قال الكسروي: وقَّع كسرى بن هُرمز إلى بعض المُحبَّسين: مَنْ صبرَ على النازِلة كان
كمن
لم تنزل به، ومن طُوَّل في الحَبْل كان فيه عَطبه، ومن أكل بلا مِقدار تلفَتْ نفسه. قيل:
ودخل ابن الزيَّات على الأفشين وهو محبوس، فقال يُخاطبه:
فقال الأفشين: مَنْ صحِبَ الزمان لم ينجُ من خَيرِه أو شرِّه، ووَجدَ الكرامة والهَوان،
ثمَّ قال:
ولِعَليِّ بن الجهْم لمَّا حبَسَه المتوكِّل:
قالتْ حُبِستَ فقُلتُ ليس بِضائري
حَبسي وأيُّ مُهَنَّدٍ لا يُغْمَدُ
أوَما رأيتِ الليثَ يألفُ غَيلَه
كِبرًا وأوباش السِّباع تَردَّدُ
والنارُ في أحجارِها مَخبوءةٌ
لا تُصْطَلَى إن لم تُثِرها الأزنُدُ
والبَدْرُ يُدركه الظلام فتنجلِي
أيامُه وكأنَّهُ مُتجدِّدُ
والزاعِبية لا يُقيمُ كُعوبها
إلَّا الثِّقاف وجَذوةٌ تتوقَّدُ
غِيَرُ الليالي بادئاتٌ عُوَّدٌ
والمالُ عاريةٌ يُفادُ ويَنفَدُ
لا يُؤيسنَّك مِن تفرُّج كُربةٍ
خَطبٌ أتاك به الزمان الأنكَدُ
فلكلِّ حالٍ مُعقِبٌ ولرُبَّما
أجلى لك المكروه عمَّا تَحمدُ
كم من عليلٍ قد تخطَّاه الرَّدى
فنجا ومات طبيبُه والعُوَّدُ
صبرًا فإن اليوم يعقُبُه غدٌ
ويدُ الخِلافةِ لا تُطاوِلها يدُ
والحبسُ ما لم تَغشَهُ لِدَنيَّةٍ
شنعاءَ نِعمَ المنزلُ المُتورَّدُ
لو لم يكن في الحَبْس إلَّا أنه
لا يَستذِلُّك بالحِجاب الأعبُد
بيتٌ يُجدِّدُ للكريم كرامةً
ويُزارُ فيه ولا يَزُورُ ويُحمَد
أبِلغ أميرَ المؤمنين ودُونَه
خَوف العدا ومَخاوِفٌ لا تَنفَدُ
أنتم بنو عمِّ النبي مُحمَّدٍ
أوْلى بما شرَع النبيُّ مُحمَّدُ
ما كان مِن حسنٍ فأنتم أهلُه
كرُمتْ مَغارِسُكم وطاب المَحتِدُ
أمِنَ السَّوِيَّة يا ابن عمِّ مُحمَّدٍ
خَصْمٌ تُقرِّبُه وآخرُ يُبعَدُ
يا أحمد بنَ أبي دُؤادٍ إنما
تُدعى لكلِّ كريهةٍ يا أحمدُ
إنَّ الذين سَعوا إليك بباطلٍ
أعداءُ نِعمتك التي لا تُجحَدُ
شَهِدوا وغِبنا عنهم فتحكَّموا
فينا وليس كغائبٍ من يَشهَدُ
لو يَجمَعُ الخُصَماءَ عندَك مَنزِلٌ
يومًا لَبانَ لك الطريقُ الأرشدُ
والشمسُ لولا أنَّها مَحجوبةٌ
عن ناظِريك لَمَا أضاء الفرقَدُ
ضدُّه
أنشدَنا عاصِم بن محمد الكاتب لنفسه لمَّا حبَسه أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف،
قوله:
قالت حُبِست فقلت خَطبٌ أنكدُ
أنحى عليَّ به الزَّمان المُرْصَدُ
لو كنتُ حُرًّا كان سَربي مُطلقًا
ما كنتُ أُحبَسُ عُنوةً وأُقيَّدُ
لو كنتُ كالسَّيف المُهنَّدِ لم يكن
وقتُ الكريهة والشدائد يُغمدُ
لو كنت كاللَّيثِ الهَصور لما رَعتْ
فيَّ الذئاب وجَذوتي تتوقَّدُ
من قال إنَّ الحبْس بيتُ كرامةٍ
فمُكاشِرٌ في قوله مُتجلِّدُ
ما الحبْس إلا بيتُ كلِّ مَهانةٍ
ومَذلَّةٍ ومكارهٍ لا تنفدُ
إن زارَني فيه العدوُّ فشامِتٌ
يُبدي التوجُّعَ تارةً ويُفَنِّدُ
أو زارَني فيه المُحِبُّ فمُوجَعٌ
يُذري الدُّموعَ بزفرةٍ تتردَّدُ
يكفيك أنَّ الحبْس بيتٌ لا يُرى
أحدٌ عليه مِنَ الخلائق يُحسَدُ
تمضي الليالي لا أذوقُ لِرقدَةٍ
طَعمًا وكيف يَذوق مَنْ لا يَرْقَدُ
في مُطبَقٍ فيه النهارُ مُشاكِلٌ
لليلِ والظلماتُ فيه سَرْمَدُ
فإلى متى هذا الشَّقاء مُؤكَّدٌ
وإلى متى هذا البَلاء مُجدَّدُ
ما لي مُجيرٌ غير سيِّدي الذي
ما زال يكفُلُني فنِعمَ السَّيِّدُ
غَذِيتْ حُشاشةُ مُهجتي بنوافلٍ
من سيْبِه وصنائعٍ لا تُجحدُ
عِشرين حولًا عشتُ تحت جناحِه
عيْشَ الملوك وحالتي تتزيَّدُ
فخلا العدوُّ بمَوضِعي من قلبه
فحَشاهُ جَمرًا نارُه تتوقَّدُ
فاغفِر لعبدِك ذنبَه مُتطوِّلًا
فالحِقدُ منك سَجيةٌ لا تُعهَدُ
واذكر خصائص خِدمتي ومَقاوِمي
أيامَ كنتَ جميعَ أمري تَحمَدُ
وقال عبد الله بن مُعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب — رضي الله عنهم:
خرجْنا من الدُّنيا ونحنُ منَ اهْلها
فلسْنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا دخل السَّجَّان يومًا لحاجةٍ
عجِبنا وقُلنا جاء هذا من الدُّنيا
ونفرَح بالرُّؤيا فجُلُّ حديثنا
إذا نحن أصبحْنا الحديثُ عن الرؤيا
فإن حسُنتْ كانت بطيئًا مَجيئُها
وإن قبُحَت لم تُنتظِر وأتَتْ سعيًا
وقال آخر:
ألا أحدٌ يدعو لأهل محلَّةٍ
مُقيمين في الدُّنيا وقد فارقوا الدُّنيا
كأنَّهم لم يَعرفوا غير دارِهم
ولم يَعرفوا غير الشدائد والبلوى
وقال ابن المُعتز:
تعلَّمتُ في السجن نسجَ التِّكَك
وكنتُ أمرأً قبلَ حَبْسي مَلك
وقُيِّدتُ بعد رُكوب الجِياد
وما ذاك إلَّا بِدَورِ الفَلَك
ألم تُبصِرِ الطيرَ في جَوِّها
تكادُ تُلاصِقُ ذات الحُبُك
إذا أبصرَتْهُ خُطوبُ الزمان
أوْقَعنَه في حِبال الشَّرك
فها ذاك من حالِقٍ قد يُصادُ
ومن قَعْرِ بحرٍ يُصادُ السَّمك
ووُجِدَ في هذا البيت الذي قُتِلَ فيه مكتوب بخطِّه على الأرض:
يا نفسُ صبرًا لعلَّ الخير عُقباكِ
خانَتْك بعدَ طوال الأمن دُنياك
مرَّتْ بنا سَحَرًا طيرٌ فقُلتُ لها
طُوباكِ يا ليَتَني إيَّاك طُوباكِ
وقال أعرابي:
ولمَّا دخلتُ السجن كبَّر أهلُه
وقالوا أبو ليلى الغداةَ حَزينُ
وفي الباب مكتوبٌ على صفَحاته
بأنَّك تنزو ثمَّ سَوف تلينُ
وفي الحديث المرفوع أن يُوسُف — عليه السلام — شكا إلى الله تعالى طول الحَبْس، فأوحى
إليه: أنت حبَسْتَ نفسك حين قُلت: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ
مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، ولو قُلت: العافِية أحبُّ إليَّ لعُوفيت،
قال: وكتَب يُوسُف — عليه السلام — على باب السِّجن: هذه مَنازل البلوى وقُبور الأحياء
وشماتة الأعداء وتَجربة الأصدقاء.