محاسن السَّخاء
رُوِي عن نافِعٍ قال: لقيَ يحيى بن زكرياء — عليهما السلام — إبليسَ لعنَه الله، فقال: أخِبرْني بأحبِّ الناس إليك وأبغضِهم إليك؟ قال: أحبُّهم إليَّ كل مؤمن بَخيل، وأبغَضُهم إليَّ كل مُنافق سخي. قال: ولِمَ ذاك؟ قال: لأنَّ السَّخاء خلق الله الأعظم، فأخشى أن يَطَّلِع عليه في بعض سخائه فيغفِرَ له. وقال النبي ﷺ: «السخيُّ قريبٌ من الله قريبٌ من الناس بعيدٌ من النار، والبَخيل بعيدٌ من الله بعيدٌ من الجنَّة قريبٌ من النار، ولَجَاهل سخيٌّ أحبُّ إلى الله — عزَّ وجل — من عابدٍ بخيلٍ، وأدْوَأ الدَّاء البخل.» وقال ﷺ: «ما أشرقَتْ شمسٌ إلَّا ومعها ملكان يُنادِيان — يُسمِعان الخلائق غيرَ الجنِّ والإنس وهُمَا الثَّقلان: اللَّهُم عجِّل لمُنفقٍ خلفًا ولمُمسِكٍ تلفًا، ومَلكان يُناديان: أيُّها الناس، هلمُّوا إلى ربكم، فإن ما قلَّ وكفى خيرٌ ممَّا كثُر وألهى.» وعن الشعبي قال: قالت أم البَنين ابنةُ عبد العزيز أختُ عمر بن عبد العزيز — وكانت تحت الوليد بن عبد الملك: لو كان البُخل قميصًا ما لبسته، أو طريقًا ما سلكتُها، وكانت تُعتِق في كلِّ يوم رقبة، وتحمِل على فرس في سبيل الله، وكانت تقول: البُخل كلُّ البخل مَنْ بخِل على نفسه بالجنَّة. وقِيل: أعتقَتْ هند بنتُ عبد المُطَّلِب في يومٍ واحدٍ أربعين رقبة. وقال بعض الحُكماء: ثوابُ الجُود خلَف ومحبَّة ومُكافأة، وثوابُ البُخل حِرمان وإتلاف ومذمَّة. وقال النبيُّ ﷺ لعليِّ بن أبي طالب — رضي الله عنه: «يا عليُّ، كن شُجاعًا فإنَّ الله يحِبُّ الشُّجاع، وكن سَخيًّا فإن الله يحبُّ السَّخي، وكن غَيورًا فإنَّ الله يحِبُّ الغيور، يا علي، وإنْ إنسانٌ سألَكَ حاجةً ليس لها بأهلٍ فكن أنت أهلًا لها.» وقال النبي ﷺ: «السَّخاء شجرة في الجنة، مَنْ أخذ منها بغُصنٍ مُدَّ به إلى الجنَّة.» وقال عبد العزيز بن مروان: لو لم يدخُلْ على البُخلاء في لؤمِهم إلا سُوء ظنِّهم بالله — عزَّ وجل — لكان عظيمًا. وقال ﷺ: «تَجافَوا عن ذنْبِ السَّخي، فإنَّ الله آخِذٌ بيده كُلَّما عثُر.» وقال بهرام جور: من أحبَّ أن يعرِف فضْل الجُود على سائر الأشياء فلينظُر إلى ما جاد الله به على الخلْق من المواهِب الجليلة والرغائب النفيسة والنَّسيم والرِّيح كما وعدَهم الله في الجِنان، فإنَّهُ لولا رِضاه الجُود لم يَصطفِه لنفسِه. وقال الموبذان لأبرويز: أكنتُم تمنُّون أنتم وآباؤكم بالمَعروف، وتترصَّدون عليه المُكافاة؟ قال: لا، ولا نَستحسِن ذلك لخَوَلنا وعبيدنا، فكيف نرى ذلك وفي كتاب دِينِنا: مَنْ فعل معروفًا خَفيًّا وأظهرَه ليتطوَّل به على المُنعَم عليه فقد نبذَ الدِّين وراء ظهره، واستوجَبَ أن لا نَعُدَّه من الأبرار ولا نذكره في الأتقياء والصالحين. قيل: وسُئل الإسكندر: ما أكبر ما شيَّدْتَ به مُلكك؟ قال: ابتِداري إلى اصطِناع الرِّجال والإحسان إليهم. قال: وكتَبَ أرسطاطاليس في رسالته إلى الإسكندر: واعلم أنَّ الأيام تأتي على كلِّ شيءٍ فتُخلِقه وتُخلِق آثاره، وتُميتُ الأفعال إلَّا ما رَسَخ في قلوب الناس، فأودِعْ قلوبهم محبَّةً آبِدَة تُبقي بها حُسنَ ذِكرك وكريم فِعالك وشَرَف آثارك. قال: ولمَّا قُدِّم بزرجمهر إلى القتل قِيل له: إنك في آخِر وقتٍ من أوقات الدُّنيا، وأولِ وقتٍ من أوقات الآخرة، فتكلَّم بكلام تُذْكَر به، فقال: أي شيءٍ أقول؟ الكلام كثير، ولكن إنْ أمكنك أن تكون حديثًا حسنًا فافعل. قِيل: وتنازَع رجُلان، أحدُهما من أبناء العجَم والآخر أعرابي، في الضِّيافة، فقال الأعرابي: نحن أقرى للضَّيف، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنَّ أحدَنا رُبَّما لا يَملك إلَّا بعيرًا، فإذا حلَّ به ضَيف نحَرَه له. فقال له الأعجمي: فنحنُ أحسنُ مَذْهبًا في القِرى مِنكم. قال: وما ذاك؟ قال: نحنُ نُسمِّي الضَّيف مهمان، ومعناه أنه أكبرُ مَنْ في المنزل وأملَكُنا به. وقال بعضُ الحُكماء: بلغَ الجودَ مَنْ قام بالمَجهود. وقيل: الجَواد مَنْ لم يَضِنَّ بالموجود. وقال المأمون: الجُود بذْلُ الموجود، والبُخل سُوء الظنِّ بالمعبود. قيل: وشكا رجل إلى إياس بن معاوية كثرة ما يهَبُ ويَصِل الناس ويُنفِق. قال: إنَّ النَّفَقة داعية الرِّزق، وكان جالسًا على باب، فقال للرَّجُل: أغْلِقْ هذا الباب فأغلَقَه، فقال: هل تَدخُل فيه الرِّيح؟ قال: لا. قال: فافتَحْه، ففتَحَه فجعلتِ الرِّيح تخترِقُ في البيت. فقال: هكذا الرِّزق؛ أغلقتَ فلم تُدخِلِ الرِّيح، فكذلك إذا أمسكتَ لم يأتِك الرِّزق. قيل: ووَصَل المأمون مُحمَّد بن عباد المهلبي بمائة ألفِ دِينار، ففرَّقها على إخوانه، فبلغَ ذلك المأمون، فقال: يا أبا عبد الله، إنَّ بُيوت الأموال لا تقوم بهذا، فقال: يا أمير المؤمنين، البُخل بالمَوجود سُوء الظنِّ بالمعبود. وعن أُميَّةَ بن يَزيدٍ الأُموي قال: كُنَّا عند عَبْدِ الرحمن بن يزيد بن معاوية، فجاءه رجل من أهل بيتِه فسأله المَعونة على تزويج، فقال له قَولًا ضعيفًا فيه وعدٌ وقلَّة إطماع. فلمَّا قام من عِنده ومضى دعا صاحِب خِزانته فقال: أعطِه أربعمائة دينار، فاستكثرْناها وقُلنا: كنتَ ردَدْتَ عليه ردًّا ظنَنَّا أنك تُعطيه شيئًا قليلًا، فإذا أنتَ أعطيتَهُ أكثر مِمَّا أمَّل، فقال: إنِّي أحبُّ أن يكون فِعلي أحسنَ من قولي. وبحاتِمٍ يُضرَب المَثَل في السَّخاء، فحُدِّثنا عن بعضِ حالات حاتم قِيل: كان حاتم جوادًا شاعرًا، وكان حيثما نزل عُرِفَ منزله، وكان ظفِرًا؛ إذا قاتَلَ غلَب، وإذا غنِمَ نَهَب، وإذا سُئل وهَب، وإذا ضرَبَ بِالقِداح سَبَق، وإذا أَسَرَ أطلَق. وكان أقسَمَ أنْ لا يَقتُل واحِدَ أُمِّه. قيل: ولَمَّا بلغَ حاتمًا قولُ المُتلمِّس الضَّبعي:
فقال: ما له قطَعَ الله لِسانَهُ يُحرِّض الناس على البُخل، أفلا قال:
قيل: ونزل على حاتم ضَيف ولم يحضره القرى، فنَحَر ناقةَ الضَّيف وعشَّاه وغدَّاه، وقال: إنك قد أقرَضْتَني ناقتَك فاحتكِم عليَّ. قال: راحِلتَين، قال: لك عِشرون. أرضيت؟ قال: نعم، وفوق الرِّضا. قال: لك أربعون. ثمَّ قال لمن بِحضرتِهِ من قومه: مَنْ أتانا بناقةٍ فله ناقَتان بعد الغارة. فأتوه بأربَعين فدفعَها إلى الضَّيف. وحَكَوا عن حاتمٍ أنه خرج في الشَّهر الحرام يطلُب حاجة، فلمَّا كان بأرض عنزة ناداه أسيرٌ فيهم: يا أبا سفانة، قد أكلَنِي الأسار والقَمْل. قال: والله ما أنا في بلادي ولا معي شيء، وقد أسأتَ إليَّ أنْ نوَّهتَ باسمي. فذهب إلى العَنزيِّين فساوَمَهم فيه واشتراه منهم، وقال: خَلُّوا عنه وأنا أُقيم مكانَه في قَيْده حتى أؤدِّي فداه، ففعلوا فأتاهم بفداء. قيل: ولمَّا مات حاتِم خرَج رجل من بني أسد يُعرَف بأبي الخَيبري في نفرٍ من قومِه، وذلك قبل أن يعلم كثيرٌ من العرَب بمَوته، فأناخوا بقَبرِه فقال: والله لأحلِفنَّ للعرَبِ أني نزلتُ بحاتمٍ وسألتُه القِرى فلم يفعل. وجعل يضرب القبرَ برِجله ويقول:
فقال بعضُهم: ما لك تُنادي رمَّة؟! وباتوا مكانهم، فقام صاحِب القول من نَومه مَذعورًا فقال: يا قوم، عليكم مَطاياكم، فإنَّ حاتمًا أتاني فأنشدَني:
وقِيل في المَثل: هو أجود من كعب بن مامة وكان من إياد، وبلَغَ من جُودِه أنه خرج في ركبٍ فيهم رجل من بني النَّمِر بن قاسط في شهر ناجر، وألجأهم العَطش فضلُّوا فتصافَنوا ماءهم، فجعل النمري يشربُ نَصيبه، فإذا أراد كعبُ أن يشربَ نصيبه قال: آثِرْ أخاك النمري فيُؤثِره حتى أضرَّ به العطش. فلمَّا رأى ذلك استحثَّ ناقَتَه وبادر حتى رُفِعَت له أعلام الماء وقيل له: رِدْ كعب، فإنك ورَّاد فمات قبل أن يرِدَ ونجا رفيقه. ومن قول أبي تمام:
وللبُحتري:
ولِبكر بنِ النطَّاح في أبي دلف:
قال أبو هفان: أنشدتُ هذه الأبيات عبد العزيز بن أبي دُلف بسُرَّ مَنْ رَأَى، فقال: هل سمعتَ بمثلِ هذه الأبيات؟ قلتُ: لا. قال: ولِغَيره في أبي دُلف:
قال ابنُ يحيى النديم: دعاني المُتوكلُ ذاتَ يومٍ وهو مخمور، فقال: أنشِدْني قولَ عمارة في أهل بغداد فأنشدتُهُ:
فقال المُتوكِّل: وَيْلي على ابن البوَّال على عَقِبيه يهجو شقيق دولة العبَّاس، قال: فهل عندك من المدح في أبي دلف القاسم بن عيسى شيء؟ قلتُ: نعم يا أمير المؤمنين؛ قول الأعرابي الذي يقول فيه:
وقال غيره:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال في ابن أبي دؤاد:
ويُروى في الحديث أنه لا يَجتمع الشُّحُّ والإيمان في قلب عبدٍ صالحٍ أبدًا. ويقولون: الشحيح أغدَرُ من الظالم. أقسَمَ الله بعزَّته لا يُساكِنُه بخيلٌ في جنَّتِه. وقال النبي ﷺ: «مَنْ فُتِحَ له بابٌ من الخَير فلينْتَهِزه، فإنَّهُ لا يدري متى يُغْلَق عنه.» وقال الشاعر في ذلك:
وذكر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب — رضي الله عنه — أنَّ أمير المؤمنين عليًّا — رضي الله عنه — بعَثَه إلى حكيم بن حِزام بن خويلد يَسأله مالًا، فانطلقَ به إلى منزله، فوجَدَ في الطريق صوفًا فأخذَهُ ومرَّ بقطعة كِساء فأخذها، فلمَّا صار إلى المنزل أعطاه طرفَ الصُّوف، فجعل يَفتلُه حتى صيَّره خيطًا، ثمَّ دعا بغرارةٍ مُخرَّقة فرقعها بالكِساء وخيَّطها بالخيط، وصرَّ فيها ثلاثينَ ألف دِرهمٍ فحُمِلَت معه. قال: وأتى قومٌ قيسَ بن سعد بن عبادة الأنصاري — رحمه الله — يسألونه في حمالة، فصادَفوه في حائطٍ له يَتتبَّع ما يسقط من التَّمْر فيعزِلُ جَيِّده ورديئَهُ على حِدة، فهمُّوا بأن يَرجِعوا عنه وقالوا: ما نظنُّ عنده خيرًا، ثمَّ كلموه فأعطاهم، فقال رجلٌ من القوم: لقد رأيناك تصنَعُ شيئًا لا يُشبِهُ فعالك، فقال: وما ذاك؟ فأخبروه، فقال: إنَّ الذي رأيتُم يَئول إلى اجتماعِ ما ينفَعُ وينمو. ومنها قيل: الذَّودُ إلى الذَّودِ إبل، وأنشد:
وقال آخر:
قال: وأتى رجلٌ طلحة بن عبيد الله فسأله حمالة، فرآه يَهنأ بعيرًا له، فقال: يا غلام، أخرِج إليه بدرة، فقبَضها وقال: أردتُ أن أنصرِف حين رأيتُك تهنأ البعير، فقال: إنَّا لا نُضيِّع الصغير ولا يَتعاظَمُنا الكبير.
مَساوئ البُخل
المَثل السائر في البُخل: هو أبخل من مادر. وهو رجلٌ من بني هلال بن عامر، بلغَ من بُخلِه أنه كان يسقي إبله، فبقِيَ في أسفل الحَوض ماء قليل، فسلَحَ فيه ومدَرَ الحَوض به فسُمِّيَ مادرًا. وذكروا أنَّ بني هلال وبني فزارَةَ تنافَروا إلى أنس بن مُدرك وتراضَوا به، فقالت بنو هلال: يا بني فزارة، أكلتُم إير الحِمار، فقالتْ بنو فزارة: لم نعرفْه. وكان سبب ذلك أنَّ ثلاثةً اصطحبوا؛ فزاري وثعلبي وكلابي، فصادفوا حِمار وَحْش، ومضى الفزاريُّ في بعض حوائجه فطبَخا وأكلا وخبَّآ للفزاري إير الحِمار، فلمَّا رجَعَ قالا: قد خبَّأنا لك حقَّك فكُلْ. فأقبَلَ يأكُلُ ولا يُسيغُه فجعلا يَضحكان، ففطنَ وأخذ السَّيف وقام إليهما وقال: لتأكلُنَّ منه أو لأقتلَنَّكما فامتنعا، فضرَبَ أحدَهُما فقتله وتناوَلَه الآخر فأكلَ منه. فقال فيهم الشاعر:
فقالتْ بنو فَزارة: مِنكم يا بني هلال مَنْ سقى إبله، فلمَّا رَوِيَت سلَحَ في الحَوض ومدَرَه بُخلًا، فنَفرَهم أنس بن مُدرك على الهلالِيِّين، فأخذ الفزاريُّون منهم مائة بعيرٍ وكانوا تراهَنوا عليها. وفي بني هلال يقول الشاعر:
وفي المَثل: هو أبخَلُ من أبي حُباحب، وهو رجل في الجاهلية بلَغَ من بُخله أنَّهُ كان يُسرِج السراج، فإذا أراد أحدٌ أن يأخُذَ منه أطفأَهُ فضُرِبَ به المَثل. ومنهم صاحِب نُجيح بن سلكة اليربوعي، فإنه ذكر أنَّ نجيحًا اليربوعيَّ خرج يومًا يَتصيَّد، فعرَضَ له حمار وحْش فأتبَعَهُ حتى دُفِعَ إلى أكمة، فإذا هو برجلٍ أعمى أسود قاعد في أطمار بين يَدَيه ذهَبٌ وفِضَّة ودُرٍّ وياقوت، فدنا منه فتناوَلَ بعضها ولم يَستطِعْ أن يُحرِّك يدَه حتى ألقاه. فقال: يا هذا، ما هذا الذي بين يديك؟ وكيف يُستطاع أخذُه؟ وهل هو لك أم لِغَيرك؟ فإني أعجَبُ ممَّا أرى، أجوادٌ أنت فتجود لنا؟ أم بخيل فأعذُرك؟ فقال الأعمى: أطلُبُ رجلًا فُقِدَ منذ سِنين، وهو سعد بن خشْرَم بن شماس، فأتِني به نُعطِكَ ما تشاء. فانطلَق نُجيح مُسرعًا قد استُطير فؤاده حتى وصلَ إلى قومِهِ ودخل خِباءه ووضَعَ رأسه فنام لِما به من الغم، لا يدري مَنْ سعد بن خشْرَم، فأتاه آتٍ في منامه فقال له: يا نُجَيح، إنَّ سعد بن خشرم في حيِّ بني مُحلم من ولد ذُهل بن شَيبان، فسأل عن بني مُحلم، ثمَّ سأل عن خشرم بن شماس، فإذا هو بشيخٍ قاعدٍ على باب خِبائه، فحيَّاه نُجيح فردَّ عليه السلام، فقال له نُجيح: مَنْ أنت؟ قال: أنا خشْرم بن شماس. قال له: فأين ولدُك سعد؟ قال: خرَج في طلب نُجيح اليربوعي؛ وذلك أن آتيًا أتاه في منامه فحدَّثه أنَّ مالًا له في نواحي بني يربوع لا يعلَمُ به إلَّا نُجيح اليربوعي، فضرب نُجيح فرسَه ومضى وهو يقول:
فلمَّا دنا من مَحلَّتِه استقبَلَه سعد، فقال له نُجَيح: أيها الرَّاكب، هل لقِيتَ سعدًا في بني يربوع؟ قال: أنا سعد، فهل تدلُّ على نُجيح؟ قال: أنا نُجَيح وحدَّثه بالحديث، فقال: الدالُّ على الخَير كفاعله — وهو أول مَنْ قالَها — فانطلقا حتى أتَيا ذلك المكان، فتوارى الرَّجُل الأعمى عنهما وترك المال، فأخذَهُ سعد كله، فقال نُجيح: يا سعد، قاسِمْني. فقال له: اطو عنِّي وعن مالي كشحًا، وأبى أنْ يُعطيه شيئًا، فانتضى نُجَيح سيفَهُ فجعل يَضربه حتى برد، فلمَّا وقَعَ قتيلًا تحوَّل الرجل الحافِظ للمال سعلاة، فأسرَعَ في أكْلِ سعد وعاد المال إلى مكانه. فلمَّا رأى نُجَيح ذلك ولَّى هاربًا إلى قومه. وقيل: وكان أبو عبسٍ بخيلًا، وكان إذا وقع الدِّرهم في يدِه نقَرَه بإصبعه، ثمَّ يقول: كم من مدينةٍ قد دخلتَها ويدٍ قد وقعْتَ فيها، فالآن استَقرَّ بك القرار، واطمأنَّتْ بك الدار، ثمَّ يَرمي به في صندوقه، فيكون آخِر العهد به. قيل: ونظر سُليمان بن مُزاحِم إلى درهم فقال: في شقٍّ لا إله إلا الله، وفي شِقٍّ محمد رسول الله؛ ما يَنبَغي أن تكون إلَّا مُعاذة، وقذَفَه في صندوقه. وذكروا أنه كان بالريِّ عامل على الخراج يُقال له: المُسيَّب، فأتاه شاعر يَمتدِحه فلم يُعْطِهِ شيئًا، ثمَّ سعلَ سعلةً فضَرَط، فقال الشاعر:
فما زالوا يقولون ذلك حتى هرَبَ منها من غَير عزْل. قال: وكتَبَ أرسطاطاليس إلى رجلٍ بشيءٍ فلم يفعل، فكتب إليه: إن كنتَ أردْتَ فلم تقدِر فمَعذور، وإن كنتَ قدرْتَ ولم تُرِد فسيأتيك يومٌ تريد فيه فلا تَقدِر. قال: وسمِع أبو الأسود الدؤلي رجلًا يقول: مَنْ يُعشِّي الجائع؟ فعشَّاه. ثمَّ قام الرجُل ليخرُج فقال: هيهات تخرج فتؤذي الناس كما آذيتني، ووضع رِجْله في الأدهم حتى أصبح. قال: وكان رجل يأتي ابن المُقفَّع فيلحُّ عليه، وسأله أن يَتغدَّى عنده ويقول: لعلَّكَ تَظنُّ أني أتكلَّف لك شيئًا، والله لا أُقدِّم لك إلَّا ما عندي، فلمَّا أتاه لم يجِد في بيته إلَّا كِسَرًا يابسةً وملحًا جريشًا. وجاء سائل إلى الباب فقال له: وسَّع الله عليك. فلم يذهبْ، فقال: والله لئنْ خرجتُ إليك لأدُقنَّ رأسك. فقال ابن المُقفَّع للسائل: وَيْحك، لو عرفتَ من صِدقِ وعيده ما أعرِفُ من صِدْق وَعدِه لم تَزِدْ كلمةً ولم تُقِمْ طرفَةَ عَين. قال: وكتَبَ إبراهيم بن سابة إلى صديقٍ له كثير المال يَستسلِفه، فكتب إليه: العِيال كثير والدَّخل قليل والمال مكذوب عليه، فكتَبَ إليه: إن كنتَ كاذبًا فجعلك الله صادقًا، وإن كنتَ صادِقًا فجعَلَك الله مَعذورًا. وكتبَ آخر إلى آخر يَصِف رجلًا: أما بَعْدُ، فإنَّك كتبتَ تسألُ عن فلان، كأنك همَمْتَ به أو حدَّثَتْكَ نفسك بالقُدوم إليه، فلا تَفعل؛ فإنَّ حُسنَ الظنِّ به لا يقَعُ في الوَهْم إلا بِخِذلان الله، والطمَع فيما عنده لا يَخطُرُ على القلب إلَّا بِسُوء التوكُّلِ على الله، والرَّجاء فيما في يَدِهِ لا ينبغي إلَّا بعد اليأسِ من رحمةِ الله. إنَّهُ يرى الإيثار الذي يرضى به التَّبذير الذي يُعاقَب عليه، والاقتصاد الذي أُمِر به الإسرافَ الذي يُعاقَبُ عليه. وإن بني إسرائيل لم يَستبدلوا العَدَسَ والبَصَل بالمَنِّ والسلوى إلَّا لفضْلِ أخلاقِهم وقديم عِلمِهم، وإنَّ الصَّنيعة مرفوعة والصِّلة موضوعة والهِبة مكروهة والصَّدقة مَنحوسة والتوسُّع ضلالة والجود فُسوق والسَّخاء من همَزَاتِ الشياطين، وإنَّ مواسات الرجال من الذُّنوب المُوبِقة والإفضال عليهم من إحدى الكبائر. وايم الله إنه يقول: إنَّ الله لا يغفِرُ أن يُؤثِرَ المرءُ في خصاصَةٍ على نفسه ويَغفِرُ ما دون ذلك لمن يشاء، ومَنْ آثر على نفسه فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا، كأنَّهُ لم يسمَعْ بالمعروف إلَّا في الجاهلية الذين قَطَعَ الله أدبارَهُم ونهى المُسلمين عن اتِّباع آثارهم، وإن الرَّجْفَةَ لم تأخُذْ أهل مدين إلا لسَخاءٍ كان فيهم، ولا أهلَكَتِ الرِّيح عادًا إلَّا لتوسُّعٍ كان منهم، فهو يَخشى العِقاب على الإنفاق، ويَرجو الثَّواب على الإقتار، ويَعُدُّ نفسه خاسِرًا ويَعِدُها الفقر، ويأمُرُها بالبُخل خِيفة أنْ تمرَّ به قوارِعُ الدَّهر، وأن يُصيبه ما أصاب القرون الأولى. فأقِمْ رحِمَكَ الله مكانك، واصطبِرْ على عُسْرِك، عسى الله أن يُبدِلَنا وإيَّاك خيرًا منه زكاةً وأقرَبَ رُحمًا. ولِبَعض الكُتَّاب: أمَّا بَعْد، فإنَّ كثيرَ المَواعيد من غَير نُجْحٍ عارٌ على المطلوب إليه، وقِلَّتُها مَعَ نُجْحِ الحاجة مَكرَمَةٌ من صاحِبِها، وقد رَدَدْتَنا في حاجَتِنا هذه في كثرةِ مَواعيدِك من غَير نُجحٍ لها، حتى كأنَّا قد رَضِينا بالتَّعَلُّلِ لها دون النجاح، كقول القائل:
وكتَبَ آخر: ما رأيتُ مثل طِيب قولِك أمرَّه سوءُ فِعلِك، ولا مِثل بَسْط وَجهِك خالَفَهُ طول تَنكيدك، ولا مثل قُرب عِدَتِك باعدَها إفراطُ مَطْلِك، ولا مِثل أُنسِ مَذاهِبك أوحَشَ منه اختبارُ عَواقِبك، حتى كأنَّ الدَّهرَ أودَعَكَ لَطيفَ الحِيلة بالمَكْر بأهل الخُلَّة، وكأنَّه زَيَّنَك فيهم بالخديعة لتُدرِك منهم فرصةَ الهَلَكة. وقد قِيل: وَعدُ الكريم نقدٌ وتعجيل، ووعدُ اللئيم مَطْل وتأجيل. وقال بعضهم: وعدْتَنا مَواعيدَ عُرقوب، ومَطَلْتَنا مَطْل نُعاس الكلب، وغرَرْتَنا غرورَ السَّراب، ومَنَيَّتَنا أمانيَّ الكمُّون. ولبَعضِهم: أمَّا بعد، فلا تَدَعْني مُعلقًا بوعدك، فالعذُر الجميل أحسنُ من المَطْل الطويل. فإنْ كُنتَ تُريد الإنعام فأنجِح، وإنْ تعذَّرتِ الحاجةُ فأوضِحْ، وأعلِمْني ذلك لأصرِفَ وجهَ الطَّلَبِ إلى غَيرك. وذكروا أنَّ فتًى من مُراد كان يَختلِف إلى عمرو بن العاص، فقال له ذات يوم: ألكَ امرأة؟ قال: لا. قال: فتزوَّج وعليَّ المَهْر، فرجَعَ إلى أُمِّه فأخبَرَها الخبر، فقالت:
فتزوَّجَ وأتى عمرو بن العاص، فاعتلَّ عليه ولم يُنجِزْه وعدَه، فشكا ذلك إلى أُمِّه، فقالت:
ووصَفَ أعرابيٌّ رَجُلًا، فقال له: بِشْرٌ مُطمِع ومَطْل مُؤيِس، وكنتُ منه أبدًا بينَ الطَّمَع واليأس، لا بَذْلٌ صريح ولا مَطْل مُريح. وقال أعرابي: أنا من فُلانٍ في أماني تُهبِط العُصم، وخُلْفٌ يُذكِّر العُدْم، ولستُ بالحريص الذي إذا وعَدَه الكذوب علَّقَ نفسه لدَيْهِ وأتعَبَ راحلتَهُ إليه. وذكر أعرابيٌّ رجُلًا فقال له: مواعيد عَواقِبُها المَطلُ وثِمارها الخُلْف ومَحصولها اليأس. ويُقال: سُرعة اليأس أحدُ النُّجْحَين. وقال بعضهم: مَواعيد فلان مَواعيد عُرقوب، ولَمْعُ الآل وبرْق الخلَّبِ وأماني الكمُّون ونار الحُباحب وصلَف تحت الراعدة. ومِمَّا قِيل في ذلك:
ولأبي نواس:
ولأبي تمَّام:
وقال آخر:
وقال حسَّان بن ثابت:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال آخر:
وعن حذيفة بن محمد الطائي قال: قال الرشيد: ما لأحد من المولدين ما لأبي نواس في الهجاء:
وقال آخر:
وقال الخليل بن أحمد العروضي الأزدي:
وقال ابن أبي البغل:
وقال آخر: