ضئيلًا فلماذا ترهق الرأسمالية نفسها بتحسين أوضاعهم؟
على أن الرأسمالية تعيش من أواخر عام ١٩٨٩م فترة ترتفع فيها معنويات أنصارها إلى السماء، ويتغزل فيها الكثيرون، وينادي الكتاب، الذين لم يكونوا يجرءون حتى عهد قريب على الدفاع صراحة عنها، بأنها هي النظام الطبيعي للإنسان، أو هي النظام السوي، وكل نظام آخر هو انحراف لا بُدَّ — مهما طال الزمن أو قصر — أن تشفى منه المجتمعات التي يشاء سوء حظها أن تقع فريسة له، ولا مفر للمرء، حين يجد أن هذا الغزل المكشوف قد تجاوز حدوده، من أن يعود إلى تذكير الناس بأبسط البديهيات التي يبدو أن انفجارات أوروبا الشرقية قد أفقدتهم الوعي بها.
إن المهللين للرأسمالية، بوصفها النظام الطبيعي الذي منه بدأ عصرنا الحديث وإليه يعود، يصفقون ابتهاجًا لسقوط الإمبراطورية الشيوعية، وقد أوضحنا في الفصل السابق أن كثيرًا من العناصر التي انتهجتها المجموعة الشيوعية كان يستحق السقوط بالفعل، وأن انهيار ممارستها القمعية أمر لا ينبغي أن يأسف له أي إنسان مستنير، ومع ذلك فإننا حين نتحدث في هذا الصدد عن «إمبراطورية شيوعية» نستخدم الكلمة بمعنًى مجازي، على حين أن الرأسمالية كانت لها إمبراطوريات بالمعنى الحقيقي والدموي، وهي إمبراطوريات لم تَكتفِ بإخضاع شعوب العالم الثالث لهيمنتها، وإنما امتصت دماءها طوال قرون عديدة، وقتلت من أبنائها عشرات الملايين، وخاصة في المناطق المجهولة والمنسية كإفريقيا السوداء، وأوقفت نموها، وزرعت التخلف والاعتماد على الغير في مجتمعات كانت لها، قبل العهد الاستعماري، حياة كريمة مكتفية بذاتها إلى حد بعيد.
هذه بديهيات معروفة، ولكن المرء يجد نفسه مضطرًّا إلى التذكير بها في مرحلة التزييف الفكري التي نعيشها في أيامنا هذه، وفي زمن خروج الجرذان من الجحور بعد بيات شتوي طويل، فهل يكون من حقنا، ونحن نستنكر الاستبداد الذي كانت تمارسه الأنظمة الشيوعية الحاكمة على شعوب رومانيا أو بولندا أو المجر، أن نصل إلى حدٍّ ننسى معه فظائع الاستعمار، الذي هو الابن الشرعي للرأسمالية، في الكونغو وكينيا وأنجولا وبقية القارة الإفريقية ومعظم بلاد آسيا؟ هل من حقنا أن ننسى وجود إمبراطورية أميركية بكل معاني الكلمة، حتى عهد قريب، في أميركا اللاتينية؟ هل من حقنا أن ننسى أن الرأسمالية لا تزال حتى هذه اللحظة تمارس أساليب الاستعمار التقليدي في غزو الجيوش الجبارة لبلاد صغيرة مغلوبة على أمرها مثل جرينادا وبنما حيث يتداخل القهر الاستعماري مع الاستغلال الاقتصادي مع استخدام عصابات المرتزقة مع فرض أبشع أنواع الدكتاتورية العسكرية؟ الحق أن المرء يحار في تفسير الاهتمام المفرط بالمصير الذي حل بأوروبا الشرقية على أيدي الشيوعيين، والتجاهل التام لمصير بلاد العالم الثالث على أيدي الرأسمالية.
أيكون ذلك راجعًا إلى أن الأوروبيين شعوب راقية، لا يصح أن تُهان أو تُظلَم، على حين أن الإفريقيين والآسيويين والأميركيين اللاتينيين ملونون أو مختلطون، لا تجوز عليهم الرحمة، ولا تنطبق عليهم مواثيق حقوق الإنسان؟
إن للمرء كل الحق في أن ينتقد بشدة الأوضاع الجائرة التي فرضتها الأحزاب الشيوعية على أوروبا الشرقية، غير أن الخطورة الحقيقة تكمن في القفز من هذا الانتقاد إلى الثناء العاطر على الرأسمالية، فهذه نقلة غير جائزة، وخاصةً بين شعوب العالم الثالث التي اكتوت، وما تزال، بنار الاستعمار وتسلُّط رأس المال.
وحقيقة الأمر أن الرأسمالية تظل ظالمة وغير إنسانية، بغض النظر تمامًا عما يحدث في الكتلة الشرقية.
لا مفر في وقت تغيم فيه الرؤية وتغيب الحقائق الواضحة، من أن نواصل التذكير بالبديهيات، فالأنظمة الشيوعية قد أخفقت في أن توفر لمجتمعاتها مستوًى جيدًا من الغذاء … هذا خطأ فادح بلا شك، ولكن أيهما أكثر شرًّا: ذلك النظام الذي يصل الخلل والإهمال فيه إلى حد العجز عن الوفاء باحتياجات أساسية للبشر، أم ذلك النظام القادر على أن ينتج ما يفيض عنه، ولكنه يحرق الحليب والزبد، ويلقي بفوائض المواد الغذائية إلى البحر حتى لا تنخفض أسعارها؟ إننا لا نشير هنا إلى ما كان يحدث أميركا أيام الكساد العظيم في أواخر العشرينيات فحسب، بل إلى ما حدث في أواخر الثمانينيات وفي قلب السوق الأوروبية المشتركة، وفي الوقت ذاته الذي كان مئات الألوف فيه يموتون جوعًا في القارة الإفريقية. ومع ذلك فإن هذا العيب في حالة النظام الرأسمالي، ليس ناجمًا عن سوء إدارة أو أي خلل طارئ، وإنما هو جزء من طبيعة النظام وآلياته وبنيته الأساسية.
هل نواصل التذكير ببديهيات أخرى، فنقول إن الحريات، التي كانت مكمن الضعف في أسلوب الحكم السائد في المنظومة الاشتراكية كلها، ليست مكفولة في قلاع الرأسمالية إلى الحد يتصوره ذوو النوايا الحسنة، وأن هناك ضروبًا من الازدواجية تشوه الصورة التي تبدو للسذج ناصعة البياض كازدواجية الرفاهية التامة في جانب والبطالة واسعة النطاق في جانب آخر، وازدواجية السيطرة التامة للأقوياء وعدم الأمان للضعفاء، وازدواجية منح الحريات في الداخل وسلب الحريات من الدول الواقعة تحت السيطرة في الخارج (تايلاند، الفلبين، إلخ) … وازدواجية الأبيض والملون، والمساواة النظرية في الفرص من ناحية، وانعدام وجود تكافؤ حقيقي للفرص من ناحية أخرى؟
ولو أصر المهللون للرأسمالية على إلغاء ذاكرتهم، ونسيان التاريخ، والتغافل عن الكوارث التي أنزلتها الرأسمالية بالعالم الثالث عامةً، والمصائب التي جرتها «بركات» الرأسمالية على العالم العربي بوجه خاص، لتولت قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، بدلًا منا، مهمة تنشيط ذاكرتهم وإيقاظ وعيهم، فقد جاء الغزو الأميركي لبنما تنبيهًا للغافلين. وبقدر ما تعي ذاكرتي من أحداث سياسية على مدى العقود الأخيرة، فإني لم أصادف في حياتي تصرفًا أغبى من هذا الغزو، ففي الوقت الذي كانت فيه أحداث أوروبا الشرقية تصل إلى درجة الغليان، وفي الذي بدا فيه للكثيرين أن اكتشاف عيوب فادحة في ممارسات الأنظمة الاشتراكية، وسقوط أقوى رموز هذه الأنظمة، يعني أن الرأسمالية هي البراءة والطهارة، وهي المال والمصير، في هذا الوقت بالذات، تأبى الولايات المتحدة إلا أن تذكر الغافلين بأن الديمقراطية التي تسهر الرأسمالية على حراستها لها أيضًا أنياب ومخالب (مع الاعتذار لروح الزعيم العربي الذي ابتكر هذا التعبير البليغ)، وتتطوع بتقديم خدمة كبرى للأيديولوجية المضادة التي كانت في هذه اللحظة بالذات تمر بأسوأ مراحل أزمتها، وتتكفل مشكورة — بتكذيب الأصوات التي انتهزت فرصة الأزمة لكي تهتف: الرأسمالية هي النظام الطبيعي للإنسان! فهل كان من المحتم غزو بنما لإسقاط نورييجا في هذا الوقت بالذات؟ وهل يساوي نورييجا الثمن الفادح الذي دفعته أميركا من سمعتها، والمكسب الذي هبط على جورباتشوف من السماء في أحرج أوقات أزمته؟ غباء منقطع النظير، دون شك، ولكنه أفادنا فائدة لا تُقدَّر؛ لأنه أعاد إلى العقول الغافلة اتزانها، ونبهها إلى حقيقة بسيطة عظيمة الأهمية، هي أن خطايا أحد المعسكرين العالميين لا تعني أن المعسكر الآخر هو الفضيلة المجسمة، وهو الملجأ الأول والملاذ الأخير.
والحق أن كبريات الدول الرأسمالية في عالم اليوم لا تشارك هؤلاء «المعجبين» تفاؤلهم، فهناك نوع من القلق الخفي يستشفه المرء من ثنايا تصريحات المسئولين في هذه الدول، وإن لم يكونوا يكشفون عنه بوضوح، حرصًا منهم على أن يتركوا أحداث أوروبا الشرقية تتفاعل إلى أقصى مداها، ففرنسا تخشى من عودة الوحدة إلى ألمانيا، ذلك الجار العملاق الذي أذاقها ويلات أربع حروب كبرى خلال القرنين الأخيرين، وأوروبا الغربية ككل ترى الحل في مزيد من التوحد من أجل امتصاص خطر العملاق الألماني، ولكن إنجلترا لا ترتاح إلى وحدة «القارة»، وأميركا تشعر بأن أوروبا الموحدة ستكون قوًى منافسة لها، وليست بالضرورة متحالفة معها، لا سيما وأن التحالف العسكري قد فقد مبرر وجوده حين لم يعُدْ هناك خصم عدواني يقوم الحلف من أجل مواجهته. وهكذا فإن المعسكر الرأسمالي يشعر في داخلة بأنه هو ذاته مقبل على تغيرات لا يُستهان بها، قد لا تتخذ طابع العنف كتلك التي حدثت في أوروبا الشرقية، ولكنها ستكون قطعًا عميقة الجذور.
فالرأسمالية بدورها لا بُدَّ أن تغير مسارها تغييرات حادة حتى تتمكن من مواجهة الأوضاع الجديدة في عالم منزوع السلاح. وإذا كنتُ قد تحدثتُ من قبلُ باستفاضة عن نزع السلاح المادي، وتأثيره الهائل، الذي بدأ يظهر منذ الآن في صورة شركات ضخمة للأسلحة تغلق أبوابها أو تسرح عمالها، فلنتذكر جميعًا أهمية نزع السلاح المعنوي. إن على الرأسمالية أن تعيد تكييف أوضاعها بحيث تلائم عصرًا لن تعود فيه قادرة على انتقاد الاشتراكية بحجة أنها عدوانية تكبت الحريات وتلغي فردية الإنسان، مع أن هذا الانتقاد هو الزاد المعنوي الذي عاشت عليه الرأسمالية طويلًا، وكسبت بفضله عددًا لا يُحصى من الأصدقاء. ولكن ماذا سيكون حالها حين تفقد هذا السلاح بدوره، وحين تبدأ الأيديولوجية الخصم في سلوك ذلك الطريق الشاق والطويل الذي يؤدي إلى الجمع بين الاشتراكية والإنسانية في مركب واحد؟
لا شك في أن لون الحياة أمام الرأسمالية لن يكون، كما يتصور الكثيرون، ورديًّا؛ فهي بدورها مؤهلة لتغييرات حاسمة في هياكلها الأساسية، ولكن هذا يتوقف بالطبع على مدى نجاح الأيديولوجية المضادة في الجمع بين الاشتراكية والنزعة الإنسانية، وهو موضوع بحثنا القادم.