محاسن القِيادة
الحسَن الجرجاني قال: حدَّثني سهم بن عبد الحميد الحنفي قال: خرجتُ من الكوفة أريدُ بغداد، فلمَّا نزلتُ بسَطَ غِلمانُنا وهيَّئوا غَداءنا، فإذا نحن برجلٍ حسن الوجه والهيئة على برذون فاره، فصِحْتُ بالغِلمان فأخذوا دابَّته، فدعوتُ بالغَداء فبَسَط يدَه غير مُحتشِم وما أكرمتُه بشيءٍ إلَّا قَبِلَه. وكُنَّا كذلك إذ جاء غِلمانه بثقلٍ كثير وهيئة جميلة، فتناسَبْنا فإذا هو طريح بن إسماعيل الثَّقفي، فارتحلْنا في قافلةٍ مِنَّا لا يُدرَك طرفاها، فقال طريح: ما حاجتُنا إلى هذا الزحام وليست بنا إليهم وحْشة ولا علينا خَوف، فإذا خَلوْنا بالخانات والطُّرُق كان أروحَ لأبداننا. قلت: ذلك إليك. فنزلنا من الغد الخان وتغدَّينا وإلى جانبنا نهر ظليل بالشجر، فقال: هل لك أن تَستنقِع فيه فمَررْنا إليه، فلمَّا نَزَعَ ثِيابه إذا بين جَنبَيه آثار ضرْبٍ كثير، فوقَع في نفسي منه شرٌّ فنظر إليَّ ففطِن وتبسَّم وقال: قد رأيْنا ذُعرك بما ترى، وحديث ذلك يجري إذا سِرنا بالعشيَّة. فلمَّا سِرنا قلتُ له الحديث، قال: نعم، قَدِمْتُ من عند الوليد بن يزيد بالغِنى واليسار، وكتب إليَّ يوسف بن عمر، فلمَّا أتيتُه ملأ يديَّ خيرًا، فخرجتُ مُبادرًا إلى الطائف، فلمَّا امتدَّ بي الطريق وليس يَصحبُني فيه أحدٌ عنَّ لي أعرابي على قَعُود له، فحدَّث أحسنَ الحديث، وروى الشِّعر فإذا هو راوِية، فأنشد فإذا هو شاعر، فقلت: من أينَ أقبلت؟ قال: لا أدري. قلت: وما القصَّة؟ قال: أنا عاشِق لامرأةٍ قد أفسدت عليَّ عَيشي، وقد حذَّرني أهلها وجفاني لها أهلي، وإنما أستريح بأن أنْحدِر إلى الطريق مع مُنحدِرٍ وأصعَد مع مُصعِد. قلت: فأين هي؟ قال: تنزِل غدًا بإزائها. فلمَّا نزلْنا أراني طريقًا عن يسار الطريق، فقال: ترى ذلك الطريق؟ فقلت: أراه. قال: فترى الخِيَم التي هناك؟ قلت: نعم. قال: فإنَّها في الخَيمة الحمراء. فأدركتْني أريحيَّة الحدث، فقلت: والله إنِّي آتِيها برِسالتِك. فمضيتُ حتى انتهيتُ إلى الخِيَم فإذا امرأةٌ ظريفة جميلة كأنَّها مُهرة عربية، فذكرتُه لها فزفرَتْ زفرَةً كادت تنتقِض أضلاعها. قالت: أوَحيٌّ هو؟ قلت: نعم، تركتُه في رَحلي وراء هذا الطريق. قالت: بأبي أنت وأمِّي، أرى لك وجهًا حسنًا يدلُّ على الخَير، فهل لك في أمر؟ قلت: نعم فقير إليه. قالت: البَسْ ثِيابي فأقِمْ مكاني ودعْني حتى آتِيَه، وذلك عند مُغَيربان الشمس، فإنك إذا أظلم الليل أتاك زَوجي فقال لك: يا فاجِرة ويا هنَّة ابنة الهنَّة فيُوسِعك شتمًا فأوسِعْه صمتًا. ثم يقول في آخِر كلامه: اقمعي سقاءك يا عدوَّةَ الله، فضَعِ القُمع في هذا السقاء، وإيَّاك وهذا السقاء الآخر فإنه واهٍ. قلت: نعم. فأجبتُها إلى ما سألت، فجاء الزَّوج على ما وصفتْ وقال: اقمَعي سقاءك، فحيَّرني الله أنْ تركتُ الصحيح وقمعتُ الواهي، فما شَعَر إلَّا باللَّبن يتسبْسَبُ بين رِجليه، فعدا إلى كسر الخَيمة وحلَّ مَتاعَه وتناوَل رشاءً من قدٍّ مدبوغ ثمَّ ثَناه باثْنَتَين، فجعل لا يتَّقي رأسًا ولا وَجهًا ولا رِجلًا حتى خشيتُ أن يبدوَ له وَجْهي فتكون الأخرى، فألزمتُ وَجهي الأرض، فعمِلَ بظهري ما ترى، فلمَّا تغيَّب عنِّي جاءت المرأةُ باكيةً فرأتْ ما بي من الشَّرِّ واعتذرت، وأخذتُ ثيابي وانصرفت. قال: وحدَّثَ بهذا الحديث محمد بن صالح بن عبد الله بن الحسَن بن عليِّ بن أبي طالب صَلوات الله عليه بِسُرَّ مَنْ رَأَى سنةَ أربعين ومائتَين؛ وكان حُمِلَ من البادية إلى المُتوكِّل فأطلقه، وكان أعرابيًّا فصيحًا فعجِبَ منه، وكان حسَنَ الوجه نَجيبًا، قلَّ ما رأيتُ في الفِتيان مِثله. قال: كان مِنَّا فتًى يُقال له: الأشتر بن عبد الله، وكان سيِّد بني هلال وأحسنَهُم وجهًا وأسخاهم كفًّا، وكان مُعجبًا بِجاريةٍ يُقال لها: جيداء، بارعة الجمال. فلمَّا اشتُهِرَ أمرهما وظهر خبرُهما وقَعَ الشَّرُّ بين أهل بيتَيهما حتى قُتِلَ بينهما القَتلى فافْترقوا فريقَين. فلمَّا طال على الأشتَرِ البَلاء جاءني يَومًا وقال: يا نُمير، هل فيك خير؟ قلت: عندي ما أحببت. قال: تُساعِدني على زيارة جيداء؟ قلت: بالحُبِّ والكرامة، فانهَضْ إذا شئت. قال: فركِبْنا وسِرْنا يومًا وليلةً والغداة حتى المساء، فنظرنا إلى أدنى سِربٍ لهم، فأنَخْنَا رَواحِلَنا في شِعبٍ وقعَدْنا هناك، وقال: يا نُمير، اذهبْ وأنشِد واذكُر لِمَنْ يلقاك أنَّكَ طالِبُ ضالَّة، ولا تُعرِّض بذكْري بشفةٍ ولا لِسان إلى أن تَلْقَى جاريَتَها فُلانة راعية الضَّأنِ فتُقْرئها منِّي السلام وتسألها عن الخبَر وتُعْلِمها بمكاني. قال: فخرجتُ لا أتعدَّى ما أمرَني به حتى لقيتُ الجارية، فأبلغتُها الرسالة وأعلمتُها بمكانه وسألتُها عن الخبر. فقالت: هي مُشدَّد عليها مُحتفَظ بها، وعلى ذلك فمَوعِدُكما عند الشجرات اللَّواتي عند أعقابِ البيوت مع صلاة العشاء. فانصرفتُ فأخبرتُه ثمَّ قدْنا رواحلنا حتى أتَينا الموعد في الوقت الذي وعدتْنا فيه، فلم نلبَثْ إلَّا قليلًا حتى إذا جيداء تمشي، فدنَتْ مِنَّا فوثَبَ إليها الأشتر، فتصافَحا وسلَّم عليها، ووثبتُ مُولِّيًا عنهما، فقال: أقْسَمْنا عليك إلَّا رجَعْتَ، فوالله ما بَينَنا من رِيبةٍ ولا قَبيح نَخلو به دُونك. فانصرفتُ إليهما وجلستُ معهما، فقال الأشتر: ما فيك حِيلة يا جيداء فنتزوَّد منك الليلة؟ قالت: لا والله ما إلى ذلك سبيل، إلَّا أن أرجِع إلى الذي تعلَمُ من البَلاء والشر. فقال: لا بدَّ من ذلك ولو وقعَتِ السماء على الأرض. قالت: فهل بصاحِبِك خَير؟ قلت: بلى، وهل الخير إلَّا عندي؟ فاسألي ما بدا لك فإني مُنْتَهٍ إليه ولو كان في ذلك كلِّه ذَهابُ نفسي. فألبَسَتْني ثِيابها وأخذتْ ثِيابي، ثمَّ قالت: اذهبْ إلى خِبائي فادخُل في ستري، فإن زَوجي يأتِيك مع العَتْمة فيطلُب منك القدح ليَحلبَ فيه، فلا تُعْطِهِ من يَدِك فكذلك كنتُ أفعل، فيحلب ثمَّ يأتيك بالقدح مَلآنًا لبنًا، فيقول هاك؛ فلا تأخُذْه منه حتى يُطيلَ عليك نكدك، ثمَّ خُذه أو ذَرْه حتى يَضعَه، ثمَّ يَستبدُّ برِدائه ولستَ تراه حتى يُصبِح. فذهبت ففعلت ما أمرتني به حتى جاء بالقدح فيه اللبن، فأطلت نكدي عليه ثمَّ أهويتُ لآخُذه فاختلفتْ يدِي ويَدُه وانكفأ القدح، فاندفَق منه اللبن، فقال: إنَّ هذا لطماحٌ مُفرط، وضرب بيدِه إلى جانب الخِباء فاستخرج سَوطًا فضربَني مِقدار ثلاثينَ سوطًا حتى جاءت أمُّه وأخواتُه فانتزَعُوني منه، ولا والله ما فعلوا ذلك حتى زايَلتْني رُوحي، وهممتُ أن أوجِرَه بالسِّكين. فلمَّا خرجوا عنِّي وهو معهم قعدتُ كما كتَبَ الله، فما لبِثت أن جاءتْ أم جيداء، فحدَّثتْني وهي تَحسبُني ابنتَها فألقيتُها بالسكوت وتغطَّيتُ بثَوبي دُونها، فقالت: يا بُنية، اتَّقي الله ولا تتعرَّضي للمَكروه من زَوجك فذلك أولى بك. ثمَّ خرجتْ من عندي فقالت: سأرسِل إليك أختَك تؤنِسك وتبيت الليلة عندك، فلم ألبَثْ أن جاءتِ الجارية تبكي وتدعو على مَنْ ضرَبَني وأنا لا أُكلِّمها، ثمَّ اضطجعَتْ إلى جانبي، فلمَّا استمكنتُ منها شددتُ يدي على فمِها، وقلت: يا هذه، تلك أختُك مع الأشتر وقد قُطع ظهري بسببها وأنت أولى مَنْ ستَرَ عليها، فاختاري لنفسك ولها، فوالله لئن تكلَّمتِ لتكوننَّ فضيحةً شاملة، ثمَّ رفعتُ يدي عن فيها فاهتزَّت مثل القصبةِ من الرَّوع وباتتْ معي، ونلتُ منها الشَّهوةَ التامَّة، ورافقتْني أصلحَ رفيقٍ رافقتُه، ولم أذُق شيئًا ألذَّ مِمَّا ذقتُ منها قط، فلم نزل نتحدَّث وتَضحك منِّي ومِمَّا بليتُ به حتى برَقَ النُّور وجاءت جَيداء. فلمَّا رأتْنا ارتاعتْ وقالت: مَنْ هذا عندك؟ قلت: أُختُك. قالت: وما السبب؟ قلت: هي تُخبِرُك فإنها عالِمة به. وأخذتُ ثِيابي وأتيتُ صاحِبي، فأخبرتُه بما أصابَني وكشفتُ له عن ظهري، فإذا فيه ما الله به عليم. فقال: لقد عَظُمَتْ مِنَّتُك عندي ووجَبَ شُكرك وخاطرتَ بنفسك، فلا أحرمني الله مُكافأتك. وعن رَجلٍ من بني عامر أنه خرج وهو غُلام ما بقلَ وجهُه، وكان ذا مالٍ وهيئة صاحِبَ غزَل، فهجَم على قومٍ يتحمَّلون وقد شدُّوا أثقالَهم وبرَزوا، وإذا امرأةٌ جميلة قد تخلَّفتْ على جملٍ لها لإصلاح شأنها. قال: فوقفتُ عليها فإذا هي أحسنُ خَلْقِ الله وجهًا وأغزَلُه وأملحه، فتلاقَينا كلامًا غير كثيرٍ فقالت: أسألك شيئًا فهل لك به عِلم؟ قلت: سَلي. فقالت: أيُّهما أحسنُ جردةً الرجل أم المرأة؟ قلت: الرجل. قالت: بل المرأة، فإن أحببتَ أن تعلَم ذلك علمتَه. قلت: وكيف أعلمه؟ قالت: أتجرَّد لك من ثِيابي وأرميها عنِّي، ثمَّ أمشي حتى أبلُغَ الأكمَة، ثمَّ أُقْبِلُ حتى آتِيك فتُعطيَني عهد الله ومِيثاقه لتفعلَنَّ كما فعلْتُ، فقلت: لك عهد الله إن فعلتِ لأفعلنَّه. قال: فألقَتْ ثِيابَها عن أحسن ما نظرتُ إليه قطُّ بياضًا ونظافةً وحُسنًا، فلمَّا انتهتْ إليَّ قالت: الوفاء. قلت: الوفاء ونعمة عَين. فخلعتُ ثِيابي وأنا كأبهى الفِتيان وأهيئهم حتى مضيتُ بعد الغاية، فلمَّا انتصَفَ بي المدى سمعتُ خرخرة جَمَلي، فإذا هي قد جالَتْ على ظهره لابِسةً ثِيابي مُتنكِّبة قَوسي قد لزِمَت المَحجَّة فناديتُها فلم تُعرِّج عليَّ. ولبستُ ثِيابها وتخمَّرتُ بخِمارها وركبتُ بَعيرها وزَجرْتُه فانبعَثَ بي أثَر الحي، وأخذتُ شقَّ الوحشي حتى ما أراها وجعلت أكفُّ عن الجمل إذ خشيتُ أن ألحقَ الظُّعن حتى رَأوني من بعيد، وجعلوا ينادون: ويحكِ أقبِلي، وأنا صامتٌ لا أتكلَّم ولا أتقدَّم. فلمَّا طال عليهم أمري بعَثوا بجاريةٍ لهم مُولَّدة فأقبلتْ تعدو حتى أتَتْني، ونشطتْ خطام الجَمَل من يدي وأنا مُتبرقِع أحسنَ الناس وجهًا وعينًا، فنظرتِ الجارية في وجهي ساعة ثمَّ قالت: لقد أمسيتِ حديدةَ الطرْف، وقادتِ الجمَل حتى أتتِ الحي، فقالت أم الجارية: يا بُنية، لقد استحيتُ من الناس ممَّا دعوتُك العشية. ثمَّ تأمَّلت ونظرت وسائر النساء، وقالت إحداهن: والله إنه لرجل وفطن، وأنزلتْني العجوز وأدخلتْني الستْر، وقالت: مَنْ أنت لا أفلحْتَ؟ قلت: بل ابنتُكِ لا أفلحتْ ولا أنجحَت، وقصصتُ عليها قصَّتها، فقالت: نَشدتُكَ الله، إلَّا أعرْتَني نفسك هزيعًا من الليل، فإنَّا كُنَّا على أن نَبْني بابنتي صاحبة الجمَل الليلة، وما في الحي رجلٌ غير زَوجها وهو إنسان فيه لَوثة، ولا بدَّ من أن أُدْخِلَك عليه، فإنك غلام أمرَدُ فلا يُنكِرك، ولا أراه أقوى منك إن اعتركتُما، فلك عندي يدٌ بيضاء. وأقبلتْ وأختٌ لابنتِها وخالتها، فألبَستْني ثَوب العروس وطيَّبتْني، ثمَّ دلفْنَ بي نحوَ الرجل بُعيد العتْمَةِ وقالت أمُّها: أنا لك الفِداء، تجلَّد ساعةً بالامتِناع فإنه مُنصرِف عنك وستأتيك الكافِرة. فأدخلتْني على مِثل الأسَدِ إلَّا أنَّ به لَوْثة كما قالت، فاعتركْنا حتى أعْيا وكفَّ عنِّي، وطال بي الليل حتى سمعتُ خرخرة جملي، فلم ألبَثْ إلَّا هُنيهة حتى جاءتْ أمُّها وخالتها وهي مَعهُما فجعلْنَها مكاني. وفتَّشتُ عن سِرِّها فإذا هي قد ظلَّتْ مع إنسان كانت تهواه. وأوتِيتُ بثِيابي فنهضتُ مُبادرًا لا ألوي على شيءٍ حَذرًا ممَّا لقيت. قيل: وملَك النعمان بن المُنذر أربعين سنة، فلم تُرَ منه سقطةٌ غير هذه، وهو أنه ركِبَ يومًا فبصُر بجاريةٍ قد خرجتْ من الكنيسة فأعجبَتْه لِجمالها، فدعا بعدي بن زيد وكان نَديمَه ووزيره فقال له: يا عدي، لقد رأيتُ جاريةً لئن لم أظفَرْ بها إنه الموت، ولا بدَّ من أتلطَّفَ أو تتلطَّف لي حتى تجمَعَ بيني وبينها. قال: ومَنْ هي؟ قال: سألتُ عنها فقيل: هي امرأة حكم بن عمرو، رجل من أشراف الحِيرة. قال: فهل أعلمتَ أحدًا؟ قال: لا. قال: فاكتُمه، فإذا أصبحتَ فجدِّد للحكم كرامةً وبرًّا. فلمَّا أذِن للناس بدأ به فأجلَسَه معه على سريره وكساه، فاستعظم الناس ذلك، فلمَّا أصبَح بدأ أيضًا بالإذن له وجَمَله، فأنكر الناس ذلك، فقالوا: ما هذا إلَّا لِأمر. فصنع به ذلك أيَّامًا، ثمَّ قال له عدي: أيُّها الملِك، عندي عشرُ نِسوة فطلِّقْ إحداهن، ثمَّ قُلْ له فليتزوَّجْها. ففعل، فلمَّا دخل عليه قال: يا حكم، ما كانت نفسي تسمح بهذا لولدٍ ولا لوالد، فتزوَّج فلانة فقد طلَّقتُها. فخرج حكم إلى عدي فقال: يا أبا عويمر، ما صنع الملك بأحدٍ ما صنع بي. وما أدري بما أكافئه. قال له عدي: طلِّق امرأتَك كما طلَّق لك امرأتَهُ ففعلَ وحظيَ به عَدي عنده، وعلم حكم أنه قد مُكِرَ به في امرأته، وفيه يقول الشاعر:
وحدَّث الفضل بن العبَّاس عن الزُّبير بن بكَّار عن محمد بن بشير الخارجي، قال: قدِمَ علينا رجلان من أهل المدينة يصيدان ومعهما نِسوة والفساطيط مَضروبة، وكان سليمان بن عبد الله الأسلمي وابن أخٍ له مُقيمين بناحية الرَّوحاء، فأرسل النسوة إلى سليمان وابن أخيه: أما لكما حاجة في الحديث؟ فردَّ الرسول: إنْ يكُنْ لنا فيه حاجة، فكيف لنا بذلك مع أزواجكن؟ فقلنَ: إنما خرج أزواجُنا للصيد، وقد بلغَنا أنَّ لكم صاحبًا يعرِف مِن طلَبِ الصيد ما لا يعرفه غيره، فلو طرَح لهم شيئًا من ذِكره لأسرَعوا إليه وتخلَّفتم وتحدَّثتم ما شئتم؛ يَعنِينَ به محمد بن بشير. فمضى إليه سليمان وابن أخيه فقالا: يا أبا محمد، أرسلَ إلينا النِّسوةُ بكذا وكذا، وسألوني أن أُخرِجَك إلى الصيد. فقلت: لا والله لا أفعل، ولا أتعَب ولا أنصَب وأنتم تتلهَّون وتتحدَّثُون، أنا لذا أشدُّ حُبًّا وأكثرُ صبابةً وشوقًا، فأرسَلا إلى النسوة بمقالتي، فأرسلنَ إليَّ رسولًا وعاهَدْنَني لئنْ أخرجتُهم لَيَحْتَلْنَ لي حتى أخلُوَ معهنَّ ليلةً حتى الصُّبح. فصِرت إليهم وذكرتُ لهم الصيد فخرجوا معي، فما زلتُ أُحدِّثهم بالصِّدق حتى أخذتُ في الكذِبِ ممَّا يُضارِع الصِّدق حتى أفنيتُه، فأقمتُ معهم ثلاثةَ أيامٍ ولياليها، ثمَّ انصرَفوا من غَير أن اصطدْنا شيئًا، فقلت:
قال: فظفِر أصحابي بالحديث والمُغازلة، وأنا بالجُهد والخيبة مع أتمِّ القيادة والتَّعَب وكَذِب المُحادثة. وحدَّثنا وهبُ بن سليمان عن عمِّه الحسَن بن وهْب قال: خرج محمد بن عبد الملك الزيَّات من عند الواثِق ومزيد بن محمد بن أبي الفرج الهاروني وكيل عبد الله بن طاهر، فإذا بجاريةٍ حسناء في منظرةٍ لها، فلمَّا بصُرَتْ به ورأتْ مَوكبَه وكان جميلًا ظريفًا أومأتْ إليه بالسَّلام وأومأتْ بيدِها إلى صدرِها، فأُعجِبَ بها. فلمَّا صار إلى منزله دخلتُ إليه فرأيتُه بخِلاف ما عهدْتُ، وكان لا يَكتُمُني شيئًا، فقلت: ما لي أراك مُدلَّهًا يا أبا الحسن؟ قال: رأيتُ شيئًا أنا فيه مُفكِّر، ثمَّ أنشأ يقول:
ثمَّ شرح لي القصة، ثمَّ انصرفتُ من عنده ووافيتُ مولى الجارية، فسألتُه أن يبيعها فقال: اشتريتُها للأمير عبد الله بن طاهر وليس إلى بيعِها من سبيل، فلم أزَلْ به حتى اشتريتُها بخَمسين ألف دِرهمٍ ووجَّهتُ بها إليه وكتبتُ إليه:
فقَبِلَها وحَسُن موقِعها عنده، فولَّاني خراج دِيار ربيعة فأصبتُ ألف ألف دِرهم. قال السِّجِّسْتاني: أرِقَ الرشيد ذات ليلة، فوجَّه إلى عبد الملك الأصمعي وإلى الحُسين الخليع فأحضرهما وشكا إليهما مُدافَعةَ نَومِه وشدَّة أرَقِه، وقال لهما: علِّلاني بأحاديثكما، وابدأ أنت يا حُسين. قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ خرجتُ في بعض السِّنين مُنحدِرًا إلى البصرة ومُمتدحًا لآل سليمان، فقصدتُ محمد بن سليمان بقصيدتي، فقَبِلَها وأمرَني بالمُقام. فخرجتُ ذات يومٍ إلى المربد وجعلتُ المَهالِبة طريقي، فأصابَني حرٌّ وعطشٌ، فدنَوتُ من باب دارٍ كبير لأستقي، فإذا أنا بجاريةٍ أحسنَ ما يكون كأنَّها قضيبٌ يَتثنَّى وَسْناء العَينين زَجَّاءَ الحاجِبَين مُهفهَفَة الخَصْر حاسِرَةَ الرأس مفتوحة الجِرِبَّان، عليها قَميص لاذ جلناري ورداء عدَني، قد عَلَتْ شدَّة بياض بدنِها حُمرة قميصها، تتلألأ من تحت القميص بثديَيْن كرُمَّانتَين وبطنٍ كطيِّ القباطي وعكنٍ مِثل القراطيس، لها جمَّة جعدَة بالمِسك مَحشوَّة، وهي يا أمير المؤمنين مُتقلِّدة خرزًا من ذهَب، والجَوهر يزهر بين ترائبها وعلى صحن جبينها طرَّة كالسَّبج وحاجبان مَقرونان وعَينان كحلاوان وخدَّان أسيَلان وأنف أقْنى تحتَه ثغْر كاللؤلؤ وأسنان كالدُّر، وقد غلبَ جرِبَّانها سواد المِسك والغالية ودابر العود الهندي. على لبَّتِها عبَقُ الخلوق، وهي والِهةٌ حَيرى واقفة في الدهليز وجائية تخطُر في مِشيَتها، قد خالَطَ صرير نَعْلِها أصوات خلخالها كأنها تخطُر على أكباد مُحبِّيها، فهي كما قال الأفْوَه الأَوْدي:
فهِبْتُها والله يا أمير المؤمنين، ثمَّ دنوتُ منها لأُسلِّم عليها فإذا الدَّار والدهليز والشارع قد عبقتْ بالمِسك فسلَّمتُ عليها، فردَّتِ السلام بلسانٍ مُنكسِر وقلبٍ حَزين مُحرَّق، فقلتُ لها: يا سيِّدتي، إنِّي شيخٌ غريب أصابني عطش، فأْمُري له بشربةٍ من ماء تُؤجَري. قالت: إليك عنِّي يا شيخ، فإنِّي مشغولة عن سَقْي الماء وادِّخار الأجر. فقلتُ لها: يا سيِّدتي، لأيَّةِ علَّة؟ قالت: لأنِّي عاشِقة مَنْ لا يُنصِفني وأريد مَنْ لا يُريدني، ومع ذلك فإني مُمتَحَنة برُقَباء فوق رُقَباء. قلت لها: يا سيِّدتي، هل على بسيط الأرض مَنْ تُريدينَه ولا يُريدُك؟ قالت: إنه لعَمْري على ذلك الفَضْل الذي ركَّبَ الله فيه من الجَمال والدَّلال. قلتُ لها: يا سيِّدتي، فما وُقوفُك في الدهليز؟ قالت: هو طريقه، وهذا أوان اجتِيازه. قلتُ لها: يا سيِّدتي، هل اجتمعتُما في خلوةٍ في وقتٍ من الأوقات؟ أم حبٌّ مُستحدثٌ؟ فتنفَّسَت الصُّعَداء وأَرْخَتْ دُموعَها على خَدَّيها كطلٍّ على وردٍ، وأنشأتْ تقول:
قلتُ لها: يا هذه ما بلَغَ من عشقِك هذا الفتى؟ قالت: أرى الشمس على حائطهم أحسنَ منها على حائط غيرِهم، وربَّما أراه بغتةً فأُبهَتُ وتهرُب الرُّوح عن جسدي، وأبقى الأسبوع والأسبوعين بِغَير عقل. قلتُ لها: عزيزٌ عليَّ وأنتِ على ما بك من الضَّنى وشُغل القلب بالهوى، وانحلال الجِسم وضَعف القوى، ما أرى بك من صفاء اللَّون ورقَّة البَشرة، فكيف لو لم يكن بك من الهوى شيءٌ؟! أراك كنتِ مُفتنةً في أرض البصرة. قالت: كنتُ والله يا شيخ — قبل مَحبَّتي لهذا الغُلام — تُحفةَ الدَّلال والجمال والكمال، ولقد فَتنتُ جميع ملوك البصرة وفَتَنَني هذا الغلام. فقلت: يا هذه، ما الذي فرَّق بينكما؟ قالت: نوائبُ الدَّهر وأوابِدُ الحدثان. ولحديثي وحديثِه شأنٌ من الشئون، وأُنْبيك أمري أنِّي كنتُ افتصدْتُ في بعض أيام النيروز، فأمرتُ فزُيِّن لي وله مجلس بأنواع الفُرش وأواني الذهب ونضَّدْنا الرَّياحين والشقائق والمَنثور وأنواع البهار، وكنتُ دعوتُ لحبيبي عدَّةً من مُتظرِّفات البصرة فيهنَّ من الجواري جارية شهران، وكان شراؤها عليه من مدينة عمَّان ثمانمائة ألف دِرهم، وكانت الجارية ولِعَتْ بي، وكانت أولَ مَنْ أجابت الدَّعوة وجاءتْني منهن، فلمَّا حصلتْ عندي رَمَتْ بنفسِها عليَّ تُقطِّعني عضًّا وقرصًا، ثمَّ خَلونا نتمزَّز القَهوة إلى أن يُدرِك طعامنا ويَجتَمِع من دعَونا، فتارةً هي فَوقي وتارةً أنا فوقَها، فحمَلَها السُّكْر على أن ضربت يدَها على تِكَّتِي فحلَّتْها، ونزعَتْ هي سراويلها وصارت بين فخذيَّ كمصير الرجال من النِّساء، فبينا نحن كذلك إذ دخل عليَّ حبيبي وقد الْتزَقَ قرطي بخلخالي، فلمَّا نظر إلينا اشمأزَّ لذلك وصدَف عنِّي وعنها صُدوف المُهرة العربية إذا سمِعتْ صلاصِل اللُّجم، وعضَّ على أنامِله وولَّى خارجًا؛ فأنا يا شيخ منذ ثلاث سنين أسلُّ سَخيمتَه وأستعطِفه فلا ينظر إليَّ بعينٍ ولا يكتبُ إليَّ بحرفٍ ولا يُكلِّم لي رسولًا. قلتُ لها: يا هذه، أفمِنَ العرَب هو أم من العَجَم؟ قالت: هو من جلَّة ملوك البصرة. قلت: من أولاد نُيَّابِها أو من أولاد تُجَّارها؟ قالت: من عظيم مُلوكها. قلت لها: أشيخ هو أم شاب؟ فنظرتْ إليَّ شزَرًا وقالت: إنك لأحمَق؛ أقول هو مِثل القمر ليلة البدْر أمردُ أجردُ ذو طرَّة رقْعاءَ كحَنَك الغُراب، تَعلوه شُقرَةٌ، في بياضٍ، عطِر لبَّاس، ضاربٌ بالسَّيف طاعِنٌ بالرُّمح لاعب بالنرد والشطرنج، ضارب بالعُود والطنبور، يُغنِّي وينقُر على أعدَلِ وَزْن، لا يَعيبُه شيء إلَّا انْحِرافه عنِّي لانْقِصالي منه، بل حِقدًا لِمَا رآني عليه. قلت: يا هذه، وكيف صبرُك عنه؟ فأنشأتْ تقول:
قلتُ لها: يا سيِّدتي، ما اسمُه؟ وأين يكون؟ قالت: تصنَعُ به ماذا؟ قلت: أجهد في لقائه وأتعرَّف الفضل بينكُما في الحال. قالت: على شريطة. قلت: وما هي؟ قالت: تَلقانا إذا لَقِيتَه وتحمِل لنا إليه رُقعة. قلت: لا أكرَه ذاك. قالت: هو ضمرة بنُ المُغيرة بن المُهلَّب بن أبي صُفرة، يُكنى بأبي شُجاع، وقصره في المربَدِ الأعلى، وهو أشهر من أن يَخفى، ثمَّ صاحتْ في الدار: يا جواري، دواةً وقِرطاسًا وشمَّرت عن ساعِدَين كأنَّهما طومارا فضة، ثمَّ حملتِ القلَم وكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم، سيِّدي، تركي الدُّعاء في صدْر رُقْعَتي يُنبئُ عن تقصيري، ودعائي إن دعوتُ يكون هُجنة، فلولا أنَّ بُلوغ المَجهود يُخرج عن حدِّ التقصير لَمَا كان لِمَا تَكلَّفَتْه خادِمتُك من كَتْب هذه الرُّقعة معنًى مع إياسها مِنك وعِلمها بتركِكَ الجَواب سيِّدي، فجُدْ بنظرةٍ وقتَ اجتِيازك في الشارع إلى الدهليز تُحيي بها أنفسًا مَيِّتة أَسْرى، واخْطُطْ بخطِّ يدِكَ بَسَطها الله بكلِّ فضيلةٍ رُقعة، فأجعلْها عِوضًا من تلك الخلوات التي كانت بيْنَنا في الليالي الخالِيات التي أنا ذَاكِرَتُها سيِّدي. ألستُ لك مُحبَّة وبكَ مُدنفة؟ فإنْ رجعْتَ مولاي إلى الأشْبَهِ بك وأنقذْتَني من عوارض التَّلَف كنتُ لك خادِمة ولك شاكرة، فلمَّا فرغتْ من الكتاب يا أمير المؤمنين ناولَتْه إيَّاي، فقلتُ لها: يا سيِّدتي، قد وجَبَ حقُّكِ عليَّ ولَزِمَتْك حُرمتي لطولِ وُقوفي عليك، وكنتُ قد سألتُ شربةَ ماء. قالت: أستغفِر الله ما فهِمْنا عنك. ثمَّ صاحت في الدار، أخرِجْن إلينا شرابًا من ماء وغَير ماء. فما كان إلَّا أن أقبل ثلاثونَ وَصيفة بأيديهنَّ الطاساتُ والجاماتُ والأقداح مملوءةً ماءً وثلجًا وفقاعًا وشرابًا. فشربت الماء، ثمَّ قلتُ: يا سيِّدتي، مع قُدرتِك على هذا من استواء الحال وكثرة الخدَم والعبيد والجواري، فلِمَ لا تَأمُرين إحدى الجواري أن تقِفَ مُراعِية للغُلام حتى إذا مرَّ أعلمَتْكِ فتَخرُجين إليه؟ قالت: لا تَغلَطْ يا شيخ. فتمثَّلت:
ثمَّ انصرفتُ عنها يا أمير المؤمنين. فلمَّا أصبحتُ غدوتُ على مُحمد بن سليمان فوجدتُ مجلسه مُحتفلًا بالملوك وأبناء الملوك، ورأيتُ غُلامًا قد زان المجلِسَ وفاق مَنْ فيه حُسنًا وجمالًا، قد رفعه الأمير فوقَه، فسألتُ عنه فقيل: ضمرة بن المُغيرة، فقلتُ في نفسي بالحقيقة: حلَّ بالمِسكينة ما حلَّ. هو والله قاتلها فيما أرى. ثمَّ قمتُ فقصدتُ المربَدَ ووقفتُ على باب داره، فإذا هو قد ورَدَ في موكبٍ جليل، فوثَبْتُ إليه وبالغتُ في الدُّعاء والثناء، ثمَّ دنوتُ منه وفاوضْتُه في الذي جرى بيني وبينها وناولْتُه الرُّقعة، فلمَّا قرأها ضحك ثمَّ قال: يا شيخ، قد استبدلْنا بها، فهل لك أن تنظُر إلى البديل؟ قلت: نعم. فصاح في الدار: يا جواري، أخرِجْنَ إلينا لذيذًا. فما كان إلَّا أن طلعَتْ جاريةٌ وضيئة الكُمَّين ناهِدَةُ الثَّديَين، تمشي مِشيةَ مُستوحل، ترتَجُّ من دِقَّة خَصرها على كِبَر عَجُزها، ذات فَخذَين وعَجيزتَين تَختِطفان الأنفُسَ اختطافًا، على رأسها بطيخة من الكافور، مكتوبٌ على جَبينها:
ودون ذلك مكتوب:
وقد كتبتْ بالغالية على عصابَتِها ثلاثة أسطر، وهي:
فناوَلَها الرُّقعة وقال: اقرئي وأجيبي صاحبتك. فلمَّا قرأتِ الرُّقعة اصفرَّتْ وعرقَتْ ومَزَّقتْها وضربتْ بها في وجه الغُلام وغابتْ في الستر. فقال لي: أمَّا أنتَ يا شيخ، فاستغْفِرِ الله مِمَّا مشيتَ فيه. قلت: بل أنتَ استغفِرِ اللهَ من هُجرانِك إيَّاها وتركك إتيانها. والله ما أرى لها في البَشَر نظيرًا. قال: لا أفعل، ولو أنها في حُسْنِ يوسف وكمال حوَّاء. فخرجتُ يا أمير المؤمنين وأنا أجرُّ ذَيلي حتى وردتُ عليها، فاستأذنتُ ودخلتُ فبدأتْ بي، فقالت: ما وراء الشيخ؟ قلت: البُؤس واليأس. قالت: لا عليك، فأينَ الله والقدَر؟ ثمَّ أمرتْ لي بخمسمائة دِينار وعشرة أثواب، وخرجتُ من عندها وأنا مُمتدِح لآلِ سُليمان، فلم يكن لي والله إلَّا مَعرفة خَبَرِها في العام الذي عُدت فيه إلى البصرة، فورَدْتُ عليها فوجدتُ على بابها أمرًا ونهيًا وأسبابًا لا تكون إلَّا على باب الخُلفاء، فاستأذنتُ فدخلتُ فإذا فَوقَ رأسها ثلاثون رجلًا من شُيوخٍ وشُبَّان وخدَم وقوفٌ بِسيوفهم. فلمَّا نظرتْ إليَّ عرفتْني ووثبتْ إليَّ وقبَّلتْ رأسي، وقالت: يا شيخ، الحمد لله الذي جعل العبيد بالصَّبْر ملوكًا، وجعل الملوك بالتِّيه عبيدًا. إنَّ الذين تراهم وقوفًا أصحاب ضمرة يَسلُّون سخيمتي ويَسألونني الرُّجوع له. والله لا نظرتُ إليه في وجهٍ ولو أنه في حُسْن يوسف وكمال حوَّاء. فسجدتُ يا أمير المؤمنين شَماتةً بضمرة وتقرُّبًا إلى الجارية، فقال بعض حُجَّاب ضمرة: مَهلًا يا شيخ، فمَنْ طاب مَحضرُه طاب مَولِدُه. ثمَّ انصرفوا، فناولتْني خريطةً فيها أوراق، فقالت: هذه أولُ ما ورَد علَينا منه، فإذا فيها ثَوبُ خزٍّ أبيض يقق مكتوب فيه بماء الذهب: بسم الله الرحمن الرحيم، لولا تَغاضِيَّ عليكِ أدام الله حياتَكِ لوصفتُ شطرًا من غَدْرِك، ولبسطتُ سوطَ عُتبي عليك، وحكَّمت سيفَ ظلامتي فيك؛ إذ كُنتِ الجانية على نفسِك والمُظْهِرةَ لسُوء العهد وقلَّة الوفاء، المُؤثرة علينا غَيرَنا، فخالفتِ هوايَ وفرشتِ نفسك لها على حالتَي جدٍّ وهزْل وصَحْوٍ وسُكر، والمُستعان الله على ما كان من سُوء اختيارك، وقد ضمَّنتُ رُقعتي هذه أبيات شِعرٍ أنتِ المُتفضِّلة بالنظر إليها، وهي:
قلت لها: أفلا تُحدِّثيني كيف سَليتِ عنه وابتُلِي؟ قالت: كيف لا أُحدِّثك؟ افتصدتْ تفاحة جارية محمد بن سليمان، فدُعينا إلى خَورنق لمُحمد بن سليمان، فلمَّا طعِمنا دعتْ لنا بالشَّراب، فبينا نحن كذلك إذا بحراقة سلطانية قد وردَتْ وفيها عدَّة من أبناء الملوك وفيهم هذا العيَّار، ولا عِلم لي بمكانه، وكنتُ حملتُ العود وغنَّيْت:
فلمَّا وجبتِ العَتمة انصرفْنا وأبطأتِ الجارية، وأتاني هؤلاء القوم من عنده يَسلُّون سَخيمتي ويَستعطفونني عليه، ثمَّ انصرفتُ عنها يا أمير المؤمنين ودخلتُ الحمَّام من ساعَتي، فما كان إلَّا أن دخلتُ حتى أتاني غُلامي فقال: جماعة من جِلَّة الناس قد طرقوا دارك يَطلبُونك، فلبستُ ثيابي وخرجتُ مُسرعًا فإذا بضمرة قد كبَسَ داري في عدَّة من الرؤساء، فقال: والله لا برَحْنا حتى تُنفِق علينا الخمسمائة دينار التي أخذتَها من الجارية سيِّدتي. قلت: إي والله، بالسَّمع والطاعة، ثمَّ جذَبَني إلى نفسه فلم يزل يُناظِرني في أمرها حتى أقبل المساء، ثمَّ انصرف إلى رَحْلِهِ. فلما كان من الغد وردتْ لي رُقعة مع خادمٍ وكيس فيه ألف دينار واستزارَني فقبلتُ ذلك وصرتُ معه إليه. فلمَّا نظر إليَّ تنحَّى عن مَقعده وأقعَدَني، ثمَّ قال: هذا قد أعددتُه للنيروز لسيِّدتي هدية، وأنت أولى مَنْ تجشَّم مع الخادم إليها. قلت: السَّمع والطاعة. ثمَّ صاح في الدار: هاتوا الهدية، فإذا مائة تختٍ من ثيابٍ وصندوق من ذهبٍ مُقفل عليه. فقال لي: في التَّختِ والصندوق مَبلغ ثلاثين ألف دينار، وأنت أولى من تفضَّل بالإيصال. فصِرنا إليها واستأذنًّا، فلمَّا مَثلْنا بين يديها أنكرتْني وقالت: مَنِ الشيخ؟ قلت: الخليع شاعِر العراق، ومعي هديَّة عبدِك ضمرة. فصاحت في الدار: تملك، فإذا جارية كأنَّها الظبية المُنفلِتة من الشَّبكة، قالت لها: خُذي هذه الهدايا وفرِّقيها على جواري الدار. ثمَّ قالت: أيطمَع الخِنَّوْصُ أن يجتمِع معي بعد قَبولي الهديَّة في ثلاثين سنة؟ قلتُ لها: العفو عند المقدِرة يعدِلُ عِتق رقبة. قالت: ففي خمس عشرة سنة؟ قلتُ لها: أنقِصيها أولى بك. قالت: ففي ثلاثِ سنين؟ قلتُ لها: حطَّة أخرى وقد اجتمعنا. قالت: لا، والله لا آكلُ ولا أشربُ حتى آتيه، وأمرتْ أن يُسرَج لها. وبادرتُ إلى باب ضمرة مُبشِّرًا، فما وصلتُ أو سمعتُ صلاصِل اللُّجم فإذا هي قد سبقتْني في جواريها وخدمِها، فدخلتُ فإذا هما يتعانَقان ويتعاتَبان، فقلت: يا سيِّدتي، ما أنتُما إلى شيءٍ أحوج منكما إلى خلوة. قالا: هو ذاك. فانصرفتُ عنهما، ثمَّ بكرتُ عليهما فإذا هي في المَرقَد الأول جالسة عليها جبَّة وشيء مطير وهي تعصِر الماء عن ذوائبها وتُصْلِح قُرونها فاستحيَتْني، وقالت: لا تُفكِّرن في رِيبة، فوالله ما صلَّينا البارِحة حتى بعثتُ إلى عبد الرحمن بن أبي ليلة القاضي فزوَّجتُ نفسي سيِّدي، ولكن صِرْ إليه فإنه في المَرقدِ الثاني، فصعدتُ إليه فلمَّا نظر إليَّ وثَبَ إليَّ وقبَّل بين عينيَّ وقال: يا شيخ، قد جمع الله بيني وبين سيِّدتي بك. ثمَّ دعا بدواةٍ وقِرطاس وكتَبَ إلى ابن نوح الصَّيرفي في ثلاثة آلاف دِينار، فرجعتُ إليها فقالت: بماذا برَّك سيِّدي؟ فأقرأتُها الرُّقعة، فقالت: نُعجِّل إليك مثلها. فدعتْ بمالٍ وطيار ووزنتْ ثلاثة آلاف دِينار، ودعت بعشرة أثواب من ثِياب مصر وقالت: هذه وظيفتُك علينا كلَّ عام، فخرجتُ من عندها وأخذتُ مَرفوعي من آل سُليمان وانصرفتُ إلى العراق. وكان الرشيد مُتَّكئًا فاستوى جالسًا وقال: أوه يا حُسين، لولا أن ضمرة سبقَني إليها لكان لي ولها شأنٌ من الشئون.
«ومنه مع الشعراء»، قال: استأذنت بنتٌ لعبد الملك بن مروان في الحجِّ فأَذِنَ لها، وكتبَ إلى الحجَّاج يأمره بالتقدُّم إلى عُمر بن أبي ربيعة أن لا يذكُرها في شِعره. فلما بلغ عمر مَقدَمُها لم يكن له همَّةٌ إلَّا أن يَتهيَّأ بأجمل ما يقدِر عليه من الحُلَل والثياب، وضُرِبَتْ لها قبَّةٌ في المسجد الحرام، فكانت تكون فيها نهارًا، فإذا أمستْ تحوَّلتْ إلى منزلها لتنظُر إليه وتجلِس بإزاء القبَّة، وقد خُبِّر عُمر بشأنها، فإذا أرادتِ الطواف أمرت جواريها فيَستُرنها بالمطاريف، فكانت تتطلع إلى عُمر كثيرًا، وكانت تسأل مَنْ دخل عليها عنه رَجاء أن يكون قد قال شيئًا، فلم يفعل حتى قضتِ الحجَّ ورحلتْ ونزلتْ من مكة على أميال، فأقبل راكبٌ من مكة فسألتْه: من أين أقبلت؟ قال: من مكة. قالت: عليكَ وعلى فرقةٍ أنت مِنها لعنةُ الله. قال: ولِم يا ابنة عبد الملك؟ قالت: قدِمنا مكة فأقَمْنا شهرًا، فما استطاع الفاسِق عمر بن أبي ربيعة أن يُزوِّدنا من شِعره أبياتًا كُنَّا نلهو بها في سفرنا هذا. قال: فلعلَّه قد فعل. قالت: فاذهبْ إليه واسألْه، ولك في كلِّ بيتٍ تأتيني به منه عشرة دَنانير. فأقبل الرجل وأتى عمر بن أبي ربيعة فأخبرَه الخبَر فقال له: قد فعلت، ولكن أحبُّ أن تكتُم عليَّ. قال: أفعل. ثمَّ أنشده:
ثمَّ أتى إليها بالأبيات فأُعْجِبَتْ بها وأمرت جواريها بحِفظها، ثمَّ وفَّت له بما وعدَتْ وسلَّمتْ إليه في كلِّ بيتٍ عشرة دنانير. وقال: أخبرَنا محمد بن خلف قال: أخبرني أبو بكر العامري قال: حدَّثني موسى بن عمر بن أفلح مولى فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المُغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قال: حدَّثني بلال مولى ابن أبي عَتيق، قال: قام الحارث بن عبد الله بن عبَّاس بن أبي ربيعة من الحج، فأتاه ابن أبي عَتيق، فقال: كيف تركتَ أبا الخطاب؟ فقال: هجرَتِ الثُّريَّا عُمر. فقال:
وقال لغلامه: انطلِقْ بكتابي هذا إلى ابن أبي عتيق بالمدينة فادفعه إليه، فأقبل الغلام بالكتاب حتى دفعه إليه، فلمَّا قرأه قال: والله أنا رسوله إليها، فسار حتى قدِمَ مكة لا يعلم به أهله، فأتى منزله فوجدَه غائبًا، فانطلق غُلام عمر إلى عمر، فقال: إنَّ رجلًا قدِمَ وهو يطلبُك من شأنه وهيئته كذا. قال: ويحك؛ ذلك ابن أبي عتيق. اذهب إليه فقل له: إنَّ مولاي يأتيك الآن. وكان عمر على فرسَخَين بل على رأس ثلاثة أميال من مكة، فأتاه الغلام فأخبره، فقال: أسرج لي أنت برذون عمر؛ فإن دابَّتي قد تعِبتْ وكلَّتْ. فأسرجه له، فركب وأتى الحي، فصهل البرذون وسمِعَتِ الثُّريَّا صهيله، فقالت لجواريها: هذا هو برذون الخبيث عمر، ثمَّ دعت ببغلةٍ لها فَوضَعَتْ عليها رَحْلَها فخرجت، فإذا هي بابن أبي عتيق، فقالت: مرحبًا بعمِّي. ما جاء بك يا عم؟ قال: أنت والفاسِق جئتُما بي. قالت: أما والله لو بِغَيرِك تحمَّل علينا ما أجَبْناه، ولكن ليس لك مَدْفع أمرِ ربِّنا نحوه. فأقبل حتى انتهى إلى عمر، فخرج عمر إليه وقبَّل يده ثمَّ قال: انزِلْ جعلني الله فداءك. فقال: ماء مكَّة عليَّ حرام حتى أخرج منها. ثمَّ دعا ببغلتِه فرَكِبها وانصرَف إلى المدينة، وخلا عُمر بالثُّريَّا. وحدَّث الزبير بن بكَّار عن أبي محرم عن إبراهيم بن قدامة قال: قال عمر بن أبي ربيعة: ألا أُحدِّثك حديثًا حُلوًا؟ قال: قلت: نعم. قال: بينا أنا جالس إذ جاءني خالد الخريت، فقال: يا أبا الخطاب، هل لك في هند وصواحبها، فقد خرجْنَ إلى نُزهة؟ قلت: وكيف لي بذلك؟ قال: تلبِس لبسةَ أعرابيٍّ وتَعتمُّ عِمامته وتركَبُ مركبه كأنَّك ناشِدُ ضالَّة، قال: ففعلت، وجئت حتى وقفتُ عليها أنْشُد ضالَّتي، فقُلن: انزل. فنزلتُ وقعدتُ أُحادِثهنَّ وأغازلهن. فلما رُمتُ النهوض قالت لي هند: اجلس لا جلستَ أنت، ألا ترى أنك وقفتَ علينا غريبًا، ونحن والله وقَفْنا على غُربتك؟ نحن بعَثْنا خالدًا وخدَعْناه وأطمعْناه في أنفسنا حتى جاء بك. فقال خالد: صدَقْنَ والله خدَعْنَني وخدَعْنَكَ. فجلستُ وتحدَّثنا فأنشَدْتُهن. فقالت لي هند: لقد رأَيْتُني منذ أيام وقد أصبحتُ عند أهلي فأدخلتُ رأسي في جَيبي ونظرتُ إلى هني، فإذا هو ملءُ الكفِّ ومُنية المُتمنِّي، فناديت: يا عُمراه، يا عُمراه، يا عُمراه. قال عمر: فقلتُ: يا لبيك يا لبيك يا لبيك ثلاثًا، ومددتُ في الثالثة صوتي، فضحكتْ وحادثتُهنَّ ساعة، ثمَّ ودَّعتهُنَّ وانصرفتُ، فذلك قَولي:
وقال عمر: ما رأيتُ يومًا غابت عواذِله وحضرت عواذِره بأحسنَ من يومنا ولا صَبوةً كصبوتِنا ولا قيادة كقيادة خالد ولا أملح. ولقد وصفتُ ذلك في شعرٍ فقلتُ في تمام ما تقدَّم:
قال: ولما أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن أبي عتيق قصيدته التي يقول فيها:
قال ابن عتيق: امرأتي طالِق إن لم يكن الناس في طلب مثل هذه منذ قُتِل عثمان يَجعلونها خليفةً فلم يَقدِروا عليها، وأنت تريدها قوَّادة. قال: ولمَّا هجا كُثيِّر بَني ضمرةَ فقال:
اشتدَّت بنو ضَمرة عليه وعلى عزَّة وأرادوا قتله، ووضعوا له العيون، فمكثَ شهرًا لا يصِل إليها، فالتقى جميل وكُثيِّر، فشكا أحدُهما إلى صاحبه ما يلقى. فقال جميل: أنا رسولك إلى عزة؛ فأخبِرني بما كان بينكما. قال آخر: ما لقيتُها بالطَّلحة مع أترابٍ لها. قال: فأتاهم جميل وهو يُنشِد ذَودًا له، ففطنتْ عزَّة فقالت: تحتَ الطَّلحة التَمِس ذودًا هناك. فانصرف جميل فأخبر كُثيِّرًا. فلمَّا كان في بعض الليالي أَتَيا الطَّلحة، وأقبلتْ عزَّة وصاحبة لها، فتحدَّثا مَليًّا وجعل كُثيِّر يرى عزَّة تنظُر إلى جميل، وكان جميلًا وكُثيِّر دَميمًا، فغضب كُثيِّر وغار عليها وقال لجميل: انطلِق بنا قبل أن يُصبِح علينا الصبح، فانطلقا فعند ذلك يقول:
ثمَّ قال كُثيِّر لجميل: متى عهدُك ببُثينة؟ قال: في أول الصَّيف بوادي الدوم ومعها جواريها يَغسلنَ ثيابًا. فخرج كُثيِّر حتى أناخ بهم وهو يقول:
فعلمتْ بُثينة ما أراد، فصاحت: اخسأ اخسأ. فقال عمُّها: ما دهاك يا بُثينة؟ قالت: إنَّ كلبًا يأتينا من وراء هذا التلِّ فيأكُل ما يجِد ثمَّ يرجِع، فرجَع كُثيِّر وقال لجميل: قد وعدتْكَ التلَّ فدونك. فخرج جميل وكُثيِّر حتى انتَهَيا إلى الدومات، وقد جاءت بُثينة، فلم تزل معه حتى برَقَ الصبح. وكان كثير يقول: ما رأيتُ مجلِسًا قطُّ أحسنَ منه. عُمر بن شبَّة عن إسحاق بن إبراهيم المَوصلي، قال: حدَّثني شيخ من خُزاعة قال: ذكرْنا ذا الرُّمَّة وعندنا عصمة بن مالك الفزاري، وهو يومئذٍ ابنُ عشرين ومائة سنة، فقال: إيَّاي فاسألوا عنه؛ كان من أظرَف الناس خفيفَ العارِضين آدم حلو المَضحك، إذا أنشد اختَصَر. وأتاني يومًا فقال: إن ميَّة منقرية وإن بني منقر أخبثُ حيٍّ وأعلمه بأثَر؛ فهل عندك من ناقةٍ نزورُها عليها؟ قلت: إي والله عندي اثنتان. قال: فسِرنا فخرجْنا حتى أشرفْنا على الحيِّ وهم خُلوف، فعرَف النساء ذا الرُّمَّة، فعدلنَ بنا إلى بيت ميٍّ وأنخْنا عندهنَّ، فقُلنَ لِذي الرُّمَّة: أنشِدْنا يا أبا الحارث، فقال: أنشِدْهُن، فأنشَدْتُهنَّ قوله:
فقالت ظريفة منهنَّ: ابكي اليوم، فمررتُ فيها حتى انتهيتُ إلى قوله:
فقالت الظريفة: قتلتَهُ قتَلَك الله. فقالت: ما أصحَّه وهنيئًا له، فتنفَّس ذو الرُّمَّة تنفُّسًا كادت حرارتُه تُساقِط لحْمي، ثمَّ مررتُ فيها حتى انتهيتُ إلى قوله:
فالتفتتْ ميُّ إلى ذي الرُّمَّة فقالت: ويحك، خفْ عواقب الله، ثمَّ أنشدتُ إلى أن انتهيتُ إلى قوله:
فقالت تلك الظريفة: أما القول فقد نازعتُك، والوجه فقد بدا لك، فمَنْ لنا بأن يَنضو الدرعَ سالبُه؟ فقالت لها مَي: قاتلك الله، ما أنكرَ ما تجيئينَ به اليوم. فتحدَّثنا ساعةً ثمَّ قالت تلك الظريفة: ما أحوج هذين إلى الخلوة. فنهضتْ وسائر النساء فصرتُ إلى بيتٍ قريبٍ منهما حيثُ أراهما، فما ارتبتُ بشيء ولا رأيتُ أمرًا كرهتُه، فلبث ساعة ثمَّ أتاني ومعه قارورة وثلاث قلائد، فقال: هذا طِيب زوَّدَتْناه مي، وقلائد أتحفتْكَ بها ابنة الجودي. فكنا نختلف إليها حتى انقضى المَربع ودعانا الصَّيف فرحلوا قَبْلنا، وأتاني ذو الرُّمَّة فقال: قد ظعنتْ مي، فلم يبقَ إلَّا الديار والنظر إلى الآثار، فاخرج بنا إلى دارها، فخرجتُ معه حتى إذا وقفْنا عليه أنشأ يقول:
حتى أتى على آخِرها، ثمَّ انهملتْ عيناه بعَبْرَة، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إنِّي لجليد، وإن كان منِّي ما ترى فما رأيتُ أحدًا أحسنَ شوقًا وصبابةً وعزاءً منه. وعن سُليمان راوية أبي نواس قال: كنتُ مع أبي نواس أسيرُ حتى انتهيْنا إلى درب القراطيس، فخرج من الدَّرب شيخٌ نصرانيٌّ وخلفَهُ غُلام كأنَّهُ غُصنُ بان يتثنَّى كأحسنِ ما رأيت. فقال: يا سُليمان، أما ترى الدُّرة خلف البَعْرة؟ ثمَّ قال: هل لك أن تأخُذ منِّي رُقعة فتُوصِلُها إليه؟ قلت: بلى. فكتَبَها ودفَعها إليَّ فأوصلتُها إليه، فإذا أملحُ غلامٍ وأخفُّه روحًا فقال: مَنْ صاحب الرُّقعة؟ قلت: أبو نواس. قال: أين هو؟ قلت: على باب درب القراطيس. قال: فليقِفْ مكانه حتى أروح. وكان في الرُّقعة:
وحدثنا الجمَّاز قال: كنتُ يومًا على باب عدي الدراع، فمرَّ بي أبو نواس شبيهًا بالمجنون، فإذا خلفَهُ غلام كأنَّهُ مُهر عربي. فقلتُ له: ما لك؟ فقال:
فعدلتُ به وبالغلام، فأقاما سائر يَومِهما. قال: وكان عبيد الله بن يَحيى يتعشَّق غُلامًا من دار المُتوكِّل يُقال له: رشيق، فلا يصِل إليه حتى طال ذلك عليه. وكان أبو الأخطل يَخلُفه في المركب وينبسِط إليه، فقال له عبيد الله يومًا: يا أبا الأخطل، مَنْ لي برَشيق؟ فقال: الصُّفر الصغار والبِيضُ الصِّحاح، وجعل عبيد الله يَلقى رشيقًا في الدار فيَخلو به ويُسارُّه ويُعطيه مائة دينار في كلِّ لقية إلى أن عَلِم رشيق بما في نفس عبيد الله، وكان يتعذَّر عليهما الاجتماع لقضاء الوَطَر واللَّذة، فركب أمير المؤمنين يومَه ومعه أبو الأخطل، فطلب عبيد الله وتعمَّد أبو الأخطل رشيقًا فردَّه إليه، فلمَّا ظفِر به في منزله خاليًا قضى حاجَتَه منه وركِب يريد أمير المؤمنين مُسرعًا، فوصل إلى المَوكِب وقد تصبَّبَ عرَقًا، فقال أبو الأخطل:
«ما قِيل فيه من الشعر»:
آخر:
وقال آخر:
«ومن محاسن ذلك»: حدَّثنا علي بن الحُسين بن علي بن عثمان بن علي بن الحسَن قال: كانت ضمير جارية مُولَّدة لمَيمونة بنت الحَسَن بن علي بن زيد، فأدَّبتْها وعلَّمتْها الغناء فبرعتْ فيه، وكانت من أحسن الناس وَجهًا وبدنًا، وأبرَعهم غناءً وضربًا، فأُعطيَتْ بها مَولاتها عشرة آلاف دينار، فلمَّا أرادتْ أن تبيعها وأُحضِرَ المال بكتْ وقالت: يا سيِّدتي، ربَّيتِيني واتَّخَذْتيني ولدًا، ثمَّ تُريدين بَيعي فأتغرَّب عنك ولا أرى وجهك. قالت: أُشهِد اللهَ ومَنْ حضَر أنَّكِ حُرَّة لوجه الله. فلمَّا ماتتْ ميمونة خطبَها آل أبي طالب وغيرهم، فغلب عليها جعفر بن حسَن بن حُسَين فتزوَّجها، وأحبها حُبًّا شديدًا، فقَدِم بها البصرة، فقال علي بن الحسين — وكان يُجالسها ويسمَع غناءها: فأردتُ الخروج إلى الرضى بخُراسان، فودَّعتُ جعفرًا وخرجتُ فأقمتُ بالأهواز أيامًا أتهيأ للخروج على طريق فارس، فورد عَليَّ كتابُ جعفرٍ أنه قد وقَعَ بينَه وبين ضمير شَر، وأنها قد أغلظتْ له حتى تناوَلَها ضربًا، وأنَّها على مُفارقَتِه. وسألني القُدوم لأُصْلِحَ بينهما. فقال علي بن الحُسين: وكانت لي حاجة بالرضى، وكنتُ أرجو لذلك في وجهي منه ومن المأمون الغنى. فلمَّا قرأتُ كتابه لم أعطِ صبرًا حتى انصرفتُ راجعًا إلى البصرة، فجئتُ إلى جعفر فأوقعتُ به شتمًا وعَذْلًا، ثمَّ أرسلتُ إليها أقسمتُ عليها بحقِّي إلَّا رجعَت، فخرجَتْ مَرهاءَ شَعِثَةً وسِخَةَ الثِّياب حتى جلستْ فجلستُ بينهما، فأقبل جعفر يُعطيني من نفسه لها كلَّ ما أُريد وهي ساكتة، ثمَّ قلت: يا جارية، هاتي العُود فأخذتُهُ فأصلحتُ منه حتى تغنَّتْ وهي تبكي ودُموعها تكف:
قال علي بن الحُسين: فوالله ما رأيتُ أحسنَ منها ولا أرقَّ من غنائها بهذا الصوت، فما برحتُ حتى اصطلحا، وألهتْني والله عن الغِنى فأقمتُ بالبصرة. وعن الكلْبي قال: بينا عُمر بن أبي ربيعة يَطوف بالبيت في حال نُسكِه فإذا هو بشابٍّ قد دنا من شابَّة ظاهرة الجَمال فألقى إليها كلامًا. فقال له عمر: يا عدو الله، في بلدِ الله الحرام، وعند بيْتِهِ تَصنَعُ هذا؟! فقال: يا عمَّاه، إنها ابنة عَمِّي وأحبُّ الناس إليَّ، وإني عندَها لكذلك، وما كان بيني وبينها من سوءٍ قطُّ أكثر ممَّا رأيت. قال: ومَنْ أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان. قال: أفلا تَتزوَّجها؟ قال: أبى عليَّ أبُوها. قال: ولِمَ؟ قال: يقول ليس لك مال. فقال: انصرِف والْقَنِي. فلَقِيَه بعد ذلك، فدُعِيَ ببغلتِه فركِبَها، ثمَّ أتى عمَّ الفتى في منزله فخرج إليه فرحًا بِمجيئه ورحَّبَ وقرَّب، فقال: ما حاجتك يا أبا الخطاب؟ قال: لم أرك منذ أيام فاشتقتُ إليك. قال: فانزل. فأنزله وألطفه. فقال له عمر في بعض حديثه: إنِّي رأيتُ ابن أخيك فأعجَبَني تحرُّكه وما رأيتُ من جماله وشبابه. قال له: أجل، ما يَغيب عنك أفضلُ ممَّا رأيت. قال: فهل لك من ولد؟ قال: لا إلَّا فُلانة. قال: فما يَمنعك أن تُزوِّجَه إيَّاها؟ قال: إنه لا مال له. قال: فإن لم يكن له مال فلك مال. قال: فإني أضنُّ به عنه. قال: لكني لا أضنُّ به عنه فزوِّجْه واحتكِم. قال: مائة دينار. قال: نعم. فدفَعَها عنه وتزوَّجها الفتى وانصرَف عمر إلى منزله، فقامت إليه جارية من جواريه فأخذتْ رِداءه وألقى نفسه على فِراشها، وجعل يتقلَّب فأتَتْه بطعامٍ فلم يتعرَّض له. فقالت: أظنُّك والله قد وجدتَ بعض ما كان يعرِضُ لك من حِكَم النِّساء فلا تَكتُمها. فقال: هاتي الدَّواة، فكتب:
قال: وقال عمر بن أبي ربيعة: بينا أنا خارج مُحْرِمًا إذ أتتْني جاريةٌ كأنَّها دمية في صفاء اللُّجَين في ثَوب قصب كقضيب على كثيب. فسلَّمتْ عليَّ وقالت: أنت عمر بن أبي ربيعة فتى قُريش وشاعرها؟ قلت: أنا والله ذاك. قالت: فهل لك أن أُريك أحسنَ الناس وجهًا؟ قلت: ومَنْ لي بذلك؟ قالت: أنا والله لك بذلك على شَريطة. قلت: وما هي؟ قالت: أعْصُبك وأربِطُ عينَيك وأقودك ليلًا. قلت: لك ذاك. قال: فاستخرجت معجرًا من قصبٍ عجَرَتْني به وقادتْني حتى أتتْ بي مضربًا. فلمَّا توسَّطتْه فتحت العجارة عن عَيني فإذا أنا بمضربِ دِيباج أبيض مُزرَّر بحُمرة مَفروش بوشي كوفيٍّ، وفي المضرب ستارة مضروبة من الدِّيباج الأحمر عليها تماثيل ذهب ومن ورائها وجهٌ لم أحْسَب أن الشمس وقعت على مثله حُسنًا وجمالًا. فقامت كالخَجِلة وقعدتْ قُبالتي وسلَّمت عليَّ، فخُيِّلَ لي أن الشمس تطلُع من جَبينها وتغرُب في شقائق خدِّها. قالت: أنت عمر بن أبي ربيعة فتى قُريش وشاعرها؟ قلت: أنا ذلك يا مُنتهى الجمال. قالت: أنت القائل:
قلت: أنا والله قائلها يا سيِّدتي. قالت: ومَنْ هؤلاء؟ قلت: يا سيِّدتي، والله ما هو عن قصدٍ مِنِّي ولا في جاريةٍ بِعَينها، ولكني رجلٌ شاعر أحبُّ الغزَلَ وأقول في النساء. قالت: يا عدوَّ الله يا فاضِح الحرائر، أنت قد فشا شِعرُك بالحِجاز وأنشده الخليفة والأمراء ولم يكن في جارية بعَيْنها! يا جواري أخرِجْنه. فخرجتِ الوَصائفُ فأخرجْنَني ودفعنَني إلى الجارية فعجرَتْني وقادتْني إلى مضربي، فبتُّ بليلةٍ كانت أطولَ من سنة. فلمَّا أصبحتُ بقيتُ هائمًا لا أعقل ما أصنع، فما زلتُ أرقُبُ الوقتَ فلمَّا كان وقتُ المساء جاءتْني الجارية وسلَّمتْ عليَّ وقالت: يا عمر، هل رأيتَ ذلك الوجه؟ قلت: إي والله. قالت: فتُحِبُّ أن أُريكه ثانية؟ قلت: إذا تكرَّمْتِ فتكونين أعظمَ الناس عليَّ منَّة. فقالت: على الشريطة، فاستخرجت المعجر وعجرتني وقادتْني. فلمَّا توسَّطتُ المضرب فتحتُ العصابة عن وَجهي فإذا أنا بمضرب دِيباج أحمرَ مُدثَّر ببياضٍ مفروش بفرشٍ أرمني، فقعدتُ على نَمْرَقة من تلك النَّمارق فإذا أنا بالشَّمس الضاحية قد أقبلتْ من وراء السَّتْر تتمايَلُ من غير سُكر، فقعدتْ كالخَجِلة فسلَّمتْ عليَّ، وقالت: أنت عمر بن أبي ربيعة فتى قريش وشاعرها؟ قلت: أنا ذاك، قالت: أنت القائل:
قلت: أنا قائلها. قالت: فمن النَّاهِدة الثَّديَين؟ قلت: يا سيِّدتي، قد سبق في الليلة الأولى؛ والله ما هو من قصدٍ ولا في جارية بعَيْنها، ولكنِّي رجل شاعر أحبُّ الغزَلَ وأقول في النِّساء. قالت: يا عدوَّ الله، أنت قد فشا شِعرك بالحجاز ورواه الخليفة، وتزعُم أنه لم يكن في جارية بِعَينها! يا جواري ادفعْنَه، فوثَبَتِ الجواري فأخرجْنَني ودفعْنَني إلى الجارية، فعجرَتْني وقادتْني إلى مَضربي، فبتُّ في ليلةٍ كانت أطول من الليلة الأولى. فلَمَّا أصبحتُ أمرتُ بخلوق فضُرِبَ لي، وبقيت أرقب الوقتَ هائمًا. فلمَّا كان وقتُ المساء جاءتني الجارية فسلَّمتْ عليَّ وقالت: يا عمر، هل رأيت ذلك الوجه؟ قلت: إي والله. قالت: أفَتُحِبُّ أن أُريكَه الثالثة؟ قلتُ: إذًا تكونين أعظمَ الناس عليَّ مِنَّة. قالت: على الشريطة؟ قلت: نعم. فاستخرجتِ المِعْجَر وعجَرتْني به وقادتْني حتى أتتْ بي المضرب، فلمَّا توسَّطتُه فتحت العصابة عن عَينيَّ فإذا أنا في مضرب دِيباج أخضر مُدثَّر بحُمرة مَفروش بخزٍّ أحمر، وإذا أنا بالشَّمس الضاحية قد أقبلتْ من وراء السَّتْر كحُور الجِنان، فسلَّمتْ عليَّ وقالت: أنت عُمر بن أبي ربيعة فتى قريش وشاعرها؟ قلت: أنا ذاك. قالت: أنت القائل:
قلت: أنا قائلها. قالت: يا عدوَّ الله، أنت الذي فضحْتَها ونفسك، وَجْهي من وَجْهك حرام إن عُدتَ إليَّ. يا جواري أخرِجْنَه. فوثَبَ إليَّ الوصائف وأخرجْنَني، ودفعْنَني إلى الجارية فعَجرتْني وقادتْني، وقد كنتُ عند خروجي من مَضربي ضربتُ يَدي بالخُلوق وأسدلتُ عليها رِدائي. فلمَّا صرتُ إلى باب مَضربها أخرجتُ يدي ووضعتُها على جانب المضرب وَضْعًا بيِّنًا، فلمَّا أصبحتُ صِحْتُ بغِلماني وعبيدي ولي ألفُ عبد: مَنْ أتاني بخَبَرِ المضربِ الذي ضُرِبَ فيه بكذا وكذا فهو حُرٌّ لوجهِ الله. فلمَّا كان في وقتِ المساء أتتْني وليدة سَوداء، فقالت: قد عرفتُ المضرب، وهو لرَمْلة أختِ عبد الملك بن مروان. فأعتقتُها وأمرتُ لها بمائتي دينار، وأمرتُ بمضربي فقُلِعَ وضُرِبَ بحِذاء مضربها، وكُتِبَ بالخَبَر إلى عبد الملك بن مروان، فكتَبَ إليها بالرحيل، فركبتْ هودَجَها وركبتُ فرَسي فزاحمْتُها في بعض الطريق، فأشرفَتْ عليَّ من هودَجِها فقالت: إليك عنِّي أيُّها الرجل. قلت: خاتَمٌ أو قَميصٌ أذْكُرُكِ به. فقالت لبعض جواريها: ألقِ إليه قَميصًا من قُمُصي. فأخذتُه وأنا أقول:
وجعلتُ أنزل بنُزولها وأركَبُ بركُوبها حتى كُنَّا من الشام على ثلاثِ مراحل، فاستقبَلَها عبد الملك في خاصَّتِه فدخل إليها، ثمَّ قال: يا رَمْلة، ألم أنْهكِ أنْ تَطوفي بالبيت إلَّا ليلًا يَحفُّك الجواري ويحفُّ الجواري الخدَم، ويحفُّ الخدَم الوكلاء لئلا يراكِ عُمر بن أبي ربيعة. قالت: والله، وحياة أمير المؤمنين ما رآني ساعةً قط. فخرج من عندها فبَصُر بمَضربي، فقال: لمن المضرب؟ قِيل: لعُمر بن أبي ربيعة. قال: عليَّ به، فأتيتُه بِلا رِداءٍ ولا حِذاء، فدخلت عليه وسلَّمتُ عليه. فقال: يا عمر، ما حملك على الخُروج من الحِجاز من غَير إِذني؟ قلت: شَوقًا إليك يا أمير المؤمنين وصَبابة إلى رُؤيتك. فأطرَقَ مَليًّا ينكتُ في الأرض بيده، ثمَّ رفع رأسه فقال: يا عمر، هل لك في واحدة؟ قلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: رمْلة؛ أُزَوِّجْكها. قلت: يا أمير المؤمنين، وإنَّ هذا لكائن؟ قال: إي وربِّ السَّماء. ثمَّ قال: زَوَّجْتُك فادخُل إليها من غير أن تَعْلم. فدخلتُ عليها فقالت: مَنْ أنت هَبَلَتْك أُمُّك؟ فقلت: يا سيِّدتي، أنا المُعذَّب في الثلاثِ. فارتَحَلَتْ وأنا عَديلها، فأنشأتُ أقول:
فلم أزَلْ معها بأحْسَنِ عَيشٍ وغِبطة.