بعض أقوال الأفاضل والجرائد
«صورة ما كتبه حضرة الفاضل اللوذعي الجليل محمد بك ذهني مفتش عموم المعارف ومراقبة المطبوعات والجرائد في ولاية أزمير إلى حضرة صديق الطرفين الأديب المهذب محمد أفندي كامل تيمور من تجار الإسكندرية.»
***
عزيزي كنت شائقًا إلى مطالعة كتاب «السفر إلى المؤتمر» تائقًا إلى اقتطاف يانع ثمراته من آنِ ما تكرمتم ووعدتم بإرساله، وها هو قد وافاني من بضعة أسابيع فتهافتُّ إذ ذاك لاستلامه من البريد تهافت الفراشة إلى نور السراج، ولم أصدق أنه بيدي إلا وأكببت على مطالعته إكبابًا لم يسبق له مثيل مدة حياتي، فأتممته في يوم واحد بحيث لم أشعر إلا وسواد الصفحات قد انقلب بياضًا في النهاية وأنا غير متنبه إلى ذلك، فألفيته كتابًا فريدًا في بابه قد فاز بقصب السبق في هذا المجال على ما وضع في هذا الباب مما عثرت عليه من المصنفات؛ وذلك لترتيب ما هو جامعه من الأبحاث والمواضع ترتيبًا تدريجيًّا، وللأسلوب الرائق الذي آثره حضرة المؤلف اللوذعي الأريب في التحرير والإفصاح عن أفكاره الفلسفية، ووصف ما شاهد وتأمل من المعالم الشاهقة والمباني الشامخة مع التنقيب الشديد والفحص الدقيق الذي تكبده لتحقيق ما وضعه العرب من الأسماء للبلدان الأوروبية في قديم الزمان، ثم الغيرة العظيمة التي أبداها حضرته للدفاع عن حقوق الإسلام التي مسها الافتراق الشنيع الضارب أطنابه بين أفواج المسلمين ناصحًا إياهم نصحًا منبئًا عن فؤاد سليم لإجماع كلمتهم وإعلاء شأنهم، واعظًا لهم العظة الحسنة لطرح مساوي الأخلاق واعتناق مكارمها.
فاستلذذت جدًّا من لطيف عباراته ورشيق إشاراته إلى حد لا يقدر على وصفه الكلام، ولا غُرو فإن حضرة المؤلف ممن اشتهروا في صناعة التحرير وسائر المعارف على حداثة السن، وبودِّي لو كان الكتاب أطول لكي أرتشف من حياضه زلال المعرفة استفادة، وقد أريت هذه الرسائل متفاخرًا إلى بعض شباننا المثرين من أهل الكسل والبطالة الذين يُذهِبون أوقاتهم سُدى في سبيل الملاعب والملاهي، راجيًا أن تكون الوسيلة العظمى لحثهم على التحلي بالمعارف والفضائل. ولعمري إن هذا المؤلف لقد أذكى في صميم الفؤاد نار الاشتياق لاقتناء ما وعد حضرته من الرحلة التي لا ريب في أنها تكون أكثر تفصيلًا منه، فيطفئ حينئذ بإسهابه نار التوقان ويبرد غليل الاشتياق، فمن الآن ألتمس من مكارمكم التي عودتموني بها أن تشتروه بل تخطفوه آن بروزه في ساحة المطبوعات، فترسلوه إلى الفقير على جناح السرعة، وغاية رجائي أن تسعفوني أيضًا بجميع آثار المؤلف التي صدرت إلى يومنا هذا.
الرحلة الزكية في المحاسن الأوروبية
هي ست عشرة رسالة حررها حضرة اللبيب الفاضل والكاتب النحرير أحمد بك زكي، مترجم مجلس النظار في سياحته بأوروبا وزيارته بالأخص مدينة لوندن الشهيرة مندوبًا من قِبل الحكومة المصرية لحضور المؤتمر المشرقي الدولي التاسع، فأودع فيها من بديع الأخبار وجميل الفوائد والآثار وذكر ما هي عليه تلك البلاد من التقدم والرفاهية والثروة وبركات المدنية والراحة في كل جهاتها ما يسحر المطالع ويستعظمه السامع، وقد جاءت شاهدة على ما لناظم نثرها وناثر نظمها من اتساع المطالعة ورفيع الميل إلى نشر الفوائد اللامعة بما سمعه ورآه وشعر به واستحسنه ونبَّه أفكاره إلى ما في تلك الأماكن من النادر والبديع والجليل والرفيع إذا قيس ببلادنا الشرقية ومعالمنا العظامية وُجد بينهما بعد شاسع وارتفاع واسع وقد أجاد حضرته في كل ما ذكره عن المدن التي زارها وتركت في قلبه حبًّا يكاد يقول معه:
وقد يظن القارئ أنه أطنب في أوصافه وبالغ في تعظيمه، ولا نظنه إلا أوجز فأعجز؛ فإن في المدن التي زارها من نابولي إلى مدينة لوندرة عاصمة إنجلترا ما يقصر اللسان عن مدحه والقلم عن ترقيمه، فلا يقدر المطنب على الإيفاء ولا المطيل على الإيعاء، فإن ما جمعته تلك الديار من محاسن الوجود ووجود المحاسن لا يتصوره عقل من لا ينتقل إليها وينظر غرائبها وعجائبها وما إليها ممَّا وصلت إليه قدرة الإنسان.
وما قاله في لندن وباريس وإسبانيا حقائق تاريخية قديمة وحديثة لا يختلف فيها اثنان؛ ولذلك قد استحق هذا الكاتب البليغ شكران الرفيع والوضيع، وإني أتخذ هذه الفرصة لأنبه أفكار المصريين وغيرهم من سكان الممالك المحروسة العثمانية بأن ما نشاهده من غرائب الصنعة وبديع الاختراعات وجليل النظام في أوروبا لم يكن كله بفعل حكوماتها وعدل دولها، وإنما هو عن اجتهاد رجالها وهمم علمائها واتحاد قلوب أهاليها للوصول إلى قمة السعادة فجابوا الأقطار نحو خمسمائة سنة حتى وصلوا إلى ما هم عليه، فقد كانوا أقل منَّا درجة وقتئذٍ تتجاذبهم أنواع الغيرة والحسد، وتهوي بهم الأميال الاعتقادية إلى تجديد النزاع كلما سكن ونفد، والعمل على انحطاط التقدم كلما ظهر؛ حتى رأوا أن في ذلك تأخرًا وخرابًا فقللوا من اختلافهم ونبذوا عنهم تلك الأهواء المضرة ورفعوا أنظارهم إلى ما حولهم من التمدن الشرقي ونظروا قوة ملوكه وسلاطينه فأرادوا التشبه بهم وجعلوا بإزاء أعينهم مقاصد هي غير المقاصد الأولى ولم يعودوا ينظرون إلى ما خلفهم، وكانت أول بعثتهم إلى الأمام فلبثوا عليها إلى أن توصلوا إلى النقطة الحاضرة التي نحسدهم عليها وكانوا هم الدافعين حكوماتهم إلى تلك المراغب وتتميم تلك الرغائب.
ثم استطرد حضرة الكاتب الفاضل إلى نصيحة أهل الشرق وتنبيههم إلى وجوب التعاون والتناصر والاستنارة بنبراس الحرية الحقيقية، وهنأ نفسه وكل قارئ على ما لاح من مبادئ التقدم وتعميم التعليم ثم قال: ونختم كلامنا هذا بالامتنان لحضرة زكي بك على ما أتحفنا به من درر رحلته ورسائله المذكورة، نفعنا وجميع الأمة بعدالة أفكاره ونافع تآليفه.
السفر إلى المؤتمر
هو عنوان لذلك السِّفر الجليل الذي رقشه يراع حضرة الفاضل مثال الاجتهاد ودليل الساعين في طريق النهضة المصرية الحديثة (أحمد أفندي زكي) مترجم مجلس النظار والنائب عن الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين الدولي التاسع الذي انعقد بلوندرة السنة الماضية.
قد طالعنا هذا الكتاب الجليل فألفيناه مصداقًا لما امتاز به حضرة مؤلفه البارع من الكتابة بإرشاد العواطف وإلهام الانفعال النفساني الناشئ من رؤية المناظر الجديدة الشائقة وتوخي التحقيق والتدقيق في الأعلام الجغرافية والعلمية، وهو البحث الجليل الذي يدل على سعة اطلاع حضرة المؤلف وإحاطته بكتب المتقدمين من العرب، ولنورد هنا أمثلة من تلك التحقيقات تختص بأسماء البلدان التي لها أسماء معلومة في كتب المتقدمين، ثم عمدنا إلى تسميتها بما ينطبق على تمثيل اسمها عند سكانها الآن: فبلدة برندزي الشهيرة في إيطاليا بأنها ممر السفن التجارية التي تمخر البحر الأدريانيكي تسمى في كتب العرب أبرندس، ونابولي نابل ونابل الساحلية ونابل الكنان، وبيزة بيشة، وجنيفة جنبرة، وباريز بريس، وترافلجار الطرف الأغر إلخ، وأما الإحصائيات التي وردت في الكِتاب فهي في غاية الفائدة والنفع، وقد مهدت لحضرة المؤلف استنتاج الحقائق واستقصاء الأسرار الاجتماعية، ومن ذلك ما نقله عن تقويم ترويح النفوس، وبعد أن ترجم المؤلف انفعالاته من مناظر إيطاليا وفرنسا بما يخال معه القارئ أنه كان رفيقًا له في السفر وعطف في رسائل باريز إلى الكلام على النساء الباريزيات، شخص لنا لوندرة في مثال الضخامة والفخامة، وروى لنا عنها أمورًا تخلب عقل القارئ أهمها اجتماع الضدين وتوفر النقيضين فيها، وانتقل إلى الكلام على إسبانيا والبرتغال، ولم يهمل حضرة المؤلف وصف المناظر الطبيعية والأبنية الفخيمة والقصور والآثار الباذخة في كل جهة مر بها.
وحسن الأسلوب الذي اتبعه في كتابه هذا لا يسعنا معه إلا الإقرار بعجز هذا اليراع عن استقصاء فضائله وتقريظه هنا بما يمثل للقارئ جزءًا من أهميته ونفاسته، فليعذرنا حضرة صديقنا الفاضل في هذا القصور الذي نأمل منه أن يتخذه دليلًا على ما تملكنا من استحسان رسائله، لدرجة لم نتمكن معها إلا من تخريج عيب واحد في هذه الرسائل وهو أن لا عيب فيها.
السفر إلى المؤتمر
أهدانا حضرة صديقنا الأديب الفاضل والكاتب المدقق أحمد زكي أفندي مترجم مجلس النظار العالي، هذا الكتاب الذي وضعه بعد عودته من أوروبا، حيث كان مندوبًا مصريًّا لدى مؤتمر المشرقيات، وقد طالعناه مطالعة المنتقد الواضع لديه كفتي الاستحسان والاستهجان، تاركين جانبًا هوى القلب الخافق سرورًا لدى أثر هذا الصديق الفاضل، وقد جئنا الآن نظهر رأينا فيه:
مزايا الكتاب: يظهر لمن يطالع كتاب السفر إلى المؤتمر أن نية كاتبه الفاضل معقودة على إشراك مواطنيه في كل ما رأى من مشاهد التمدن الأوروبي ومظاهر الحضارة الغربية؛ لأنه يعلم أن القسم الأعظم منهم لم يردوا غير ماء النيل من مياه المعمورة. وقد أحسن كل الإحسان في عدم الوقوف عند حد الإخبار بما رأى وما سمع، بل قد وضع ما رآه وما سمعه على قوالب آرائه، وأجال فيها نظره الحديدي الذكاء فأمكنه أن يضع لدى مطالع كتابه مشهد العالم الأوروبي بعناصر تقدمه ومجالي رونقه وبهائه، والشهادة لله أن سفر صديقنا الزكي إلى المؤتمر كأنه معرض تشريحي للحضارة الأوروبية، أو هو رسم فوتوغرافي منقول عما ارتسم على مخيلة كاتبنا الزكي من مشاهد أوروبا ومرئياتها، ثم والكتاب فصيح العبارة لطيف الإشارة من أحسن ما كتب في باب السياحات، فهو إذا شبه بكتابات المسعودي وابن بطوطة في أسلوب كتابته، فما شابهاه في شيء من جهة الصلة بالحقيقة والفوائد الجمة، والبعد عن الأوهام. وقد علمنا من ترتيب الكتاب أن كاتبه كان إذا نزل في بلد وحل في مدينة يزور كل ما هو عظيم وذا شأن فيها، ويودعه مذكراته، إلا أنه كثيرًا ما يُرى في الكتاب أثر الاقتضاب والاختصار، كذلك كثير مما نعلم وجوب ذكره وليس مذكورًا، وكثير من أبحاثه مما يفيد تفصيله ليس مفصلًا، إلا أننا نجد عذرًا للكاتب في وقته القصير بجانب كثرة أشغاله واتساع جولاته وجسامة مهماته.
وكان بودنا لو نترك القلم مع هواه في الكلام على أثر من يهواه، ولكن المضمار قصير والخاطر حسير، لكنا لا نوقفه حتى نذكر للكاتب الزكي صفته الوطنية وغيرته الشرقية الظاهرتين في كل عبارة من عبارات الكتاب. وسنعود على مشاركته في الكلام على البحث الذي هو أول طارق لبابه، وهو المتعلق بلغة الأعراب وآثارهم في الأندلس.
القصير والمستدير الململم
هو عنوان كتاب مجموع الرسائل التي بعث بها حضرة إمام المترجمين، ونخبة الشبان المصريين، الكاتب الفاضل والأصولي المدقق أحمد أفندي زكي مترجم رياسة مجلس النظار حين كان ببلاد أوروبا، إذ عُهدت إليه رياسة الوفد المصري إلى مؤتمر المستشرقين بمدينة لوندرة، جمعه — حفظه الله — بعد عودته بالسلامة وطبعه على نفقته بالمطبعة الكبرى، فجاء كتابًا جليلًا يقوم بُرهانًا قاطعًا للشبان يتحدون به في مقام الفخر بأعمالهم، بل لِجامًا يرد جماح الذين يجحدون أن في السويداء رجالًا وفي الكنانة نبالًا، بل قدوة حسنة لمن يريد خدمة بلاده وسد أفواه حساده، وما عساني أن أقول في سِفر يصور لك حالة أوروبا أغلبها أكمل التصوير ماديها وأدبيها من الطبيعيات، كوصف البلاد والمدائن والجمال والآبار والبساتين والطرق والطقوس والأهوية والأطعمة والأشربة، ثم المصنوعات من قديمة وحديثة وجيدة ورديئة، فالآثار وأصحابها وتواريخ تأسيسها من عجيبها وغريبها وعظيمها وصغيرها، فالتجارة ورواجها وكسادها، والصناعة والإقبال عليها أو العدول عنها، والزراعة وأصنافها وهيآتها ومناظرها، فحال البلد العام غناها أو فقرها ووفرة حاصلاتها أو قلة موجوداتها، فطباع كل شعب حسنها ورديئها وإقبالهم على العمل أو إعراضهم عنه، ثم أفكارهم صحيحها وفاسدها، وأخلاقهم لينها وجافيها، وأميالهم خيرها وشرها، ثم غرائب ما عندهم على العموم من المعامل وتشغيلها والمحاجر وأصنافها على ما هو عليه، مع ذلك كله من دقة المعاني وجزالتها وعذوبة الألفاظ وسلاستها، ولا غرابة فقد كُتب بقلم بليغ عربي، وإحساس شرقي مصري، ودافع قوي وطني، فيا حبذا لو ينسج شباننا المصريون على منواله إذ في هذا فليتنافس المتنافسون، ولمثل هذا فليعمل العاملون. ولقد وعد حضرة الكاتب — أدامه الله خير قدوة للشبان — في كتابه هذا بطبع رحلته الكبرى، فما ظنك بها إذا كانت هذه حالة الصغرى! وإن غدًا لناظره قريب. أكثر الله في مصر من أمثاله، إنه سميع مجيب.
ولقد يسرُّنا أن نظارة المعارف العمومية قد اشتركت في … نسخة من السفر المذكور لتوزيعها على طلبة المدارس إفادة لهم، وتعويضًا لبعض ما أنفق حضرة المؤلف، وتشجيعها لغيره في الإقدام على مثل ذلك، فلا عدمنا من يسهرون على تقدم البلاد ونجاح شُبانها. آمين.
السفر إلى المؤتمر
ويتلو ذلك نبذة بديعة في امتزاج العرب بالعجم في إسبانيا، وسنأتي على ذكرها في فرصة أخرى. وجملة القول أن هذه الرسائل شاهدة لحضرة مؤلفها بسعة الاطلاع ودقة البحث، وبأنه لقي من الحفاوة والإكرام ما يفتخر به شبان مصر.
السفر إلى المؤتمر
هو كتاب يتضمن الرسائل التي جادت بها قريحة حضرة صديقنا الكاتب الألمعي رفعتلو أحمد أفندي زكي، رئيس قلم ترجمة مجلس النظار أثناء رحلته في بلاد أوروبا مندوبًا للنيابة عن الحكومة المصرية في مؤتمر المستشرقين الدولي التاسع الذي التأم في لندرة أواخر العام الغابر. وقد أدرع الوسع في وصف العواصم التي مر بها، وأقام فيها وصفًا دقيقًا لم يغادر فيه شاردة ولا واردة مما يهم المطالع معرفته عن أحوال تلك البلاد. ومن مزايا تلك الرسائل أنه كتبها بقلم مصري ينظر إلى الأشياء بعينَي مصري بحت ينفعل بانفعال المصريين ويكتب للمصريين. وأول مدينة نزل فيها ووصفها نابولي ثم رومة العظمى ففلورانسة فبيزة فجينوة فتورينو فمودان فباريس فلندرة وبعض مدائن الإنكليز، ثم بلاد الغال، ووصف بلاد الأندلس وآثار العرب فيها، وغير ذلك من الفوائد التي لا يعثر عليها إلا بالأسفار الشاقة والأبحاث الطويلة.
وقد أسهب الوصف بنوع خاص في مدينة باريس، فلم يغادر شيئًا لم يصفه وصفًا دقيقًا من أحوالها المدنية والسياسية والعلمية والتاريخية ومتاحفها ومعارضها، وأبنيتها وعوائد أهلها وأخلاقهم رجالًا ونساء حتى تمثلت المدينة لدينا تمثل العيان. وقد أجاد في الكلام عن الأندلس وتأثير التمدن العربي على الإسبان، وأورد كثيرًا من الأسماء العربية التي اختلطت بلغة هؤلاء الأقوام وردها إلى أصلها العربي لغويًّا وتاريخيًّا.
وبالجملة فإنه قد أشبع الكلام وأفاد فيه إفادة يستوجب عليها الثناء، ويليق من أجلها أن يكون قدوةً ومثالًا في الإقدام والاجتهاد ودقة البحث.
على أننا نستأذنه بعد أن وفيناه بعض الواجب من الثناء أن نذكر طوفًا مما رأينا فيه وجهًا للنقد إجابة لطلبه، ونحن على يقين أنه لا يستنكف من سماع ملاحظتنا؛ لعلمنا أنه ممن يحبون البحث عن الحقيقة ولا يستعظم الرجوع إلى الحق فنقول:
قد رأينا في وصف مدينة لندرة إيجازًا يكاد يبلغ حد الإخلال، على حين أننا كنا ننتظر الإفاضة في وصفها أكثر من سواها لما حوته من الآثار والمتاحف والعظمة، ولا سيما أنها مقر المؤتمر ومحط رحال حضرة الكاتب في رحلته هذه، فإنه لم يذكر متحفها الشهير المعروف بالمتحف البريطاني إلا بطريق العرض عند كلامه عن متاحف باريس، ولم يشبع الكلام فيه ولا ذَكَر شيئًا عن مسرحها (معرض الحيوان)، ولا منبتها (معرض النبات)، ولا غير ذلك مما يستغرق في وصفه المجلدات الضخمة، وخصوصًا المتحف البريطاني الذائع الصيت، فإنه من أعظم متاحف الدنيا إذا لم نقل أعظمها، وفيه آثار العالم على اختلاف الزمان والمكان.
وقد قال أثناء كلامه عن لندرة تحت عنوان «تبويذ الإنكليز»: «وأما جيش السلام فلا أتكلم عليه الآن، وإنما أقول إن جماعة من البوذيين الوثنيين جاءوا إلى لندرة بقصد تبويذ الإنكليز (إن صح التعبير؛ أي جعل الإنكليز كلهم على مذهب بوذة)، وبلغني أن لهم هيكلًا تقام فيه شعائرهم الدينية في خط ويت شبل المعمور بألوف من الخلائق، وعلمت أن أعمالهم سائرة في طريق التقدم، وأن بعضًا من رجال البوليس الإنكليزي قد دخلوا في زمرتهم.»
ولا يزال الجنرال بوث قائمًا بأعمال هذا الجيش، عاملًا على نصرته إلى هذه الغاية، وقد شاهدنا من هذا الجيش أثناء زيارتنا عاصمة بلاد الإنكليز سنة ١٨٨٦ جماعات يطوفون الشوارع يعزفون بالموسيقى العسكرية، ورأيناهم يقفون على ملتقى الطرق، وفي المنتزهات العمومية يعظون الناس ويحثونهم على الصلاح، وربما كان بين وعَّاظهم من لا تليق به هذه المهنة، وسبب ذلك ما قدمناه من أن الجيش تألف لهداية السوقة وأسافل القوم، فانتظم في سلكه جماعة منهم فشوهوه، وأما مقامهم ففي خط «ويت شبل».
على أن ما ذكرناه لا يحط شيئًا قدر حضرة صديقنا الفاضل، ولا يقلل شيئًا من قيمة مؤلفه الجليل، ونحن نعلم أنه كتب ما كتبه في أضيق الأوقات وأقصر الفرص والعصمة لله وحده سبحانه وتعالى.
إيضاح الحقيقة عما ورد في النبذة المتقدمة
لما اطلعت على ما كتبه الهلال الأغر أرسلت إليه رسالة مطولة ألخصها هنا في كلمات وجيزة وسطور قليلة.
أما ما يتعلق بالمتحف البريطاني فإنني لم أذكره فقط بطريق العرض أثناء الكلام على متاحف باريس، بل قد ذكرته وأشرت إليه في رسالة لوندرة، ولما كان وصف هذا المتحف قد أسهب فيه حضرة العالم الفاضل أمين بك فكري في «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» ما رأيت وجوبًا لإعادة الكلام عليه، بل آثرت الدخول في مواضيع أخرى لم ترد في الغالب في كتاب حضرته، كما أنني إذا اضطررت للكلام على موضوع قد سبق له الخوض فيه أجتهد في شرح أمور جديدة وبيانات لم ترد في كتابه حتى يكون لمن قد قرأ كتابه الأنيق فائدة في تلاوة كتابي أيضًا. وكل من قابل بين الكتابين يعلم أن أحدهما لا يغني عن الآخر ولا بد من الحصول عليهما معًا. ومن رأيي أن القارئ العربي يكفيه أن يعلم عن المتحف البريطاني ما ورد في إرشاد الألباء، وأنه من الواجب أن يجد معلومات جديدة ومزايا أخرى في «السفر إلى المؤتمر»، وهو الأمر الذي دعوت إليه في خاتمة كتابي هذا لتكمل الفائدة.
أما الاعتراض الثاني: فهو مبني على كون صاحب الهلال الأغر ظن أنني جعلت أهل جيش السلام من البوذيين الوثنيين، وتصور أن الذي أوجب عندي (أنا) حصول الالتباس أن قائد جيش السلام يسمى (بوث)، ثم بنى على ذلك الشرح الذي علقه على عصابة هذا الجنرال وأحوالها بما فيه فوائد جمة كنت أدخر شرحها لرحلتي الكبرى، فجزاه الله خيرًا على هذا الاستعجال.
غير أني لم أقصد ما فهمه حضرته بالمرة، ولم يَدُر في خلدي شيء من التهم التي تصور أنني نسبتها لهم؛ لأن قولي: وأما جيش السلام فلا أتكلم عليه الآن وإنما أقول إن جماعة من البوذيين الوثنيين جاءوا إلى لوندرة بقصد تبويذ الإنكليز (إن صح التعبير؛ أي جعل الإنكليز كلهم على مذهب بوذة)، وبلغني أن لهم هيكلًا إلخ؛ وذلك لأنه لو تدبر كتاباتي في الرسائل لرأى أنني عندما تزدحم عليَّ المواضيع، وتتوارد المطالب أجنح إلى هذا الأسلوب من التعبير «وأما الأمر الفلاني فلا أذكر عنه شيئًا الآن. أو: فإني أؤخر شرحه لفرصة أخرى. أو ما أشبه ذلك من العبارات»، ثم أعقب هذه الجملة بقولي: «وإنما أتكلم على الأمر الفلاني» الذي يكون غير الأول، ولكنه يكون منطويًا تحته في باب واحد وله به تمام الارتباط، وشواهدي على ذلك كثيرة في الكتاب أكتفي بذكر واحد منها؛ لكون الإطالة لا طائل تحتها وهو: «أما نزهتنا في لوندرة فلا أتكلم عليها الآن، وإنما أذكر أني شفيت الغليل برؤية شبه مدينة البندقية في إحدى ضواحيها وهو محل متسع إلخ»، فقد أغلقت الكلام على النزهة في لوندرة وذكرت شيئًا عن النزهة في ضواحيها، وهذا له تمام المشابهة في كوني أغلقت الكلام عن جيش السلام، وتكلمت على تبويذ الإنكليز (بحسب مذهب الهنود)؛ لأن سياق الكلام كان على «أفكار الإنكليز واعتقاداتهم وآرائهم ومقالاتهم».
هذا وإن في قولي: «إن جماعة من البوذيين الوثنيين جاءوا إلى لوندرة إلخ» كفاية تامة للتعرف بمن أريد، وإنني لا أقصد أهل جيش السلام الذين هم من طوائف النصارى، كما هو اعتقادي الحقيقي الظاهر في عبارتي، وهنا أرى وجوب الرجوع إلى الأحق من حيث التسمية؛ لأن الترجمة التي قال بها صاحب الهلال الأغر «جيش الخلاص» هي في الحقيقة أفضل وأدل على المراد من ترجمتي لاسمهم بقولي: «جيش السلام»، لكن لفظة الخلاص هي خاصة بالاصطلاح المسيحي؛ فلذلك أعذر على كونها فاتتني مع كون الكثير من الكُتاب يذكرون «جيش السلام» ويريدون به كتيبة الجنرال بوث وأهل طريقته، وهذه الترجمة متداولة معروفة.
وقد أخبرني حضرته أنه قرأ العبارة هكذا: «وإنما أقول إنه جماعة من البوذيين»، فلما وضع هو الضمير في لفظة «إنه» توهم أني خلطت هذه الجماعة النصرانية بالطائفة البوذية، وليس الأمر كذلك فإنني ما قلت إلا «إن» في الطبعة الأولى والطبعة الثانية هذه.
هذا ما رأيت ذكره بالاختصار بيانًا للحقيقة التي أراني متفقًا مع حضرة الفاضل صاحب الهلال الأغر على تحريها وتفضيلها على عواطف الوداد وروابط الاجتهاد، وإني أشكره في هذا المقام على توخيه هذا الأسلوب المفيد في الانتقاد، فإنني لا أزال أجاهر بأني ممن يفتخر بمحبة الانتقاد، ويرى وجوبه على الدوام فيما يتعلق بكل كتاب يظهر في عالم المطبوعات؛ لأن «الحقيقة بنت البحث»، ويا حبذا الانتقاد الصادر عن طوية خالصة ونية صافية بمقتضى قواعد العلم ونواميسه المعتبرة، فإنه مما يوجب ارتقاء المعارف ورفع مقام الكتاب. أرشدنا الله جميعًا إلى السداد والصواب.
كانت براعة الاستهلال في هذا الكتاب الرسالة الفائقة التي كتبها تاج المنشئين وفخر الكاتبين الأستاذ الأجل الشيخ عبد الكريم سلمان، والحمد لله الذي وفق له براعة ختام من أحسن ما تستطيبه العقول وتنتهي إليه المطالب ويكمل به اختتام هذا الكتاب على أجل منوال، فقد جادت قريحة الذي لا يصح أن ينتهي الشعر إلا إلى بابه، ولا تقف مطايا العلم إلا عند رحابه حضرة الفاضل الجليل إسماعيل بك صبري وكيل محكمة الاستئناف الأهلية بهذه القصيدة الفائقة وهي:
كتب أصلية ألفتها | كتب قديمة صححتها ونقحتها |
---|---|
(١) مفتاح القرآن | (١) ضوء الساري لمعرفة خبر تميم الداري للمقريزي |
(٢) النسخة المحررة للطبعة الثانية من موسوعات العلوم العربية | (٢) ذكر الغلاء الواقع بأرض مصر له |
(٣) معجم الكلمات المضعفة | (٣) ترتيب المقتضب فيما وافق لغة مصر من لغات العرب (أصله للصديقي وقد غيرت ترتيبه) |
(٤) معجم الكلمات الكلبية ويليه التبرِّي من معرة المعري | (٤) أسماء الأسد — مستخرجة من القاموس |
(٥) معجم تحرير وضبط الأعلام الجغرافية بالعربي والفرنساوي | (٥) الأضدد — مستخرجة من القاموس |
(٦) وصف مجالس الندابات ومجموعة فيها أكثر من ٢٠٠٠ بيت من مراثيهن | (٦) تحبير الموشين فيما يعبر فيه بالسين والشين للفيروزأبادي |
(٧) القصيدة الفارقة بين الضاد والظاء | |
(٨) حل لغز الماء للمقريزي (وترجمته بالفرنساوي) | |
(٩) قصيدة علم الدين السخاوي فيما اتفق لفظه واختلف معناه | |
(١٠) الاحتفال بزيادة النيل وجبر الخليج (وترجمته إلى الفرنساوي) |