محاسن العفو
قيل: أَسَرَ مصعب بن الزبير رجلًا من أصحاب المُختار فأمر بضرْب عنقه، فقال: أيها الأمير، ما أقبحَ بك أن أقوم يومَ القيامة إلى صُورتك هذه الحَسنة فأتعلَّق بأطرافِك وأقول: ربِّ سلْ مُصعبًا فيمَ قتلَني؟ فقال: أطلِقوه، فقال: أيها الأمير، اجعل ما وهبتَ لي من عُمري في خفضِ عيش، فقال: أعطوه مائة ألف دِرهم. قال: بأبي أنت وأمي، أُشهِدُك أن لابن قَيس الرقيَّات منها خمسين ألفًا. قال: لِمَ؟ قال: لقوله فيك:
فضحِك مُصعَب وقال: لقد تلطَّفتَ وإن فيك لمَوضعًا للصَّنيعة، وأمر له بالمائة ألف ولابن قَيس الرُّقيَّات بخمسين ألف دِرهم. قيل: وأمر الرشيد يحيى بن خالد بحبس رجل جَنى جِناية فحبَسَه، ثمَّ سأل عنه الرشيد فقيل: هو كثيرُ الصلاة والدُّعاء، فقال للمُوكَّل به: عرِّض له بأن تُكلِّمني وتَسألني إطلاقه، فقال له المُوكَّل ذلك، فقال: قُل لأمير المؤمنين إنَّ كلَّ يومٍ يمضي من نِعمتك ينقُص من مِحنَتي، والأمر قريبٌ والمَوعد الصِّراط والحاكِم الله. فخرَّ الرَّشيد مَغشيًّا عليه ثمَّ أفاق وأمر بإطلاقه. وقيل: ظفِر المأمون برجلٍ كان يَطلبه، فلما دخل عليه قال: يا عدوَّ الله، أنت الذي تُفسِد في الأرض بغَير الحق، يا غُلام خُذْه إليك فاسقِه كأسَ المنيَّة. فقال: يا أمير المؤمنين: إن رأيتَ أن تُبقِيني حتَّى أؤيدَك بمال. قال: لا سبيل إلى ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين، فدَعْني أُنشِدك أبياتًا. قال: هات، فأنشدَه:
فقال له المأمون: أحسنت، ما جرى ذلك على لسانِك إلَّا لبقيَّةٍ من عُمرك، فأطلَقَه وخلَعَ عليه ووصَله. وعن بعضهم أنَّ واليًا أتى برجلٍ جنى جِنايةً فأمر بضربه، فلمَّا مُدَّ قال: بحقِّ رأسِ أمِّك إلَّا ما عفوتَ عنِّي. قال: أوجع، فقال: بحقِّ خَدَّيها ونحرِها، قال: اضرِب، قال: بحقِّ ثدَيْيها، قال: اضرِب، قال: بحقِّ سُرَّتها، قال: ويلكم دَعوه لا ينحدِر قليلًا. وعن رسول الله ﷺ أنَّه قال: إن الرجل إذا ظُلِمَ فلم ينتصِر ولم يجِد مَنْ ينصُره فرفع طرفَه إلى السَّماء ودعا، قال الله: لبَّيك عبدي؛ أنصرُك عاجِلًا وآجلًا. وقال ﷺ في قولِهم: انصُر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، وقد سُئل عن ذلك فقيل: أنصرُه مظلومًا، فكيف أنصرُه ظالمًا؟ فقال: تَمنعُه من الظلم فذلك نصرُك إياه. وقال فُضَيل بن عياض: بكى أبي، فقلت: ما يُبكيك؟ فقال: أبكي على ظالمي ومَنْ أخذَ مالي أرحَمُه غدًا إذا وقفَ بين يدي الله — عزَّ وجل — وسأله فلا تكون له حُجَّة. وقال الحسَن البصري: أيها المُتصدِّق على السائل يرحمُه، ارحَمْ أوَّلًا مَنْ ظلمت. ورُوِيَ عن عبد الله بن سلام قال: قرأتُ في بعض الكُتب، قال الله — عزَّ وجل: إذا عصاني مَنْ يعرِفني سلَّطتُ عليه مَنْ لا يعرِفني. قال خالد بن صفوان: إيَّاكم ومَجانيق الضُّعفاء — يَعني الدُّعاء.
ضده
قيل: لمَّا قالت التَّغلِبية للجَحَّاف بن حكيم السُّلمي في وقعتِه بالبِشر: قوَّضَ الله عِمادك وأطال سُهادك وأقلَّ رقادك، والله إن قتلتَ إلَّا نساءً أسافِلُهنَّ دُمِي وأعاليهنَّ ثُدِي. فقال لمن حولَه: لولا أن تَلِدَ مِثلها لخلَّيتُ سبيلها. فبلغَ ذلك الحَسَن البصري، فقال: أما الجحَّاف فجَذْوةٌ من نار جهنَّم. قال: ولمَّا بنى زياد بناء البصرة أمر أصحابه أن يَسمعوا من أفواه الناس، فأُتِيَ برجلٍ تلا آية: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، قال: وما دعاك إلى هذا؟ قال: آيةٌ من كتاب الله عزَّ وجل، خطرتْ على بالي فتلوتُها، قال: والله لأعملنَّ فيك بالآية الثانية: وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، ثمَّ أمرَ به فبُنِيَ عليه ركنٌ من أركان القصر. قال: وبعثَ زياد إلى رجلٍ من بني تميمٍ فقال: أخبِروني بصُلَحاء كلِّ ناحيةٍ فأخبَروه، فاختار منهم رجالًا فضمَّنَهم الطريق وقال: لو ضاع بيني وبين خراسان حبلٌ لعلِمت مَنْ لقَطَه. وكان يدفن الناس أحياءً وينزِع أضلاع اللُّصوص. قال: وقال عبد الله للحجَّاج: كيف تَسير في الناس؟ قال: أنظُر إلى عجوزٍ أدركتْ زيادًا فأسألها عن سِيرتِه فأعمَل بها، فأخذَ والله بِسُنَّته حتى ما تركَ منه شيئًا. وذكروا أن الحجَّاج لمَّا أتى المدينة أرسل إلى الحسَن بن الحسَن — رضي الله عنه — فقال: هات سَيف رسول الله ﷺ ودرعه. قال: لا أفعل، قال: فجاء الحجَّاج بالسَّيف والسَّوط، فقال: والله لأضربنَّك بهذا السَّوط حتى أُقَطِّعُه، ثمَّ لأضربنَّك بهذا السَّيف حتى تُبرُد أو تأتيني بهما. فقال الناس: يا أبا مُحمَّد، لا تَعرِض لهذا الجبَّار، قال: فجاء الحسَن بسَيف رسول الله ﷺ ودرعه فوضعَهما بين يدَي الحجاج، فأرسل الحجَّاج إلى رجلٍ من بني أبي رافع مولى رسول الله ﷺ فقال له: هل تعرِف سَيف رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، فخلَطه بين أسيافه، ثُمَّ قال: أخرِجه، ثمَّ جاء بالدرع فنظر إليه ثمَّ قال: هناك علامة كانتْ على الفضل بن العباس يوم اليرموك، فطُعِن بحربةٍ فخرقَتِ الدرع فعرفناها، فوجدَ الدرع على ما قال، فقال الحجَّاج: أما والله لو لم تَجئني به وجئتَ بغَيره لضربتُ به رأسك. وذكروا أنَّ الحجَّاج قال ذات ليلةٍ لحاجِبه: اعسُس بنفسك، فمَنْ وجدتَه فجِئني به، فلمَّا أصبح أتاه بثلاثة، فقال: أصلَح الله الأمير ما وجدتُ إلَّا هؤلاء الثلاثة، فقال الحجَّاج لواحدٍ منهم: ما كان سبب خروجك بالليل وقد نادى المُنادي أن لا يخرُج أحدٌ بالليل؟ قال: أصلَح الله الأمير، كنتُ سكرانًا فغلَبَني السُّكر فخرجتُ ولا أعقل، ففكَّر ساعة ثمَّ قال: سَكران غلبَه سُكره خَلُّوا عنه لا تَعودنَّ، ثمَّ قال للآخر: فأنت، ما سببُ خُروجك؟ قال: أصلح الله الأمير، كنتُ مع قومٍ في مجلسٍ يَشربون فوقعَتْ بينهم عربَدَة، فخِفْتُ على نفسي فخرجت، ففكر الحجاج ساعة، فقال: رجل أحبَّ المُسالَمة خلُّوا عنه، ثمَّ قال للآخر: ما كان سبب خروجِك؟ فقال: لي والدةٌ عجوز وأنا رجلٌ حمَّال، فرجعتُ إلى بيتي فقالت والِدَتي: ما ذُقْتُ إلى هذا الوقت طعامًا ولا ذواقًا، فخرجتُ ألتمِس لها ذلك فأخذَني العسَس، ففكر ساعة ثمَّ قال: يا غلام، اضرِبْ عُنقَه؛ فإذا رأسُه بين رِجْلَيه.