الخاتمة
وأهم ما رأيته فيها هو المسجد الجامع الذي لا نظير له في العالم الإسلامي، وقد كان في مكانه كنيسة فاشترى المكان عبد الرحمن الداخل بمبلغ مائة ألف دينار، ثم صرف على بنائه وتشييده ثمانية آلاف، ولكن الملوك والخلفاء الذين أعقبوه لم يقتصروا على ذلك، بل رأوا من الضرورة توسيعه والزيادة فيه، وعدد هؤلاء الخلفاء ثمانية، وكان كل واحد ينفق بقدر سعته، ومنهم الحَكَم أنفق وحده أكثر من ١٦١ ألف دينار وكلها من فَيء المسلمين الذي يخص بيت المال وحده (وهو عبارة عن خُمْس الغنائم كما هو معلوم).
ولما جاء المنصور بن أبي عامر وزير الأندلس المشهور، وعزم على زيادة المسجد ليكون مناسبًا لاتساع قرطبة وزيادة سكانها كان يحضر أرباب الدور التي يريد نقلهم عنها، فيقول للواحد منهم: «إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد أن أبتاعها لجماعة المسلمين من مالهم وفَيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم، فشطِّط واطلب مَا شئت.» فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له وأن تُشتري بعد ذلك له دار عوضًا عنها، حتى أتى بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة فقالت: «لا أقبل عَوَضًا إلا دارًا بنخلة.» فقال: «تبتاع لها دار بنخلة ولو ذهب فيها بيت المال.» فاشتريت لها دارًا بنخلة وبولغ في الثمن (وهو دليل على شدة عناية القوم بأشياء المشرق وكثرة حنينهم إلى النخل الخاص ببلادهم الأصيلة، ولعبد الرحمن الداخل ولغيره من الملوك قصائد جليلة في مخاطبة النخل)، وقد استمر المنصور في أعمال الزيادة بالجامع مدة سنتين ونصف، وكان يخدم فيه بنفسه كأحد العمال، وكان قصده الزيادة في الإتقان والوثاقة دون الزخرفة.
واعلم أن هذا المسجد أصبح الآن عبارة عن كنيسة كتدرائية جامعة، وقد بقيت معالمه الرئيسية على ما هي عليه، وأقسم بالله أنني أكثرت من البكاء المر حينما درت في صحونه وبين عمدانه ووقفت في محرابه، وتأملت ما فيه من غرائب الإتقان التي لا تخطر على بال مع الفخامة والضخامة، وهو متجلبب بجلبات من الجلالة يوجب المهابة التعبدية في نفس الزائر، ويجعله يشعر حقيقة بوجود خالق معبود قَسم الحظوظ وقَدر الأرزاق وأراد ما أراد.
ولا أتصور أن الخشوع الديني والخضوع التعبدي يحدث في نفس أيِّ إنسان في أيِّ معبد من المعابد التي أقامتها جميع الأمم على اختلاف نحلها ومقالاتها بكيفية أكثر وأظهر، وبانفعال أتم وأكمل مما رأيته في هذا الجامع الذي يحتوي على ١٢٩٣ عمودًا من مختلف الرخام والصوان، وكلها منقوشة التاج والقاعدة بكيفيات تخالف بعضها، وقد كانت قبته مستندة على ٣٦٥ عمودًا من نفيس المرمر، وبلغ مسطحه ٣٣١٥٠ ذراعًا مربعًا، وأما المحراب فقد رأيته مصنوعًا من أحجار دقيقة مختلفة الألوان متركبة مع بعضها على نظام الفص والفسيفساء، بحيث تحدث منها أشكال متناهية في الجمال وآيات قرآنية وأحاديث نبوية، وإذا نظر لها الإنسان من ذات اليمين رأى ألوانًا وأضواءً وأشكالًا وتراكيب تخالف كل ما يراه لو وقف جهة الشمال، وكذلك الأمر فيما لو وقف في الوسط أو تقدم أو تأخر وهكذا. وخلاصة القول أنني أتصور هذه القِبلة مركبة من أحجار كريمة دقيقة مرصوفة بجانب بعضها بأكمل ذَوق وأحسن أسلوب.
ثم خرجتُ من قُرطبة منقبض الصدر مكلوم الفؤاد، ولم أرضَ برؤية شيء غير المسجد في عاصمة الأندلس العربية.
ورأيت فيها آثارًا كثيرة وأعمالًا عظيمة منها القصر والبستان والمنتزه (البرادو) الذي لا نظير له في العالم، وكنيسة فاخرة على جبل عالٍ يصعد إليها بعربات تجرها قوة الغاز من أسفل إلى أعلى على قضبان حديدية، تكاد تكون رأسية عمودية بلصق الجبل، وهي تزيد في العظمة عما رأيته في تورينو، وركبت في عربات الأمنيبوس التي تجرها الكهرباء بأسلاك معلقة في الجو تتصل العربة بها، بواسطة سلك معدني فتندفع العربة إلى الأمام أو الخلف بقوة شديدة أو خفيفة أو تقف مرة واحدة بحسب إرادة السائق عند اللزوم.
والخلاصة أنهم يركبون من الرقاعة والخلاعة كل متن، ويذهبون فيهما كل مذهب، ومع ذلك ترى النظام سائدًا والأدب العمومي ضاربًا أطنابه في قواعده الكلية فقط، وهم في هذه الأيام لا يعرفون الزَّعل أو الكَدَر أو الغيظ أو الحنق أو المضايقة أو غير ذلك مما هو من مستوجبات الطبيعة البشرية، ولهم في ذلك نظامات ورسوم معلومة لكل يوم من أيام الاحتفال، ولا شك أن شرح ذلك بالبيان الذي يجيش في صدري يستوجب رسالة ضافية مطولة لا يسعها المقام الآن وليس الخبر كالعيان.
ثم قمت إلى مدينة موناكو ومنت كارلو (منت قارلُه في كتب الجغرافية العربية القديمة)، ورأيت جمال مناظرهما الطبيعية وصفاء البحر تحت أقدامهما وبهاء الجبال فوقهما، ونضرة الأشجار في جميع جهاتهما وغير ذلك من المنازه الطبيعية والصناعية التي تنبسط لها النفس وينشرح منها الخاطر. ومدينة منت كارلو مشهورة بالمنتدى الذي هو أكمل وأجمل منتديات العالم في لعب الميسر (القمار)، وقد زرته للوقوف على حقائقه وأحطت علمًا بقوانينه وإجراءاته.
ورأيت بها معرضًا عامًّا خَصَّصوا له محلًّا عظيم الاتساع؛ ليعرض فيه العارضون كل ما يريدونه من صناعة وتجارة وفنون وعلوم وزراعة وغير ذلك، وتعطى فيه لأحسن العارضين وسامات وشهادات على سبيل المكافأة. وما أحسن ما قالته إحدى الجرائد في هذا المعنى: «كان الأليق بهذه الإمارة أن تقيم معرضًا لفنون ألعاب القمار؛ لأنها احتكرتها ونبغت فيها، بل تفردت بها على غيرها من الممالك والبلدان.»
•••
والناظر إلى هذه الرسائل يعلم أنني بارحت القاهرة في يوم ١٤ أغسطس سنة ١٨٩٢، ورجعت إليها في يوم ١٤ فبراير سنة ١٨٩٣، فتكون مدة رحلتي ستة شهور بالتمام، قد لاقيت فيها حر أوروبا وحمارته كأشد ما يكون، وقاسيت بردها وصبارته فوق ما يقدر عليه شرقي مثلي تَغَرب في أوروبا لأول مرة. ويرى أنني زرت مرتين ثنتين خمسة من عواصم أوروبا، وهي رومة وباريس ولوندرة ومدريد ولشبونة، منها مملكتان يحكمهما ملكان من الرجال وهما إيطاليا والبرتغال، ومنهما مملكتان أخريان تحكمهما ملكتان وهما إنجلترا والأندلس، والخامسة جمهورية فرنسا، وتقابلت بمسلمي ليفربول وتشرفت بلقاء ملك البرتغال وملكة الأندلس.
وإن ما ذكرته — وخصوصًا عن الأندلس في هذه الرسائل — هو قليل جدًّا في جانب ما أتوسل إلى القادر الكافي توالت نعماؤه أن يوفقني، ويعينني على تحريره وتدوينه في الرحلة الكبرى؛ لتكون هي وهذه الرسائل وسيلة لحث بني الأوطان على السياحة والإفادة والاستفادة، وعسى أن كل واحد يذهب في أوروبا من طريق غير الذي رسمته يكتب لنا عما يراه وعما تنبئه به إحساساته؛ ليتكون في لغتنا العربية مجموعة سياحات توقف القارئ على أحوال هاتيك البلاد التي أصبحت منبع التقدم ومقر العرفان.
والمأمول في وجه الله الكريم المنان أن يوفق أبناء الوطن إلى توفيته حقه من الخدمة في ظل فخر الأنام، وعماد الزمان وَلي عصر ومليك مصر مولانا الأكرم، وخديوينا المبجل عباس باشا حلمي الثاني أدامه الله كهفًا للمعالي، فهو الذي تَفَضَّل عليَّ بنظره العالي وإنعامه المتوالي، حتى كتبت هذه الرسائل وبثثتها في قومي قيامًا بما وجب له من فرائض الشكر على عبده.