تصدير
يستقبلُ هذا الديوانُ عامَ ١٩٣٤م بمجموعة شعري غير الدراميِّ منذ صدور ديواني «أطياف الربيع» حتى نهاية سنة ١٩٣٣م، التي أودِّعها وأنا أحبِّر هذه السطور بين أطيافها الأخيرة.
ولي كلمة أوجهها إلى مريدي هذا الشعر وإلى غير مريديه على السواء: تلك هي أنه لا سلطان لي على قرضهِ، بل أنا مرغَمٌ إرغامًا عليه بدوافع نفسية لا أملكها تزجيني إلى هذه التعابير النظمية، فليس محتومًا على غير مريديها أن يَطَّلعوا عليها حتى أكون مُعَرَّضًا لمؤاخذتهم إياي، وليس محتومًا على مريديها أن يدافعوا عنها إلا في مجال النقاش الفني، فللناس أذواق تتباين، ولا بد لتذوُّق الآداب والفنون من وجود تجاوب بينها وبين ناقديها، ومن الخير الأدبي وجودُ هذا التبايُن في مبلغ هذا التجاوب، واحتكاكُ المذاهب الأدبية بعضها ببعض، لا أن نستاء من ذلك الخلاف البريء، ونعمل عى القضاء عليه؛ فإنَّ هذا الاستياء في ذاته يُنافي الروح الفنية، ومحاربة الجهود البريئة المنوَّعة التي هي عوامل النهضة الفنية وقوامها — حتى ولو كان بعضها مصطبغًا بالصبغة التقليدية المحافظة — إنما تُعَدُّ وصمة للفنِّ والفنَّانين.
وما كان ثمة داعٍ لنشر هذه الأشعار ولا ما سبقها من دواويني لولا نوازع صوفية وجدانية تُحبب ذلك إليَّ كأنما أنا مكلَّفٌ برسالة أؤديها، فإن عهدي بشعري ينتهي حينما أنتهي منه، وقلَّما أحفظ منه شيئًا، ولولا ذلك لما ضاع ما ضاع من شعري الكثير من عواصف السياسة أثناء اغترابي الطويل عن وطني، فضاع بضياعها سجل طويل لحياتي العاطفية. وعُذرٌ آخر — إنْ كنتُ مطالَبًا بعذر — لوفرة دواويني: ذلك أني على كثرة إنتاجي الشعري لا أنشر إلَّا النزر اليسير منه في الصحف، ولا أستثني حتى مجلة «أبولو» الشعرية التي أُوثِر وَقفَ معظم صفحاتها على الكثيرين من شعراء الشباب، وعلى الشعراء المجيدين المغمورين؛ مما أتاح لهؤلاء المعاصرين أن يذيعوا آثارَهم، خلافًا لمثلي الذي لم يَبْقَ له مِنْبرٌ حرٌّ غير صفحات دواوينه.
إنَّ الشاعر الفنَّان تستهويه رُوحُ الجمال، وتحفزه إلى إبداع المثُل الجميلة التي يرتضيها ذوقهُ، وهو لا يعنيه أصلًا أن يخدم النزعات الخلقية ولا غير الخلقية بشعره، فهذه وظيفةٌ إضافيةٌ قد يؤدِّيها الفنَّان، ولكنها ليست مهمتَه الأولى ولا الأخيرة، وإذا أصبحتْ مثلُ هذه العوامل دوافعَ فيه صريحة عنده فَسَدَ فنُّه حتمًا؛ فإنَّ الفنانَ يجلو لنا فنَّه، ولكنه لا يصيح ولا يعلن عن دوافعه الخلقية والوطنية وأمثالها، بل هي تعلن عن نفسها إعلانًا هادئًا يُلْمَحُ من خلال العمل الفنِّي ولا يُغطِّيه. ولا يغرب عن البال أن مقاييس الفضيلة والرذيلة المعهودة ليست في معظهما بالمقاييس المستقرة التي تحتم الإيمان بها، وحتى إيمان الفنون.
وليست هذه هي النقطة الفريدة التي يشعر مثلي بالحاجة إلى معالجتها في هذا التصدير تعليقًا على نقد بعض الأدباء على الشعر الحديث، وعلى شعر صاحب هذا الديوان خاصةً، فهناك مَنْ يرون أنَّ من الواجب حصرَ الشعر في موضوعات معيَّنة كأنما الشاعر المفتنُّ يعجز عن التعبير الجميل إذا ما تجاوبتْ عواطفُه وأخيلتُه مع أي عامل من عوامل هذا الكون الفسيح المدهش، كيفما دقَّتْ أو عَظُمتْ.
من العبث أن يقصر الشاعرُ همَّه على الفضيلة؛ فالفضيلةُ والرذيلةُ على السواء من مواد الفنَّان كما يقول أوسكار وايلد، وليست مَرائي الشعر عند استيعابه هي مَرائي الحياة ولكنها نفوسُ قرائهِ، والشعرُ الذي يُثير خلافًا حادًّا حوله يدلُّ على حيويته وقوته. كذلك كانت أشعار المتنبي وابن الرومي وأبي العلاء المعري بين أعلام الشعر العربي … والشعر فنٌّ تعبيريٌّ لا يُقصد منه إلى الفائدة، ولكنه كفيلٌ بها في تربية الروح الفنِّي، وما يؤدي إليه ذلك من التسامي بنفسية الأمة بل بالإنسانية عامة، شأن جميع الفنون الجميلة. فلا غبار إذن على فائدة الشعر إذا جاءت عفوًا، وكلُّ شعرٍ عظيمٍ له فائدته الثقافية، ولو كان في أصله لهوًا؛ لأَنَّ العِبرةَ بنبعهِ الفنِّي الخالص.
ولا مشاحةَ في أنَّ الإنسانية في القرن العشرين تقدَّمت كثيرًا من الوجهة المادية التي تتفق وأهواء العقل المدرك، ولكن أحوالها النفسية والخلقية ما تزال متأخرة تأخرًا بليغًا … وللعقل الباطن ارتباطٌ بهذه الوجدانيات، فالعنايةُ بتهذيبه وتنظيم صلاته بالعقل الواعي المدرك مما يعود بأجزل الفوائد على الإنسانية، وهذا ما تستطيع الفنون الجميلة — وبينها الشعر — أن تقوم به خير قيام؛ فتشجيع الفنون الجميلة واجب حتمي، ونحن أحوج إليها في هذا العصر المادي القاسي من حاجتنا إليها في أيِّ عصر مضى. وعندي أن أديب الذكاء والصناعة يعتمد أولًا على عقله الواعي خلافًا للأديب المطبوع، ويلوح لي أن العقل الباطن متَّصلٌ بجوانب الخلق والغريزة اتصالًا خطيرًا، ويتعاون العقلُ الواعي والعقلُ الباطن بنسبٍ مختلفةٍ في تكييف طباع الأدباء وطوابع آدابهم. والشاعر الحيُّ هو الذي يكون شعره مثال نفسه، وهذا معناه الانسجام التام بين العقل المدرك والعقل الباطن، وقد لا يكون الانسجام تامًّا في جميع الظروف. ومهما يكن من شيء فهذا ما أراه تفسيرًا للتباين وللاتفاق في أحوال الشعراء ومظاهر شعرهم مِن مَعانٍ ومَرامٍ وديباجة وموسيقى هي موسيقى النفس والخواطر قبل أن تكون موسيقى الحروف التي لا تتعدَّى في الواقع الرموز لحالات الوجدان والفكر، وهم في كل ذلك غيرُ مستقلين، بل يتفاعلون مع البيئة ومع الحياة عامةً، وتتجلَّى مَرائيها في نفوسهم قبل أن يبرزوها، كما تتردد أصداؤها في نفوسهم قبل أن يلحِّنوها.
وإذا كنتُ أومن إيمانًا عميقًا بأن الفنون الجميلة من أقوى عوامل السلام ورسول الإنسانية المشتركة، فلستُ أَعني بذلك أنَّ تقديرَها شاملٌ في الظروف الحاضرة، فكم تتباين الأذواق. وعلى حد تعبير برُونِزْلاو هوبرمان لا يُرتَقب أن يجيد عزفَ موسيقى بيتهوفن إجادة المتذوِّق المعجب بها مَن ليست لديه أثارة من عواطف بيتهوفن، وكذلك شأن الشعر وغيره من الفنون الجميلة، فإن أصدق المتأثرين بالشعر — مثلًا — هم من يشاركون الشاعر عواطفه وأهواءه، ولا يُنتظر مثل ذلك من غيرهم، وبنسبة هذه المشاركة تختلف درجة التجاوب بين الشاعر وقرائه ونقاده.
ومن الطبيعي ألَّا يَرْضَى عن شعر صاحب هذا الديوان كثيرون من الخاصة ومن غير الخاصة كما هو المعهودُ إزاء كل أدَبٍ غير مألوف، فإن أكثر الناس يؤثرون من الشعر ما يخيل لك عند سماعه أنك سمعته قبل ذلك مرارًا ولو في صور متقاربة، وهذا الجفاء هو وحدَه المبررُ للتعاون الأدبي من أقران الشاعر ومريديه شرحًا ودراسةً، إذْ لا أنسَى كيف قوبل صدورُ ديواني «أشعة وظلال» منذ بضع سنواتٍ بنقدٍ كثيرٍ لتجرُّدهِ التام عن كل تصديرٍ وتعقيبٍ. بيد أنِّي أرجو من صميم قلبي أن يحين اليومُ الذي يُستغنَى فيه عن نظير ذلك في دواويني المقبلة، فتصير نماذجُ هذا الشعر مألوفةً معهودةً، وتسترعي الأنظار والحوار بدلها النماذجُ الجديدةُ القويَّةُ لشعراء الشباب الثائرين. وبودِّي الصادق ألَّا يحملَ القارئُ هذه الدراسات والشروح على أكثر من محمل التجاوب الأدبي مع نفسية الشاعر؛ فإنَّ فيها الكريم من التمجيد والإشادة بمحامد لا أعرفها في نفسي، ولكنها فيما عدا ذلك لها قيمتُها الأدبيةُ الممتازةُ في تصوير مواقف المدارس الأدبية نحو الشعر العصري.
وقد كان شعراء العربية السالفو الذكر يعابون في حياتهم على أساليبهم جزاء ما كانوا يبذلونه من جهدٍ لتجويد أدواتهم اللغوية القاصرة، ثم دار الزمن دورته فإذا بتلك الأساليب الطريفة تكتسب حُرمةً، ويُصبح جديدها مألوفًا محترمًا، وما كان يُحْسَبُ بعيدًا عن الأَناقة لطرافته وخروجه على التقاليد صار يُعَدُّ غيرَ ذلك في معظم الأحوال. ومهما يكنْ من شيءٍ فالأناقةُ التي ترادفُ التَّصنعَ مرذولةٌ بغيضةٌ، وهي تنافي روحَ الفن، ولخيرٌ منها ألفَ مرة الجمالُ المتواضعُ، بل الجمالُ العربيدُ. وليست العبرةُ في الواقع بالأساليب ذاتها بل بالاستعداد للتأثر بها، وهذا الاستعداد يختلف بين جيل وآخر، وبغير وجوده لا يستطيع الشعر أن ينشئ في النفوس تصوير الحالات التي خلقته.
وما دمنا قد أشرنا إلى الأسلوب فحتمٌ أن نصرِّح بأننا نحترم أصول اللغة وتراثَها، ونُعنَى بمفرداتها، ونُوصِي باستيعاب روائعها، ولكننا نوصي في الوقت ذاته بأن يُطلِقَ الشاعرُ نفسَه على سجيتها ما دام قد أخذ قسطًا وافرًا من أدب اللغة. وكلُّ شاعر لا يستطيع أن يملك حريةَ التعبير عن أزماته النفسية، وعواطفه الشعرية، وعالمه الوجداني تعبيرًا خالدًا مستقلًا تتجلى فيه براعتُه الطليقة، يُعَدُّ بعيدًا عن الكمال الفنِّي. وكم من عائبٍ لأساليب اللغة المبتكرة وهو جاهلٌ بمرونة اللغةِ، وغافلٌ عن كنوزها التي لا تجد المستغلين القادرين، بينما هؤلاء العائبون يَتغاضون عن تَوَجُّهِ الشعراءِ إلى تغذية العامية بإنتاجهم في الأغاني وغيرها؛ مما يحوِّلها تدريجيًّا إلى لغةٍ فنيةٍ، ويجعلها خطرًا أدبيًّا إلى حَدٍّ ما على اللغة الفصحى التي تفقد جهود أولئك الشعراء لخيرها. ولست أنكر أن للغةِ العاميةِ رسالةً تؤديها في أوساطها، ولكن من الممكن إبلاغها منزلة العربية البسيطة السهلة.
إنَّ الفنَّ فنٌّ في أيةِ لغةٍ وفي أية صورةٍ وتعبيرٍ، ولو كانت اللغة العربية السلسة السليمة عاجزةً عن البيان السائغ لعذرنا أنصار العامية من غير أهلها على اللجوء إليها. أمَّا والواقع نقيضُ ذلك فهذا التدلِّي بلغتنا لا معنى له ولا موجب، والأَوْلى بمن يأخذون علينا تطويعَ لغتنا للتعبير عن كل ما تُوحي به الحياة بدل أن نواجهها كالبكم المشدوهين، الأَوْلى بهم — إذا لم يعرفوا تقديرَ ذلك لنا — أن ينظروا في الخطر الداهم على اللغة الفصحى من سيل العامية الذي يعزِّزه أولئك الشعراء المتقربون إلى الجماهير على حساب الإساءة إلى الأدب الرفيع، وإن عانت الفصحى من وراء ذلك ما تُعاني من إعراض وإصغار.
ويَرى بعضُ الشعراء المقلين وبعضُ النقاد أن الوزن والقافية من أعداء الفكرة، ومن هذا يتدرجون إلى تثبيط المنجبين من الشعراء، وينتقدون محاولاتهم الجريئة، وهذا خطأ ظاهر؛ فالشعر ليس ميدانًا لدراسة الموضوعات العلمية وغير العلمية المجرَّدة، كما أن الشاعرَ الناضجَ القويَّ الإيقاع لا تعوقُه مطلقًا الأوضاع عن التعبير الحي، ولا عن التسامي أو التعمق، بل يدفعه نضوجُه، وثقتُه بنفسه، ومرانتُه إلى تكييف اللغةِ وأوزانها وقوافيها التكييفَ الذي يناسب موضوعات شعره بعيدًا كل البعد عن المحاكاة، مُطْلِقًا نفسه على سجيتها كالطائر الحرِّ الغردِ حينًا، وكالحكيم الذي يُملي عليه القدرُ وحيَ الحياة الطليقة حينًا آخر. ومِن ثمَّة اختلفت أساليبُ الشعراء المتحررين حسب أمزجتهم ونزعاتهم وموضوعاتهم، بل قد يختلفون في نفس الموضوع الواحد بحكم اختلاف الطابع الشخصي؛ فأسلوب ملتون الإنجليزي شاعر القرن السابع عشر في «الفردوس المفقود» غير أسلوب بيير جان جوف الفرنسي شاعر القرن العشرين في نفس هذا الموضوع، وهو اختلاف طبيعي ولا غبار على ذلك، بل هو أمر ممدوح.
الشعرُ ليس صناعة بل هو فنٌّ من الفنون، وجميعُ الفنون في أصلها مواهب، والروحُ التي خَلْفَها شائعةٌ في مظاهر الطبيعة التي يستوحيها جميعُ الفنانين من شعراء وموسيقيين ومصوِّرين ومثَّالين وغيرهم. ووحدة هذه الروح التي تُلمح خلفَ مَرائي الطبيعة والحياة هي التي تجعل النُّقَّادَ يصفون التصويرَ بأنه شعر الأصباغ، والنحتَ بأنه الشعرُ الصامت، والشعرَ بأنه التصوير الناطق، وهلم جرًّا … وما ذلك إلَّا بسبب المشاركة الروحية بين جميع هذه الفنون. وأمَّا النظم فيرجع إلى طبيعةٍ إيقاعيةٍ توجد عند كثيرين من الناس، وقد لا تكون قويةً عند بعض الشعراء، بل قد لا توجد عندهم بتاتًا، فهؤلاء أمين الريحاني، وفؤاد صروف، وأحمد الصاوي محمد، وإبراهيم المصري، وتوفيق مفرج بين شعراء العربية المجيدين، ولكنهم لا ينظمون لأَن سليقتهم لا تواتيهم بالنظم وإن تفجَّرتْ بالشعر الصافي. وإذا كانت كلمة «شعر» مأخوذة أصلًا من كلمة «شير» العبرية بمعنى غناء، فليس كلُّ شعرٍ غناءً، كما أنه ليس كلُّ شعرٍ نظمًا. والشاعرُ المثقَّفُ البعيدُ التأملات يستطيع بفطرته أن يجعل شعره مَسْرَحًا لفنون ومعارف شتى في غير كلفةٍ يُحِسُّ بها، كما أنه بقدرته النظمية — إذا كانت ناضجة لديه — يستطيع التعبيرَ عن شتى الخواطر الوجدانية بحريةٍ تامةٍ، فليس النثرُ وحدَهُ اللغةَ الحرةَ للتعبير عن الآراء. والشاعرُ الممتازُ هو الذي يجمع بين صِفَتَي النضوج والتحرُّر، وكلتاهما وليدتا المواهب أولًا، والاطلاع أو التأمل ثانيًا، والمرانة ثالثًا؛ فالموهبةُ الشعريةُ ودقةُ التأمُّل والمرانةُ هي التي أنطقت الشاعرة العربية حميدة بنت زياد بهذه الأبيات الرائعة تصف واديًا:
نعود إذنْ لنكرر أن النهضة الشعرية التي تُعنى بإنصاف المواهب وتغذية النضوج ثم تقاوم التحرُّرَ تنعكس عليها جهودُها، فالتحرُّرُ عنصرٌ هامٌّ من عناصر التبريز؛ لأَن قوامه الصِّدق والسماحة الفطرية والبساطة الصريحة، ومحالٌ أن يكون الشاعرُ شاعرًا كاملًا إذا كان يَكبتُ عواطفَه كيفما كانت، ويكذب على نفسه وعلى غيره. وبهذه المناسبة لا ننكر أنَّ بعض الغاشمين المنتسبين إلى الأدب أو إلى الدين يهرع إلى الاتهام بالزندقة والإلحاد كلَّ نزعةٍ تصوفيةٍ، ولكن الشاعر الموهوب المتحرر يسخر من كل هذا؛ لأنه بوجدانه يحسُّ بما ننعته «نُقَطَ التركيز» للأُلوهية في مخلوقات اللهِ وبدائعه — سبحانه وتعالى — فيمجِّد فيها الفنانَ الأعظم … ولَخيرٌ للشاعر أن يُوصَمَ بألف وصمة غاشمة من أن يكون أسيرَ الروح عبدًا للتقاليد، أو خادعًا لنفسه ولغيره. وقسْ على ذلك ما يُنعَتُ بالاستهتار في الشعر حينما لا يتعدَّى هذا «الاستهتارُ» التعبير الطبيعي لجوانب قوية من الحياة …
عُرِفَتْ عن كيتس في طفولته الروحُ الثوريةُ، ثم عُرفَ عنه فيما بعد الاطلاعُ الواسعُ، وأخذ بنصيبٍ يُذكر من الدراسة العلمية والطبِّية، ثم استولت عليه فكرةُ الحياةِ الشاعرةِ، والعمل على تحقيقها وهو في الحاديةِ والعشرين، فتبع هذا أن كانت روحُه التجديديةُ طبيعيةً لا مصطنعةً، وأنْ كان هدَّامًا ثائرًا في شبابه. وعرفنا عنه غرامه بجورجيانا — زوجةِ أخيه فيما بعد — ولمحنا صورةَ التسامح لنفسه الصافية، وقدَّرنا كيف كانت هذه الحبيبة نبعًا صافيًا عُلويًّا لشعره الوجداني، كما كانت محبوبته الثانية «فاني» نبعًا آخر جميلًا. كذلك عرفنا أنَّ حياته الواقعية كانت شعرية؛ فقد كان إشفاقُه على أهله وعنايتُه بهم بمثابة قصائد رائعة مدهشة … وكان كيتس بروحه الرومانطيقية المبدعة كثيرَ المحاولات التجديدية، ولكنَّ الجمهور لم يكن ليكترث لأشعاره الأولى بالرغم من كتابة «هَنْت» عنها. وقد تعاون فيما بعد مع الأدباء: هايْدِن، وبراون، وَسِفِرْن، وَغيرهم، ثم حملت عليه مجلتا بلاكوود وكوارترلي الشهيرتان، وتنكَّرَ له هايدن صديقه القديم، ولكن كيتس بقي عظيمَ الجلَد، عظيمَ الرجولة، ساميَ الخُلق، طيبَ القلب، بدليل تسامحه إزاءَ هايدن وأمثاله … وكان كيتس يعجب كثيرًا بسبنسر، وكان متأثرًا به، ولكنه قلَّما كان يحتذيه، بل كان محتفظًا غالبًا بطابعه الشخصي، واستوعبت شخصيتُه الأَصيلةُ مطالعاتِه (وبينها الكثير من الأساطير والميثولوجيا الإغريقية وغيرها) دون أن تخضعَ لها. ومات في شبابه بذات الرئة، وهو إلى آخر لحظةٍ في حياته شعلةٌ باهرةٌ ما كان يجوز أن تنطفئَ لولا قسوة القدر …
- (١)
النفسَ الشاعرةَ الثائرةَ بفطرتها التي لم تتحوَّل طولَ حياته، وأنَّه مثالٌ للشاعر الذي يكون في حياته شاعرًا كما يكون في نظمه شاعرًا.
- (٢)
أن دراسته ومطالعاته لم تُفْسِدْ شِعْرَهُ، بل زادته صقلًا، وجعلتْ شهدَهُ مُنوَّعًا شهيًّا.
- (٣)
أنَّه شعر بما نسمِّيه «طاقته الشعرية» وتَمَنَّى أن يكون شاعرًا مجيدًا وعمل لذلك، لا عن طريق الصناعة، بل عن طريق التعبير الجريء، وجراءةُ التعبير الفنِّي جزءٌ أصيلٌ من العبقرية، وبغير هذه الجراءة الطليقة ما كانت تتجلَّى قوةُ شكسبير، ولا دانتي، ولا أبي العلاء المعري، ولا عمر الخيام، ولا أمثالهم من رُوَّاد الفن الأَدبي.
- (٤)
أنه انتفع بالمعاونة المادية التي قدَّمها له أصدقاؤُه الأدباء والناشرون، ولولا هذه المعاونة لما انتفع الشعرُ بكل هذه الآثار التي أنجبَها وودَّعَها في شبابه … وفي الواقع إنه لولا عون المال الذي استند إليه كبارُ الأُدباء والشعراء لما بلغت آثارهم ما بلغت من الكثرة والرَّوعة، وهذا مشهودٌ في الشرق والغرب على السواء، وآخرُ شاهدٍ على ذلك بيننا المرحوم أحمد شوقي بك. ومهما يكن لشاعر من إنتاج في بؤسه وفقره فهذا الإنتاجُ لا يُقارَن بطاقته المتجلِّية في ظروفه المواتية.
- (٥)
أن الحُبَّ كان عنصرًا قويًّا بين العناصر التي ألهَبَتْ شاعريته المطبوعة، وقد جاءَ شعر الحب في نظم كيتس قويًّا صريحًا مستقلًّا.
- (٦)
أنَّ ثقته بنفسه وفنِّهِ جعلتْ النُّقادَ المتحاملين ينهزمون في النهاية أمامه، فكل محاولاتهم لم تصلح لتزييف جوهره الصحيح.
- (٧)
أنَّ أساليبه ونزعاته التجديدية لم تُرْضِ جمهرة الأُدباء في البداية، ولكنها استحالت فيما بعد إلى مَفْخَرةٍ من مفاخر الأدب الإنجليزي، بل الأدب العالمي.
- (٨)
أنَّ شخصيتَه الأَدبيةَ القويةَ لم تهضمها البيئةُ ولا المطالعاتُ، بل هو الذي هضمها، فخدم الشعرَ الإنجليزيَّ حتى من الناحية الثقافية خدمةً قيمةً؛ لأَنَّه ضمَّن شعره لطائفَ الميثولوجيا الشائقة، وتأمُّلاته العميقة، وقد كان مرضُه في ذاته مُشعِلًا لذكائه، مبررًا لشذوذه، ومن العبقريات ما يقترن بشذوذ المرض.
- (٩)
أنَّ المواهب الجديدة قد لا يُعتَرفُ بها اعترافًا منصفًا إلا بعد زوال صاحبها، وعلى الأَخص إذا كان من الشباب؛ لأَن الناس غالبًا عبيدُ ما تعوَّدوه، ويؤثرون الشك في كل جديد حتى ولو تجاوبت نفوسُهم معه.
إنَّ عقلَ الفنَّانِ (العقل الباطن) هو عقلُ الطفل الكبير الذي يصاحبه وليُّ أمره (العقل المدرك) ليرشدَه ويراعيه، ولكنَّه كثيرًا ما يُجاملُه، وإنْ استفادَ هذا الطفلُ من تَأمُّلاتِ مُرشدِه وفلسفتهِ بدرجاتٍ مختلفةٍ حسبَ أهوائهِ وفهمهِ العجيب … ولكنه إذا تُرِكَ وشأنه، وكانت له حيويَّتهُ الفطريةُ وحريتُه المطلقةُ، فإنه يجيء لنا شعرًا بما يُشبه تصويرًا «حُلم ميكي» — وهو من تلك التصاوير المتحركة المفتنَّة التي طالما أحببناها عن ميكي ماوس ووالت دزني — فلو أنصف النَّقدُ لتركَ الشعراء يُبدعون نماذجَهم المنوَّعةَ من شعرٍ خالصٍ، وشعرٍ فلسفيٍّ، وشعرٍ تصويريٍّ، وشعرٍ قصصيٍّ على اختلاف أساليبهم، فنحن بحاجة إلى كل هذا إنماءً لثروتنا الشعرية، وها نحن الآن نرى في فرنسا بعْثًا شعريًّا جديدًا منوَّعًا للشعر يعمل له أمثال بول كلوديل، وفرنسيس جام، وبيير جان جوف في حرية تامة.
وإذا كان لمدرسة أبولو جريرة أقضَّت مضاجعَ الفرديين المتصنِّعين فهي تبشيرها بالمبادئ السابقة لخير الفن والفنانين، فقد أبت إباءً عبادةَ الأصنام، واحترمتْ شخصية كل شاعر، وعملتْ على إظهار روائع كلٍّ منهم، ووضعت إبداعَهم جميعَه في بوتقةٍ واحدةٍ، إذ الواقع أن الفنان الصحيح غير أناني، وإن يكنْ شخصيَّ التعبير … كذلك شجَّعت النقدَ الأدبيَّ، واحترمت النقَّادَ سواء أكانوا لها أم عليها، ولكنها لم تحترم أصنامَهم كما لا تحترم أصنامَ الشعراء! وبهذه المبادئ يدين صاحبُ هذا الديوان من الوجهة الثقافية العامة، وحول هذه المبادئ تدورُ حربٌ طاحنةٌ يعزِّزها من الجانب الآخر مَنْ يريدون الظهور الأنانيَّ على حساب المجموع، وعلى حساب الأدب، كلَّفهم ذلك ما كلَّفهم من تَحامُلٍ وإسفافٍ!
إنَّ الشاعر ككل فنَّان يعمل على تخليد صور الحياة الفانية وذكرياتها في النسق الذي يستطيع به استرجاعَها لروحه العالمية كلَّما تأمل ذلك النسق الفنِّي سواءٌ أكان شعرًا أم تصويرًا، أم نحتًا أم عزفًا، أم غير ذلك، وهو حينما يتأمَّل التسجيل الفني لم يقتصر على تَصوُّرها بالذات، بل تصوَّر أيضًا علاقاتها بالوجود بحكم طبيعته التصوفية التي جعلت شكسبير يقول:
والحياة في ذاتها عالم إيقاعي، فإذا أحسَّ الإِنسان بالحاجة إلى العزاء جنح إلى الاندماج في عالم الحياة اندماجًا أوفى كأَنه يطلب حمايتها، والإيقاعُ هو الممر الذي يسلكه أو هو أدنى المسالك الميسورة، وهذا هو ما يفسِّر النزوع الفطري إلى الجمع بين الروح الشاعرة المتصوفة والإيقاع. وبديهيٌّ أن ألوان هذا التزاوج تتعدَّد إلى ما لا نهاية، ومِنْ ثمَّة وجب علينا احترام شخصيات الشعراء، وتشجيع التنويع بدل الالتفاف حول شخصيات قليلة معدودة لا يمكن أن تجتمع روائع الفن الشعري ولا الفن الموسيقي فيها وحدها، كيفما عظمت هذه الشخصيات في ذاتها.
•••
وإني أرحِّب بكل نقدٍ نزيهٍ يوجَّه إلى هذا الديوان وإلى شعري عامةً لخدمة الأدب في ذاته، وأما صلتي بهذا الشعر فهي أوْثقُ مِنْ صلةِ الأديب المألوفة بأدبه، فهو دمي وأنفاسي، ومهما قيل له أو عليه فلن أجحد ما هو مِنْ صميم نفسي، ولن أنشدَ له ثناءً لن يزيدَ مِنْ نَبْضِ حياتِه المستمدَّةِ مِنْ كفايةِ حيويتي وحدَها.