محاسن الغِيرة
رُوِي أنه إذا أُغير الرَّجُل في أهله أو في بعض مَناكِحه أو مَملوكته فلم يَغِرْ بعثَ الله جلَّ اسمُه إليه طيرًا يُقال له: القرقفنَّة حتى يَسقُط على عارِضة بابه، ثمَّ يُمهِله أربعين صباحًا يهتُف به: إنَّ الله غَيور يحبُّ كُلَّ غَيور. فإن هو تغيَّر وأنكر ذلك، وإلَّا طار حتى يسقُط على رأسِه فيخفُق بجناحَيه على عَينيه، ثمَّ يَطير عنه فينزِع الله منه رُوح الإيمان وتُسمِّيه الملائكة الدَّيُّوث. وقال النبيُّ ﷺ: باعِدوا بين أنفاس الرجال والنساء، فإن كانت المُعايَنة واللقاء كان الدَّاء الذي لا دَواء له. ورُوِي أنَّ امرأةً ذات عقلٍ ورأي حملتْ من فاجِر، فقيل لها في ذلك، فقالت: قُرب الوساد وطول السَّواد. تُريد قُرب مَضجعِه منها وطول مُسارَّته إيَّاها. وقال ﷺ: النساء حَبائل الشيطان. وقال سعيد بن مُسلم: لأن يَرى حُرمتي ألفُ رجلٍ على حال تكشُّفٍ وهي لا تَراهُم أحبُّ إليَّ من أن ترى حُرمَتي رجلًا مُواجهةً. وقيل لعقيل بن عُلَّفة: ألا تُزوِّج بناتك؟ فقال: أُجيعهنَّ فلا يأشَرْن، وأُعرِّيهنَّ فلا يظهَرْن. فوافق إحدى كلِمَتَيه قول النبي ﷺ: الصَّوم وِجاء السِّيئة. والأُخرى قول عمر بن الخطاب — رضي الله عنه: استَعينوا عليهنَّ بالعُري، وغاية أموال الرجال وكسبِهم وهمِّهم وما يملكون إنما هو مَصروف إلى النساء، فلو لم يكن إلَّا ما يُعدُّ لهنَّ من الطِّيب والحُليِّ والكِساء والفُرش والآنِية، كان في ذلك ما كفى، ولو لم يكن إلَّا الاهتِمام بالحِفظ والحِراسة وخَوف العار من خيانتِهنَّ والجِناية عليهنَّ لكان في ذلك المَئونة العَظيمة والمَشقَّة الشديدة. غير أن أولى الأشياء بالرجال حِفظهنَّ وحراستُهن؛ فليس شيءٌ لهنَّ أصلَح من مُباعدتِهنَّ عن الرجال وقمْعِهنَّ بالعُري والجوع. ومن حقِّ الملوك أن لا يَرفَع أحدٌ من خاصَّتها وبِطانتها رأسَه إلى حُرمةٍ لها صغُرتْ أم كبرت، فكم من فيلٍ وطئَ هامةَ عظيمٍ وبطنَهُ حتى بَدَتْ أمعاؤه، وكم من شريفٍ وعزيز قومٍ قد مزَّقتْه السِّباع ونهشتْه، وكم من جاريةٍ كريمة على قومِها عزيزة في أهلها قد أكلَها حِيتان البحر وطَير الماء، وكم من جُمجمةٍ كانت تُصان وتعلُّ بالمِسك والبان قد أُلقِيَت بالعَراء وغُيِّبت جثَّتها في الثرى بسبب الحُرَم والخدَم والغِلمان. ولم يأتِ الشيطان أحدًا قطُّ من بابٍ حتى يراه بِحيثُ من يَهوى مُستقيمَ اللَّحم والأعضاء هو أبلَغُ من مَكيدتِه وأحرى أن يَرى فيه أُمنية من هذا الباب؛ إذ كان من ألطفِ مَكايِده وأدقِّ وَساوسه وأجلِّ تَزايينِه. وقِيل لابنة الخس: لِمَ زنَيْتِ بعبدِك ولم تَزْنِ بحُرٍّ؟ قالت: طول السَّواد وقُرب الوِساد. وقيل: لو أنَّ أقبَحَ الناس وَجهًا وأنتنَهم رائحةً وأظهرَهم فقرًا وأسقَطَهم نفسًا وأوضعَهم حسَبًا قال لامرأةٍ تَمكَّن من كلامِها ومكَّنتْه من سمْعِها: والله يا مَولاتي لقد أسهرْتِ ليلي وأرَّقْتِ عَيني وشغلتِني عن مُهمِّ أمري فما أعقِل أهلًا ولا وَلدًا. ولو كانت أبرَعَ الناس جَمالًا وأكمَلَهم كمالًا وأملَحَهم مَلاحةً، وإن كانت عَينُه تدمَع بذلك، ثمَّ كانت تكون مثل أمِّ الدَّرداء أو مُعاذة العدوية أو رابعة القَيْسيَّة لمالَتْ إليه وأحبَّتْه. ومنها قال عمر بن الخطاب — رضي الله عنه: اضربوهنَّ بالعُري، فإنَّ النِّساء يَخرُجن إلى الأعراس ويُقِمن في المناحات ويَظهرْن في الأعياد، ومتى كثُر خُروجُهنَّ لم يُعد بُدٌّ من أن يَرَين مَنْ هو من شكلهنَّ ولو كان بعْلُهنَّ أتمَّ حُسنًا وأحسنَ وَجهًا والذي رأتْ أنقصَ حُسْنًا، ولكن ما لا تملِكُه أظرفُ عندَها مِمَّا تملِكه، ولكان ما لم تملِكه أو تستكثِر منه أشدَّ لها اشتِغالًا واجتذابًا. قال الشاعر:
وكانت الأكاسِرة إذا امتحنَتِ الخاصَّة من أصحابِها وخفَّ الواحِد عنهم على قلب الملِك، وكان الرجل عالمًا بالحِكمة مَوضِعًا للأمانة في الدماء والفُروج والأموال على ظاهِره، فيأمُره أن يتحوَّل إلى منزله وأن تُفرَّغ إليه حُجرة وأن لا يتحوَّل إليه بامرأةٍ ولا جارية ولا حُرمة ويقول له: أريدُ بك الأُنْس في ليلي ونَهاري، ومتى كان معك بعضُ حُرَمِك قطعَك عنِّي، فاجعل مُنصَرفك إلى منزلك في كلِّ خمس ليالٍ، فإذا تحوَّل الرجل أنِسَ به وخلا معه، وكان آخِر من ينصرِف من عنده فيتركه على هذه الحال أشهُرًا. امتَحَن أبرويز رجلًا من خاصَّته بهذه المِحنة، ثمَّ دسَّ إليه جاريةً من بعض جواريه، ووجَّه معها إليه بألطافٍ وهدايا، وأمرَها أن لا تقعُد عنده في أول مرَّة، فأتَتْه بألطاف الملك وقامت بينَ يدَيه، ولم تلبَثْ أن انصرفَت. حتى إذا كانت المرة الأولى أمرَها أن تقعُد هُنيهة وأن تُبْدِي عن مَحاسِنها حتى يتأمَّلها ففعلت، ولاحَظَها الرجل وتأمَّلَها، وجعل الرجل يُحِدُّ النظر إليها ويُسَرُّ بمُحادثتها، ومن شأن النَّفْس أن تطلُب بعد ذلك الغرَض من هذه المُطايبة. فلمَّا أبدى ما عنده قالت: أخافُ أن يُعثَر علينا، ولكن دَعْني حتى أُدبِّر في هذا ما يتمُّ به الأمر بينَنا، ثمَّ انصرفَتْ فأخبرَت الملكَ بذلك وبكلِّ شيءٍ جرى بينهما. فلمَّا كانت المرَّة الثالثة أمرَها أن تُطيل القُعود عنده وأن تُحدِّثه، وإن أرادَها على الزيادة في المُحادثة أجابتْه إليه ففعلت. ووجَّه إليه أخرى من خواصِّ جواريه وثَقَّلهنَّ بألطافِه وهداياه، فلمَّا جاءت قال لها: ما فعلتْ فُلانة؟ قالت: اعتلَّت. فاربَدَّ لون الرجل، ثمَّ لم تُطِل القعود عنده كما فعلتِ الأولى. ثمَّ عاوَدَتْه فقعدتْ أكثرَ من المِقدار الأوَّلِ وأَبْدَتْ بعض محاسِنِها حتى تأمَّلها، وعاودَتْه في المرة الثالثة وأطالتِ القعود والمُضاحَكة والمُهازَلة، فدعاها إلى ما في تركيب النَّفس من الشَّهوة، فقالت: أنا مِن الملِك على خُطًا يَسيرة، ومعه في دارٍ واحدة، ولكن الملك يَمضي بعد ثلاثٍ إلى بُستانه الذي بمَوضع كذا فيُقيم هناك، فإن أرادَكَ على الذَّهاب معه فأَظْهِرْ أنك عليل وتمارَضْ، فإن خيَّرك بين الانصِراف إلى نِسائك أو المُقام ههنا فاخترِ المُقام، وأخبِره أنك لا تقدِر على الحركة، فإن أجابك إلى ذلك جئتُ من أول اللَّيل فأكون معك إلى آخِره. فسكنَ الرَّقيع إلى قولِها، وانصرفتِ الجارية فأخبرتِ الملك بكلِّ ما دار بينهما. فلمَّا كان في الوقت الذي وعدتْه أن يخرُج الملك فيه دعاه الملك، فقال للرسول: أخبِرْه أنِّي عليل. فلما جاءه الرسول وأخبرَه تَبسَّم وقال: هذا أول الشَّر. فوجَّه إليه مَحفَّة يُحْمَل فيها، فأتاه وهو مُعصب، فلمَّا بَصُر به قال: والمحفَّة الشَّرُّ الثاني. فبيَّن العصابة، فقال: والعصابة الشَّرُّ الثالث. فلما دنا من الملِك سجَدَ فقال له: متى حدثَتْ بك هذه العِلَّة؟ قال: هذه الليلة. قال: فأيُّ الأمرَين أحبُّ إليك: الانصِراف إلى نِسائك لتمريضك؟ أم المُقام ههنا لوقتِ رُجوعي؟ قال: المُقام ههنا أيُّها الملك أوفَقُ لقلَّة الحركة. فتبسَّم أبرويز وقال: حركتُك ههنا إن تُرِكْتَ أكثرُ من حركتِك في منزلك. ثمَّ أمر له بعصا الزُّناة التي كان يرسم بها مَنْ زَنى. فأيقن الرجل بالشَّرِّ وأمر أن يُكتَب ما كان من أمره حرفًا حرفًا فيُقرأ على الناس إذا حضروا وأن يُنفى إلى أقصى مَملكتِه وتُجعَل العصا في رأس رُمحٍ يكون معه حيث كان؛ ليحذِّر مَنْ يعرفه منه. فلمَّا خرَج الرجلُ من المدائن مُتوجِّهًا به نحوَ فارس أخذ مُديةً كانت مع بعض المُوكَّلين به، فجبَّ بها ذَكَرَه وقال: من أطاع عُضوًا صغيرًا من أعضائه أفسدَ عليه جميع أعضائه. فمات من ساعتِه. وفيما يُذكَر عن أنوشروان أنه اتَّهم رجلًا من خاصَّتِه في بعض حُرَمه، فلم يدرِ كيف يقتُلُه؛ لا هو وَجَد أمرًا ظاهرًا يحكُم بمِثله الحاكِم فيَسفِك به دمه، ولا قدَر على كشف ذَنْبه لِما في ذلك من الهَون على الملِك والمَملِكة، ولا وجَدَ عُذرًا لنفسه في قتلِه غِيرة إذ لم يكن في شَرائع دِينهم وَوِراثة سلَفِهم. فدعا الرجل بعد جِنايتِه بسَنةٍ في خُلوة، فقال: قد حزَبَني أمرٌ من أسرار مَلِك الرُّوم وبي حاجة إلى عِلمها، وما أجِدُني أسكنُ إلى أحدٍ سُكوني إليك؛ إذ حللتَ من قلبي المحلَّ الذي أنت به، وقد رأيتُ أن تحمل لي مالًا إلى هناك للتِّجارة وتدخُل بلادَ الرُّوم فتُقيم بها، فإذا بِعتَ ما معك حملتَ ممَّا في بلادهم من تِجاراتهم وأقبلتَ إليَّ، وفي خلال ذلك تُصغي إلى أخبارهم وتَطَّلِع إلى ما بنا الحاجة إلى مَعرفتِهِ من أمورهم وأسرارهم. فقال: أفعَل أيها الملك، وأرجو أن أبلُغ في ذلك مَحبَّة الملك ورِضاه. فأمر له بمال، وتجهَّز الرَّجُل وخرج بتِجارته، فأقام في بلاد الرُّوم حتى باع واشترى وفَهِمَ من كلامهم ولُغاتِهم ما عرَفَ به مُخاطباتِهِم وبعضَ أسرار مُلْكِهم، وانصرَفَ إلى أنوشروان بذلك، فأراه الإيثار به وزاد في بِرِّه ورَدَّه إلى بلادِهم وأمره بالمُقام والتربُّص بتِجارته، ففعل حتى عُرِفَ واستفاض ذِكره، فلم تزلْ تلك حالُه سِتَّ سنين. حتى إذا كانت السَّنة السابعة أمر الملك أن تُصوَّر صورة الرجل في جامٍ من جاماتِه التي يشربُ فيها وتُجْعَل صُورته بإزاء صورة أنوشروان، ويُجْعَل مُخاطبًا لأنوشروان ومُشيرًا عليه وإليه، ويُدني رأسَه من رأس الملك في تلك الصورة كأنَّه يُسارُّه. ثمَّ وهب ذلك الجامَ لبعض خَدَمِه وقال: إنَّ الملوك يَرغبون في مثل هذا الجام، فإذا أردتَ بيعَهُ فادفَعْه إلى فُلان إذا خرَج نحوَ بلاد الرُّوم بتِجارته، وقُلْ له يَبيعه من الملك نفسه فإنه ينفعُك، فإن لم يُمكِنه بيعُه من الملك باعَهُ من وزيره أو بعض خاصَّتِه. فجاء غلام الملك بالجام وقد وضَعَ الرجل رِجْلَه في الرِّكاب، فسأله أن يَبيع جامَهُ من الملك وأن يَتَّخِذ عنده بذلك يدًا، وكان الملك يعزُّ ذلك الغلام، وكان من خاصَّةِ غِلمانه وصاحِبَ شَرابه، فأجابه إلى ذلك وأمر بدفْع الجام إلى صاحِبِ خِزانته وقال: احفَظْه، فإذا صِرتُ إلى باب الملك فليكُن مِمَّا أعرِضُه عليه. فلمَّا صار إلى باب الملك رفع صاحب الخِزانة إليه الجام فعرَضَه على الملك فيما عرَض عليه، فلمَّا وَقَع الجامُ في يدِ الملك نظر إليه ونظر إلى صُورة أنوشروان فيه وإلى صورة الرجُل وتَركيبه عُضوًا عُضوًا وجارحةً جارحةً، فقال للرجل: أخبِرْني هل يُصَوَّر مع صورة المالك رجلٌ خَسيس؟ قال: لا. قال: فهل تُصَوَّر في آنِية الملِكِ صُورة لا أصل لها ولا عِلَّة؟ قال: لا. قال: فهل في دار الملك اثنان يَتشابهان في صُورةٍ واحدة حتى يكون هذا كأنَّهُ ذاك في الصُّورة وكلاهما نَديما الملك؟ قال: لا أعرفُه. قال له: قُم قائمًا فقام، فوجَدَ صُورته في الجام، فقال له: أدْبِرْ فأدبَرَ، فتأمَّل صُورته في الجامِ فوجدَهُما بِحكايةٍ واحدة، فضحك ولم يَجسُر الرجل أن يسأله عن سبب ضَحِكه إجلالًا له وإعظامًا. فقال ملك الرُّوم: الشَّاةُ أعقلُ من إنسان؛ إذ كانت تُخفي مُديَتَها وتدفِنُها، وإنما أهديتَ إلينا مُدْيَتك بيدك. فقال للرجل: تغدَّيت؟ قال: لا. قال: قرِّبوا له طعامًا. قال: أيُّها الملك، أنا عبدٌ والعبد لا يأكُل بحضرة الملك. قال الملك: أنت عبْد ما دُمتَ عند ملك الرُّوم مُطَّلِعًا على أموره مُتتبِّعًا لأسراره، ملك إذا قدِمْتَ بلاد فارس ونَديم مَلِكِها، أطعِمُوه. فأُطْعِمَ وسُقِيَ الخمر، حتى إذا ثَمِل قال: مِن سِيَر مُلوكنا أن لا نقتُل الجاسوس إلَّا في أعلا مَوضعٍ نقدِرُ عليه، ولا نقتلهُ جائعًا ولا عطشانًا، فأمر به فأُصْعِدَ إلى سطحٍ كان يُشرِف منه على كلِّ مَنْ كان في المدينة إذا صعد، فضُرِبَت عُنقه هناك وأُلقِيَت جُثَّتُه من ذلك السَّطح، ونُصِبَ رأسُه للناس. فلمَّا بلَغَ ذلك كسرى أمر صاحِب الجَرَس أن يضرِبَ بأجراس الذَّهب ويَمرُّ على دُور نِساء الملك وجواريه ويقول: كلُّ نفسٍ ذائقة الموت، كلُّ أحدٍ إذا وجَبَ عليه القتل ففي الأرض يُقتَل إلَّا مَنْ تعرَّض لحُرمة الملك فإنه يُقْتَل في السَّماء. فلم يدْرِ أحدٌ من أهل المَملكة ما أراد به حتى مات.
«ومِثلُه من أخبار العرَب»: ذكروا أنه كان لطسم وجَدِيس ملك يُقال له: عمليق، ظَلوم غَشوم وكانت لا تُزفُّ جارية إلى زَوجِها إلَّا بدءوه بها فافترَعَها وردَّها إلى بعلِها، ثمَّ إنَّ رجُلًا من جَدِيس تزوَّج غفيرة بنت غفار عظيم جَدِيس ورئيسها، فلمَّا أرادوا أن يُهدوها إليه بدءوا بها عَمليق فأدخلوها عليه ومعها القِيان يَتغنَّين ويَضربنَ بالدُّفوف ويَقُلن:
فجعلَتْ تقول، وهي تُزفُّ:
فلمَّا دخلتْ عليه افترَعَها، ثمَّ خلَّى سبيلها، فخرجتْ ووقفتْ على أخيها الأسْوَد بن غفار وهو قاعد في نادي قَومه، وقد رفعتْ ثَوبها عن عَورتِها وأنشأت تقول:
فلمَّا سمِعتْ جَديس شِعرها أنِفتْ أنفًا شديدًا وأخذتْهم الحَميَّة فتآمَروا بينهم وعزَموا على اغتِيال الملك وجنوده، فقالوا: إنْ نَحنُ بادَهْناهم بالحربِ لم نَقوَ عليهم لكثرة جُندهم وأنصارهم، فاتَّفقوا على ذلك. ثمَّ إنَّ الأسود أتى الملك فقال: إنِّي أحبُّ أن تَجعل غداءك عندي أنت وجنودك، فقال عمليق: إنَّ عدد القَوم كثيرٌ، وأحسَبُ أنَّ البيوت لا تَسَعهم، فقال الأسود: فنُخرج لهم الطعام إلى بطنِ الوادي. فقال لقومه: إذا اشتغل القوم بالأكل فسلُّوا سُيوفكم واعمَلوا على أن تحمِلوا حملة رجلٍ واحد واقتلوهُم عن آخِرهم. وهيَّأ الأسْودُ ما احتاج إليه من الطعام، وجاء الملك، فلمَّا أكبَّ القوم على الأكل بادرتْ جَديس إلى سيوفِهم، ثمَّ حمَلتْ على الملك وعلى جنوده والأسْود يرتجِز ويقول:
فقتلوه وجنوده جميعًا. ومثله الفطيون ملك تِهامة والحجاز، فإنه سلك مسلك عمليق في مُلك طسم وجديس في أمر النساء، فأمر أن لا تُزفُّ من اليهود في مملكته امرأة إلا بدءوه بها، فلبِثَ على ذلك عدَّة أحوال حتى زُوِّجَت امرأة من اليهود من ابن عمٍّ لها، وكانت ذات جمال رائع، وكانت أختَ مالك بن عجلان من الرَّضاعة. فلمَّا أرادوا أن يُهدوها إلى زوجها خرجتْ إلى نادي الأوس والخزرَج رافِعة ثَوبها إلى سُرَّتها، فقام إليها مالك بن العجلان فقال: ويحَك، وما دهاك؟ فقالت: وما يكون من الدَّاهية أعظمَ من أن يُنطلَق بي إلى غير بَعلي بعد ساعة، فأَنِف من ذلك أنفًا شديدًا، فدعا ببزَّةِ امرأةٍ فلبِسَها، فلمَّا انطلقوا بالمرأة إلى الفطيون صار كواحدةٍ من نسائها اللواتي ينطلِقنَ بها مُتشبِّهًا بامرأة، وقد أعدَّ سِكِّينًا في خُفِّه، فلمَّا دخلت المرأة على الفطيون مال مالك إلى خِزانة في ذلك البيت فدخلها، فلمَّا خرج النساء ودخلت المرأة قام إليها ليفترِعَها، فخرج إليه مالك بالسكِّين فوَجَأه فقتله، ثمَّ قال لليهود: دونكم جنوده فاقتلوهم. فاجتمعَتِ عليهم فقتلوهم عن آخِرهم.
«ومنه أخبار وأمثال»؛ ذكروا أنَّ أول مَنْ قال: العَجَب كلُّ العَجَب بين جمادى ورجب، عاصم بن المقشعر الضبِّي، وذلك أن الخنيفس بن خشرم كان أغْيَرَ أهل زمانه وأشجعَهم، وكان لعاصم أخٌ يُقال له: عبيدة، عزيز في قومه، فهويَ امرأة كانت تأتي الخنيفس، فبلغ الخنيفس ذلك فتواعد عبيدة وركب الخنيفس فرسه وأخذ رُمحه وانطلَق يتربَّص بعبيدة حتى وقف على مَمرِّه، فأقبل عبيدة وقد قضى من المرأة وطرًا وهو يقول:
فعارَضه الخُنيفس وهو يقول:
فقال عبيدة: أُذكِّرك الله وحُرمة خشرم. فقال: والله لأقتُلنَّك فقتَله. فلمَّا بلغ أخاه عاصمًا خرج إليه ولبِس أطمارًا وركِب فرسه، وكان في آخِر يوم من جمادى فأقبل يُبادِر دخول رجب؛ لأنهم كانوا لا يقتلُون في رجب أحدًا، فانطلق حتى وقف بباب خنيفس ليلًا، وقال: أجب المرهوق قال: وما ذاك؟ قال: العجَبُ كلُّ العجَب بين جمادى ورجب، وإني رجل من ضبَّة غُصِبَ أخٌ لي امرأةً فخرج يَستنقِذها فقُتِلَ وقد عجزتُ عن قاتِله. فخرَج الخنيفس مُغضبًا وأخذ رُمحه وركِب وانطلق معه فلمَّا نحى به عن قومه دنا منه، فقنَّعَه بالسيف فأبان رأسه. ويُقال: إنَّ أول من قال: سبَقَ السيف العَذَل ضَمْضَم بن عمرو اللَّخمي: كان يهوى امرأةً فطلَبها بكلِّ حيلةٍ فأبت عليه، وطلَبها عزيز بن عبيد بن ضَمْضَمة فأتتْه وتأبَّت على ضمضم. وكان ضمضم من أشدِّ قومه بأسًا، فاغتاظ لذلك وانطلق ليلةً وهو مُتقلِّد سيفَه حتى صار بمكانٍ يراهُما إذا اجتمعا ولا يَرَيانه، فلمَّا نام الناس وطال هدوء ضمضم إذا العزيز قد أقبَلَ على فرسه وهو يقول:
وضمضم يَسمَع، فنزل وربَط فرسه ومشى إلى ناحية خِبائها، فصدَح صُدوح الهامِ وكان آيةَ ما بينهما، فخرجَتْ إليه فعانَقَها وضمضم ينظُر، ثمَّ واقعها. فلمَّا رآهما مشى إليهما بالسيف وهو يقول:
وقتلَهُ فعلِم القوم بضمضم فأخذوه. فلمَّا أصبح أُبْرِزَ إلى النادي ليُقْتَل فجعلوا يَلومونه على قتله ابن عمِّه، فقال: سبق السيف العذَل. ويُقال: إنَّ أول مَنْ قال: «خيرٌ قليلٌ وفضحتُ نفسي.» فائرة امرأة مُرَّة الأسدي، وكانت من أجمل النساء في زمانها، وكان زَوجها غاب عنها أعوامًا، فهوِيَت عبدًا له حبشيًّا يرعى إبِلَها، فأمرتْه أن يحضُر مَضجَعها وكان زَوجها مُنصرفًا قد نزل تلك الليلة منها على مسيرة يوم، فبينا هو يطعَم ومعه أصحابه إذ نعَقَ غُراب فأخبره أن امرأته لم تَعهَر قطُّ ولا تَعهَر إلَّا تلك الليلة. فركب فرسه ومرَّ مُسرِعًا وهو يرجو إنْ هو منَعها تلك الليلة أمِنها فيما بقِيَ. فانتهى إليها حِين قام العبد عنها وندِمت وهي تقول: خيرٌ قليلٌ وفضحتُ نفسي. فسمِعها زَوجها وهو يرعَدُ لِمَا به من الغيظ، فقالت له: ما يُرعِدك؟ فقال يُعْلِمُهَا أنه قد علم: خيرٌ قليل وفضحتُ نفسي. فشهقَتْ شهقةً خرَّت ميِّتة، فقَتَلَ زَوجها العبد وجعل يقول:
قيل: وكانت هند بنت عُتبة تحت الفاكِهِ بن المُغيرة المَخزومي، وكان الفاكِه من فِتيان قريش، وكان له بيتُ ضِيافة يَغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يومًا، فَضَجعَ الفاكه وهند فيه، فخرج الفاكِه لبعض حوائجه وأقبل رجلٌ ممَّن كان يغشى ذلك البيت فولَجَه، فلمَّا رأى المرأة ولَّى هاربًا فرآه الفاكِه وهو خارج من البيت فأقبل إلى هند فضربها برِجْله وقال: مَنْ هذا الرجل الذي خرَج من عندك؟ قالت: ما رأيتُ أحدًا ولا انتبهتُ حتى نبَّهْتني. فقال لها: الْحَقي بأهلك. فتكلَّم الناس فيها، فقال لها أبوها: يا بُنية، إنَّ الناس قد أكثروا فيك فاصدُقيني، فإن كان الرجل في قوله صادقًا سبَّبتُ له مَنْ يقتُله فتنقطِع عنك القالة، وإن كان كاذبًا حاكمتُه إلى بعض كهَّان اليمن. فحلفتْ له بما يَحلفون به في الجاهلية إنه لكاذب، فقال عُتبة للفاكِه: يا هذا، إنك قد رميتَ ابنتي بأمرٍ عظيم، فحاكِمْني إلى بعض كهَّان اليمن، فخرج عُتبة في جماعةٍ من بني عبد مناف، وخرج فاكِه في جماعةٍ من بني مَخزوم، وأخرجوا معهم هندًا ونِسوةً معها. فلمَّا شارَفوا البلاد قالوا: غدًا نرِدُ على الكاهن، فتغيَّر لون هند، فقال لها أبوها: إنِّي أرى ما بك، فهلَّا كان هذا قبل خُروجِنا؟ قالت: لا والله يا أبَتاه ما ذلك لمَكروه، ولكن سنأتي بَشَرًا يُخطئ ويُصيب، فلا نأمَن أن يَسومَني ممَّا يكون فيه سُبَّة عليَّ باقي عمري. قال: إنِّي سوف أختبِره قبل أن ينظُر في أمرك، فأخذ حبَّةً من حِنطة فأدخلها في إحليل فرسه وأوكأ عليها بسير، فلمَّا دَخلوا على الكاهِن قال له عتبة: ما كان منِّي في طريقي؟ قال: ثمره في كمره. قال: أحتاج إلى أبْيَنَ من هذا؟ قال: حبَّةُ بُرٍّ في إحليل مُهر. قال: صدقت، فما بال حال هؤلاء النسوة؟ فجعل يدنو من إحداهنَّ فيضرِب بمَنكِبها حتى أتى إلى هند فضرَب بمَنكِبها وقال: انهَضي غير رسْحاء ولا فاحِشة، ولَتلِدين ملِكًا يُقال له: مُعاوية، فوثَبَ إليها الفاكِه فأخذ بيدِها، فنزعَتْ يدَها من يدِه وقالت: إليك عنِّي، والله لأجهدنَّ أن يكون ذلك من غيرك. فتزوَّجها أبو سفيان بن حرب فجاءت بِمُعاوية، قيل: وكان عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — يَعسُّ بنفسه، فسمِع امرأة تقول:
فقال عمر: أما ما دام عُمَر إمامًا فلا. فلمَّا أصبح قال: عليَّ بنصر بن الحجَّاج فأُتِي به، فإذا هو رجل جميل، فقال: اخرُج من المدينة. قال: ولِمَ؟ وما ذَنْبي؟ قال: اخرُج، فوالله ما تُساكِنني. فخرَج حتى أتى البصرة وكتَبَ إلى عمر — رضي الله عنه:
قال: فردَّه عمر بعد ذلك لما وصف من عِفَّته. ويُرْوَى أيضًا أنَّ عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — كان يعسُّ بالمدينة ذات ليلة إذ سمِع امرأة تهتف وتقول:
قال: فرجَع عمر إلى منزله، فسأل عن المرأة فإذا زوجها غائب، فسأل ابنته حفصة: كم تصبِر المرأة عن الرجل؟ فسكتتْ واستحيَت وأطرقت، فقال: أربعة أشهر خمسة أشهر ستَّة أشهر فرفعت طرْفها، فعلِم أنها لا تصبِر أكثر من ستة أشهر. فكتَب إلى صاحِب الجيش أن يقفُل من الغزو الرجال إذا أتت ستة أشهر إلى أهاليهم. وغزا رجل من الأنصار وله جار يهودي، فأتى امرأتَه واستلقى ذات ليلةٍ على ظهره، وأنشأ يقول:
فسمِع ذلك جار له فضرَبه بالسيف حتى قطعه، فبلغ ذلك عُمر بن الخطاب — رضي الله عنه — فقال: أنشدُ الله رجلًا كان عنده من هذا عِلم إلَّا قام. فقام الرجل فحدَّثه فقال: أحسنتَ أحسنت، وتمام الأبيات:
«ومنه أخبار الشُّعراء»؛ قيل لمَّا خرج امرؤ القيس بن حجر إلى قيصر ملك الروم ليسأله النُّصرة على بني أسد لقتلِهم أباه حَجر بن الحارث، راسَلَ بنتَ قيصر، وأراد أن يختدِعَها عن نفسها، وبلغ ذلك قيصر وأراد أن يقتُله فتذمَّم من ذلك، وأمر بقميصٍ فغُمِسَ في السُّم، وقال لامرئ القيس: البَس هذا القميص، فإني أحببتُ أن أوثِرك به على نفسي لحُسنه وبهائه، فعمل السُّمُّ في جِسمه، وكثرتْ فيه القروح فمات منها فسُمِّي ذا القُروح، وقد كان قيل لقيصر قبل ذلك أنه هجاه فعندها يقول:
قيل: وكان النابِغة يُشبِّب بالمُتجردة امرأة النُّعمان بن المُنذر، وكانت أكمل أهل عصرِها جمالًا، فبلغ ذلك النُّعمان فهمَّ بقتل النابِغة، فهرب منه وسار حتى أتى الشام والملك بها جَبَلة بن الأيهم الغسَّاني، فنزل عليه وأقام عنده وكتَب إلى النعمان:
قيل: وكانت امرأة شدَّاد أبي عنترة ذكرتْ له أنَّ عنترة أرادَها عن نفسه، فأخذه أبوه فضرَبَه ضرب التَّلَف، فقامت المرأة فألقتْ نفسها عليه لمَّا رأتْ ما به من الجراحات وبكتْه، وكان اسمُها سُميَّة، فقال عنترة:
قيل: ولما أنشد عبد بني الحسْحاس عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — قصيدته التي يقول فيها:
قال عمر — رضي الله عنه: أنت مَقتول. فلمَّا قال:
وَجدوه شاربًا ثَمِلًا، فعرضوا عليه نِسوةً حتَّى مرَّت به التي يَطلُبها فأهوى إليها فقتلوه.
مَساوي شدَّة الغيرة والعقوبة عليها
حُكِي عن سليمان بن عبد الملك أنه كان في بعض أسفاره فسَمَر معه قومٌ، فلمَّا تفرَّقوا عنه دعا بوضوء، فجاءت به جارية، فبينا هي تصبُّ الماء على يده إذ استمدَّها وأشار إليها مرَّتَين أو ثلاثًا، فلم تصبَّ عليه فأنكر ذلك ورفع رأسه، فإذا هي مُصغِية بسمعِها مائلة بجسدِها إلى صوت غِناء من ناحية العسكر فأمرها فتنحَّت. فسمِع الصوت فإذا رجل يُغنِّي فأنصتَ له حتى فهِم ما غنَّى، فدعا بجاريةٍ غيرها فتوضَّأ. فلمَّا أصبح أذِن للناس فأجرى ذِكر الغناء، فلم يزل يَخوض فيه حتى ظنَّ القوم أنه يَشتهيه، فأفاضوا فيه وذكروا ما جاء في الغِناء والتَّسهيل لمن سمِعه، وذكروا مَنْ كان يسمَعه من سروات الناس، فقال: هل بقِيَ أحدٌ يسمَع منه؟ فقال رجل من القوم: عندي رَجُلان من أهل الإبلة مُحكِمان، قال: فأين منزلك من العسكر؟ فأومأ إلى ناحية الغناء، فقال سليمان: ابعثْ إليهما ففعل، فوجَد الرسول أحدَهما وأقبل به، وكان اسمُه سمير فسأله عن الغناء وكيف هو فيه؟ قال: مُحكِم. قال: متى عهدك به؟ قال: البارحة. قال: وفي أي النَّواحي كُنت؟ فذكر الناحية التي سمِع منها الصوت، قال: وما اسم صاحِبك؟ قال: سنان. قال: فأقبل سُليمان على القوم فقال: هدَرَ الفحْل فضَبَعَتِ الناقة، ونبَّ التَّيس فشكرتِ الشاة وهدل الحمام فزافَتِ الحمامة وغنَّى الرجل فطرِبَتِ المرأة. ثمَّ أمر به فخُصِي. وسأل عن الغناء أين أصله؟ قالوا: بالمدينة وهم المُخنَّثون، فكتب إلى عامِله أن أَخْصِ مَنْ قِبَلك من المُخنَّثين. وحدَّث الأصمعي أنَّ الشِّعر الذي سمِعَه سليمان يُتغنَّى به هو:
ثمَّ دخل سُليمان مَضرب الخدَم، فوجَد جارية على هذه الصِّفة قاعدة تبكي، فوجَّه إلى سنان فأحضره ووجَّهت الجارية رسولًا إلى سنان يُحذِّره، وجعلت للرسول عشرة آلاف دِرهم إن سبَقَ رسول سُليمان، فلمَّا حضر أنشأ يقول:
فأمر به فخُصِي، وكان بعد ذلك يُسمَّى الخَصِي. وعن علي بن يقطين قال: كنتُ عند موسى الهادي ذات ليلةٍ مع جماعةٍ من أصحابه إذ أتاه خادم فسارَّه بشيءٍ فنهض سريعًا، فقال: لا تبرَحوا. فمضى فأبطأ ثمَّ جاء وهو يتنفَّس ساعة حتى استراح ومعه خادِم يحمِل طبقًا مُغطَّى بمنديلٍ فقام بين يديه فأقبل يرعد وعجِبْنا من ذلك، ثمَّ جلس وقال للخادِم: ضعْ ما معك، فوضع الطبقَ وقال: ارفع المنديل فرفَعَه فإذا على الطبق رأسَا جاريتَين لم أر والله أحسن من وَجهيهما قطُ ولا من شعورهما، فإذا على رأسيهما الجوهر مَنظوم على الشَّعر، وإذا رائحةٌ طيِّبة تفوح، فأعظمْنا ذلك فقال: أتدرون ما شأنهما؟ قلنا: لا. قال: بلَغَني أنهما تحابَّا فوكَّلتُ هذا الخادم بهما ليُنهي إليَّ أخبارهما، فجاءني وأخبرَني أنهما قد اجتمعتا فجئتُ فوجدتُهما كذلك في لحافٍ فقتلتُهما. ثمَّ قال: يا غلام، ارفَع. ورجَّع في حديثه كأنَّه لم يصنع شيئًا. وحدَّثنا إبراهيم بن إسماعيل عن ابن القدَّاح، قال: كان للربيع جارية يُقال لها: أمَةُ العزيز، فأهداها للمَهدي فلمَّا رأى حُسنها وجمالها وهيأتها، قال: هذه لمُوسى أصلَحُ فوهَبَها له، فكانت أحبَّ الخلْق إليه، وولدَتْ له بَنيهِ الأكابر. ثمَّ إنَّ بعض أعداء الرَّبيع قال لمُوسى: إنه سمِع الربيع يقول: ما وضعتُ بَيني وبين الأرض مثل أمَةِ العزيز. فغار موسى فدعا الربيع فتغدَّى معه وناوَلَه كأسًا فيه شراب، فقال الربيع: فعلمتُ أن نفسي فيها وأنِّي إن رددتُها من يدي ضرَبَ عُنقي فشربتُها وانصرفت، فجمع ولده وقال: إنِّي ميِّتٌ. فقال الفضل ابنه: ولِمَ تقول ذلك جُعِلْتُ فداك؟ قال: إن موسى سقاني شربةً فأنا أجدُ عمَلَها في بدَني، ثمَّ أوصى بماله ومات في يومه. قيل: وطرِبَ الرشيد إلى الغِناء فخرج مُتنكِّرًا ومعه خادِمه مسرور، حتى انتهى إلى باب إسحاق بن إبراهيم المَوصِلي، فقال: يا مسرور، اقرَع الباب، فخرج إسحاق فلمَّا رأى الرشيد انكبَّ على رِجْلِهِ فقبَّلها، ثمَّ قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يدخُل منزل عبده؟ فنزل الرشيد فدخل، فرأى أثَرَ الدعوة فقال: يا إسحاق، إنِّي أرى مَوضِع الشُّرب؛ مَنْ كان عندك؟ قال: ما كان عندي يا أمير المؤمنين سوى جاريتيَّ كنتُ أطارِحُهما. قال: فهما حاضِرتان؟ قال: نعم. قال: فأحضِرهما. فدعا الجاريتَين فخرجَتا مع إحداهما عود حتى جلستا، فأمر الرشيد صاحبةَ العود أن تُغنِّي، فغنَّت:
فقال الرشيد: يا إسحاق، لمن الشِّعر والغناء فيه؟ قال: لا علم لي به يا أمير المؤمنين. فنكَّس رأسه ساعة ينكتُ في الأرض، ثمَّ رفع رأسه وأخذ العود من حِجر هذه فوضعه في حِجر الأخرى، ثمَّ قال لها: غنِّي فغنَّت:
فقال: يا إسحاق، لمن الشِّعر والغناء فيه؟ قال: لا عِلم لي يا سيِّدي. فردَّ المسألة على الجارية، فقالت: لستِّي. قال: ومَنْ ستُّك؟ قالت: عُلَيَّة أختُ أمير المؤمنين، فنكَّس رأسَه ساعة، ثمَّ وثَبَ وقال لمسرور خادمه: امضِ بنا إلى منزل عُلَيَّة. فلما وقف بالباب قال: استأذِنْ يا مسرور، فخرجتْ جارية فلمَّا رأت الخليفة رجعَتْ تُبادِر تُعْلِم ستَّها، فخرجت تَستقبله وتُفدِّيه، فقال: يا عُلَيَّة، هل عندك ما نأكل؟ قالت: نعم يا سيِّدي. قال: وما نشرَب؟ قالت: نعم. فدخل وجلس، فقدَّمَت إليه الطعام فأكل حارًّا وباردًا ورطبًا ويابِسًا، ثمَّ رُفِعَ الطعام ووُضِعَ الشراب والطِّيب وأنواع الرَّياحين ودعَتْ جواريها، وكان عندها ثلاثون جارية يُغنِّين، فألبَسَتْهنَّ أنواع الثِّياب وصَفَّتهنَّ في الإيوان، وتناوَلَ الرشيد الشَّراب فأمر الجواري يُغنِّين، ثمَّ سقى أُختَه حتى أخذ الشَّراب منها واحمرَّتْ وجنتاها وفترَتْ أجفانُها، وكانت من أجمل النساء فضرَب الرشيد إلى حِجر بعض الجواري في أخذ العود وقال: يا عُلَيَّة، بحياتي غَنِّي:
فعلمتْ أنها داهية فبكت. فصاح الرشيد فخرج الجواري وبقِيَ هو وهي، فدفعها وأخذَ وسادة، فجعلَها على وجهِها وجلس عليها فاضطربت اضطرابًا شديدًا ثمَّ بردت، فنحَّى الوسادة عنها وقد قضتْ نحبَها فخرج وقال للخادِم: إذا كان غدًا فادخُل وعزِّني. وركِبَ مُتوجِّهًا إلى قصره. فلمَّا كان الغد عزَّاه مسرور، فبكى فقال:
ومنه ما حُكِيَ عن البهائم؛ قال شيخ من بني قُشير: كُنَّا في نتاج، فامتنع فرَس من حجرة، فشدَدْنا عليه فنزا عليها فلمَّا فرَغ فتَحْنا العصابة فرأى الحجرة وكانت أُمَّه، فعمَد إلى ذَكَرِهِ بأسنانه فقَطَعه. ومنه في خفَّة الغيرة، قال سليمان بن داود الهاشمي لابنه: لا تُكْثِر الغِيرة على أهلِك فتُرْمَى بالشرِّ من أجلِك وإن كانت بريئة، ولا تُكثِر الضحك فيَستخفَّك فؤاد الرجل الحليم، وعليك بخَشية الله فإنَّها غلبتْ كلَّ شيء. وقال عبد الله بن جعفر لابنته: إيَّاك والغِيرة فإنها مِفتاح الطَّلاق، وإيَّاك وكثرة العُتب فإنه يُورث البغْضاء، وعليك بالكُحل فإنه أزيَنُ الزينة، وأطيَبُ الطِّيب الماء. قيل: وكان كسرى أبرويز يتعشَّق امرأةَ رجلٍ كان من مَرازبته يُقال له: البارجان، وكانت تأتيه سِرًّا، فبلَغَ زَوجَها ذلك، فأمسك عن امرأتِهِ واجتنَبَها، ودخل إلى كسرى ذات يومٍ فقال له كسرى: بلَغَني أنَّ لك عَين ماء عذبةً وأنك قد اجتنبْتَها فلا تقربها. ففطِن فقال له: أيُّها الملك، بلَغَني أن الأسدَ ينتابُ تلك العَين فاجتنبتُها خَوفًا منه، فأُعْجِبَ كسرى بمَقالتِه وأمر أن يُتَّخذَ له تاجٌ لا قِيمة له. ثمَّ دخل كسرى دار نسائه فقاسَمَهنَّ نصف حُلِيِّهن، فاجتمع من الجَوهر ما لا يُحصى، فبعثَ به إلى امرأة البارجان بالقادسيَّة، ووقَع ذلك الجوهر إلى السائب بن الأقرَع، وكان على المقسم، فباعَهُ وجُعِلَ للمُسلمين بكتاب عمر بن الخطاب — رضي الله عنه. وقال بعضهم: كنتُ أغار على امرأتي، فأشرفَتْ عليَّ يومًا وأنا مع جارية، فلقيتُ منها أذًى حتى حلفَتْ أن أبيع الجارية؛ فخرجتُ أُريد شراء حوائج لي ومعي الجارية، فأتيتُ دكَّانَ خلَّال لشِراء الخلِّ فوجدتُه خاليًا، فقلت له: يا هذا، تأذَن لي في مُلامَسة جاريتي هذه في دُكَّانك؛ فإنِّي أريد بيعها؟ قال: نعم، جُعِلْتُ فِداك ادخُل حيث شئت، فدخلتُ فأصبتُ من الجارية. فلمَّا خرجتُ إذا الخلَّال قد كمَنَ ناحيةً وهو في قميصٍ قد أنعَظ، فقال: فرغْتَ؟ قلت: نعم. قال: بِسم الله، أتأذَن لي جُعِلْتُ فداك؟ قلت: ويلَك، ما تريد؟ قال: أقضي وطَري منها. قلت: يا ابن الفاعِلة حُرمَتي. قال: لا يَضرُّك شيئًا، فإنِّي أسرع ثمَّ وثَبَ كأنَّهُ السَّبع فضاربتُه حتى تخلَّصتِ الجارية بعد كلِّ جُهد. قال: ودخل رجلٌ من بني زُهرة من أهل المدينة على قَينة، فسمِع غناءها عند مولاها، فخرج مولاها في حاجةٍ ثمَّ رجَع فإذا جاريتُه على بطن الزُّهري، فقامَتْ مَذعورة، فقعدَتْ تبكي فقال: ما يُبكيك؟ قالت: لأنَّك لا تقبل لأجلِه عُذرًا. قال: يا زانية، لو رأيتُك على قفاكِ قلتُ صريع مَغلوب، ولو رأيتُك على وجهِك قلتُ وعاءٌ مكبوب، إنما رأيتُك فارسًا مَصلوبًا. وحُكِيَ عن ثمامة أنه قال للمَهدي: إنَّ النساء شُقِقن شقًّا، وإن هشيمة نُقِبَتْ نقبًا، وكانت هشيمة امرأة ثمامة، فسأله المَهديُّ أن ينزِل عنها ففعل. وأقام المهديُّ حتى انقضتْ عدَّتها ثمَّ تزوَّجَها وبنى بها، ثمَّ طلَّقها وخرَج إلى بيت المَقدِس. فلمَّا انقضتْ عِدَّتها راجَعَها زَوجها. وقال أبو طاهر: أنشدَني بعض الشُّعراء يهجو بني القعقاع:
وعن عبد الله بن ياسين قال: كان في المهدي غزَلٌ وشدَّة حبٍّ للخُلوة بالنِّساء، فبلَغَه عن ابنة لأبي عبد الله كاتبِه جمال، فقال للخَيزران: استزيريها فزارتْها وجاءت إليها، فقالت لها: هل لك في الحمَّام؟ قالت: نعم. فلمَّا دخلتِ الحمَّام وافاها المَهدي فبرزَتْ له ولم تَستَتِر عنه، فقال لها المهدي: أنا وَليُّك فزوِّجيني نفسك. فقالت: أنا أَمَتُك فتزوَّجَها ونال منها، فلما انصرفتْ أخبرَتْ إخوتها بما كان، فقالوا: أَمْسِكي عنه. فلمَّا كان بعد مُدَّة قالوا لها: استزيري الخَيزران فاستزارتْها. فلمَّا صارت إليها قالت: هل لك في الحمَّام؟ قالت: نعم. فلمَّا دخلَتَا معًا ما شعرَتِ الخيزران إلا ببَني أبي عبيد الله قد عمَدوا عليها فاستَتَرَتْ عنهم. فقالوا: لو أردْنا أن نفعلَ كما فعلتُم بحُرمتنا لفعلْنا ولكنَّا لا نستحل. فقالت لهم: والله لو رُمتُم ذلك لأمرتُ الخدَم بقتلِكم فانصرفوا. فلمَّا رجعتِ الخيزران أخبرتِ المهديَّ بذلك، فكان السببَ في قتلِ المهديِّ محمد بن أبي عبيد الله على الزَّندقة. وبلغَه أيضًا عن عونة بنت أبي عون جمالٌ وهيئة، فقال للخَيزران: استزيريها فاستزارتْها، فقالت لها الخيزران: هل لك في الحمَّام؟ قالت: نعم. فلمَّا دخلتا ما شعرَتْ إلَّا بالمهدي قد وافاها، فاستترتْ بالخيزران وقالت: والله لئن دنوتَ منِّي لأضربنَّ بالكرنيبِ وجهك، فقال: ويلَك، إنما أردتُ أن أتزوَّجك. قالت: لا سبيل إلى ذلك فانصرَفَ عنها، فأخبرتْ أباها فقال: أحسنتِ في فِعلك.