الرسالة الخامسة
لقد أبدعتم يا أهل البديع في تنويع الطباق، فهو لعمركم من سلامة الاختراع، ولقد برعتم يا أهل المنطق والكلام في بيان التناقض والتضاد ومعاني الاجتماع والارتفاع، فإن وقتي على كل حال أعتبره ثمينًا نفيسًا، ولكني أجده الآن طويلًا قصيرًا؛ أما الأول، فلكثرة الشجن بالحنين إلى الأهل والوطن، وأما الثاني، فلتقصيره عن مساعدتي على زيارة مدينة البندقية (فنسيا).
فإني كنت بفلورنسه وليس بيني وبينها سوى ست ساعات، ومع ذلك لا يصح لي أن أتعجب وأقول إن المشتهى قريب وما إليه وصول، فإن الطريق مُيَسر والوصال أسهل من أن يدبر، والبخار مسخر والقطار حاضر، ولكن الوقت سلطان قاهر، فكيف لا أتمكن من زيارة تلك المدينة التي قامت فيها الخلجان مقام الحارات، والجداول مقام الشوارع، والمراكب مقام المركبات، والزوارق مقام العربات، والمقاذيف والمداري مقام الخيول الجواري … ألا إن الوقت محسوب والقيام إلى جنوة أمر محتوم، فالبدار البدار إلى دار الوفادة، والعجل العجل لتأدية واجب الرسالة.
ولكني استعضت عما فاتني بقسمة طريقي إلى قسمين للوقوف في بيشة أكثر من ساعتين كانتا في الحقيقة أبرك من يومين، فاتخذت دليلًا من أهل الشباب معدن القوة والفتوة وأمل المستقبل، فطاف بنا المدينة وأطلعنا على محاسنها، فعوض علينا ما خسرنا بسبب اختيار الشيخ في فلورنسة. رأيت أمورًا كثيرة في هذه المدينة الصغيرة (التي لا يتجاوز عدد سكانها ٤٠٠٠٠ نسمة ومصرنا القاهرة فيها حوالي ٤٠٠٠٠٠ نفس)، وإني أحيط علم حضرات القراء بالنبأ القليل من غير تفصيل.
هذه المدينة تسمى في كتب الجغرافية العربية القديمة بيش وبيشة، وقد وردت باسم بيزا في بعض كتابة الشريف الإدريسي، مَرَّ عليها حين من الدهر كانت فيه خاضعة لملوك تونس في أيام دولة المُوَحدين (أو الملثمين لا أتذكر الآن ذلك بالتحقيق)، فإني رأيت بدار المحفوظات فيها التي تشبه الدفترخانة المصرية عندنا (من غير تشبيه ولا تمثيل) صكوكًا كثيرة، وعهودًا متنوعة، وإجازات غير قليلة وبعضها يتضمن الضمان لأهلها بالحرية التامة والأمان في كافة المعاملات، وإقامة شعائر الأديان، وهي صادرة لهم من أولئك الملوك (وقد اعتنى العالم الطلياني أمارى بنشرها وترجمتها)، ورأيت اسم البلد فيها هكذا: بيشة، وقد شاهدت في هذه الدار أيضًا غير ذلك من الأوراق الرسمية التي اتخذتها كل دولة تولت عليها أو كان لها علاقة بها، ورأيت فيها على صغرها كثيرًا من التماثيل التي تحيي ذكر أهم رجال إيطاليا، أخص منها تمثال الطيب الذكر فكتور عمانويل مؤسس الدولة الطليانية الحالية الملقب عندهم بأبي الوطن، ولكنه كان كله مغطى بالأخشاب المنضودة بحيث لا يرى منه شيء ما؛ وذلك لأنه أقيم حديثًا وسيحتفل بإزاحة الستار عنه قريبًا بحضرة الملك والملكة والأسرة الحاكمة ورجال الدولة وأهل الحل والعقد.
ثم زرت المدرسة الجامعة ومكتبتها العظيمة، ورأيت فيها من النظام ما يوجب الإعجاب بها؛ مثال ذلك أن الكتاب الذي يُستعار منها يوضع مكانه قطعة من الخشب بمقدار حجمه وعلى شكل الكتاب، وتكتب عليها نمرته وعنوانه إلى أن يُرد الكتاب إلى محله، وفي ذلك فائدتان: أولاهما؛ حفظ أنظام الكتب وعدم ميلها على بعضها بسبب الخلو بينها مما يضيع استقامتها واعتدالها، وثانيتها؛ التنبيه على أن هذا المكان يشغله كتاب مستعار الآن مع حفظ عنوانه ونمرته لإعلام من يريد أن يجيل ناظره على الكتب فقط. ورأيت فيها أيضًا صناديق من الخشب على شكل الكتب توضع فيها المجلات الدورية، وأخرى لحفظ الكراريس والأجزاء التي تظهر في أوقات معينة من كتاب واسع كبير حتى لا يتولاها التلف والضياع، ومتى تمت الكراسات والأجزاء جلدوها مع بعضها وأودعوها في المحل اللائق بها. ثم زرنا مدرسة المعلمين العليا وتفرجنا على معرض التاريخ الطبيعي، وهو إن لم يكمل لكنه حاوٍ لكثير من التحف والطرف، وفيه كثير من الحيوانات النادرة الغريبة من حشرات وديابات وأطيار وأسماك ومعادن وأحجار ونباتات وأشجار وثمار وأزهار، وغير ذلك مما يدخل في هذه الدائرة.
ثم زرنا كنائسها وبِيَعَها، وأغربها كنيسة بجانبها برج للناقوس منعزل عنها، وهو شامخ في الهواء لا باعتدال بل بانحراف؛ فإنه يميل بكليته على سطح الأرض بمقدار خمسة أمتار؛ أي إنك لو أنزلتَ من أعلى قمته خطًّا عموديًّا على مستوى الأرض لكانت المسافة بين نقطة مسقطه وبين جدار الأساس خمسة أمتار بالقياس، ثم عمدنا على قبة التعميد وهي بناء آخر مستدير بجانب الكنيسة من الجهة الأخرى، وبينما نحن نتأمل في عجيب تركيبها وبديع هندامها وحسن نظامها وإتقان رسومها و… و… و… إلخ، وإذا بالدليل صَفَّقَ بيديه مرتين ثنتين فانزعجنا منهما انزعاجًا شديدًا لا يخطر على البال؛ إذ أعقبهما دوي ولا قصيف الرعود وهزيم أين منه فرقعة المدافع المتوالية في ساحة الوغى، حتى ظننا أن القيامة قامت، وأن الأرض زُلزلت زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها، وأن الجبال اندكت والسماء انفطرت (وا مؤتمراه … وا مؤتمراه …!) واستمر الصدى على هذا المدى عشر ثوانٍ، فعجبنا كل الإعجاب من هذا الصنع المحكم الذي لا يحاكيه صنع في العالم.
وقد كنا رأينا شيئًا مثل ذلك في كنيسة رومة من حيث تدبير الهواء في صلب البناء؛ إذ يقف الإنسان بجانب سارية من سواريها ويكلم صاحبه من خرق صغير فيها، فيسمع كلامه واضحًا ظاهرًا من خَرق آخر في السارية الثانية، أو أن يقف بجانب باب في أعلى القبة ويسمع صاحبه وهو يناجيه بجانب الباب المحاذي له على مسافة تقرب من المائتي متر، ولكن ذلك كله ليس شيئًا في جانب ما رأيناه في بيشة، ثم أخذ الدليل يوءوء ويوهوه على عادة الإفرنج في المغنى، والصدى يجيبه بأجمل أسلوب وألطف معنى.
ثم تفرجنا على قرافة المدينة ويدعونها (كاميوسانتو)؛ أي الميدان المقدس أو ما أشبه ذلك، فرأينا فيها رسومًا كثيرة بارزة ومجوفة، وقبورًا في صلب الحيطان وتحت الأقدام، ولكن ذلك ليس من الغرابة في شيء بل الغريب أن في وسطها مربعًا كبيرًا طينه كله مجلوب من أرض بيت المقدس (أورشليم) جلبته من الشام ٦٦ مركبًا من سفائنهم تبركًا بتلك الطينة الطيبة؛ ولكي يكون في بلدهم قطعة من الأرض المقدسة تخرج الأزهار والأعشاب الخاصة بتربتها في معدنها الأصلي، وقد دعاني الدليل لأخذ شيء من تلك الأزهار على سبيل التذكار.
وقد رأيت أيضًا بيعة صغيرة على حافة النهر لا يفصلها عن الماء شيء، وهي في غاية الإبداع والجمال مبنية بقطع صغيرة من المرمر المختلف الألوان على شكل مُعْجِب وأسلوب جميل، وأغرب ما فيها أن سقفها من الداخل يشبه السقوف المصرية العربية القديمة، من حيث التطعيم بالخشب والأبنوس والتلقيم بالصدف والعاج، ولكنه ليس كذلك بل كله من الحجر المركب مع بعضه على شكل الفص والفسيفساء، فله منظر جميل بهيج يزيد في محاسن المنتزه الكائن على الضفة الأخرى من النهر وهو في غاية الحسن.
وبودي أن أختم هذه الرسالة بذكر شيء من الجمال في بيشة، فلا شك عندي أنه كان أكبر شفيع لنوالها الحرية والأمان من ملوك تونس أيام كانت خاضعة لهم، ولا يمنعني من الإفاضة في هذا الموضوع سوى خوفي من أن تتطاول عليَّ ألسنة السوء، ولكني أقطعها وأستريح منها حتى لا تبقى لي بالمرصاد فيما ربما ينساق إليه الحديث في غير هذه المدينة؛ مما لا يرى الكاتب بُدًّا من ذكره من باب الإحاطة ليس إلا، فقد كان مروري عليها وقت الظهيرة وقت القيلولة وقت اشتداد الحرارة، ومع ذلك رأيت الغانيات الرائحات والغادات الغاديات المشوقات الممشوقات الهائفات المهفهفات ذوات القدود والخدود والصدور والنحور والخصور والشعور و… و… وغير ذلك مما ألقيه على الشعراء ذوي الوهم والخيال ليتكفلوا بشرح حقيقة الحال.