محاسن الدَّبيب
الأصمعي قال: أخبرَني رجلٌ من بني أسدٍ أنه خرج في طلب إبلٍ قد ضلَّت، فبينا هو يسير في بلاءٍ وتعَب وقد أمسى في عَشِيَّة باردة إذ رُفِعَت له أعلام. قال: فقصدتُ بيتًا منها، فإذا أنا بامرأةٍ جميلة ذات جَزالة فسلَّمتُ فردَّت عليَّ السلام، ثمَّ قالت: ادخل، فدخلتُ فبَسَطتْ لي ومهَّدت، وإذا في حِجرِها صبيٌّ أطيب ما يكون من الولدان. فبينا هي تُقبِّله إذ أقبل رجلٌ أمام الإبل دميم المَنظر ضئيل الجِسم كأنَّه بَعْرة دمامةً واحتقارًا. فلمَّا بَصُر به الصبيُّ هشَّ إليه وعدا في تلقائه فاحتَمَلَه وجعل يُقبِّله ويُفَدِّيه. فقلتُ في نفسي: أظنُّه عبدًا لها. فجاءَني ووقفَ بباب الخَيمة وسلَّم، فرددتُ عليه السلام. فقال: مَنْ ضَيفُكم هذا؟ فأخبرتْه، فجلس إلى جانبها وجعل يُداعِبها، فطفقتُ أنظر إليها تارةً وإليه أخرى أتعَجَّبُ من اختِلافِهما؛ كأنَّها الشمس حُسنًا وكأنه القرد قُبحًا. ففطِنَ لنَظري وقال: يا أخا بني أسد، أترى عجَبًا؟ قال: تقول: أحسنُ الناس وجهًا وأقبَحُ الناس وجهًا، فليت شِعري كيف جُمِعَ بينهما؟! أُخبِرُك كيف كان ذلك؟ قلت: ما أَحْوَجَني إلى ذلك! قال: كنتُ سابِعَ إخوتي كلهم، لو رأيْتَني معهم ظنَنْتَني عبدًا لهم، وكان أبي وإخوتي كلُّهم أصحاب إبلٍ وخَيل، وكنتُ من بينهم مَطروحًا لكلِّ عملٍ دَنِي؛ للعُبودية تارةً ولرَعْي الإبل أخرى. فبينا أنا ذاتَ يومٍ تَعِبٌ مُكتئب إذ ضلَّتْ لنا بَعير، فتوجَّه إخوتي كلهم في بغائه فلَمْ يقدِروا عليه، فأَتَوا بي وقالوا: ابعَثْ فلانًا يَنشُد لنا هذا البعير. فدَعاني أبي وقال: اخرُج فانْشُد هذا البعير. فقلت: والله ما أنْصَفْتَني ولا بَنُوك؛ أمَّا إذا الإبل دَرَّتْ ألبانها وطاب رُكوبها، فأنتم جماعة أهل البيت أربابُها وإذا ندَّت ضِلالُها فأنا باغِيها. فقال: قُمْ يا لُكَع فإني أراه آخِرَ يومك. فغدوتُ مَقهورًا خَلِقَ الثِّياب حتى أتيتُ بلادًا لا أنِيسَ بها، فطفقتُ يَومي ذلك أجول القَفْر. فلمَّا أمسيتُ رُفعَتْ لي أبيات، فقصدتُ أعظمَ بيتٍ منها؛ فإذا امرأةٌ جميلةٌ مُخيلة للسُّؤدُد والجزالة، فبدأتْني بالتَّحيَّة وقالت: انزِل عنِ الفرَسِ وأرِحْ نفسك، فأتَتْني بعشاءٍ فتعشَّيت، وأقبلتْ هذه تَسخَرُ مِنِّي وتقول: ما رأيتُ كالعَشيَّة أطيبَ ريحًا منك ولا أنظفَ ثَوبًا ولا أجمل وَجْهًا. فقلت: يا هذه، دَعيني وما أنا فيه، فإني عنكِ في شُغل شاغِلٍ فأبَتْ عليَّ، وقالت: هل لكَ أن تَلِجَ عليَّ السجفَ إذا نام الناس؟ فأغْراني والله الشَّيطان. فلمَّا شبِعْتُ من القِرى وجاء أبوها وإخوتها فضَجَعوا أمام الخَيمة قمتُ ووكزْتُها برِجْلي. قالت: ومَنْ أنت؟ قلت: الضَّيف. قالت: لا حيَّاك الله، اخرُج عليك لَعْنة الله. فعلِمتُ أني لستُ في شيءٍ من أمرها، فولَّيتُ راجِعًا فواثَبَني كلبٌ لهم كأنَّه السَّبع لا يُطاق، فأراد أكلي فأنْشَبَ أنيابَهُ في مدرعةِ صُوفٍ كانت عليَّ وجعل يُمزِّقُني، فردَّني القَهقرى وتعذَّر عليَّ الخلاص، فأهويتُ أنا والكلب من قِبَل عقبي في بئر، فأحسن الله إليَّ أن لا ماء فيها. فلمَّا سمِعَتِ المرأةُ الواغِية أتَتْ بحبلٍ فأدلته وقالت: ارتَقِ لعنَكَ الله، فوالله لولا أنه يُقتصُّ أثري غدًا لوَدَدْتُ أنها قَبرُك. فاعتنقتُ الحبْل فما كدتُ أتناوَلُ يدَها قضى أن تَهوَّر من تحت قَدَمَيْها فإذا أنا وهي والكلب في قرار البئر؛ بئرٌ أيما بئر، إنَّما هي حُفرة لا طيَّ لها ولا مَرقاة، كأشدِّ بليةٍ بنا عضًّا؛ الكلبُ ينبح من ناحية، وهي تَدعي بالوَيْل والثُّبور من ناحية، وأنا مُنقبِع قد برَد جلدي على القتل من ناحية. فلمَّا أصبحتْ أُمُّها فقَدَتْها، فلمَّا لم ترَها أتتْ أباها فقالت: يا شيخ، أتعلَمُ أن ابنتَكَ ليس لها أثرٌ يُحسُّ. وكان أبوها عالمًا بالآثار تابعًا لها، فلمَّا وقفَ على شفير البئر ولَّى راجِعًا، فقال لولده: يا بُني، أتعلَمُون أنَّ أُختَكم وضَيفَكم وكلبَكم في البئر؟ فبادَروا كالسِّباع؛ فمن بين آخِذٍ حجرًا وآخرَ سيفًا أو عصا، وهم يَومئذٍ يريدون أن يَجعلوا البئر قبري وقبرها. فلمَّا وقَفوا على شفير البئر قال أبوهم: إن قتلتُم هذا الرجل طولِبْتُم بدمِه وإن تركتموه افتَضَحْتم، وقد رأيتُ أن أُزوِّجها إياه؛ فوالله ما يُقْدَح لها في نَسَبٍ ولا في حسب. ثمَّ قال لي: أفيك خير؟ فلمَّا شممتُ رُوح الحياة وثاب إليَّ عقلي قلت: وهل الخَير كلُّه إلَّا فيَّ، فهاتِ أُختكم. فقال: مائة بَكرة وبَكرة وجارِية وعبد. فقلت: لك ذلك، وإن شئتَ فازدَد، فأُخْرِجَتْ أوَّلًا والكلب ثانيًا وأُخْرِجْتُ ثالثًا، فأتيتُ أبي فقال: لا أفلحت، فأين البعير؟ قلت: أربِعْ عليك أيُّها الشيخ، فإنه كان من القِصَّة كيت وكيت. قال: أفعل، والله لا أخذُلك. فدعا بالإبل فأعدَّ منها مائة بكرةٍ وبكرة وسُقْناها مع جاريةٍ وعبد، وأخذت منه هذه غرَّة نفسها، قال: هي والله كذلك. وجعلَتْ تصدُف عن حديث زَوجها صُدوف المُهرة العربية سَمِعَتْ لِجامها، وربما قالت: لا أطاب الله خبرك.
ضدُّه مَساوي الدَّبيب
قال: وقيل لخراش الأعرابي: حدِّثنا ببعضِ هنَاتك. قال: خرجتُ في بغاء ذَودٍ لي، فدفعتُ في عشيَّة شاتِيةٍ إلى أَخبيةٍ كثيرة، فضافوا وحيَّوا ورحَّبوا. فلمَّا أردتُ النوم أقاموا فتاةً لهم من مَوضع مَبيتِها، وجعلوني مكانها لئلَّا أتأذَّى بالغَنَم. وإني لمُضطجِع إذا أنا بيدِ إنسانٍ يُجاشِمني ويريد في الظُّلمة مُؤاتاتي، فقعدتُ فإذا أنا برجُلٍ يمدُّ يدَه ومعه عُلبةٌ فيها أرنبٌ مَشوية، فأخذتُها وجعلتُها في شيءٍ كان معي، ثمَّ مدَّ يده ثانية فناولتُه يدي، فأقبَضَني على غرمولٍ كمِثل الوَتَد، فلم أنفِر منه ولم أُرِه وحْشة، وجرَّدتُ ما عندي وتناولتُ يدَه، فأقبضته على مثل ما أقبَضَني عليه، ففطِن ورمى بمِلحفة خزٍّ كانت عليه ووثَب مذعورًا، فنفرَتِ الإبل وهاجَتْ الغنم، وكدتُ أُغشى لِما بي من الضَّحك، وأخفيتُ ما بي وكتمتُه. فلمَّا أصبحتُ ركبتُ راحِلَتي ومعي المِلحفة والعُلبة والأرنب، فلمَّا امتدَّ الضُّحى إذا أنا بإبل، فأخذتُ نحوها فإذا شابٌّ حسَن الهيئة، فسلَّمتُ فردَّ السلام، ثمَّ قال: إن كان معك ما نأكُل نُصِبْ من هذا الوَطب. فأخرجتُ العُلبة فلمَّا رآها عرَفَها وقال: إنك هو. قلت: وما هو؟ قال: صاحِب البارحة. قلت: نعم، إن كنتَ إيَّاه. قال: الحمد لله الذي أتى بِك، لو لم تأتِ لظننتُ أني أوسوِس؛ وذلك أنِّي لصاحبة السَّتر عاشِق وتعلَم ما فعلتَ وفعلت البارحة، ولا تَطيَّقتُ له حتى ابتلاني الله بك البارحة وجعلتُ أقول حين أقبضْتَني عليه: أتراها تحوَّلت رجلًا، وإني لفي شكٍّ من أمري حتى أتاني الله بك. فأكلتُ أنا وهو الأرنَب وشرِبْنا من اللَّبن وصِرنا أصدقاء. الأصمعي قال: أتى خالد بن عبد الله أعرابي، فأضافه وأحسَنَ إليه، وبذَل له صحْن الدار، فلمَّا كان في بعض الليل أشرفَ عليه يتعاهَدُ منه ما كان يتعاهَد من ضَيفه، فإذا هو قد دبَّ على جارية وهو على بطنِها، فأعرض عنه، فما لبِثَ الأعرابي أن فرَغ، وقام يمسح فيشلتَه بالحائط، فضربتْهُ عقربٌ فصاح واستغاث، وأشرف خالد عليه وهو يقول:
قال: وكان أعرابيٌّ ضيفًا لقومٍ، فنظر إلى جاريةٍ جميلة فدبَّ إليها، فإذا عجوز في صحْن الدار تُصلِّي، فعاد إلى فِراشه، ثمَّ عاوَدَها فنَبَح الكلب، ثمَّ عاد إليها فإذا القمر قد طلَعَ فأنشأ يقول:
وقال: وشرِب سعيد بن حميد البصري عند راشد، فدبَّ على غُلامه فكتب إليه سعيد:
فأجابه راشد فقال:
ما قِيل في ذلك من الشِّعر:
قال: ودبَّ رجل على قَينة في مجلسٍ فغنَّت:
وقال علي بن حَمزة:
وقال عمرو بن أبي ربيعة المَخزومي: