الرسالة الثانية
لعلي أكون أحرزت برسالتي الأولى رضا حضرات القرّاء الألباء، وإلا فإن العذر واضح لكون كتابتها كانت بعد تعب شديد عانيته من سفر ثلاثة أيام في البحر، تتلوها عشر ساعات بلا انقطاع في باخرة البر، وليس في ذلك من غرابة لعدم العادة، ولقد كان سمعي ينبو من مقال القائل: (بل العذاب قطعة من السفر)، فلما حقق الخبر الخبر زال عني الاستنكاف مما كنت أحسبه ضربًا من المجازفة في المبالغة، خصوصًا وأن أسلافنا لم يكن لهم ما أفاضه عرفان هذا القرن (التاسع عشر) على أبنائه من تسهيل الانتقال، وتأمين الارتحال، وتقليل المسافات، وتناهي البخس في النفقات بالنسبة لما كان ينبغي صرفه في هاتيك الأوقات، وتيسير أسباب السير والنظر والتأمل في آثار من غَبر، ومصنوعات من حضر، وتوسيع دائرة العقل بالاطلاع على نتائج أفكار الغير، إلى ما هناك من الفوائد والمكاسب في المتاجر والمصانع مما لا ينكره إلا المكابر.
إن نابولي — والحق يقال — لتستحق أن يُكتَب عليها مجلد ضخم لا صفحات قليلة تتلى (أو لا تتلى) ثم تتطاير في الهواء؛ وذلك لأنها ضمت إلى بهاء المنظر، جمال الطبيعة، وقَرنَت بين حسن الصناعة ونشاط السكان، مما يجعلها جديرة بأن تشد إليها الرحال، وينزل بها أولو البصائر والإبصار الأيام الطوال بل الشهور بل الأعوام.
ولا يزال هذا حال الراحل وحال مطيته حتى يصل بالسلامة إلى نابلس الغرب الأوروبي، ولكن (شتان بين مشرق ومغرب) فيحمد غِب السرى إذ يرى نفسه في مدينة هي في الحقيقة كالحديقة الأنيقة، ناعم البال منشرح الفؤاد، ويصدق قول من أنشأ (وبضدها تتميز الأشياء)، ولكني أترك الاسترسال مع هذا التيار، فقد ألقيت عصا التسيار وقرت العين باجتلاء محاسن هذه المدينة اليانعة الرائعة الناصعة ومعاهدها الباهرة الزاهرة الفاخرة، وخذ مني حديثًا وجيزًا على عجلة، وانتظر إذا أردت التفصيل في الرحلة.
والفنون الجميلة غاية لا تكاد تدركهم فيها أمة أخرى، فقد رأينا في هذا القصر الطائل من الرسوم والنقوش وأساليب العمارة، والتفنن في النحت والإغراب في التمثيل والتخييل ما لا تفي هذه العجالة بعشر معشار ما يستحقه من البيان، ثم جلنا في شوارع المدينة صاعدين هابطين متأملين اقتدار الأهالي، وشغفهم بتجميل أماكنهم، وتزويقها بما يستوقف الأنظار، ويقضي على الناقد المنصف بأن يقضي لهم بسلامة الذوق وحسن الاختراع.
وهناك أستميحك أيها القارئ أن تقف معي برهة أمام الجمال وتؤدي له واجب الإتاوة، مقرونة بالتسبيح والتهليل والتكبير (سبحان الله – الله الله – ما شاء الله – الله أكبر).
فإننا من عهد ما بارحنا الإسكندرية وفارقنا سان ستفانو (ملتقى الغادات الحسان ومجمع الغانيات المعجبات) لم يستقر طير نظرنا على شيء من أغصان الملاحة، سوى أننا كنا نرى في طريقنا من برندزي إلى فودجا إلى نابولي بعض أشباح ينتسبن إلى حواء ولا نسبة، وهن من قبح الصورة وسماجة الوجه بحيث لو رآهن شيخ الأبالسة لعدل عن الوسوسة واستبدال الإغراء بالقرار، والأغرب من ذلك أن وجوههن تكون جافية وأقدامهن حافية وشعورهن منتوفة ورءوسهن مكشوفة، ومع ذلك فلا بد لهن من العُظَّامة أو ما يقوم مقامها، كأن تأتزر الواحدة بالفستان وتتشح بالصدار لإظهار قدٍّ هو أشبه بالقدر.
وما زلنا على هذه الحال حتى ظننا أن أوروبا إنما ترسل إلى بلادنا أفضل ما فيها من العيون الناحرات الساحرات، واللحاظ الفاتنات الفاتكات، فلما قدمنا هذه المدينة رأينا غير ما ظننا. ولقد كان منظرنا، وخصوصًا الرفيق الموافق والصديق الصادق الشيخ محمد راشد، يسترعي منهن الأنظار، فكان لي بذلك فرصة أغتنمها لتعويض ما فات، والتأمل في صنع ربك ذي الجلال والإكرام، فكانت الواحدة تحملق إلينا فترسل سهامًا من فاتر الألحاظ، والأخرى تستغرب من شكلنا فيفتر فمها عن درٍّ يأخذ بحبات القلوب، ومنهن من كانت تترك عملها الذي خرجت لأجله من كناسها وتسعى خلفنا تستغرب شكلنا، بينما نحن معجبون بشكلها. ومنهن من كنَّ يطللن من الشبابيك فيشبكن الفؤاد ولا حرج عليهن، ومنهن من كانت الخواتم بخصورهن أليق من الخناصر، وغير ذلك مما يطول شرحه ويقصر يَراعي عن بيانه، حتى إننا لم نر حِيلة للتخلص من شراك هذه الشباك سوى التعجيل بالرحيل فقصدنا المحطة.
فوقعنا في شبكة لم تكن لنا في حسبان ولم تخطر لنا على بال، وذلك أن عمال السكة الحديدية أبوا إلا أن يُدفعونا الرسم على ثلاث شنطات من متاعنا وإبقاء شنطة واحدة تحت يدنا، فأظهرنا لهم شدة الغرابة من تنوع المعاملة في برندزي أولًا وفي نابولي ثانيًا وقلنا لهم: أليس القانون واحدًا في إيطاليا كلها أم هل يختلف تطبيقه بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص؟! فكان جوابهم لنا: (برندزي هي برندزي وأما نابولي فهي نابولي.) فلم نر بُدًّا من نقدهم ما طلبوا، ولكني حررت هذه الجملة في مذكراتي. وإذا لم يكن لي من الوقت ما يكفي للتعمق في البحث عما حوته هذه الكلمة الجامعة من دقائق المعاني وعويص الأفكار، آثرت أن أطرحها الآن على حضرات علمائنا الأعلام؛ ليجعلوها موضوعًا للمتون والشروح، والحواشي والتتميمات والتكميلات والتذييلات والتعليقات، والأخذ والرد والتوجيه والاعتراض والقيل والقال، حتى إذا رجعت بالسلامة ووقفت على خلاصة الأبحاث، أخذتها عن الثقات غنيمة باردة وزينت بها صفحات الرحلة.
ثم سارت بنا باخرة البر إلى رومة في طريق تَحف به من الجانبين أشجار مدت أغصانها فاشتبكت، فكانت أشبه بعذارى الجان خرجن من الجبال المحيطة، وتهيأن للرقص على أجمل منوال، فمدت كل واحدة منهن ذراعيها إلى أختها ذات اليمين وإلى تربها ذات الشمال ووقفن في انتظار القطار، حتى إذا اقترب منهن تحركن حركات منتظمة معجبة بقدود مياسة وأصوات مطربة، واستمر الحال على هذا المنوال بين الجبال الصماء تتخللها الخضرة الزهراء والأشجار الشماء، حتى بلغنا رومة بسلام وتوجهنا إلى الفندق واسترحنا.