الرسالة الأولى
لقد صدق من قال: إنه إذا كان للعلم مجال فللعمل ألف مجال، وإن حقائق الأشياء وهي في عالم التصور أقل منها بكثير حينما تبرز إلى حيز الوجود وتتجلى في مظاهر الشهود، فطالما قرأت ما أتى به الكتاب من الآيات البيِّنَات، وما ترنَّم به الشعراء من الأبيات الأبِيَّات في الحنين إلى الأوطان والتشوق إلى الأهل والخِلَّان والتوجع من مفارقة المألوف والتفَجع من مبارحة الديار والربوع، ولم تكن نفسي تتأثر من ذلك إلا بمقدار إعجابها ببراعة الكاتب، واقتدار الناظم على صوغ المعاني في أجمل القوالب، وسَبك الألفاظ على أبدع طراز، وتمثيل التخييل بما ترتاح له النفس وينشرح منه الفؤاد.
وكنت أظن أن ذلك إنما مصدره تنميق الكتاب وتزويق الشعراء حتى قضى عليَّ طلب المعالي بمفارقة مصر السعيدة المحروسة وديارها المحبوبة المأنوسة، فانجلت لي هذه العواطف الجليلة في أجلى جلبابها وَحلَّت هذه الشعائر الحميدة في فؤادي بأحلى معانيها، فتمنيت حينئذ لو كنت من المنشئين المجيدين لأصور لك أيها القارئ العزيز والمواطن الفطين حب الوطن مجسمًا في أجمل حال، وعلى أكمل منوال ليكون ذلك باعثًا يدفعك إلى تعزيز شأنه، والسعي بما في قدرتك على رفع مناره، والاجتهاد بما قسمه الله لك من العرفان في تهذيب أبنائه، وبث نور العلم في أنحائه. فإني وعينيك حينما اقترب الوقت المضروب لمبارحة القاهرة يوم السبت (١٣ أغسطس سنة ١٨٩٢/محرم سنة ١٣١٠) كنت أمتع الطرف، وأزود الناظر بما في القاهرة من باهر المناظر، وأجتلي محاسنها الكرَّة بعد الكرَّة، وأتزود من رؤية معاهدها المرَّة بعد المرَّة؛ ليكون لي ذخرًا منها إلى أن أعود إليها بسلامة الله وحسن توفيقه، وما زلت على هذه الحال، مشغول البال، هائج البلبال، وأنا كالباهت الحيران، حتى حان وقت السفر وحل يوم الرحيل.
فاحتشد الإخوان الأفاضل، والخلان الأماثل لتوديعي على محطة العاصمة، وكان الكثير منهم يقول: «إنما جئنا لنودّعك حتى تتقوى بنا عزيمتك، وينشرح برؤيتنا صدرك، فتبذل قصارى ما عندك في حسن القيام بالمأمورية الجليلة التي عهدت إليك، وتأتي بأصدق برهان على أن في مصر من الشبان من إذا شملهم بنظره الكريم أمير مصر مولانا العباس أصبحوا من أنفع الناس، وجعلوا للوطن العزيز بين الأمم المتمدنة مقامًا محمودًا وفضلًا مشهودًا.»
فكنت أنظر إلى نفسي ومن أنا، ثم أردّد الفكر في هذا الاحتفال وفي أمثال هذا المقال، فأرى أن هذا التظاهر العظيم وأن هذا الاحتفال والتكريم، إنما يقصد به إعلاء كلمة الوطنية، واتحاد القلوب على تنشيط كل من يقوم بعمل يرجى منه نفع البلاد، بقطع النظر عن مقام القائم بهذا العمل في هيئتنا الاجتماعية صغيرًا كان أو كبيرًا، فإني لم أبلغ إلى الآن ما يجعل القوم يتقاطرون عليّ بهذه الحفاوة، فلا ريب في أن الباعث لذلك الاحتفال والإجلال هو الإخلاص في التكاتف على تأييد كل مسعى علمي وتعضيد كل عمل وطني، وإن إخواننا أيدهم الله بروح منه قد أحسوا بوجوب الدعوة إلى رفع شأن الوطن وتعزيزه، فلهم من وطنهم أخلص الشكر وأجزل الثناء، إذ ليس في وسعي أن أوفيهم حقهم من الاعتراف بجميل فضلهم.
ولقد لاقيت في الإسكندرية (عروس المشرق وعنوان المغرب) عند مَقدمي إليها وقيامي منها مثل ما لقيت في القاهرة، وفي ذلك برهان قاطع على أن الشعور بحب الوطن، والدأب على استمرار حركة النهضة الوطنية قد سرى في عامة الفضلاء سريان الأرواح في الأجساد، وكيف لا يكون الأمر كذلك وأميرنا الهمام وولي نعمتنا المقدام مولانا العباس — وطد الله دعائم ملكه ونشر في الخافقين ألوية مجده — لنا به أحسن أُسوة وأتم قدوة، فإنه أول من يسعى في النهوض بالوطن المحبوب إلى ذروة العز ومنصة الشرف.
إن هذا هو ذات الواجب عين الصواب، فإن زكي من نوابغ الشبان، وبه يمكننا أن نبرهِن لعلماء أوروبا على أن عندنا من الشبان من يجارونهم في ميادين الفضل والعرفان.
فكيف لا أتيه فخارًا وأختال ابتهاجًا بهذا القول الذي هو أفضل من جميع علامات التشريف ودرجات التكريم، وكيف لا أدأب على البحث والاجتهاد حتى يبقى اعتقاد وَلِي النِّعم في عبده المخلص هكذا على الدوام، وكيف لا يكون في ذلك المقال أعظم تنشيط لأمثالي من الشبان يدعوهم إلى اطّراح الكسل، وترك الخمول، والإقبال على كل عمل يرفع شأن وطنهم ويستوجب رضا ولي نعمتهم، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وبمثل هذا فليتنافس المتنافسون.
قمت من الإسكندرية في صباح يوم الثلاثاء ١٦ أغسطس سنة ١٨٩٢ في باخرة من بواخر شركة اللُّويد النمساوية اسمها فُوروُورد، قد جمعت إلى النظافة أسباب الراحة، بحيث لم يكن ينقصنا فيها شيء مما نراه في المدائن سوى قرب تناوله وسهولة الحصول عليه بمجرد الضغط على الجرس الكهربائي، ولم يكن فيها كثير من السّواح، ولكنها أقلعت بعد الوقت المضروب بربع ساعة على التقريب، وسارت الهُوينا إلى أن خرجت من بوغاز الإسكندرية، وابتعدت عن الشطوط المصرية، فكنت أحدق النظر المجرد ومستعينًا بالنظارة المقربة إلى رؤية أطراف الأراضي المصرية حتى سترها حجاب الأفق. وإذ ذاك أخذتني كآبة، وتولاني حُزن، وتملكني انقباض مما لم يكن لي به عهد من ذي قبل، فاغرورقت الدموع في فؤادي وتلهفت نفسي إلى معاهد بلادي، ولم تذهب عني هذه اللوعة إلا بعد أن أطلت الفكرة في أني أسعى إلى مجد مؤثل قد يدركه أمثالي، وأعود على وطني سالمًا غانمًا رابحًا ناجحًا بإذن الله تعالى، فشاغلت نفسي عن تيار هذه الأفكار بالنظر إلى تمايل السفينة ذات اليمين وذات اليسار، وتلاعب الأمواج وصفاء المياه الذي اكتسب فيما أمام الإسكندرية لونًا أزرق باهيًا، جعل اللجة كأنها قطعة واحدة من الفيروزج الجميل.
كان وصولنا إلى إبرندس — أو إبرنطس كما يسميها العرب — بعد قيام قطار الصباح (الساعة السادسة) المتوجه إلى نابوني عن الطريق القريب، فحرنا بين المقام في هذه المدينة الحقيرة (بالنسبة لأوروبا)، وبين اتباع الطريق المنحني مع القطار الذي يقوم الساعة تسعة وخمس وعشرين دقيقة، ففضلنا الرأي الثاني لكي نتخلص من أخلاق أهل برنديس وأخلاطها الذين هم أحط في المدينة من جعيدية مصر، وأرذل من سفهائها، وأشد إلحافًا وإلحاحًا من شحاذي السيدة زينب.
فتوجهنا إلى المحطة وكان مع رفيقي شنطتان ومعي أيضًا ثنتان، فأبى رجال المحطة إلا أن يكون إرسال ثنتين منها بعد دفع الأجرة عنهما، فامتثلنا ودفعنا نحوًا من ستة وثلاثين قرشًا، وهذا ليس من الغرابة في شيء، بل الأغرب أن أحد مستخدمي المحطة (وهو الذي ألزمنا بحمل متاعنا إلى المخزن) جاء إلينا بعد أن تبوأنا مقعدنا من القطار، وطلب أن نتحفه بشيء من النقود، فقلت له: عجبًا منك ومن فعالك! تغرمنا ما ليس بواجب علينا للسكة الحديدية، ثم تجيء وتطلب منا الإحسان؟! ولكنه أظهر المذلة والمسكنة وباء فرحًا مبتهجًا حينما أتحفته بنصف فرنك.
هذه عجالة يسيرة من أمور كثيرة علقت بها مذكرات ومفكرات سأفصلها في الرحلة إن شاء الله.