وأين العرب من هذا كله؟
إن الحقيقة الأساسية التي تُوصِلنا إليها التحليلات السابقة هي أن تجربة جورباتشوف، لو أُعطيت الفرصةَ كيما تحقق إمكاناتها، لا بُدَّ أن تؤدي إلى كسر حدة الصراع بين المعسكرين، وزوال الهوس العسكري العالمي وقيام كل طرف من أطراف الاستقطاب الدولي بتنازلات أساسية، وحدوث تغييرات حاسمة على خريطة العالم، لا تقتصر على المعسكر الاشتراكي، كما هو حادث الآن، بل يمتد تأثيرها بعمق في قلب المعسكر الرأسمالي في المدى البعيد. صحيح أن النظامين سيحتفظان بقدر غير قليل من اختلاف فيما بينهما، ولكن الذي سيزول هو ذلك الهدف الذي ظل كل منهما يتخذه غاية قصوى لاستراتيجيته، وهو إزالة النظام الآخر والحلول محله، سواء بالقوة العسكرية أو بالضغط الاقتصادي أو بالتغلغل والتآمر وتأليب الشعوب، فلن تعود هناك علاقة «إما قاتل أو مقتول» بين الرأسمالية والاشتراكية، ولن يكون هناك إصرار على أن يسود العالمَ نظامٌ واحد هو الذي يتمكن من الانتصار في نهاية الأمر، بل سيسود المجتمع العالمي نوع من التعددية، مشابه لذلك الذي تحرص الدول الديمقراطية على وجوده داخل المجتمع الواحد.
ولا يقتصر معنى هذه التعددية على التعايش بين الأيديولوجيات المتبادلة، بل إنها تعني أيضًا تعددًا في مراكز القوى العالمية، فمنذ الآن يستطيع المعلقون السياسيون أن يلاحظوا إمكان ظهور مركز قوًى في أوروبا، التي يسعى جورباتشوف إلى الاندماج فيها دون حواجز، يقف نِدًّا أمام مركز القوى الأميركي، بينما يقابله في الشرق الأقصى مركز قوًى خطير تمثله اليابان ومعها الدول الصغيرة ذات الثقل الاقتصادي المتزايد، مثل كوريا وتايوان وسنغافورة، أما الصين فمن الممكن أن تصبح مركزًا قائمًا بذاته، بفضل وزنها السكاني الهائل، وذلك إذا نجحت في شق طريقها، ولو بقدر محدود، في عالم التقدم التكنولوجي. وكما يلاحظ القارئ، فإن مراكز القوى تقفز من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، وتمر على ما بينهما مرور الكرام، «وما بينهما» هذا يشمل، بالطبع، منطقتنا العربية، فأين نحن من هذا كله؟ وما تأثير هذه التحولات الهائلة علينا؟ إن موضوعًا كهذا، يمكن أن يُعالَج من زوايا متعددة، وسوف نختار هنا، عامِدِين، بعض الزوايا التي نراها أساسية في الموضوع، على أن يتذكر القارئ أن هذا الاختيار تمليه اعتبارات ضيق المكان والزمان، وأن للموضوع أبعادًا أخرى عظيمة الأهمية، لا بُدَّ أن يتصدى لها المفكرون العرب حتى يعينوا وطنهم على التأهب لمواجهة المتغيرات الهائلة التي سيأتي بها الغد القريب.
إن هناك انزعاجًا عامًّا من تراجع الاهتمامات الخارجية للكتلة الشرقية، وانكفائها إلى الداخل في محاولة لإصلاح ما أفسدته سياسات جامدة، أوقفت نمو هذا المعسكر طوال عشرات السنين. ويمتد هذا الانزعاج إلى سياسات التهدئة والوفاق، التي تسعى إلى تجنب أي احتكاك مع المعسكر الغربي، وتسارع إلى تحقيق التفاهم معه كلما حدثت أزمة في المناطق التي كان المعسكران يتنافسان فيها من قبل. ولقد كان لهذا التنافس فوائده الواضحة بالنسبة إلى العالم الثالث؛ إذ استطاع عدد من زعمائه أن يتقنوا لعبة الحصول على المكاسب من أحد المعسكرين من خلال تهديده بالتقارب مع المعسكر الآخر، بل إن مجرد وجود معسكر اشتراكي مناوئ للمعسكر الرأسمالي، الذي تنتمي إليه جميع الدول الاستعمارية السابقة، كان في حد ذاته مكسبًا كبيرًا للعالم الثالث؛ إذ إنه لولا وجود هذا المعسكر، ولولا اتخاذه موقف الترقب والمواجهة إزاء المعسكر الرأسمالي، لما كسب العالم الثالث معظم معاركه التحررية، وخاصةً في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ففي موقف المواجهة واستعداد كل من المعسكرين لإرسال صواريخه النووية من أجل تدمير المعسكر الآخر، استطاعت دول كثيرة في العالم الثالث أن تنتهز فرصة الشلل المتبادل بين العملاقين لكي تفوز بتحررها واستقلالها، فضلًا عن أن المعسكر الاشتراكي ساندها بقوة لكي يحرم المعسكر المنافس من الامتيازات التي كان يجنيها من بسط نفوذه فيها.
لقد شعر الكثيرون بالجزع من جراء انتهاء وضع المواجهة هذا، وحلول التفاهم والوفاق محله، وكان من العبث أن يعزيهم بعض المفكرين من ذوي النزعة الإنسانية العالمية بالقول إن مصالح الإنسانية ككل ينبغي تغليبها على مصالح أية دول أو مجموعة من الدول، وإن الوفاق والاتجاه إلى نزع السلاح مكسب للإنسانية كلها، ومن ثم ينبغي تغليبه على الخسائر التي قد تحدث لهذه المنطقة من العالم أو تلك؛ ذلك لأن منطق المصالح لا يمكن اختفاؤه من العالم بين عشية وضحاها. ومن جهة أخرى فإن أي وفاق يحدث بين الكبار لن يلغي الظلم والتفاوت والرغبة في تحقيق العدالة بين العالم الثالث.
وأبسط دليل على ذلك أنه، في نفس اليوم الذي كان فيه الملايين يسافرون من ألمانيا الشرقية، بعد هدم جدار برلين، وهو كما يبدو مكسب كبير للمعسكر الغربي، كان ثوار السلفادور يهاجمون قصر الرئاسة، ويتحركون كما يشاءون في العاصمة، ويمرغون سمعة النظام الحاكم — الذي يدافع عن مصالح المعسكر الغربي — في التراب، وكان ذلك تزامنًا رمزيًّا بالغ الدلالة.
وفي اعتقادي أن المنطقة العربية ستكون من أكثر المناطق تأثرًا بتلك التحولات الضخمة التي تطرأ على العلاقات بين المعسكرين الكبيرين، بل إن نتائج تلك التحولات، بالنسبة إلينا ستكون مصيرية؛ ومن هنا فإن الأمر يحتاج منا أولًا إلى فهم عميق لطبيعة الأحداث الحالية واحتمالاتها المستقبلية، وثانيًا إلى استعداد لمواجهة التغيرات الحاسمة المتوقعة في المستقبل القريب والبعيد، لا من منظور مصلحة الأنظمة الحاكمة، كما يفعل الكثيرون في هذه الأيام، بل من منظور المصالح الحقيقة للأمة العربية، وقدرتها على أن تجد لنفسها مكانًا وسط هذا العالم الدائم التجدد.
إن النغمة العامة السائدة بين المفكرين العرب إزاء هذه التطورات الأخيرة في الكتلة الشرقية، وما يمكن أن يترتب عليها من تغيرات في السياسة العالمية، هي نغمة التشاؤم. ولهذا الموقف ما يبرره دون شك، غير أنني أستطيع أن أجد عنصرًا إيجابيًّا واحدًا على الأقل يمس جانبًا هامًّا من جوانب السياسة العربية على الصعيد الداخلي، وأعني به انبثاق وعي عالمي حاد بأهمية الديمقراطية. وتأتي أهمية هذه المسألة من أن الفكر العربي كان يرتكب في هذا الموضوع خطأين أساسيين: أحدهما هو الاعتقاد بأن الديمقراطية فكرة غربية في الأساس، لا يصح أن نقتبسها في مجتمعاتنا إلا إذا أدخلنا عليها تعديلات أساسية، وربما كان الأفضل في نظر البعض الاستغناء عنها كلية. أما الخطأ الثاني فهو أن الديمقراطية تتعارض مع السعي إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وأن حاجتنا إلى العدالة هي الأساس، وأن المجتمع الذي لا يبدأ بتحقيق العدالة الاجتماعية ينتهي به الأمر إلى ديمقراطية زائفة. فلنتوقف قليلًا لتحليل هاتين الفكرتين.
إن في أدبياتنا السياسية العربية فكرة شائعة مفادها أن مفهوم الديمقراطية نتاج للحضارة الغربية لا يصلح إلا لهذه المجتمعات. ومن العجيب أن كثيرًا من فصائل اليسار الماركسي واليمين الإسلامي، تتفق على هذه الفكرة، وكل ما في الأمر أن اليساريين يضيفون في أغلب الأحيان صفة «الليبرالية» إلى كلمة الديمقراطية، ويربطون بينها وبين نشأة الفكر البورجوازي الأوروبي وظهور الرأسمالية في مطلع العصر الحديث، على حين أن الإسلاميين يؤكدون الأصل الغربي «اليوناني» للفظ الديمقراطية، ويرَوْن في هذه الفكرة نتاجًا للحضارة الغربية منذ عهد أبعد بكثير، لا صلة بينه وبين تراثنا الإسلامي. وكل هذه المقدمات صحيحة بلا شك، ولكن النتيجة المستخلَصة منها، وهي أن الديمقراطية لا تصلح إلا للمجتمعات الغربية، باطلة كل البطلان. وحسبي أن أذكر القارئ هنا بما قلته مرارًا في مواضع أخرى، وهو أن كل الأفكار العظيمة في العالم يكون لها في البدء أصل معين، وترتبط نشأتها ببيئة وظروف محددة، ثم تتجاوز هذا الأصل وتتعداه، وتصبح مكسبًا للإنسانية جمعاء. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الديمقراطية والحريات المرتبطة بها تمثل مطلبًا أساسيًّا لمجتمعات تمر بتجربة مضادة للرأسمالية الليبرالية الغربية، وأن زعيم الشيوعيين الحالي في الاتحاد السوفياتي لا يرى أي تعارض بين التمسك بالاشتراكية والمناداة بالحريات الديمقراطية، على عكس ما كانت تؤكده معظم فصائل اليسار في دول العالم الثالث … ولا بأس هنا من إشارة سريعة، قد تبدو خارجة عن الموضوع، إلى أحداث قريبة العهد، دحضت الادعاء الآخر القائل إن العالم الإسلامي لا تلائمه الديمقراطية «المستوردة من الغرب»؛ فقد أثبتت الانتخابات الباكستانية التي انتصرت فيها بي نظير بوتو ابنة الزعيم الباكستاني، الذي وصفته جميع التيارات الإسلامية بالعلمانية، أن ذلك الشعب المسلم لم يجد أي تعارض بين عقيدته وبين ممارسة الديمقراطية، بمعناها الإنساني العام، وأنه حين واتته الفرصة عرف كيف يختار بطريقة واعية ناضجة، على الرغم من جميع الظروف الصعبة التي يعانيها.
أما الخطأ الثاني الذي كان الفكر العربي يقع فيه بشأن الديمقراطية، فهو الاعتقاد الذي شاع طويلًا بأن هناك تعارضًا بين الديمقراطية السياسية وما يُسمَّى بالديمقراطية الاجتماعية، أو بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. فقد انتشرت بيننا فلسفة تبناها «الميثاق» المصري في أوائل الستينات، كما تبنتها بعض الأحزاب العربية ذات الاتجاه القومي، تؤكد أن الديمقراطية النيابية المرتكزة على الحريات المعروفة (حرية التفكير والتعبير والعقيدة، إلخ …) تظل شعارًا شكليًّا أجوف خاليًا من المضمون، ما دام المجتمع مفتقرًا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، فالشعب الجاهل، الجائع، المريض، لا يعرف كيف يمارس حرياته أو يختار ممثليه، بل إن ممارسته للديمقراطية تنتهي عمليًّا إلى سيطرة أصحاب المال والأرض والنفوذ عليه، فتتحول تلك الديمقراطية آخر الأمر إلى خدعة ومهزلة. هكذا قيل لنا، وعلى هذا النحو كانت تفكر الأجيال الوسطى والجديدة في عالمنا العربي، ولكن إذا لم يكن مثال باكستان الذي قدمته من قبل كافيًا لإقناعنا ببطلان هذا الرأي، فإن أحداث أوروبا الشرقية تمثل تكذيبًا مدويًا له، فمع كل عيوب الأنظمة الحاكمة السابقة في هذه البلدان، لا ينكر أحد أنها قدمت لشعوبها، في ميدان العدالة الاجتماعية، أضعاف ما استطاع أي حزب أو تحالف شعبي عربي أن يقدمه لشعبه.
ومع ذلك فإن هذه الشعوب ثارت مطالبة بالحرية والديمقراطية، وأسقطت أولئك الذين استغلوها باسم الاشتراكية، ونشروا الظلم باسم العدالة، وطالبت بحقوق قانونية ودستورية إنسانية، وأكدت بأبلغ تعبيرٍ أن كرامة الإنسان لا تنفصل عن آدميته، وأنها مطلب يستحيل التنازل عنه مقابل أية مكاسب مادية تزعم الأنظمة أنها تقدمها إلى شعوبها.
ومن هنا فإني أعتقد أن أحداث أوروبا الشرقية قد أسدت إلى العالم العربي خدمة كبرى على صعيد المبادئ السياسية التي تطبق داخل المجتمع؛ لأنها دعمت الدعوة إلى الديمقراطية، وأكدت أن مطلب الحريات التي توصف بأنها «ليبرالية» يتجاوز حدود الثقافات الأيديولوجيات، وفندت المزاعم التي راجت بيننا طويلًا حول التعارض بين ممارسة الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وأكدت أن القيم الإنسانية العليا تسير كلها جنبًا إلى جنب، ومن المستحيل أن يكون الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل سعيه وراء إحداها هو تنازله عن الأخرى.
ولكن هل تؤدي تلك التغييرات العالمية، التي بدأتْها أحداث أوروبا الشرقية، إلى نتائج إيجابية مماثلة على صعيد السياسة الخارجية العربية؟
الحق أن الصورة في هذه الحالة تبدو قاتمة، فهناك شعور جارف لدى العرب بأنهم فقدوا، بعد هذه الأحداث، حليفًا كان يساندهم في وقت الشدة، وبأن اهتمام السوفيات وبلاد الكتلة الشرقية سيتركز من الآن فصاعدًا على إصلاح الأوضاع الداخلية المتردية أولًا، ثم يتجه صوب أوروبا الغربية لتحقيق مزيد من الاندماج والتوحد معها، ويتجه إلى أميركا لتهدئة أجواء التوتر معها، ولأنها الطرف الذي لا غناء عنه في عملية نزع السلاح، أما الشرق الأوسط فربما أتى دوره في المراتب الأخيرة من هذه الاهتمامات.
وفي تصوري أن هذا الإحساس بضياع حليف قوي للقضية العربية له بالفعل ما يبرره، في ضوء الاستراتيجيات العالمية الجديدة للاتحاد السوفياتي وللمعسكر الاشتراكي ككل. قبل أن نفكر في التنديد بهذا الوضع الجديد، أو مهاجمة جورباتشوف الذي أدت سياسته إلى هذا كله، ينبغي أن نسأل أنفسنا: هل كنا، في أي وقت أصدقاء حقيقيين للاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي؟
الحق أننا لم نتنبه إلى قيمة هذا الصديق وفائدته لنا إلا بعد أن أحسسنا أننا فقدناه، أو بسبيلنا إلى فقدانه (تمامًا كما يحدث في حياتنا الثقافية، حين نتجاهل الكاتب أو الأديب وهو يقدم إلينا عطاءه السخي خلال حياته، ولا نبدأ الإحساس بقيمته إلا بعد وفاته)، ففي الوقت الذي كان فيه السوفيات يقدمون إلينا أقصى ما تستطيع إمكاناتهم تقديمه من المساعدات العسكرية مثلًا، وضعنا أسلحتهم في أيدي عسكريين جهلاء مخدرين، فجاء عدونا عام ١٩٦٧م وجمعها كلها في صحراء سيناء، وألحق بنا هزيمة عسكرية تاريخية، ومع ذلك ألقينا اللوم كله على «الروس»، وسارت المظاهرات في أرجاء العالم العربي (بإيحاء من بعض الأنظمة القائمة عندئذ) تهاجم السفارات السوفياتية وترجمها بالحجارة.
وعندما اعتدلت أوضاعنا العسكرية في ١٩٧٣م وألحقا بالعدو أول هزيمة حقيقية في تاريخه، لأسباب من أهمها نوعية الأسلحة التي حاربنا بها (كما اعترف الرسميون جميعًا في المراحل الأولى من تلك الحرب)، انقلبنا عليه بمجرد أن تغير ميزان المعركة، وكانت الشماعة التي علقنا عليها الهزيمة الأخيرة هي أيضًا «الأسلحة الروسية»، وكانت القرارات السياسية المعادية للسوفيات، قبل المعركة وبعدها، استفزازية إلى حد لا يتحمله من له صبر أيوب. وهكذا لم نكن نحن أصدقاء حقيقيين للسوفيات في الوقت الذي كنا ننتفع فيه بأقصى ما تسمح له مواردهم المحدودة بتقديمه.
وكما كان العرب أصدقاء سيئين، فقد كانوا أيضًا أعداء سيئين: فالمفروض أن العدو الحقيقي هو السياسة الأميركية المنحازة بالكامل إلى إسرائيل، ومع ذلك فبقدر ما كانت سياستنا الإعلامية تهاجم أميركا على المستوى الكلامي، كانت سياستنا الفعلية ترتمي في أحضانها وتنحاز لأهدافها انحيازًا يكاد يكون كليًّا.
وعلى ذلك، فإذا كنا اليوم نتباكى على ضياع التأييد السوفياتي، وعلى استفراد أميركا بالمنطقة، فلا بُدَّ أن نعترف بأننا لم نكن نحمل ذرة من التعاطف مع من كان يصادقنا، أو ذرة من العداء لمن كان — ولا يزال — يعادينا، وأن سياستنا السابقة تجاه الصديق السابق لا تشفع لنا لديه الآن حين يجد نفسه مضطرًّا إلى إعادة النظر في أولوياته، ولا تدفع العدو (الذي يظل محبوبًا مهما فعل) إلى أن يعمل لنا في استراتيجيته المستقبلية أي حساب جاد.
لقد حدثت متغيرات المعسكر الشرقي، وهي متغيرات ليست في صالحنا بغير شك، ولكننا قبل أن نلوم العالم ومتغيراته، ينبغي أن نوجه قدرًا كبيرًا من اللوم إلى أنفسنا، ويكفي أن لسان حالنا، حين نأسف على تراجع التأييد الذي كنا نلقاه من هذا المعسكر، يقول: كم من المصاعب تنتظرنا لو ضاعت منا المساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي كنا نتلقاها من هؤلاء الشيوعيين الأوغاد!
وثمة ما هو أخطر من ذلك على صعيد المواجهة العربية الإسرائيلية؛ ذلك لأن القيادات الجديدة في أوروبا الشرقية تضم نسبة لا يُستهان بها من اليهود، الذين قد يكون معظمهم متعاطفين مع الصهيونية، فوزير الخارجية المجري الحالية، جيولاهورن، يهودي لا يخفي عداوته للعرب، وهو الذي صدرت منه أولى التصريحات حول وجود عرب ضمن الشرطة السرية البغيضة لتشاوشيسكو، وهو الذي زار إسرائيل في أول رحلة رسمية له، ورفض زيارة أية منطقة عربية أو التحدث مع أي زعيم فلسطيني. وزعيم الحزب في ألمانيا الشرقية الآن يهودي. ودعاة الانفصال في ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا يضمون نسبة كبيرة من اليهود. وهناك للأسف ارتباط قوي في أذهان الأوروبيين بين الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية، وبين الدفاع عن إسرائيل، على أساس أن الليبراليين الحقيقيين يتعاطفون مع «الأقلية» المضطهدة (إذ لا تزال إسرائيل حريصة على نشر صورة «الأقلية المضطهدة» في وسائل الإعلام وأجهزة الثقافة العالمية، التي يسيطر الصهيونيون على جانب لا يُستهان به فيها).
ولكن أخطر القضايا جميعًا، بالنسبة إلى العرب، هي هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، وهي الهجرة التي يأمل الإسرائيليون منها أن تعوض الزيادةَ السكانية السريعة للفلسطينيين، أو ما يسمونه «بالقنبلة الديمجرافية» (السكانية)، والتي أنعشت آمال شامير في التمسك بالأرض المحتلة قبل ١٩٦٧م وبعدها، إلى حد جعله يصدر تصريحه الاستفزازي المشهور في ١٤ يناير الماضي عن عدم اهتمامه بأية حلول للقضية في الوقت الراهن لأن هؤلاء المهاجرين الجدد في حاجة إلى أرض جديدة واسعة، وخطورة هذه القضية لا ترجع أيضًا إلى أن معظمهم سيكونون على مستوًى علمي وتكنولوجي رفيع، فهم ليسوا مجرد «يهود جدد» كيهود الفلاشا أو المغرب، وإنما هم قوة نوعية مضافة إلى المجتمع الإسرائيلي، شديدة الخطوة على المجتمع العربي.
ولست أدري كيف قَبِل السوفيات، في عهد جورباتشوف، معالجة قضية هجرة اليهود ضمن إطار مشكلة حقوق الإنسان، فهل من الأمور المسلَّم بها أن من حق الإنسان مغادرة وطنه إلى بلد آخر مُعادٍ له، يخدم استراتيجية المعسكر الآخر أعظم الخدمات؟ وهل من حقوق الإنسان أن يتخلى أي بلد عن مواطنين أنفق على تعليم كل منهم وتأهيله عشرات الألوف، لكي يتلقاه بلد آخر جاهزًا؟ والأهم من ذلك هل من حقوق الإنسان أن تهاجر أعداد ضخمة من بلد معين إلى بلد آخر من أجل إهدار حقوق إنسان آخر، هو الإنسان الفلسطيني، في وطنه وأرضه؟
ولنتأمل هذه القضية من زاوية أخرى، إن اختيار هؤلاء اليهود السوفيات الهجرة إلى إسرائيل بهذه الأعداد الهائلة، دليل على فشل كبير في السياسة الداخلية السوفياتية، فمعنى ذلك ببساطة هو أن النظام قد أخفق طوال الأعوام السبعين الماضية في إدماجهم في وطنهم إدماجًا حقيقيًّا، بحيث يتوحد اليهود مع الأهداف العامة للمجتمع الذي يعيش فيه، مع احتفاظه بتراث أجيال من اليهود، قد ظلت بعد قيام أكبر ثورة في القرن العشرين، تغلِّب صفة اليهودي على صفة المواطن، وبمجرد أن لاحت لها فرصة، اختارت الهجرة إلى أشد البلاد عداءً للبلد الذي نشأت فيه، والذي عاش فيه آباؤها وأجدادها. ولا جدال في أن هذا أمر بالغ الدلالة بالنسبة إلى رفض الطوائف اليهودية الاندماج في أي وطن تعيش فيه، على الرغم من أن أمنية أية أقلية أخرى في مجتمع كالمجتمع الأميركي مثلًا، هي أن تنصهر في هذا المجتمع وتتوحد معه، ولكن لهذه المسألة دلالة أخطر بالنسبة إلى مجتمع خاض تجربة جديدة كل الجدة، هي التجربة الاشتراكية، وربى أجيالًا على الولاء لفكرة الإنسانية العالمية التي تتخطى حدود القوميات والطائفيات، ثم اكتشف في النهاية أن قطاعًا هامًّا من سكانه يدين بالولاء لبلد رأسمالي بعد من ألد أعدائه، ولا يعترف بمبدأ المواطنة، ولا بتراث الوطن أو تاريخه أو أمانيه، ولا بالأخوة الإنسانية على المستوى العالمي، بل يطغى لديه الانتماء الديني الضيق والمفعم بالأساطير على كل انتماء آخر!
إن كل متابع لتطورات الأحداث في السنوات الأخيرة يعرف جيدًا مقدار الضغط الذي مارسه الأميركيون على السوفيات في موضوع هجرة اليهود، ومدى المساومات والصفقات التي حاولوا عقدها معهم، من مساعدات اقتصادية وتجارية وتكنولوجية، في سبيل السماح بهذه الهجرة. ومع ذلك فإن إدراج هذه القضية ضمن قضايا حقوق الإنسان ينطوي على إهانة للعقل البشري، ولكل قيم الإنسانية والتنوير التي يفترض في أية ثورة اشتراكية أن تكون وريثة لها. إن المسألة كلها فضيحة على أعلى المستويات العالمية: فضيحة لكل التجربة السوفياتية السابقة، وفضيحة للرأسمالية الأميركية التي تساوم من أجل اليهود بكل ما تملك من إمكانات، وفضيحة للثقافة اليهودية التي يصفها أصحابها بأنها «إنسانية»، مع أنها أثبتت بالدليل القاطع أنها متقوقعة على نفسها، لا تعترف بوطن مهما كانت أفضاله عليها؛ لأن وطنها الوحيد هو الأسطورة المريضة التي هي ذاتها إهانة للإنسان الحديث … وأخيرًا، فهي فضيحة للعالم العربي الذي يقف صامتًا أمام خطر مقبل يهون إلى جانبه أي خطر تعرض له من قبل!
وقد يقال: وما الذي يستطيع العرب أن يفعلوه في موقف كهذا؟! وردي على ذلك هو أن صورة المستقبل، في هذه المنطقة، ستكون على الأرجح على النحو التالي: الوفاق بين المعسكرين يؤدي إلى تراجع نسبي في تأييد المعسكر الاشتراكي (إذا ظل متماسكًا) للعرب (سيما وأن مواقف العرب السابقة لا تشجع كثيرًا على استمرار هذا التأييد) ولكنه لا بُدَّ أن يؤدي أيضًا إلى تراجع في تأييد أميركا لإسرائيل؛ ذلك لأن إسرائيل بالنسبة إلى أميركا، هي في جانب هام من جوانبها جزء من متطلبات الحرب الباردة: فهي وسيلة أميركا لضمان وجود قاعدة قوية فعالة في هذه المنطقة القريبة من الاتحاد السوفياتي، ولضمان تدفق البترول إلى الغرب، وعدم زحف الأيديولوجية الشيوعية في اتجاه الجنوب، فإذا انتهت الحرب الباردة، لم يعد هناك ما يدعو أميركا إلى تحمل تلك المسئوليات الجسام التي تقتضيها مساندتها لإسرائيل.
وهكذا يمكن القول إن كلًّا من الجانبين، العربي والإسرائيلي لن يجد السند القوي الذي كان يرتكز عليه من قبل، وسيكون عليه أن يعتمد على نفسه وعلى قدراته الخاصة، قبل كلِّ شيء.
فالعصر القادم سيكون عصر تحمل المسئوليات، لدى الطرفين معًا، ولا بُدَّ أن يعد العرب أنفسهم لذلك اليوم الذي سيكون عليهم فيه مواجهة إسرائيل بقواهم الخاصة، وهذا ينطبق بالطبع على إسرائيل بدورها. وإذا كانت إسرائيل قد قطعت أشواطًا أبعد منا في العلم والتكنولوجيا، وحسبت حساب اليوم الذي تُضطَر فيه إلى الاعتماد على ذاتها، فإن هذه الحقيقة تضاعف من مسئولية العرب في إعداد أنفسهم لمواجهة عدو استيطاني لا حدود لشهواته التوسعية، فسوف ينتهي قريبًا عصر «المواجهات بالنيابة»، وسيكون على كل طرف أن يدبر أموره بنفسه في مواجهته لعدوه.
ومع ذلك، فإن على الأمة العربية أن تعد نفسها في الوقت ذاته للكفاح في ميادين أخرى غير الصراع بينها وبين إسرائيل، فعلى الرغم من خطورة هذا الصراع، لا ينبغي أن نظل نرقص على الأنغام التي يعزفها لنا أعداؤنا؛ ففي عالم الغد مشكلات أخطر من الصراعات الإقليمية، لا ينبغي أن نقف إزاءها مكتوفي الأيدي، وأضعف الإيمان، في عصر الحاسب الإلكتروني، والثورة الهائلة في المعلومات، وارتياد الكواكب البعيدة، هو أن يتبنى العرب قيم العقلانية والتنوير، ويطبقوها في شتى جوانب حياتهم، ويكفوا عن تلك اللعبة السخيفة التي يربطون فيها عيونهم بعصابة سوداء، ويسيرون متخبطين وسط عالم تخلى عن لعبتهم وسار في طريق النور منذ قرون.