الرسالة الحادية عشرة
قمت من لوندرة في يوم الخميس ٢٢ سبتمبر وقد اكفهر وجه السماء، واحتجبت شمس الضياء، وخيَّمت في المدينة كتائب الضباب، ثم تمزَّقت ضلائع السحاب فتساقطت الأمطار كالأنهار، وتسابقت السيول من أعالي التلول، وتتابع الرعد القاصف يصحبه البرق الخاطف، ورأيت الناس يبتدئون في إيقاد النور في الشوارع والحوانيت والدور، فنزلت من العربة إلى جهة مستقربة للتفرج على هذه الحركة المستغربة غير مبالٍ بهاطل الوابل، فخُيِّل لي أني في صندوق كبير من الزجاج القاتم، وعلى جدرانه شبه أشجار منضودة ومياه معدودة وطرائق ممدودة، وأشباح في غدو ورواح، وما وصلت إلى سكة الحديد إلا وقد بلغ الظلام منتهاه، فأسرعت إلى عربة القطار السريع، ورأيت الماء ينهال من ميازيبها كأنها أفواه القرب.
ولما استقر بي الجلوس واستأنست بالجلوس ورأيت النفوس تتضجر من هذا الجو العبوس، فاتحت بعض القوم بهول هذا اليوم، فقال هذا هو الضباب الأسود، ولعله يقف عند هذا الحد فلا يكون طليعة لعرمرم الضباب الأصفر، فإنه هو الموت الأحمر. فأظهرت الاشتياق لمعرفة هذا الافتراق! فأخبرني أن الضباب عندهم قسمان؛ أولهما: وهو الذي نشاهده الآن أكثر غرابة وأقل ضررًا للإنسان، فإنه يجعل وقت الظهيرة البهيج كمنتصف الليل البهيم، فيسارع الناس بإضاءة النبراس، ومتى كان الضباب في الطبقات العالية، فليس فيه من الضرر ما يستحق أن يذكر، ولكنه على كل حال لا يوجب عَطَلًا في دولاب التجارة وحركة الأعمال، وأما الصنف الثاني: فهو الأصفر يؤثر على الحَلق، ويتهدد الخلق بالخَنْق، ويوجب التحفظ على الأفمام بالأكمام، وقد اخترعوا للوقاية منه كمامات مخصوصة للتمكن من التنفس بسهولة، وكل من أهمل الاحتراز بهذا الغطاء أو بهذه الكمامة خرج الدم من فيه مع اللعاب إن لم تزهق النفس وتذهب إلى الرمس، وفي الحال يُسرجون المصابيح في الشوارع والحارات والدوار والدكاكين، ولكنه يستحيل على الإنسان أن يرى النور نفسه ولو كان بمقربة منه، وبعضهم يلتجئون إلى العربات فيلبثون بها ساعات.
وترى هذه الحركة الهائلة التي تفردت بها لوندرة تقف كلها مرة واحدة، ولا يتجاسر الجريء على أن يتقدم فترًا أو يتأخر شبرًا خوفًا من الاصطدام بشيء مما لا يراه. وهذا الصنف من الضباب لا يظهر إلا بعد مدة خمسة عشر يومًا، وأخص الأوقات به شهر نوفمبر، فقد يمر الأسبوع الكامل كأنه ليلة واحدة قد يتخلَّلها أحيانًا شَفَق باهت يزيد في الحزن والكآبة المنتشرة على أرجاء المدينة؛ ولذلك كان الإنكليز أعرف الناس بمضار الجو في مدينتهم، فيبارحونها في فصل الشتاء (إلا من تضطره حوائجه وأعماله)، ويَفِرُّ الأعيان والأشراف واللوردات منها في هذه الأوقات؛ لأنها تكون — والحق يقال — غير قابلة للسُّكنى بما يغشاها من ركام الضباب المتوالي الذي يمزج فيها بين النور والظلام، ويزيد في درجة الرطوبة إلى حد لا يطاق.
فشكرت الرجل على هذه الإفادة، وأردت أن أحيطه علمًا باعتدال الجو في بلادنا وبهاء السماء عندنا، مما يجعلها جنة تقر النواظر وتشرح الخواطر، ولكني رأيته لا يعبأ إلا ببلاده، ولا يلتفت إلى غير ما هو في معلومه، فأقفلت باب الحديث. كما أخذ هو والجماعة في تدخين شبقاتهم القصيرة الشهيرة وتلاوة جرائدهم الكثيرة، واشتغلت أنا بإضافة هذه الفوائد على ما علمته من سرعة تغير الجو في لوندرة، فإن متوسط درجة الحرارة فيها هو ٩٫٤٥ من درجات سنتيجراد، وقد تنزل في الشتاء إلى ٣ تحت الصفر.
وأهم شيء تفرغت له فيها مكاتبها الكثيرة المجانية التي أُعِدت لتثقيف عقول الأهالي، وتشحيذ أذهان العمال في أوقات خلوهم من الأعمال، وقد رأيت في أهم مكتباتها مجموعة مستوفاة لا نظير لها في أعظم مكاتب أوروبا، حيث احتوت على جميع ما ألفه العلماء في فن اختذال الكتابة (الستنوغرافيا)، وفيها مجموعة كاملة لأهم جرائد بريطانيا العظمى وأعمال البرلمان، وكتب قديمة نادرة، ومعمل للتجليد. ورأيت فيها طابعًا يؤثر على الورق من غير حبر استحدثوه، حتى لا يتمكن أحد القراء من اختلاس بعض أوراق الكتب التي يكون فيها تصاوير ورسوم أو جداول أو غير ذلك، مما يستشره الغواة للاختصاص به وإتلاف الكتاب برمته، وهي طريقة لطيفة يحسن اتباعها في الكتبخانة الخديوية حفظًا لما فيها من الذخائر والنفائس، حتى إن الذي يستعير الكتاب النادر لا تسول له نفسه تجريده من بعض الصفحات فيصبح أبتر عديم القيمة.
وفيها غرفة للقراءة يجد الإنسان فيها جميع الجرائد التي تصدر في اليوم، وسأشرح الكلام بالتفصيل على مكاتبها التسعة وغرف المطالعة المتعددة إظهارًا لما جاءت به من الفوائد التي لا تقدر. وعدد سكان هذه المدينة ٧٠٥٠٠٠ نسمة بما فيها سالفور من أرباضها، وهي كما لا يخفى مركز لصناعة الأقطان (وفي متحفها نموذج من جميع محصولات القطن بأنواعه في كافة أقطار العالم)، وليست من شيء في حسن المنظر وبهاء الرونق، بل هي كسوق يتموَّن فيه أهل المدائن التي حولها، وكل هذه المدائن مختصة بغزل القطن ونسجه بما يتبعه من الصنائع.
وفيها بعض عمائر تستحق الذكر مثل دار أمانة المدينة، ودار التجارة الحرة وهي معدة للاجتماعات العمومية تسع ٥٠٠٠ نفس، وفيها بستان للنبات في غاية الانتظام، وفيها كثير من الأسواق والكنائس المهمة، وفي شوارعها وميادينها أنصاب لتخليد ذكر مشاهير الإنكليز، وقد مضى عليَّ فيها أحد الآحاد فكأنها ولوندرة قد أفرغتا في قالب واحد، ومما زاد في أهمية المدينة أن شركة تألفت وساقت مياه البحر الاطلانطيقي من ليفربول إليها في ترعة سموها قنال مانشستر؛ لكي يتيسر للسفن أن تدخل في نفس إنجلترا حتى تصل إليها بما فيها من بضائع، وقد بلغت نفقات هذا القنال نحو ٦ ملايين من الجنيهات، والمنظور أنهم يصرفون أيضًا أربعة ملايين أخرى (وقد ورد التلغراف في ٢ يناير سنة ٩٤، وهو يوم طبع هذه الملزمة من الطبعة الثانية بأن القنال قد تم وحصل الاحتفال به).
وقد تفرجت فيها على المحاكم وعرفت أساليب التقاضي والمحاماة عندهم، وزرت مكتبتها ومتاحفها وشاهدت آثارها وأنصابها، وتقابلت فيها مع الشيخ عبد الله ويليم كويليم رئيس الطائفة الإسلامية من أبناء الإنكليز، ودعاني لتناول الطعام عنده وأكرم مثواي، ورأيته قائمًا هو وأصحابه بتأدية الفروض الدينية الشرعية بقدر اجتهادهم في دار جعلوا فيها قِبلَة ومحرابًا ومكانًا للصلاة ومنبرًا للوعظ والخطابة، وفيها مدرسة إسلامية لتعليم الآداب والفنون الإنكليزية على ما يوافق النصوص الشرعية، وهي إلى الآن في عهد الطفولية، وكلهم متوددون لبعضهم رُحَماء بينهم، مقبلون على تكسب أرزاقهم، يتخاطبون بألفاظ الإخاء ويحيون بعضهم بتحية الإسلام، ويزيد عددهم الآن عن الستين بما فيهم بعض النساء، ولا شك أنهن سيكون لهن اليد البيضاء في تعميم نشر المبادئ الحقة، وإظهار مزايا الدين الحنيف شأنهن في كل عمل أقبلن عليه في أي قطر من أقطار المسكونة، وقد ترجموا بعض السور الكريمة ونظموها في قصائد يرتلونها في بعض الاجتماعات، وعندي نسخة منها، ثم إني أديت معهم فريضة العِشاء في ليلة ٢٧–٢٨ سبتمبر.
وقد اشتد الزمهرير وتنازلت الحرارة وارتفعت البرودة بما لم أعهد له مثيلًا من قبل، حتى كانت جوارحي تنتفض وفرائصي ترتعد كأني العصفور بَلله القَطر، واستمرت أسناني على الاصطكاك والاحتكاك حتى تحققت أن برد العجوز في بلادنا ليس بالشيء الذي يذكر بجانب ما تسميته برد الشاب عندهم، وكانوا كلهم يقولون: أين هذا من البرد الصحيح؟ مع أنني كنت أشعر ببرد يغير الألوان وينشف الأبدان ويجمد الريق في الأشداق والدمع في الآماق؛ لأن هذا اليوم مما جمد خمره وخمد جمره، يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر، وكنتُ فيه بين أطباق البُرَد ورجم البَرَد، وكان القوم لا يستغيثون إلا بحر الراح وسورة الأقداح.
وبعد أن خرجنا من المسجد صاحبني اثنان منهم لإرشادي على الفندق، وبينما نحن في أثناء الطريق إذا بمبادئ حريقة في مخزن خشب، فوقفنا نتأمل أفاعيل النار مع اشتداد هبوب الرياح، ولم تمضِ برهة كبيرة حتى ارتفع لسان اللهيب إلى عنان السماء، وتطاير الشرر إلى جهة الشرق، فأتت على المخزن وبعض البيوت المجاورة له، ولم يتغلب عليها رجال المطافئ مع إقدامهم وبراعتهم، إلا بعد أن بلغت النَّفس التراقي، ولولا حَذاقتهم وسكون الأهالي وعدم اضطرابهم واستيلاء الهَلَع عليهم لكانت أحدثت إتلافًا أعظم مما حدث، وسأكتب عليها بالتفصيل. وإنما أذكر الآن ثبات الإنكليز، فإني لم أسمع في الجماهير التي تجمهرت إلا صياحًا واحدًا من امرأة استغاثت بالقوم لإنقاذ ولدها، وألقت نفسها في مقدمتهم لاستخلاص فَلَذة كبدها، وبعد ذلك استولى الصمت والسكون حتى في أهالي المنازل المجاورة التي كانت ألسنة النار تتطاول إليها، وبقي رجال المطافئ مالكين لحريتهم في العمل، حتى انقضت هذه القارعة ولم يمت فيها أحد من الناس، والحمد لله.
وعدد أهالي ليفربول ٥١٧٠٠٠ نفس، وهي أول المواني البريطانية بعد لوندرة، بل قد تَفُوق عليها بما يصدر منها إلى الخارج وأخص تجارتها مع بلاد أمريكا؛ إذ يجيئها منها كميات من الحبوب والأقطان وغير ذلك من المحصولات مما لا يكاد يتصوره العقل، ثم تصدرها بعد اصطناعها في معاملها إلى جميع أنحاء العالم. وأحواضها أهم ما يوجد في أعظم مواني الدنيا تدخل إليها أكبر السفائن في كل لحظة وهي متقاطرة صفوفًا صفوفًا وراء بعضها على مدى ستة أميال وزيادة، بحيث إن منظرها يعتبر من عجائب العالم، ولا يزالون إلى الآن يشتغلون بحفر أحواض جديدة وإنشاء مخازن للتجارة البحرية.
ومن أهم مبانيها قاعة سنت جورج، وهي عمارة فخيمة جليلة بما فيها من الرونق والبهاء وحسن النظام، يجتمع فيها القوم أثناء الانتخابات أو الاحتفالات العمومية، ورأيت قصر متحف الفنون والصور والرسوم وغرفة المطالعة والمكتبة الحرة والبورصة، وغير ذلك من عظائم الآثار التي لا يسمح لي المقام بالتوسع في الكلام عليها الآن، وفيها كما في غيرها من مدائن الإنكليز تلك الرياض السندسية التي تنقي الهواء، وتسر الفؤاد بما فيها من الخضرة والنضرة والمياه المتدفقة والأشجار القليلة، حتى يتيسر للنظر أن يمتد إلى منتهى الأفق، وفيها مدرسة جامعة، وغير ذلك مما أستبقي شرحه للوقت والمكان المناسبين له.
هذا وقد كنت عقدت النية على الرجوع إلى لوندرة مباشرة، ولكني عدلت عن ذلك وعَوَّلت على زيارة بعض مدائن الغال لقربي منها، ولعلمي بأنه لم يسبقني أحد من أبناء جلدتي من هذا الجيل في التوجه إليها، وستكون موضوع الكلام في الرسالة التالية إن شاء الله.