محاسن فضل الدنيا
قال عليُّ بن أبي طالب — كرَّم الله وجهه: الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوَّد منها، مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه، يكسبون فيها الرحمة، ويربحون فيها الجنة، فمَنْ ذا يذمها وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وشوَّقت بسرورها إلى السرور وببلائها إلى البلاء تخويفًا وتحذيرًا وترغيبًا وترهيبًا؟ فيا أيها الذام للدنيا والمفتتن بغرورها، متى غرَّتك؟ أبمصارع آبائك من البِلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك؟ وكم مرَّضت بيديك تبتغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء وتلتمس لهم الدواء؟ لم تنفعهم بطلبتك، ولم تشفهم بشفاعتك، ولم تستشفهم باستشفائك بطبك مثلت بهم الدنيا مصرعك ومضجعك حيث لا ينفعك بكاؤك ولا يُغْني عنك أحباؤك، ثمَّ التفت إلى قبور هناك فقال: يا أهل الثراء والعز، الأزواج قد نُكِحَت، والأموال قد قُسِّمت، والدور قد سُكِنَت، هذا خبر ما عندنا، فما فخبر ما عندكم؟ ثمَّ قال لمن حضر: والله لو أذن لهم لأجابوا بأن خير الزاد التقوى، وأنشد:
قال أبو حازم: الدنيا طالبة ومطلوبة: طالب الدنيا يطلبه الموت حتى يُخْرِجَه منها، وطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى توفيه رزقه، وقال الحسن البصري: بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بعجوز متعبدة، فقلت: مَنْ أنت؟ فقالت: من بنات ملوك غسان، قلت: فمن أين طعامك؟ قالت: إذا كان آخر النهار جاءتني امرأة متزيِّنَة، فتضع بين يدي كوزًا من ماء ورغيفين، قلت لها: أتعرفينها؟ قالت: اللهم لا، قلت: هي الدنيا، خدمتِ ربك — جلَّ ذكره — فبعث إليك الدنيا فخدمتك.
ضده
زعموا أن زياد بن أبيه مرَّ بالحيرة، فنظر إلى دير هناك فقال لخادمه: لمن هذا؟ قيل له: هذا دير حرقة بنت النعمان بن المنذر، فقال: ميلوا بنا إليه لنسمع كلامها، فجاءت إلى وراء الباب، فكلَّمها الخادم فقال لها: كلمي الأمير، فقالت: أأوجز أم أطيل؟ قال: بل أوجزي، قالت: كُنَّا أهل بيت، طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحدٌ أعزَّ مِنَّا، وما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا، قال: فأمر لها بأوساق من شعير، فقالت: أطعمتك يدٌ شبعاء جاعت، ولا أطعمتك يد جوعاء شبعت، فسُرَّ زياد بكلامها، فقال لشاعر معه: قيِّد هذا الكلام ليُدرَّس، فقال:
ويُقال: إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان، فألفاها وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: ما من دار امتلأت سرورًا إلا امتلأت بعد ذلك ثبورًا، ثمَّ قالت:
قال: وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت لكريم إليك حاجة، وعقد لك المنن في أعناق الكرام، ولا أزال بك عن كريم نعمة، ولا أزالها بغيرك إلا جعلك سببًا لردِّها عليه، قال: وقال عبد الملك بن مروان لسلم بن يزيد الفهمي: أي الزمان أدركت أفضل؟ وأي ملوكه أجمل؟ فقال: أما الملوك، فلم أر إلا ذامًّا وحامدًا، وأمَّا الزمان فرفع أقوامًا ووضع آخرين، وكلهم يذم زمانه؛ لأنه يبلي جديدهم ويهرم صغيرهم، وكل ما فيه منقطع إلا الأمل، قال: فأخبرني عن فهم، قال: هم كما قال الشاعر:
قال: فمن يقول منكم:
قال: أنا وقد كتمتها، قال: ولما دخل علي — صلوات الله عليه — المدائن، فنظر إلى إيوان كسرى أنشد بعض مَنْ حضره قول الأسود بن يعفر:
وقال علي — صلوات الله عليه: أبلغ من ذلك قول الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ، وقال عبد الله بن المعتز: أهل الدنيا كركب يُسار بهم وهم نيام، وقال غيره: طلاق الدنيا مهر الجنة، وذكروا أن أعرابيًّا ذكر الدنيا فقال: هي جمة المصائب رنقة المشارب، وقال آخر: الدنيا لا تمتعك بصاحب، قال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله تعالى أنه لا يُعْصَى إلا فيها ولا يُنال ما عنده إلا بتركها، وقال: إذا أقبلت الدنيا على امرئٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سَلَبَتْه محاسن نفسه، وقال الشاعر:
قال الأصمعي: وُجِدَ في دار سليمان بن داود — عليه السلام — على قبة مكتوبًا:
وكان إبراهيم بن أدهم ينشد:
وقال أبو العتاهية:
وقال آخر:
وقال محمود الوراق:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:
قال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: بينا أنا أدور في بعض البراري إذا أنا بصوت:
فقلت: أإنسي أم جني؟ فلم يجبني أحد، فنقشته على خاتمي، قال: وسمع يحيى بن خالد بيت العدوي في صفة الدنيا:
فقال: لقد نُظِمَ في هذا البيت صفة الدنيا، قال: وسمع المأمون بيت أبي نواس:
فقال: لو سئلت الدنيا عن نفسها ما وصفت نفسها كصفة أبي نواس، وقيل للحسن البصري: ما تقول في الدنيا؟ قال: ما أقول في دار حلالها حساب وحرامها عقاب، فقيل: ما سمعنا كلامًا أوجز من هذا، قال: بلى، كلام عمر بن عبد العزيز، كتب إليه عدي بن أرطاة — وهو على حمص — أن مدينة حمص قد تهدَّمت واحتاجت إلى صلاح حيطانها، فكتب إليه: حصِّنها بالعدل ونقِّ طُرُقَها من الظلم، والسلام.