الرسالة الرابعة عشرة
لقد احترت والله حينما اخترت الانتقال من الكلام على لوندرة بعد الإطالة في الكتابة عليها، والتوسع في القول عنها بمقدار ما وصلت إليه يدي في الرسالتين الخاصتين بها، فإني لا أزال أجد للشرح مجالًا يستغرق رسائل ضافية الذيول، بل مجلدات تملأ الكاتب وتشحن الأذهان بالغرائب، وتذكِّر من يتذكر بما يمكن الإنسان أن يصل إليه بالاجتهاد بمفرده أو مع استعانته بأبناء جنسه، وتجلو على أبصار أولي البصائر بعض ما أودعته القدرة الإلهية في العوالم الطبيعية من القوى التي يتوصل العقل لاستكناه خباياها واستكشاف أسرارها، ولكني أرى بالرغم عني وجوب الانتقال من هذا الموضوع مع ما أتيته فيه من التقصير مضافًا إلى ما في ذهني من القصور.
على أني لا أرى لي مندوحة في إغفال حادثة خطيرة وقعت بالمدينة قُبيل مبارحتي لها، فلا بد لي من ذكرها في هذا المقام، ولو لتأييد ما قلته عن هذه الأمة من ميلها للأطراف، وغرامها بالتناقض في كل الأحوال الأدبية بل المادية، فقد سبق لي أثناء الكلام على دياناتهم أنهم يحترمون جميع المذاهب والعقائد، ولكنهم يبغضون المذهب الكاثوليكي بُغضًا ليس له أول يُعرف ولا آخر يوصف، وأنهم يكرهون البابا كراهة التحريم. فاسمع الآن ما حصل أثناء انتخاب اللورد أمين المدينة.
اجتمع رؤساء الطوائف وأكابر التجار لانتخاب شيخ لهم، فكان المختار هو المستر ستوارت كيل، فقام البرتستانت واعترضوا وصَخبوا ولجوا بالسخط وهاجوا وماجوا، وكتبوا استرحامات كثيرة وقَّع عليها الألوف والألوف من أهالي لوندرة يسألون فيها الملكة أن لا توافق على هذا التعيين، وأن تصدر أمرها بإعادة الانتخاب. فانعقدت جمعية لفصل الخلاف، فقال قائل منهم: ما نالت لندرة حريتها وما تمتعت بامتيازاتها إلا بعد أن أهرق البروتستانت دماءهم في هذا السبيل، فمن العار على العاصمة أن يكون شيخ مشايخها منتميًا إلى الكرسي البابوي، وعضَّدهُ في هذا الرأي كثيرون من المجتمعين، ولكن المعتدلين فازوا بالغلبة بعد أن طالت المشاحَّات وتعارضت المشاحنات، فإنهم قالوا: قد امتازت إنجلترا بحب الحرية في العمل، وإن لوندرة مدينة الحرية الدينية، وهذه المشاجرات لا تليق بأمثالهم، فقد سبق أن كان شيخ مشايخ لوندرة إسرائيليًّا، فكيف يجوز ذلك ولا يصح في شرع المنصفين أن يكون كاثوليكيًّا؟! فألزمتهم الحجة وتقررت الرياسة للرجل.
ثم إذا نظرنا إلى المختار نفسه نراه أشد تعصبًا، فقد قرر أنه لا يعترف إلا بالبابا ثم بالملكة، وهي كلمة لم يجسر على التفوه بها من قَبله إنسان؛ ولذلك رفض الحضور إلى كثير من الاجتماعات الدينية التي جرت العادة بأن يحضرها اللورد أمين المدينة منذ القديم، وقد أبى أن يذهب بموجب وظيفته الرسمية إلى الكنيسة الفلانية والمعبد الفلاني، وأصر في عدم الذهاب بنفسه وفي إرسال مندوب من قِبله، فإنه اشترط عليهم أن لا يكون له معاون ينوب عنه في هذه الأمور الرسمية، فهلا ترى من أغرب الغرائب شدة تمسك أولئك، وعدم تنازل هذا إلى هذه الدرجة، حتى كان كلٌّ من الفريقين على طرفي نقيض، بحيث يكاد الإنسان يثبت الحق للبروتستانت في اعتراضهم على نصب شيخ يأبى أن يسايرهم إلى هذا الحد في شعائرهم الدينية، ولو حرمة للعادات القديمة والأصول المرعية!
ولما كنت في باريس وافتني الجرائد في ١٠ نوفمبر منبئة بأنه في اليوم الذي قبله تم الاحتفال بتثبيت اللورد أمين المدينة في هذه السنة؛ ولكون الرجل من الكاثوليكيين وهذه أول مرة انتخب فيها كاثوليكي للقيام بهذه الوظيفة المهمة عقيب الانشقاق الذي جَعَل للمذهب البروتستانتي السيطرة في إنجلتره، كان للاحتفال أهمية خصوصية وقد بلغت أكلافه ٢٥٠٠٠ فرنك.
وهذا الرجل (ستوارت كيل) من الثروة والغنى والعلم بمكان، ولكنه مهما كان إيراده لا يمكنه أن يقوم بالمصاريف الباهظة التي يستوجبها مركزه إذا لم تساعده لجان الطوائف الحرفية والصناعية في لوندرة، والدليل على ذلك أن سَلَفهُ في السنة الماضية صرف ٣٠٠٠٠ فرنك في أمور متنوعة، وقد بلغت ولائم الغداء والعشاء التي أقامها احتفالًا باللجان الرئيسية لمدينة لوندرة ١٠٠٠٠٠ فرنك، وبلغت نفقات الوليمة التي أعدها إحياء لعيد الملكة ٣٧٥٠٠٠ فرنك، وأما المأدبة التي أقامها ابتهاجًا بنجاة البرنس دوغال من المرض، فقد بلغت مبلغًا يفوق حساب الحسابين، فإنها أوجبت عليه صرف ٦٧٥٠٠٠ فرنك مع أن مرتب الوظيفة في السنة هو ١٠٠٠٠ جنيه إنكليزي ليس إلا.
ولا بأس من ذكر بعض أرقام في هذا المقام تدل على ما أنفقه القوم في سنة ١٨٩٢؛ لأجل حصولهم على الانتخاب وانتظامهم في سلك أعضاء البرلمان، فقد كان عدد المترشحين له في لوندرة وحدها ١٣٠٧ من الأشخاص، وبلغ ما أنفقوه من المال لاستمالة العامة ولنوال الأصوات بتقديم المآكل والمشارب، وطبع الآراء والأفكار ونحو ذلك مبلغ ٩٥٨٥٣٢ جنيهًا إنكليزيًّا، ولم ينتخب منهم إلا ٦٧٠ فقط، وقد بلغ ما أنفقه واحد منهم ٩٠٠ جنيه إنكليزي أوصلته إلى نوال ١٤٦١ صوتًا، فيكون ثمن الصوت الواحد عليه ١٢ شلنًا (٦٠ قرشًا صاغًا)، وبلغت نفقة الحصول على الصوت الواحد في بعض الجهات ٣٢٣ فرنكًا (نحو ١٢٣٥ قرشًا صاغًا)، ومع ذلك لم يفز بالانتخاب ذلك الذي أنفق كل هذا المال.
أما مشاهير القوم فلم ينفقوا شيئًا زائدًا عن المعتاد بالنسبة لغيرهم، فإن غلادستون أنفق ٩٤٥ جنيهًا، والسير وليم هاركور ٤٢٥٧٥ فرنكًا، وهذا كله خلاف النفقات اللازمة لتمهيد الانتخاب، فتأمل وارجع بنا إلى الموضوع.
قمت من لوندرة في مساء ١١ أكتوبر وركبت القطار بالليل كما جرت عادتي للاستكثار من الوقت، وعدم ضياع الفرص هَباءً منثورًا، فوصلت مدينة دوفر في منتصف الليل، وكان في إمكاني ركوب متن البخار والتوجه توًّا إلى فرنسا، ولكنني آثرت رؤية دوفر وتمضية نصف النهار بها كي أودِّع فيها إنجلترا بعد أن أشاهد ما خلَّفه الرومان في هذه المدينة الساحلية من الآثار، وما أحدثه الإنكليز من موجبات التحصين والدفاع، فعوَّلت على النزول بها وما افترَّ ثغر الصباح حتى تجولت في المدينة وطفت أنحاءها مع دليل من أهلها، وإليك ما وقفت عليه فيها بالإجمال:
هذه المدينة لا يزيد عدد سكانها عن ٣٢٧٠ من النفوس، وهي ذات موقع معجب في نهايته وادٍ رائق وتعلوها أجراف عالية من الصخور تحيط بها من كل الجهات. وكان أول شيء عنيت به بعد التجوال في طرقاتها وميادينها أنني صعدت على جبل عالٍ فوقه قلعة حصينة ترتفع عن مستوى سطح البحر بثلاثة وتسعين مترًا، ورأيت فيها كثيرًا من المباني القديمة الرومانية ممتزجة بصروح أقامها الإنكليز لتكميل وسائل الدفاع في هذه النقطة الحربية المهمة، وأقدم جزء في هذه القلعة الممتدة بغير انتظام على مسافة ١٤ هيكتارًا هو البرج الروماني، وارتفاعه ١٢ مترًا، وشكله ثمانيٌّ من الخارج مربع من الداخل، وليس فيه سلالم تسمح بالصعود إلى قمته، وقد وضعوا فيه ناقوس الكنيسة العسكرية التي إلى شرقيه، وربما كان الرومان يستخدمونه في إرسال النور إلى المراكب القادمة بالليل، وفي المخابرة معها برايات الإشارات حينما يكون قدومها بالنهار. أما الكنيسة فإن أساسها يدل على أنها من صنع السكسونيين (قدماء الإنجليز)، وهي من أقدم العمائر الدينية التي في بلاد إنجلتره.
وأما المباني النورماندية فهي كثيرة جدًّا، وأهمها صرح يُرى على مسافة بعيدة في البحر، وقد كانت الشمس طالعة فتيسر لي وأنا فوقه رؤية شطوط فرنسا بإرشاد الدليل قبل منتهى الأفق بقليل، وقد توجهت إلى ثكنة — أي قُشلاق — هناك ورأيت العساكر في حالة التعلم والتمرن على الحركات، ولم أستنكف من زيارة المطبخ، بل إنني عجبت لنظافته وإتقانه وجودة المأكولات المخصصة للعساكر الأنفار، مما يغبطهم أو يحسدهم عليه آلاف وآلاف من أهل إنجلترا الذين يموتون جوعًا في كل يوم.
ثم زرت خزانة السلاح وما فيها من المخلفات الحربية والغنائم التي أخذها الإنجليز من أعدائهم في ساحات الوغى البرية والبحرية، ورأيت فيما بين المدافع الكبيرة مدفعًا طويلًا أرسلته إحدى ملكات هولاندا (الفلمنك) هدية لإنجلترا، وعليه أشعار منظومة على لسان حاله بمعنى أنه يرسل القلل إلى الأعداء، فيردهم على أعقابهم خاسرين، ويبعث بمقذوفاته إلى القلاع والحصون فينسفها عن آخرها، ثم نزلت من طوابي هذه الروابي إلى أهم ميدان في المدينة فرأيت موسيقى تصدح في ضحى النهار، وعلمت أن مجلس البلدية هو القائم بنفقاتها لإيجاد الطرب والانشراح في المدينة على الدوام.
ولكني لم يسمح لي وقتي بتشنيف آذاني الشرقية بنغماتها الغربية؛ لأن القطار حضر من لوندرة وفيه جماعة المسافرين إلى قارة أوروبا، فلحقت بهم واتبعت خطواتهم حتى وصلنا السفينة، وتبوأ القوم مقعدهم منها، وأخذت أطوف جوانبها وأعلو ظهرها لرؤية المناظر وتعهد ما حواليَّ من المعاهد، وما هو إلا أن أبحرت حتى رأيت أغلب الحاضرين قد انقسموا قسمين؛ بقي بعضهم في مؤخرها وذهب الآخرون إلى مقدمها، وكان الفريق الأول يطيل النظر إلى المدينة وأطرافها وأبراجها، والفريق الثاني يحدق النظر والنظارات إلى الأمام وإلى أقاصي الأفق، وبقيت أطوف ذات اليمين وذات اليسار وأدفع بخطواتي إلى الأمام، ثم أكر راجعًا إلى الخلف، إلى أن أدركت بعد سماع تلاغي الفريقين أن أهل الخلف من أبناء الجزيرة يحيون بلادهم، ويتزودون منها بنظرة أخيرة، وأن أهل الأمام اشتد بهم الهيام للتعجيل برؤية بِقاعِهم.
ولكن الضباب يصحبه السحاب انتشر بأقرب من لمح البصر، فكان يحول دون إدراكهم الوطر، غير أنه لم يثنِ عزيمتهم عن التكرار في إطالة الأنظار وإنشاد الأغاني والأشعار، والترنح لقرب الوصول من الديار. ثم استمر الطرفان على هذا الشأن حتى انتصف الطريق، فتبدت صخور فرنسا وشطوطها كأنها أشباح تتظاهر في ظلال الخيال، وحينئذ أخذ الإنكليز يقتربون من أواخر السفينة بقدر ما أمكنهم مستعينين بآلات التقريب، كأنهم يسألون تلك الجزيرة بل الأم الحنونة أن تبقى محافظة عليهم مراعية لهم في غربتهم، ناشرة لواء حمايتها عليهم أينما حلوا وأينما ساروا.
وأما أنا فكنت في هذه الحال أرسل أشعة القلب وأنظار الفؤاد إلى ديار ألفتها، وربوع نَبَتُّ بها وأقوام ترعرعت بينهم قد شبوا على المكرمات واستقوا من نيل الكمالات، فحييتهم على البعاد تحية ممزوجة بخالص الوداد والإخلاص، وكلفت النسيم بالتسليم على خير أمة أخرجت للناس.
ولما اقتربنا من شطوط فرنسا رأيت في الأفق شيئًا يشبه الأحبال والأسلاك قد وصلت بين الأرض والسماء، وبعد تحقيق النظر علمت أنه المطر، فبقيت أتأمل فيه، وأُسبِّح مُرسله ومنشيه، حتى ألقت السفينة مرساها، وقد كان باسم الله مجراها ومرساها، فإن البحر كان برًّا بنا ولم يمسسنا بأدنى أذى والحمد لله.
وأصل اسمه كوكو بتر، وأصله من هذه المدينة، فخرج منها طالبًا زيارة بيت المقدس، فكانت هذه الزيارة سببًا في حمله أهل أوروبا على حمل السلاح ومقاتلة المسلمين بكل ما استطاعوا، فهلكت ملايين منهم في نفس بلادهم، وفي أرض آسيا الصغرى والديار المصرية، ووقع في هذه الحروب الصليبية من الوقائع ما تقشعر له الأبدان وتذوب من هوله الأكباد، وسبب ذلك كله رجل واحد أخذ في تهييج النصارى وزعمائهم، وجعل يغريهم على الإيقاع بالمشرقيين وإهلاكهم، حتى كان ما كان من الحروب الصليبية الشنيعة التي أترك تفاصيلها للمؤرخين وأرجع لموضوع الكلام.
أمضيت الليلة بأميان ولما جاءت كتائب النور كنت في طليعتها، وطفت المدينة ومتاحفها ومكاتبها وآثارها مما لا أجد مندوحة عن الإشارة إليه بالإيجاز في هذه الرسالة كما سيأتي.
هذه المدينة متقادمة في العهد بحيث لا يتيسر لأهل التاريخ تعيين الوقت الذي ظهرت فيه، ولا معرفة الذين وضعوا قواعدها ورفعوا معالمها، ولها في تاريخ فرنسا الحربي فخر أثيل وذكر جميل. وقد توجه أهلها في الزمان العتيق لمحاربة أنطيوخوس ملك الشام، ورجعوا حاملين ألوية التمدن مما اكتسبوه في آسيا من العرفان.
وعدد سكانها الآن ٨٣٦٤٩ نفسًا، وفيها جمعية للفنون الأدبية، وبستان للتجارب، ومدرسة زراعية عملية، وفيها إدارة تلتقط الأطفال والأيتام والمعتوهين الفقراء وتقوم بلوازمهم، وفيها برج قديم مظلم اسمه بفروا قد التهمته النيران في كثير من الأحيان، وهو حبس للبلدية وفيه ربيئة يقيم به على الدوام؛ للإنذار بما يقع في المدينة من الحرائق، فإذا رأى آثار النار في إحدى الديار دق جرسًا زنته ١١٠٠٠ كيلوجرام، فيبادر رجال المطافئ لإخماد أنفاسها وتلافي إتلافها. وهم يستخدمون هذا الجرس أيضًا في المواسم والاحتفالات، وفيه ساعة كبيرة جدًّا لتعيين الوقت بصفة رسمية.
وقد صعدت إلى قمته ولكن ظلمته الداخلية أحدثت فيَّ انزعاجًا لا يمكنني أن أصفه الآن، مع أن شكله من الخارج أنيق ومنظر المدينة من أعلاه رشيق، فلله هذا البرج! قد جمع بين الإنذار بالشرور والتبشير بالسرور، وجوفه مستودع للظلام وجسمه محفوف بالأنوار، فظاهره فيه الرحمة وباطنه مِن قبله العذاب، أو كأنه من أعمال الإنكليز لاستجماعه بين الضدين.
وأما المكتبة العمومية المعروفة بمكتبة الخُط (بضم الخاء)، فإن أهميتها تزيد عن حاجات المدينة؛ إذ فيها ٥٠٠ كتاب بخط اليد وأكثر من ٨٠٠٠٠ مجلد مطبوع. ومما يستحق الذكر فيها أن أرملة الكونت روليسكاكير (وهو من أبناء المدينة)، تبرعت للمكتبة بجميع الكتب التي خلفها زوجها (وقدرها ١٥٠٠٠ مجلد) مع ما يتبعها من الدواليب والأدراج والتحف القديمة والصور الثمينة، وأغلبها له علاقة بالرموز النصرانية والمخلفات الدينية العتيقة، والقسم المهم من هذه الكتب هو عبارة عن مجموعة للسياحات في الأرض المقدسة، وفي الكتبخانة تماثيل كثيرة لأهم رجال المدينة الذين خدموها، وأخص بالذكر منهم تمثال الموسيو بوفيللي، وسأتكلم عليه بعد قليل.
ومن أعجب ما رأيته في الحديقة العمومية بهذه المدينة جذع شجرة نَخِرة عليها بعض أغصان نضرة، وفيها تجاويف كما يشاهد في الأشجار العتيقة التي نزل بها البلى، وما زالت فيها قوة الحياة، ولكن هذا الجذع وهذه الأغصان ليست إلا من الصاج والأسمنت اصطنعها بعض المتفننين بناء على اختبار جعلت له المدينة مكافأة عيَّنتها، ومن ذلك أني رأيت في دار بعض الأفراد تمثالًا فخيمًا من المرمر الناصع يمثل وجهاء المدينة وعظماءها، الذين فاقوا غيرهم في فنون الرسم والعمارة والتصوير، اصطنعه ذلك الرجل على نفقته بقصد وضعه في الميدان العام، ولكن المجلس البلدي رأى من المحذورات ما يمنعه عن قبول هذه الهدية النفيسة، فوضعها الرجل في داره بحيث يراها المارة.
وقد رأيت فيها ملعبًا للخيول والحيوانات المستأنسة (سيرك) وكله مبني بالآجر، ولكنه مكسو بطبقات من الأسمنت بحيث تمثل للناظر أنه مشيد كله بأحجار النحت والدستور والرخام، وهو من الأهمية بمكان عظيم ينطق بما لمهندسيه من المهارة والجراءة والإقدام، فإنهم نظموه بحيث يمكن بسهولة وقتية تحويله إلى قاعة فسيحة مثل القاعات التي في قهاوي الملاهي والمغاني وتسع ٣٥٠٠ متفرج، وأما زخرفة الجدران فَحدِّث عنها ولا حرج، وأما تراكيب الحديد المستند عليها السقف من غير ارتكاز على الأرض في قاعة بهذا الاتساع، فإنها تدهش الناظر، بل تخيفه وتلزمه الإقرار بإبداع الصانع، وهي مرتبة بحيث يمكن للجمهور الخروج منها في برهة قصيرة إذا وقع اضطراب أو حدث طارئ، وهي تُضاء بالليل بالنور الكهربائي ترسله إليها آلات موضوعة تحت الأرض في غاية النظام والإحكام.
ودخلت في ملعب آخر أقامه بعض الأفراد لعرض الحيوانات المفترسة وتسخيرها في الألعاب أمام الجمهور، وإنما أردت بهذه الإشارة تنبيه الأذهان إلى صاحب هذا الملعب، فإني سأشرح الكلام عليه في الرحلة وأبين ما ناله بالجد من المجد حتى صار شيئًا مذكورًا، ونال الرعاية من الملوك والأمراء بعد أن كان فقيرًا مُعدِمًا ويتيمًا مُهْمَلًا.
وقد استخدمت السكة الحديدية بعض الخنادق التي كانت حول المدينة لمسير قسم من طريق القطارات فيها، والبعض الآخر نظموه سككًا ودروبًا سلطانية كما في باريس وأغلب مدائن فرنسا.
وتدور تجارة المدينة وصناعتها على الأقمشة من جميع الأشكال والأنواع، والقطيفة الخاصة باللباس وبالأثاث وغير ذلك، وفيها مغازل للكتان يشتغل فيها نحو ٣٠٠٠ من العمال، وأما مغازل الصوف فيشتغل فيها ١٢٠٠ عامل، وفيها غير ذلك من أنواع التجارة وأصناف الصناعة مما لا حاجة لذكره.
وفيها أماكن لتعليم الألمانية والإنكليزية للرجال والنساء مجانًا في ساعات معينة، وأيضًا لتعليم الميكانيكا التطبيقية، ورسم صور الآلات، وقانون التجارة، وفن التشريع الصناعي، وفن إمساك الدفاتر في الصنائع، والجغرافيا الصناعية، والنسيج بالنظريات والنسيج العملي، وتطبيق الكيمياء على الصباغة، وفن الصباغة ومعالجة الأصباغ، والموسيقى، وفن تفصيل القطيفة.
وغير ذلك مثل: الرسم الابتدائي، والتصوير بالجبس، ونقش الأحجار، والرسم التقليدي، والتشريح، وتاريخ الفنون، والرسم العملي، والرياضيات وفن الرسم (لأجل البنات) إلخ.
وليس على الطالب إلا أن يُشعر كاتب أسرار أمين المدينة لنوال تذكرة يكون دخوله بمقتضاها في الأوقات المعينة. وفي المدينة مدارس منتظمة للمعلمين والمدرسين (بدرجاتها الثلاث)، وللفنون الصناعية والحرفية، وفيها ١٦ مدرسة ابتدائية للصبيان و١٧ للبنات و١١ مدرسة للأمهات، ومدرسة لتعليم الصنائع الخاصة بالحديد والأخشاب، وأخرى للطب والصيدلية، وأخرى للموسيقى، وأخرى للفنون المنزلية إلخ.
وفي أميان كثير من التكايا المخصصة للطاعنين في السن من الذكور والإناث والأيتام والأطفال، الذين يتركهم أهلهم بعد الولادة، وللمصابين بالأدواء العقيمة العضالة، وللمُعدمِين من الجنسين وكفيفي البصر، أو المصابين بأمراض في عيونهم وغير ذلك.
وفيها بستان للنبات يحتوي على قاعات للتاريخ الطبيعي وعنابر لتربية نباتات البلاد الحارة، وتعطى فيه دروس عمومية في علم النبات.
وفي المدينة ٥ جرائد يومية و٧ أسبوعية، منها واحدة نصف أسبوعية وواحد دينية وواحدة زراعية وفيها غير ذلك من المنشورات الدورية شيء كثير، وفيها ثلاثة متاحف أحدها عام للفنون والصنائع، والثاني خاص بالأطيار، والثالث للتاريخ الطبيعي، وسأتكلم عليها في الرحلة إن شاء الله.
وفي المدينة خمسون قنطرة تصل أطرافها ببعضها؛ لأن نهر السوم يشقها من أولها لآخرها وأهمها سبعة.
ومن أهم ما ينبغي ذكره ورؤيته في هذه المدينة دار المجاذيب وتكية العميان، فإن المسيو بوفيللي المذكور أوصى عند موته بمبلغ ٥٠٠٠٠٠ فرنك لتشييد البيمارستان وبمثله لإنشاء تكية للعميان، يكون فيها أقسام للمتزوجين وأخرى للعُزَّاب والأرامل من الجنسين، ومدرسة للبنات وأخرى للصبيان. وقد زرت تكية العميان بنوع خصوصي لانتشار الرمد في بلادنا، وتفقدت كل ما فيها من الترتيب والنظام بإرشاد حضرة ناظرها، فإنه هشَّ للقائي ورحب بي وقدم لي كل ما طلبته منه من البيانات، ولكن لا يسمح لي المقام بسردها الآن فأدخرها إلى ما بعد، وأتكلم على الكنيسة الجامعة، وبها تكون خاتمة رسالتي هذه.
أول من أدخل الديانة النصرانية إلى هذه المدينة رجل اسمه القديس فيرمان في سنة ٣٠١، ثم حكم عليه بضرب عنقه في سنة ٣٠٣ في قصر قديم من بناء الرومان، وبعد ذلك دفنت جثته خارج المدينة، وهو أول أساقفة أميان، ثم توالت الأيام وتناسى الناس خبر ذلك الذي جاء مبشرًا بالإنجيل، حتى ظهرت كرامات على ما يرويه القوم وتتناقله الأفواه فاستدل بها الأسقف التاسع واسمه القديس سوق على قبر القديس فيرمان؛ ولذلك تبرع أهل أميان والمدن المجاورة لها بهدايا كثيرة وتحف نفيسة لبناء كنيسة جامعة من الخشب داخل المدينة باسم القديس فيرمان، فجاء النُرمانديون (ويعرفون عند عرب الأندلس باسم المجوس) في سنة ٨٨١، وأحرقوها فأعدها أهلها ثم التهمتها النيران، واستمر الأمر على هذا الحال من تعمير وتدمير حتى كانت سنة ١٢١٨، فاحترقت عن آخرها ولم يبقَ لها أثر في الوجود، فلم تمضِ سنتان حتى شرع القوم في وضع الحجر الأول من الكنيسة الحالية، وفي سنة ١٢٥٨ حصل حريق أتلف بعض أجزائها، ووقعت الصاعقة في سنة ١٥٢٧ على ناقوسها فحطمته تحطيمًا، ولكن أهلها رمموا ذلك وأصلحوا ما أفسد الدهر.
ومُسطَّح الأرض التي تشغلها الآن عبارة عن ٨٠٠٠ متر، وسهمها يرتفع عن أعلى نقطة من سطحها ٤٤ مترًا ونصف متر، وفوقه صليب من الحديد ارتفاعه تسعة أمتار، وفيها من الداخل ١٢٦ سارية تتكئ عليها قبابها وعقودها، وأما شبابيك الزجاج ففيها تصاوير وألوان تدهش الإنسان، وكذلك الأرغن والوردات الزجاجية الهائلة التي تمثل الفصول الأربعة. وفيها كثير من قبور المشاهير وتماثيل القديسين.
وأما منبر الوعظ والخوروس فهما أعجوبة من أعاجيب الصناعة بما فيهما من التفنن في النقش على الخشب، فإنهما يصوران للناظر جميع ما جاء في العهد العتيق من الحكايات والوقائع تمثيلًا بإتقان وإحكام، ومن أغرب ما رأيته في هذا الخشب الغريب أن النقاشين تركوا فيه بعض قطع طويلة متصلة به من الطرفين، وهي في هيئة الأوتار فإذا غمزها الإنسان بأصبعه أخرجت صوتًا مطربًا لطيفًا، وإذا نقر عليها الماهر في صناعة الموسيقى ربما أمكنه إبراز بعض الأنغام بإيقاع متناسق متناسب، كما هو في الآلات المعدة لذلك، وكل هذا الخشب من الجودة والمتانة بمكان عظيم. وقد كانت أجرة الصناع فيه من ٤ إلى ٩ مليمات في اليوم الواحد.
ويخيل للناظر إليه أن الغبار مُخيم عليه، ولكنه بعيد من ذلك، بل إنه نظيف جدًّا وإذا لمسه الإنسان لا يتلوث أصبعه بشيء من السواد. وقد قال لنا الخادم: إن ذلك الشيء الشبيه بالغبار له سبب في التاريخ؛ وذلك أنه لما وقعت إحدى الثورات بفرنسا خشي أسقف الكنيسة على هذه المصنوعات الجميلة من أن تتطاول إليها أيدي العوام فيبددونها ويهشمونها، فأحضر كثيرًا من الهشيم والبرسيم وشحن به الكنيسة من أولها إلى آخرها، وبقيت مخزنًا بهذه الكيفية مدة طويلة من الزمان أوجبت تداخل الغبار في جزئيات الخشب، واكتسابه هذا اللون الباهت الذي يشاهد عليها الآن. وخلاصة القول أن هذه الكنيسة من أجمل وأبدع وأكمل وأبرع ما رأيته للآن في سياحتي، بل هي في هذه المدينة كدُرَّة يتيمة تحسدها عليها رومة. وفي هذه الكلمة مِن مدحها ما يفي بالمرام لمن شاهد أو علم جمال الكنائس في عاصمة النصرانية والسلام.