صورة المستقبل
العالم كله يتحدث اليوم عن مفاجآت غير متوقعة، ويرسم لعقد التسعينيات صورة تختلف جذريًّا عن جميع العقود السابقة، بل يذهب البعض إلى حد القول أن القرن الحادي والعشرين بدأ بالفعل منذ ١٩٨٩م، مثلما بدأ القرن التاسع عشر مبكرًا منذ الثورة الفرنسية في ١٩٨٩م، وبدأ القرن العشرون متأخرًا منذ الحرب العالمية الأولى سنة ١٩١٤م. وهي فكرة معقولة إذا أخذنا في اعتبارنا أن نقاط التحول الحاسمة في التاريخ البشري لا يتعين أن تتفق مع السنوات التي تبدأ أرقامها بأصفار. ومع اعترافنا بأن المستقبل يحمل في طياته مفاجآت كبيرة، وبأن التحولات الهائلة في الشهور القلائل الأخيرة تمثل بذرة خصبة لتغيير وجه العالم بأسره في المستقبل غير البعيد، فلا بُدَّ من الاعتراف أيضًا بأن عناصر التغيير وعوامله الأساسية كانت موجودة من قبل، وإن كان العالم قد تأخر كثيرًا في إدراك ما تنطوي عليه هذه العناصر من دلالات.
لقد كان التصعيد العالمي للسلاح، وبلوغ التهديد النووي والصاروخي أقصى مداه، هو ذاته نقطة تحول كبرى نحو إدراك عقم الشكل السائد في العلاقات الدولية، كانت صورة الموت الذي يمكن أن يلقي بظله الأسود على العالم كله في لحظة واحدة، هي ذاتها الدافع الأكبر إلى التشبث بالحياة، وكانت الخطوة المنطقية، بعد أن أدرك كلٌّ من الجانبين أنه يستطيع أن يُفنيَ الآخر ويفني العالم معه في ثوانٍ معدودات، هي أن يفكرا معًا في أسلوب آخر للتعامل بينهما، يحل فيه التفاهم والوفاق محل المواجهة المخيفة.
ولكن أحد الطرفين كانت له مصلحة مباشرة في استمرار هذه المواجهة، والطرف الآخر كانت له مصلحة مباشرة في الانتقال إلى حالة التفاهم. وهكذا جاءت المبادرة من جورباتشوف، وكان أعجب ما في الأمر أنه فرض هذه المبادرة على ريجان في السنتين الأخيرتين من حكمه، وأرغم هذا الصقر المتصلب على التفاهم مع من كان يسميهم «إمبراطورية الشر»، لتبدأ بذلك المرحلة الأولى في التنفيذ العملي لسياسة الوفاق والتعايش والتفاهم الإيجابي.
لقد كان واضحًا، قبل جورباتشوف بمدة طويلة أن الرأسمالية باقية، بل إن جوانب كثيرة منها تزداد قوة، وكان واضحًا أن الهدف الذي تبنته ممارسات الحركة الاشتراكية بعد ثورة ١٩١٧م مباشرةً، وهو استئصال الرأسمالية بالتدريج، وإحلال النظام الاشتراكي محلها، قد أصبح هدفًا مستحيل التحقيق، وذلك في المستقبل المنظور على الأقل، ولكن الرؤساء المتعاقبين للاتحاد السوفياتي، على الرغم من إدراكهم هذه الحقيقة، لم يكونوا على استعداد لبناء سياستهم الرسمية على أساس الاعتراف بها، وكان الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة من أجل إعادة رسم السياسة العامة على نحو يتلاءم مع هذا الأمر الواقع، وهذا هو الدور الذي اضطلع به جورباتشوف، بل إنه لم يكتفِ بذلك، وإنما أدرك أن المعسكر الاشتراكي هو المهدد بالخطر لو استمر على جموده، ولو استمرت الفجوة بين الشعارات والممارسات الفعلية على هذا القدر من الاتساع، ولو ظل حاجز عدم الثقة، والسخط المكتوم، يحول دون تحقيق أي تجاوب بين شعوب البلاد الاشتراكية وأنظمتها. ومن هنا جاء انقلابه الكبير على جميع السياسات السابقة.
إن الكثيرين يتصورون أن جورباتشوف يهدف إلى تطعيم الاشتراكية بمبادئ مستمدة من ليبرالية الغرب الرأسمالي، كمبدأ حرية التعبير وحرية الانتخاب وديمقراطية التمثيل النيابي، إلخ … ولكني أعتقد أنه أدرك حقيقة أساسية لم يدركها أسلافه، وهي أن هذه المبادئ ليست بالضرورة جزءًا من النظام الفكري للغرب نفسه، وليست بالضرورة متعارضة مع الاشتراكية، كما تصور الكثيرون، وإنما هي جزء من التراث الإنساني بأعم معانيه. ولقد كان الاشتراكيون المتزمتون مخطئين حين هاجموا الديمقراطية السياسية باعتبارها نتاجًا غريبًا بحتًا، ونظروا إليها على أنها جزء لا يتجزأ من آليات النظام الرأسمالية؛ ذلك لأن هذه الديمقراطية إذا كانت قد عبرت عن نفسها تعبيرًا واضحًا مع مطلع العصر الرأسمالي، فلا ينبغي أن تظل هذه النشأة مرتبطة بها إلى الأبد، فحق الإنسان في التعبير عن نفسه بحرية، وحقه في أن يختار ممثلين عنه يتولَّوْن الحكم أو يحاسبون الحكام ويشرعون القوانين. هذه الحقوق تعد مكتسبات عظيمة للإنسانية كلها، حتى لو كان أصلها القريب راجعًا إلى الغرب الرأسمالي. ومن المؤكد أن جميع التبريرات التي قدمتها الأحزاب الشيوعية الحاكمة طوال العقود السبعة الماضية، من أجل عدم تطبيق هذا النوع الرفيع من الديمقراطية السياسية، كانت تبريرات زائفة، تستهدف تثبيت شكل من أشكال الدكتاتورية، سواء أكانت تلك دكتاتورية حزب واحد، أو فرد يعتقد أنه يجسد الحزب والدولة كلها في شخصه، مثل ستالين أو تشاوشيسكو أو كيم أيل سونغ.
ولكن، هل تستطيع الاشتراكية أن تظل صامدة لو أصبحت ديمقراطية مستندة إلى اختيار شعبي حر؟ لو كانت التجربة قد اتجهت منذ البداية نحو تحقيق هذا الهدف، وتمكنت من بلوغه، ولو جزئيًّا، وعلى مراحل، وبعد مواجهة كل ما يمكن أن يعترضها من صعوبات ونكسات، لكان الرد على هذا السؤال ردًّا إيجابيًّا بلا تردد، ولكن انتقال الشعوب إلى اشتراكية غير ديمقراطية بعد أن جربت طويلًا اشتراكية غير ديمقراطية، هو الذي يثير إشكالات ويعقد الموقف تعقيدًا هائلًا؛ ذلك لأن ثقل الماضي وأخطاءه الفادحة يشكل عاملًا هامًّا ينبغي أن يُحسَب له ألف حساب، فالمسألة ليست مجرد اختيار مطروح أمام هذه الشعوب، وإنما هي مدى قدرتها على تصديق التحول الجديد، بعد كل إحباطات التجربة القديمة. ومن المتوقع، إنسانيًّا، أن تكون هناك ميول قوية إلى تصفية الحسابات السابقة، وإلى القطيعة التامة مع الماضي، وأن يكون هناك اعتقاد راسخ لدى فئات واسعة من الجماهير بأن الاشتراكية غير قابلة للإصلاح، أو بأن الجديد لن يكون جديدًا بالمعنى الصحيح، وبأن الوعود المستقبلية لن تتحقق ما دام الذين يقدمونها ممن لا تربطهم أية صلة بالعهود الماضية.
وعند هذا الموضع نستطيع أن ندرك بوضوح أكبر، أبعاد المقامرة التاريخية الكبرى التي يخوضها جورباتشوف، فهو يقامر أساسًا على الطبيعة البشرية، وعلى الزمن، وكل من هذين العاملين يمكن أن يساعده ويرفعه إلى عنان السماء، ويمكن أن ينقضَّ عليه ويخنق تجربته ويحولها إلى مأساة مفجعة.
لنبدأ بالحديث عن مقامرته على الطبيعة البشرية، إن جورباتشوف لا يكف عن القول إن أهم عنصر في البيرسترويكا، هو إعادة بناء الإنسان قبل أن يكون إعادة بناء الاقتصاد أو النظام السياسي. ومن الصعب في عالمنا العربي أن يأخذ تعبير «إعادة بناء الإنسان» مأخذ الجد، بعد أن بذلته لغتنا السياسية المعاصرة إلى حد لم يعُدْ معه سوى تعبير إنشائي أجوف لا يشير إلى أي مضمون حقيقي، ولا يغير من الواقع شيئًا. ولكن جورباتشوف يعني بالفعل بناء إنسان جديد يفهم معنى الحرية ويحرص عليها، إنسان غير نمطي وغير مقولب، يستعيد ذاته التي كان نسيانها في سبيل مصلحة «الكل»، هو فضيلة الفضائل في ظل الأوضاع السابقة، فالاعتقاد بأن البعد الاجتماعي يستنفد الإنسان بأكمله هو اعتقاد غير صحي، ولكن الاعتقاد المضاد بأن على فرد أن يحقق مشروعه الخاص إلى أقصى مدًى ممكن، بغض النظر عن تأثير ذلك في الآخرين — وهو جوهر الحلم الرأسمالي الأميركي — هو اعتقاد غير إنساني؛ وعلى ذلك فإن عملية إعادة البناء التي تستهدفها البيرسترويكا هي في صميمها استفادة للتوازن بين الدوافع الفردية والدوافع الجماعية في الإنسان.
ويبدو أن جزءًا أساسيًّا من رهان جورباتشوف يرتكز على اعتقاد صحيح من الوجهة النظرية، وهو أن الإنسان الذي عاش في ظل الاشتراكية متمتعًا بالأمان والضمان الذي يكفله له المجتمع، وإن كان مفتقرًا إلى الحرية والقدرة على المشاركة سياسيًّا واجتماعيًّا، سيشعر بأن أقصى أمانيه قد تحققت لو أضيف عنصر الحرية والديمقراطية إلى عنصر الأمان والضمان، ولكن هذا الرهان يغفل، من الوجهة العملية، شيئين يمكن أن تكون لهما عواقب خطيرة: أولهما الرغبة المتعطشة في تصفية الحسابات مع الماضي، التي قد تصل إلى حد الاعتقاد بأن الاشتراكية، مهما اتخذت من أشكال، غير قابلة للإصلاح؛ فهي أشبه بمجرم يستحيل أن تُقبل توبته؛ لأن سوابقه أكثر وأفدح من أن تسمح بالثقة فيه. وهكذا فإن القهر الذي مرت به الشعوب الاشتراكية يمكن أن يجعل رؤيتها متجهة إلى الانتقام من الماضي أكثر مما هي متجهة إلى بناء المستقبل.
ومن ناحية أخرى فإن رهان جورباتشوف على الطبيعة البشرية يغفل الجانب المادي فيها إلى حد بعيد، فالرهان ينصب على الإيمان بأن الشعب الذي مر بتجربة الاشتراكية ولكنه عانى خلالها من القهر، سيستعيد ثقته بهذه التجربة بمجرد أن يزول عنه القهر، ولن يقبل العيش في ظل الرأسمالية مهما قدمت له من إغراءات غير أن هذا الرهان ربما كان ينطوي على نظرة مثالية أكثر مما ينبغي إلى طبيعة الإنسان؛ ذلك لأن الغرب الرأسمالي يراهن على الجانب المضاد، أعني الجانب المادي، ويركز على «الحرمان» الذي تعانيه الشعوب الاشتراكية من المأكولات والملابس والأجهزة الحديثة، إلخ … ولما كان من الصعب، في المدى المنظور، أن توافر إصلاحات جورباتشوف مثل هذه السلع المادية للناس، فمن الممكن أن يؤدي ذلك إلى خسارته للرهان وإلى تراكض هذه الشعوب وراء «الرخاء» الرأسمالي.
وهذه مسألة لا يصح أن يستخف بها من يسعى إلى تكوين رؤية مستقبلية لما ستؤدي إليه بيرسترويكا جورباتشوف؛ ذلك لأن الإغراءات المادية أمر لا يمكن الاستهانة به في سلوك الجماعات البشرية، ولقد رأيت بنفسي مدى تعطش شبان وفتيات بأعداد كبيرة في الاتحاد السوفياتي وبلاد اشتراكية أخرى إلى أشياء تبدو في نظرنا تافهة، كالملابس «الجينز» والساعات الرقمية والمسجلات اليابانية، إلخ … ورأيت بنفسي كيف أن قطعة اللبان الأميركي أو سيجارة أميركية يمكن أن تكون موضوعًا للهفة الإنسان في هذه البلاد، وعجبت وقتها كيف لم يتمكن التعليم والتنشئة الاجتماعية من إقناع الناس بأن من الممكن الاستغناء عن الأشياء الصغيرة في سبيل الاهداف الكبيرة، وما زلت أذكر كيف أن معظم الضباط العرب الذين كانوا يتلقون دورات تدريبية في الاتحاد السوفياتي، كانوا يعودون غير متعاطفين مع التجربة السوفياتية، فإذا سئلوا عن السبب كانت إجابة الغالبية الساحقة منهم تتعلق بأمور مادية، كالسيارة أو الملابس أو أماكن اللهو والترفيه، وندر أن تجد منهم من يحدثك عن انعدام حرية الفكر أو تسلط الحزب الواحد أو غير ذلك من الجوانب المعنوية.
ويمكن القول إن هذا الرهان على الجانب المعنوي أو الجانب المادي من الطبيعة البشرية يشكل ساحة حقيقية لمعركة تدور حاليًّا في الخفاء بين المعسكرين الكبيرين. ومن الغريب حقًّا أن الجانب الذي توصف أيديولوجيته بأنها مادية، هو الذي يراهن على معنويات الإنسان، على حين أن الجانب الرأسمالي «حامي حمى الروح» و«نصير الأديان» إلخ، هو الذي تركز دعايته على ما تعانيه شعوب المعسكر الاشتراكي من نقص في الفواكه واللحوم، وعلى طوابير الخبز، وما إلى ذلك من مظاهر الحرمان المادي التي يستحيل على أي مصلح أن يوفرها لشعبه ما بين يوم وليلة، إذا كان قد أتى إلى الحكم بعد مرحلة طويلة من التخبط وسوء الإدارة.
ولننتقل إلى الحديث عن العامل الآخر في مقامرة جورباتشوف الكبرى، وأعني به مقامرته على الزمن، فكل ما يراهن عليه جورباتشوف يحتاج إلى وقت، ولو تصورنا أن الإصلاح الاقتصادي، مثلًا، يمكن أن تظهر ثماره في المدى القريب لكنا متفائلين إلى حد السذاجة؛ ذلك لأن الوفر في نفقات التسلح لن يتم إلا بعد وقت، وانعكاس هذا الوفر إيجابيًّا على الاقتصاد يحتاج إلى وقت آخر، وإزالة آثار البيروقراطية والجمود وسوء الإدارة وفساد الذمم تستغرق وقتًا لا يستهان به؛ ولذا فإن أولئك الذين يكررون ليل نهار أنهم لم يلمسوا في الاتحاد السوفياتي تحسنًا في الأوضاع الاقتصادية خلال عهد جورباتشوف، لا يستهدفون من ذلك إلا خداع العالم؛ لأنهم يعلمون جيدًا أن ثمار اتجاهاته الجديدة يستحيل أن تُقطَف الآن، ويعلمون أنه ما زال في مرحلة خوض المعارك الضارية التي سيصبح في إمكانه، لو كسبها، أن يضع الأسس لبناء اقتصاد أفضل.
ومن جهة أخرى فإن الإصلاح السياسي، وإرساء دعائم الديمقراطية الحقيقية داخل إطار من الاشتراكية، هو تجربة غير مسبوقة، تحتاج إلى إبداع وابتكار لا نظير لهما، وحين ننظر إلى أرض الواقع سنجد أن تقبل الجماهير، في البلاد الاشتراكية، لهذا النوع من الإصلاح، يحتاج إلى وقت، ولا بُدَّ هنا من التمييز، كما قلنا من قبل، بين رد الفعل في المدى القصير ورد الفعل في المدى الطويل؛ ذلك لأن رد الفعل المباشر كان سلبيًّا إلى حد بعيد، وهذا أمر يستطيع أن يتوقعه أي مبتدئ في التفكير السياسي، فالجماهير المكبوتة لا بُدَّ أن تنفجر إذا ما تحررت من القوة التي كنت تكبتها. وقد أخذ جورباتشوف على عاتقه عملية التحرير هذه حين أمر القوات السوفياتية بعدم التدخل، وفتح بذلك الباب أمام ثورة الجماهير في أوروبا الشرقية.
ومن المتوقع تمامًا في المرحلة الأولى أن تكون ردود الفعل عنيفة، وأن تعمل الجماهير على محو كل ما يذكرها بالعهد السابق، ومن هنا كان تغيير اسم الحزب الشيوعي في بعض هذه البلدان، وإلغاء النص الخاص بانفراده بالسلطة في البعض الآخر، وظهور محاولات لحظر قيام أي حزب شيوعي في المستقبل. وهذا هو رد الفعل المتوقع، في مثل هذه الظروف، خلال المدى القريب، ولكن الأمور لا بُدَّ أن تتغير في المدى الأبعد، ولا بُدَّ أن يعود الاتزان إلى عقول الناس، بعد أن ينفسوا عن غضبهم ويصفُّوا حساباتهم، فيبدءون في البحث عن مصالحهم الحقيقية. ولا شك في أن تجربة إزالة جدار برلين كانت لها دلالة خاصة في هذا الصدد، ففي البدء تدفق اللاجئون بعشرات الألوف، وفي نيتهم أن يرحلوا بلا عودة، ولكنهم بعد أن اطمأنوا إلى أن الأوضاع الجديدة ستستمر، وأن وطنهم وبيتهم لن يكون بعد ذلك مكانًا للقمع وخنق الحريات ووشايات الأجهزة الأمنية، عاد معظمهم إلى بلدهم، وبدءوا يشاركون في البناء الجديد.
إن الأوضاع التي تجتاح أوروبا الشرقية الآن لن تدوم، ولا بُدَّ أن يكون المستقبل شيئًا مختلفًا عن هذا الوضع المؤقت، وعن الوضع المهيمن السابق عليه، وليس في وسع أحد أن يتصور أن بلدًا مثل رومانيا ستعيش في ظل هذا التخبط الذي جعل رئيس الدولة ينقاد لمظاهرة غاضبة محدودة العدد، فيلغي الحزب الشيوعي، ثم يعود بعد يومين فيلغي الإلغاء ويقرر الاستفتاء، ثم يعود بعد يومين آخرين فيلغي الاستفتاء. هذا أسلوب غوغائي في الحكم، يستحيل أن يدوم طويلًا، ولا بُدَّ أن يبدأ الشعب نفسه في البحث عن مصالحه الحقيقة بعد أن تنتهي فترة تصفية الحسابات الماضية، ولكن هذه الفترة ستتفاوت من بلد إلى آخر، ومن المتوقع أن تطول فترة الغضب تبعًا لمدى إرهابية النظام الذي كان سائدًا في كل بلد على حدة، وتبعًا لفداحة الثمن الذي دفعه هذا البلد في الثورة على الأوضاع القديمة.
على أن من المهم إلى أبعد حد أن نشير، في صدد الكلام عن عامل الزمن هذا، إلى الرهان المضاد الذي يقوم به أولئك الذين لا يريدون للتجربة الجديدة أن تنجح؛ ذلك لأن الوقت لو اتسع لكي تنجح تجربة الجمع بين الاشتراكية والديمقراطية في إطار واحد، لكانت تلك التجربة خطرًا ماحقًا يمكن أن ينسف دعائم النظام الرأسمالي، في المدى الطويل، بهدوء تام، وبلا سلاح أو حرب. وفي تصوري أن الجمع بين الأمان والضمان الذي تحققه الاشتراكية، والحرية التي تحققها الديمقراطية، حتى لو اقترن بمستوًى مادي متوسط، ستكون له قوة جذب هائلة يمكن أن تؤدي مع الوقت إلى غزو قلاع الرأسمالية في أوروبا على الأقل، هذا فضلًا عن تدعيم الاشتراكية في نفس البلاد التي تبدي أشد السخط عليها في الآونة الحالية. ولا شك أن القوى المضادة لهذه التجربة تعي هذه الحقيقة جيدًا؛ ولذا نراها تسعى الآن بكل ما ملكَتْه من قوة لكي تزعزع أسس هذه التجربة وهي لا تزال في مهدها، فأعداء هذه التجربة يدركون أنهم، إن لم يضربوا محاولة إقامة اشتراكية ديمقراطية في اللحظة الراهنة، وهي لا تزال في موقف الضعف، فسيكون من الصعب عليهم المساس بها في أي وقت من المستقبل، بل سيكون من الصعب إيقاف مدها حتى في معاقلهم الخاصة. ومن هنا كان الرهان المضاد هو: اهدم هذه التجربة الآن، قبل أن تصبح نموذجًا مغريًا للجميع! ومن أجل ذلك، كان من حق المرء أن يستنتج أن جورباتشوف لو صمد بتجربته هذه سنة أو سنتين أخريين، دون أن يحدث شيء يهدمها من أساسها، فلن تستطيع أية قوة أن تمس تجربته الجديدة التي ستكتسب عندئذ قوة جذب لا تُقاوَم.
ولنلخص ما توصلنا إليه حتى الآن من نتائج بشأن تلك المقامرة التاريخية الكبرى التي يقوم بها جورباتشوف، فنقول إنه يراهن على تغلب الجانب المعنوي في الطبيعة البشرية، وعلى الصمود سنوات قلائل حتى تُتاح لتجربته فرصة الكشف عن إمكاناتها، على حين أن خصومه يراهنون على غلبة الجانب المادي في الطبيعة البشرية، وعلى تكديس المشاكل أمام التجربة الجديدة من أجل هدمها في أقرب وقت ممكن، أو على الأقل من أجل الحيلولة بينها وبين تحقيق ذلك النجاح الذي سيكون مؤكدًا لو أتيحت لها الفرصة الكافية. ولا شك أننا نقرأ كثيرًا في هذه الأيام عن رغبة العالم الغربي في مساعدة جورباتشوف، ومساندته لإصلاحاته؛ مما يولد لدى القارئ انطباعًا بأن «الرهان المضاد» الذي أتحدث عنه ها هنا ما هو إلا تعبير عن مخاوف ليس لها من أساس، ولكن هذه المساعدة والمساندة هي الوجه الظاهر لموقف الغرب، الذي تتقرر سياسته على مستويات متعددة، منها ما هو واضح مكشوف ومنها ما هو خفي مستتر. ومن المؤكد أن الغرب مضطر إلى تأييد جورباتشوف بعد تلك الشعبية الساحقة التي نالها بين الشعوب الغربية ذاتها، والتي يقول البعض إنها فاقت شعبيته حتى لدى شعبه هو. ولم تكن تلك الشعبية مجرد رد فعل عاطفي، وإنما كانت راجعة في المحل الأول إلى الرغبة المتأصلة في السلام، والخوف العميق من حالة الصراع المسلح التي تهدد العالم بالانفجار في أي لحظة، والوعي المتزايد بالأخطار التي تتعرض لها البيئة على مستوى كوكبنا بأكمله، وهذه عوامل ينبغي أن تعمل لها أية حكومة في الغرب ألف حساب.
ولكن لا بُدَّ أن يكون هناك، على المستويات غير المعلنة، خوف شديد من أن تنجح تلك التجربة التي يمكن أن تحقق حلمًا عجزت البشرية حتى الآن عن تحقيقه، وهو الجمع بين العدل الاجتماعي والحرية الإنسانية في إطار واحد، ومن هنا فإني أومن بأن الرهان المضاد حقيقة واقعة.
إن الجميع يتحدثون الآن عن عصر جديد ستؤدي سياسة جورباتشوف إلى دخول البشرية فيه عصرًا تتوقف فيه الصراعات الداخلية بين الأيديولوجيات، لتحل محلها صراعات ضد القوى المعادية للإنسان أينما كان. هذا العصر، كما يقول معظم الكتاب، هو عصر تراجع الأيديولوجيا؛ أعني أنه العصر الذي لن يكون للصراع بين الاشتراكية والرأسمالية فيه تلك الأهمية التي كانت له منذ بداية القرن العشرين على الأقل، وإنما سينصب الاهتمام كله على ما هو أهم: مشكلات البيئة التي يظهر لنا في كل يوم بمزيد من الوضوح أنها لا تُحَل إلا على نطاق عالمي. ومشكلات السلام العالمي ونزع السلاح، وهي بدورها مشكلات تمس مصير الإنسان على هذا الكوكب، ولا يمكن أن يقتصر تأثيرها على هذا المعسكر أو ذاك. وأخيرًا مشكلات التكنولوجيا، التي يتيح التقدم فيها آفاقًا لم تكن تحلم بها البشرية من قبل، والتي تبشرنا منذ الآن بعهد ننعم فيه بوفرة في الإنتاج المادي ووفرة في المعلومات الذهنية على نحو كفيل بأن يجعل عصورنا الحالية تبدو عصورًا بدائية بحق.
هذه الاحتمالات الممكنة هي حديث الساعة في أيامنا هذه، وهي لم تعُدْ أحلامًا خيالية، بل إن تحقيقها بات في متناول أيدينا، وبوادرها أخذت تظهر أمام أعيننا من الآن. ومع ذلك فإنني أجد نفسي في موقع الاختلاف مع أولئك الذين يتصورون أن عصر التعاون من أجل حل المشكلات ذات الطابع الكوني سيحل حتمًا محل عصر الصراع بين الأيديولوجيات، ففي رأيي أن حلول هذا العصر، الذي هو بغير شك غاية يتمناها كل شخص يحترم إنسانيته، لن يتحقق إلا إذا نجح جورباتشوف في تثبيت دعائم تجربته الجديدة، فما زال أمامنا وقت قبل أن يكون في وسعنا التحدث عن بلوغ البشرية سن الرشد، وانتقالها من صراعات الإخوة الأعداء إلى التكاتف من أجل مواجهة المشكلات الكونية، ولو أخفقت تجربة جورباتشوف، لكانت نتائج النكسة بشعة، ولأصبحنا أبعد عن ذلك التعاون العالمي مما كنا في أي وقت مضى.
وأنا على ثقة من أن القارئ يتساءل الآن: حسنًا، ما هي احتمالات النجاح؟ هذا، في رأيي، هو السؤال الصعب حقيقة، فلكي تكون الإجابة ممكنة، ينبغي أن تكون المعطيات كلها أمامنا، وأن تكون معقولة قابلة للحساب. ولكن يكفينا مثال واحد لكي ندرك صعوبة الإجابة عن هذا السؤال: فالاضطرابات بين الأذربيجانيين والأرمن، مثلًا، تقوم على رواسب قديمة منها ما هو عرقي، وما هو طائفي، ولكن كلها رواسب لا عقلية يصعب حسابها؛ ومن ثم يصعب التنبؤ بها. ومثل هذه العوامل اللاعقلية يمكن أن تتدخل في أية لحظة وتشكل عقبة خطيرة في وجه التجربة الجديدة، وتثبت أن الطبيعة البشرية التي راهن عليها جورباتشوف ما زالت تنطوي على عناصر ظلامية سوداء يصعب إخضاعها للحساب العقلي.
إن جورباتشوف يبدو لي أحيانًا قريب الشبه بأبطال التراجيديات الإغريقية، وكثيرًا ما يبدو مهددًا بمأساة تحكيها قوى الشر التي لن تتنازل عن عالمها بسهولة. ولكنني أوثر الانحياز إلى جانب التفاؤل في معظم الحالات؛ ذلك لأنه إذا ظل صامدًا فسوف يكسب العالمُ الكثير، وإذا تهاوى فسوف تتهاوى معه آمالٌ عريضة نسجتها البشرية كلها حول عصر جديد تبلغ فيه الإنسانية، لأول مرة، سن الرشد.