محاسن كِتمان السِّر
قال: كان المنصور يقول: الملك يحتمِل كلَّ شيءٍ من أصحابه إلَّا ثلاثًا: إفشاء السرِّ والتعرُّض للحُرَم والقدْح في الملك. وكان يقول: سرُّك من دَمِك فانظر من تُملِّكه. وكان يقول: سرُّك لا تُطْلِع عليه غَيرك، وإنَّ من أنفذِ البصائر كِتمان السِّرِّ حتى يُبرم المبروم. وقيل لأبي مُسلم: بأيِّ شيءٍ أدركتَ هذا الأمر؟ قال: ارتديتُ بالكِتمان واتَّزَرتُ بالحَزْم وحالفتُ الصبرَ وساعدتُ المقادير، فأدركتُ طلبَتي وحُزْتُ بُغيَتي. وأنشد في ذلك:
قال: وقال عبد الملك بن مروان للشعبي لما دخَلَ عليه: جَنِّبني خِصالًا أربعًا: لا تُطريني في وجهي، ولا تُجرينَّ عليَّ كذِبة، ولا تَغتابَنَّ عندي أحدًا، ولا تُفشِينَّ لي سِرًّا. وقال النبيُّ ﷺ: استَعينوا على إنجاح حوائجكم بكِتمان السر، فإنَّ كلَّ ذي نعمةٍ محسود. وأنشد اليَزيدي في ذلك:
غيره:
قال معاوية بن أبي سفيان: أُعِنْتُ على عليِّ بن أبي طالبٍ بأربعِ خِصال: كان رَجُلًا طهَرة عُلقة لا يكتُم سِرًّا وكنتُ كتومًا لسِرِّي، وكان لا يَسعى حتى يُفاجِئه الأمر مُفاجأةً وكنتُ أبادِر إلى ذلك، وكان في أخبَثِ جُندٍ وأشدِّهم خِلافًا وكنتُ في أطوَعِ جُندٍ وأقلِّهم خِلافًا، وكنت أَحبَّ إلى قريشٍ منه فنِلتُ ما شئت، فلله من جامِع إليَّ ومُفرقٍ عنه! وكان يُقال: لِكاتِمِ سِرِّهِ من كِتمانه إحدى فَضيلتَين: الظفَرُ بِحاجتِهِ والسَّلامة مِن شرِّه، فمَنْ أحسَنَ فليَحمدِ الله ولَهُ المنَّةُ عليه، ومن أساء فليستغفِر الله. وقال بعضهم: كِتمانُك سِرَّك يُعقِبك السلامة، وإفشاؤك سِرَّك يُعقِبك النَّدامة، والصبر على كِتمانِ السِّرِّ أيْسَرُ من الندَّم على إفشائه. وقال بعضهم: ما أقبَحَ بالإنسان أن يخافَ على ما في يَدِه من اللُّصوص فيُخفِيه، ويُمكِّن عدُوَّه من نفسه بإظهاره ما في قلبِه من سِرِّ نفسه وسِرِّ أخيه. ومَنْ عجِزَ عن تقويم أمرِه فلا يَلومَنَّ إلا نفسه إن لم يَستقِم له. وقال مُعاوية: ما أفشَيتُ سِرِّي إلى أحدٍ إلَّا أعقَبَني طول النَّدَم وشدَّة الأسف، ولا أودَعْتُه جوانِحَ صدري فحكمْتُه بين أضلاعي إلا أكسَبَني مجدًا وذِكرًا وسناءً ورفعةً، فقيل: ولا ابن العاص؟ قال: ولا ابنُ العاص. وكان يقول: ما كنتُ كاتِمَه من عَدُوِّك فلا تُظْهِر عليه صديقَك. وقال رسول الله ﷺ: من كتَمَ سِرَّه كانت الِخيرة في يَدِه، ومَنْ عرَّض نفسه للتُّهمَةِ فلا يَلومنَّ مَنْ أساء به الظن، وضَعْ صُنع أخيك على أحسَنِه، ولا تَظنَّنَّ بكلمةٍ خرجَتْ منه سُوءًا ما كنتَ واجِدًا لها في الخَير مَذهبًا. وما كافأتَ مَنْ عصى الله فيك بأفضلِ من أنْ تُطيعَ الله — جل اسمُه — فيه، وعليك بإخوانِ الصِّدْق، فإنهم زينة عند الرَّخاء، وعِصمةٌ عند البلاء. وحدَّثَ إبراهيم بن عيسى قال: ذاكرتُ المنصور ذات يومٍ في أبي مُسلم وَصَونه السِّرَّ وكَتْمِه حتى فعل ما فعل، فأنشَدَ:
وقال آخر:
وقال آخر:
وقال أبو نواس:
وقال المبرد: أحسنُ ما سمعتُ في حِفظ اللسان والسِّرِّ ما رُوِي لأمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ — كرَّم الله وجهه:
وقال العتبي:
وقال آخر:
قيل: دخل أبو العتاهية على المهدي وقد ذاع شِعره في عُتبة، فقال: ما أحسنتَ في حُبِّك ولا أجملتَ في إذاعة سِرِّك، فقال:
فاستحسن المَهديُّ شعره وقال: قد عذرْناك على إذاعة سِرِّك، ووصلْناك على حُسن شعرك. إن كِتمان السِّرِّ أحسنُ من إذاعته. وقال زياد: لكلِّ مُستشير ثِقة، وإن الناس قد ابتُدِعَت بهم خصلتان: إذاعة السِّرِّ وترك النصيحة، وليس للسرِّ مَوضع إلا أحدُ رَجُلين: إمَّا آخِريٌّ يرجو ثواب الله، أو دُنياويٌّ له شرَف في نفسه وعقْل يصون به حسَبَه، وهُما مَعدومان في هذا الدهر، وقال المُهلَّب: ما ضاقت صدور الرجال عن شيءٍ كما تَضيق عن السِّر، كما قال الشاعر:
وقال آخر:
وقال آخر: