محاسن الصُّحبة
قيل: قال علقمة بن ليث لابنه: يا بُني، إن نازعتْك نفسُك إلى الرِّجال يومًا لحاجتِك
إليهم، فاصحَبْ مَن إن صَحِبته زانك، وإن تخفَّفتَ له صانك، وإن نزلتْ بك مؤنة مانَك،
وإن
قُلتَ صدَّق قولك، وإن صُلْت شدَّد صَولك. اصحَبْ مَن إذا مددتَ إليه يدَك لفضلٍ مدَّها،
وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن بدَتْ منك ثَلمة سدَّها، واصحَبْ مَن لا تأتيك منه البوائق،
ولا تختلِف عليك منه الطرائق، ولا يَخذُلك عند الحقائق. وقال آخر: اصحَبْ مَنْ خوَّلك
نفسه
وملَّكك خِدمَته وتَخيَّرك لزمانه، فقد وجَبَ عليك حقُّهُ وذمامه، وكان يُقال: مَنْ قبِل
صِلتك فقد باعك مُروءته وأذلَّ لقدْرك عِزَّه. وقال بعضهم لصاحِبه: أنا أطوَعُ لك من
اليد،
وأذلُّ من النَّعل. وقال بَعضهم: إذا رأيتَ كلبًا ترَكَ صاحِبَه وتَبِعَك فارجُمْه، فإنه
تارِكُك كما تركَ صاحبه. وقال ابن أبي داود لرجلٍ انقطع إلى مُحمَّد بن عبد الملك الزيَّات:
ما خَبرُك مع صاحبك؟ فقال: لا يقصر في الإحسان إليَّ. فقال: يا هذا، إنَّ لِسان حالِك
يُكذِّب لسان مَقالك.
ضده
قيل: كان يوسف بن عمر الثقفي يتولَّى العراقين لهشام بن عبد الملك، وكان مَذمومًا
في
عمله، فخبَّرني المدائني قال: وزَن يوسف بن عمر دِرهمًا فنقَص حبَّة، فكتَب إلى دُور
الضرب بالعراق يضربُ أهلها مائة. قيل: وخَطَبَ في مسجد الكوفة فتكلَّم إنسان مَجنون
فقال: يا أهل الكوفة، ألم أنْهَكم أن تُدْخِلوا مَساجِدكم المَجانين، اضرِبوا عُنقَه
فضُرِبَت عُنقه. قال: وقال لهمَّام بن يحيى، وكان عاملًا له: يا فاسِق، خرَّبت
مهرجانقذق، قال: إنِّي لم أكن عليها، إنما كنتُ على ماه دينار وعمرتُ البلاد، فأعاد ذلك
عليه مِرارًا، فقال همَّام: قد أخبرتُك أنِّي كنتُ على ماه دينار، وتقول: خرَّبتَ
مهرجانقذق فلم يزل يُعذِّبه حتى مات. قال: وقال لكاتِبه، وقد احتبَس عن ديوانه يومًا:
ما حبَسَك؟ قال: اشتكيتُ ضِرسي. قال: تشتكي ضِرسك وتقعُد عن الديوان؟ ودعا الحَجَّام
وأمرَه أن يقلَعَ ضِرسَين من أضراسه. وعن المدائني قال: حدَّثَني رَضيع كان ليُوسف بن
عمر من بني عبس، قال: كنتُ لا أُحجَب عنه وعن خِدمته، فدعا ذات يومٍ بجَوارٍ له ثلاث،
ودعا بخَصِيٍّ له يُقال له حُديج، فقرَّب إليه واحدة، فقال لها: إنِّي أريد الشُّخوص،
أفأُخلِّفك أو أشخَصُك معي، فقالت: صُحبة الأمير أحبُّ إليَّ، ولكنِّي أحسَبُ أنَّ
مُقامي وتَخلُّفي أعفى وأخفُّ على قلبه، فقال: أحببتِ التَّخلُّف للفجور، يا حُديج
اضرِب، فضربَها حتى أوجَعَها ثُمَّ أمرَه أن يأتِيَه بالثانية وقد رأتْ ما لقيَتْ
صاحِبَتها، فقال لها: إنِّي أريد الشُّخوص، أفأُخَلِّفُك أم أُخرِجُك؟ فقالت: ما أعدِلُ
بصُحبةِ الأمير شيئًا بل تُخرِجُني. قال: أحبَبْتِ الجِماع ما تُريدين أن يَفوتَك ليلة،
يا حُدَيج اضرِب فضرَبَها حتى أوجَعَها، ثمَّ أمرَه أن يأتيه بالثالثة، وقد رأتْ ما
لقيَت المُتقدِّمتان، فقال لها: إنِّي أريد الشُّخوص، أفأُخَلِّفُك أم أُخْرِجُك؟ قالت:
الأمير أعلم؛ ليَنظُر أخفَّ الأمرَين عليه فليَفْعَله، قال: اختاري لنفسك، قالت: ما
عندي اختيار فليختَرِ الأمير، قال: قد فرغتُ من كلِّ عملٍ فلم يَبقَ لي إلَّا أن أختار
لك، أوجِعْها يا حُديج فضرَبَها حتى أوجَعَها. قال الرجل: فكأنما أوْجَعَني من شِدَّةِ
غَيظي عليه، فولَّتِ الجارية فتَبِعَها الخادم، فلمَّا بعُدَت قالت: الخِيرَةُ والله
في
فِراقِك، ما تقرُّ عَين أحدٍ بصُحبتك، فلم يفهم يُوسُف كلامها، فقال: ما تقول يا حُديج؟
قال: قالت كذا وكذا، فقال: يا ابنَ الخَبيثة، مَنْ أمرك أن تُعلِمَني؟ يا غُلام، خُذِ
السَّوط من يَدِه فأوجِعْ رأسَه، فما زال يضرِبُه حتى اشتفى، فتعرَّف من الغُلام الآخر:
كم ضربْتَ؟ قال: لا أدري. قال: يا عَدوَّ الله، تُخرِج حاصِلي من بيتِ مالي من غَير
حِسابٍ اقتُلوه فقَتلوه.
١