قال الأصمعي: حججت فنزلت ضرية، فإذا أعرابي قد
كوَّر عمامته على رأسه، وقد تنكَّب قوسًا فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال:
أيها
الناس، إنما الدنيا دار ممر، والآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم
عند مَنْ يعلم أسراركم، أما بعد، فإنه لن يستقبل أحدٌ يومًا من عمره إلا بفراق آخر من
أجله،
فاستعجلوا لأنفسكم لما تقدمون عليه لا لما تظعنون عنه، وراقبوا مَنْ ترجعون إليه، فإنه
لا
قويٌّ أقوى من خالق، ولا ضعيف أضعف من مخلوق، ولا مهرب من الله إلا إليه، وكيف يهرب مَنْ
يتقلب بين يدي طالبه
وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وقال بعض الأعراب: إن الموت
ليقتحم على بني آدم كاقتحام الشيب على الشباب، ومَنْ عرف الدنيا لم يفرح بها فهو خائف
ولم
يحزن فيها على بلوى، ولا طالب أغشم من الموت، ومن عطف عليه الليل والنهار أردياه، ومن
وكل
به الموت أفناه. وقال أعرابي: كيف يُفْرَح بعمر تنقصه الساعات، وبسلامة بدن معرض للآفات،
لقد عجبت من المرء يفر من الموت وهو سيبله، ولا أرى أحدًا إلا استدركه الموت، وقيل: وُجِدَ
في كتاب من كتب بزرجمهر صحيفة مكتوب فيها أن حاجة الله إلى عباده أن يعرفوه، فمَنْ عرفه
لم
يعصه طرفة عين، كيف البقاء مع الفناء؟ وكيف يأسى المرء على ما فاته والموت يطلبه؟ وقال
كسرى: لم يكن من حق علمه أن يقتل، وإني لنادم على ذلك.
١ قال: وحضرت الوفاة رجُلًا من حكماء فارس، فقيل له: كيف يكون حال مَنْ يريد
سفرًا بعيدًا بغير زاد، ويقدم على ملك عادل بغير حُجَّة، ويسكن قبرًا موحشًا بغير أنيس؟