محاسن النَّيروز والمهرجان
قال الكسروي: كان أول مَنْ أبدع النيروز وأسَّس منازل الملوك وشيَّد مَعالِم السلطان واستخرج الفضة والذهب والمعدِن، واتَّخَذَ من الحديد آلات، وذلَّل الخيل وسائر الدواب، واستخرج الدُّرَّ وجلب المِسك والعنبر وسائر الطبيب، وبنى القصور واتَّخذ المصانع وأجرى الأنهار كياخسرو بن أبرويز جهان — وتفسيره حافِظ الدُّنيا — بن أرفخشد بن سام بن نُوح عليه السلام. وكان الأصل فيه أنه في النَّيروز مَلَك الدنيا وعمَّر أقاليم إيران شَهْر، وهي أرض بابل، فيكون النَّيروز في أول ما اجتمع مُلكه واستوت أسبابه فصارت سُنَّة، وكان في مُلكِه ألف سنةٍ وخمسين سنة، ثمَّ قتلَه البيوراسف، وملَكَ بعدَه ألف سنةٍ إلى أفريدون بن أثفيان، وفيه يقول حبيب:
فطلَب البيوراسف وملك بعدَه ألف سنةٍ وخمسين سنة، وأسَرَه بأرض المَغرب وكبَّله وسجَنه بجبل دنباوند، واستوفى عدَّة ما كتبَ الله له من عُمره. واتَّفق لأفريدون سجن البيوراسف يوم النِّصف من مهرماه ومهرروز، فسمَّى ذلك اليوم المهرجان فالنيروز لجم والمهرجان لأفريدون. والنيروز أقدَمُ من المهرجان بألفَي وخمسين سنة، وقسَّم جم أيَّام الشهر، وجعل الخمسة الأيام الأولى للأشراف وبعدها خمسة أيام نَيروز الملك يَهَبُ فيها ويصِل، ثمَّ بعدها خمسة أيام لخدَم الملك وخمسة أيام لخواصِّ الملك وخمسة لجُنده، وبعدها خمسة أيام للرِّعاع، فذلك ثَلاثون يومًا. وابتدع المهرجان أفريدون لمَّا أسَرَ البيوراسف روزمهر. وكان الملك إذا لبِسَ زِينتَه ولَزِم مجلسه في هذَين اليَومَين أتاه رَجل رَضِيُّ الاسم مُختبَر باليمين طَلْق الوجه ذَلِقُ اللِّسان، فيقوم قُبالة الملك ويقول: ائذَنْ لي بالدخول. فيسأله: مَنْ أنت؟ ومن أين جئتَ؟ وأين تُريد؟ ومَنْ سار بك؟ ومع من قدِمت؟ وما الذي معك؟ فيقول: جئتُ من عند الأيمنين وأريد الأسعَدين، وسار بي كلُّ منصور، واسمِي خجسته، أقبلتْ معي السنة الجديدة، وأوردتُ إلى الملِك بشارةً وسلامًا ورسالة. فيقول الملك: ائذَنوا له. فيقول له الملك: ادخُل. ويَضَع بين يدَيه خُوانًا من فضَّة قد جمع في نواحيه أرغفةً قد خُبِزَت من أنواع الحبوب من البرِّ والشعيرِ والدَّخَن والذُّرة والحِمَّص والعدس والأرز والسمسم والباقلي واللوبيا، وجمع من كلِّ صنفٍ من هذه الحبوب سبعَ حبَّات، فجُعِلَ في جوانب الخُوان ووُضِعَ في وسطه سبعة من قُضبان الشجر التي يُتفاءلُ بها وباسمِها، ويتبرَّك بالنظر إليها كالخلاف والزَّيتون والسَّفَرْجل والرُّمان منها ما يُقطع على عُقدةٍ ومنها على عُقدتَين ومنها على ثلاثة، ويُجعل كلُّ قضيبٍ باسِم كُرةٍ من الكور، ويُكْتَب في مواضِع أبزود وأبزائد وأبزون وبروار وفراخي وفراهيه؛ تأويله زاد ويزيد وزيادة ورزق وفرَح وسَعة. ويُوضَع سبعُ سكرَّجات بِيض ودراهم بِيض من ضرْب سنتِه، ودِينار جديد وضِغث من أسبند، ويتناول ذلك كله ويدعو له بالخلود ودوام الملك والسعادة والعز، ولا يُؤامَر يومه في شيء إشفاقًا من أن يبدو منه ما يكره، فجرى على سُنَّته. وكان أوَّل ما يُقدَّم إليه صينية ذهب أو فِضَّة عليها سُكَّر أبيض وجوز هندي مُقشَّر رطب وجامات فضَّة أو ذهب، ويَبتدئ باللَّبن الحليب الطَّرِيِّ منه قد أُنْقِعَ فيه تمْرٌ طَرِي، فيتناول بالنارجيل تُميرات، ويُتحِف مَنْ أحبَّ منه ويذوق ما أحبَّ من الحلوى. وكان يُرفَع في كلِّ يومٍ من أيام النيروز باز أبيض، وكان مِمَّن يتيمَّن بابتدائه في هذا اليوم لُقمة من اللبن الصِّرف الطَّري والجُبن الطَّري. وكان جميع ملوك فارس يتبرَّكون بذلك، وكان يُسرَق له في كلِّ يومِ نيروز ماءٌ في جرَّة من حديد أو فضَّة ويقول: استَرقَّ هذا الأسعدَين ويتحمَّل الأيمنين. وجعل في عُنق الجرَّة قلادةً من يَواقيت خُضْر مُنظَّمة في سلك الذهب مَمدود فيها خرَز من زبرجد أخضر، ولم يكن يُسرَق ذلك الماء الأبكار من أسافل داراتِ الأرحاء وصنائع الغِنى، فكان متى اجتمع النَّيروز في يومِ سبت أمر الملك لرأس الجالوت بأربعة آلاف دِرهم، ولم يُعرَف له سبب أكثر من أن السُّنَّة جرتْ منهم بذلك فصارت كالجزية، فكان يُبني قبل النيروز بخمسةٍ وعشرين يومًا في صحن دار الملك اثنتا عشرة اصطوانة من لبنٍ تُزرَع اصطوانة منها بُرًّا واصطوانة شَعيرًا، وأخرى أرزًا وأخرى عدسًا وأخرى باقلي وأخرى قُرطمًا وأخرى دَخنًا وأخرى ذُرةً وأخرى لوبيا وأخرى حِمَّصًا وأخرى سُمسُمًا وأخرى ماشًا. ولم يكن يُحصَد ذلك إلَّا بِغناءٍ وترنُّم ولهو، وكان يوم السادس من يوم النيروز. وإذا حُصِدَ نُثِرَ في المجلس ولم يُكسَّر إلى روزمهرٍ من ماه فروردين، وإنما كانوا يَزرعون هذه الحبوب للتفاؤل بها. ويُقال: أجوَدُها نباتًا وأشدُّها استواء دليلٌ على جودة نبات ما زُرع منها في تلك السَّنة، فكان الملك يَتبرَّك بالنظر إلى نبات الشَّعير خاصَّة، وكان مُؤدِّب الرُّماة يُناول الملك يوم النيروز قوسًا وخمس نشابات وينال الملك قَيِّمَه على دار المملكة أترجه، فكان فيما يُغنَّى بين يدي الملك غناء المُخاطبة وأغاني الربيع وأغاني يُذكر فيها أبناء الجبابرة وتوصَف الأنواء وأغاني أفرين والخسرواني والماذراستاني والفهليد. وكان أكثر ما يُغنِّي العجم الفهليد مع أيام كسرى أبرويز، وكان من أهل مرو، وكان من أغانيه مديح الملك وذِكر أيامه ومجالِسه وفتُوحه، وذلك بمنزلة الشِّعر في كلام العرب، يَصُوغ له الألحان، ولا يمضي يوم إلَّا وله فيه شِعر جديد وضرْب بديع، وكان يذكُر الأغاني التي يَستعطِف بها الملك ويَستميحه لمَرازبته وقوَّاده ويَستشفع لمُذنب، وإن حدثتْ حادثة أو ورد خبر كرهوا إنهاءه إليه قال فيه شِعرًا وصاغ فه لحنًا كما كان فعل حين نفَق مركوبه شبديز، ولم يجْسُروا على إنهاء ذلك، فغنَّى بها وذَكر أنَّهُ ممدود في أريه مادٌّ قوائمَه لا يعتلِف ولا يتحرَّك، فقال الملك: هذا قد نفَق إذا قال أنتَ قلتَ ذلك أيُّها الملك. وكان يُضطرُّ بأشعاره أن يتكلَّم بالذي يكرَه عُمَّاله أن يَستقبلوه به.
«العلَّة في صبِّ الماء»: ذكروا أنَّ العلَّة في صبِّ الماء أنه كان أول مَنْ تكلَّم في المَهد قبل المسيح زوبن طهمست، وكان مات أبوه على قَحْطٍ شديد قد شمل الأقاليم، فتكلَّم ودعا الله تَبارك وتعالى، فسقى الناسَ الغيث وأخصبتْ أرضهم وعاشت مواشيهم، فجعلوا صبَّ الماء فيه سُنَّة. وقد حُكِي أيضًا عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحُسين صلوات الله عليه أنَّهُ قال في ذلك أنَّ ناسًا من بني إسرائيل أصابهم الطاعون، فخرجوا من مدينتهم هارِبين إلى أرض العراق، فبلغ كسرى خبرُهم، فأمر أن يُبْنَى لهم حظيرة يُجعلون فيها لترجِع أنفسهم إليهم. فلمَّا صاروا في الحظيرة ماتوا وكانوا أربعة آلاف نفس. ثمَّ إنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى نَبيِّ ذلك الزمان إنْ رأيتَ مُحاربة بلاد كذا فحاربهم بِبَني فُلان. فقال: يا رب، كيفَ أحارِبُهم بهم وقد ماتوا؟ فأوحى الله إليه أنِّي أُحييهم لتُحارِبَ بهم وتظفَر بعدوُّك، فأمطر الله — عز وجل — ليلةَ صبِّ الماء، فأصبحوا أحياءً فهم الذين قال الله تعالى فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، قال: هؤلاء قومٌ أصابهم مِحنة من الأزل، فحطُّوا زمانًا فهزلوا وأجدَبَ بلدهم فغِيثوا في هذا اليوم برشَّة من مطر، فعاشوا وأخصبتْ بلادهم فجعله الفُرس سُنَّة.
«صِفة الأيام»: قال كسرى يوم الريح للنوم ويوم الغَيم للصَّيد ويوم المَطَر للَّهو والشُّرب. وقال غيره: يوم السبت يوم مكر وخديعة، والأحد يومُ غرْس وبناء، ويوم الإثنين يوم سفَرٍ وطلب رزق، والثلاثاء يوم حِجامة، والأربعاء يوم ضَنْكٍ ونحس، والخميس يوم الحَج، والجمعة يوم مَسجدٍ ونِساءٍ وكساء.
«في البرد»: سُئل بعض الحُكماء عن البرد أيُّهُ أشَدُّ؟ فقال: إذا أصبحَتِ السَّماء نقِيَّة والأرضُ نَدِيَّة والرِّيحُ شامِيَّة.