الرسالة السادسة
لم أبارح مدينة من إيطاليا وفي جوانحي من اللهف عليها والشغف بها مثل ما حصل لي في بيشة، حتى إن قلمي قد طغى عليَّ ويود أن لا يتكلم إلا عليها، ولم يكن في وسعي سوى مفارقتها ولساني يكرر على جناني ما في وطابه من قليل الأشعار الخاصة بالغزل والنسيب والغرام والتشبيب، ولكن أين ذلك كله مما كنت أشعر به. ومما زاد توجعي على مفارقة محاسنها وأحاسنها أن القطار صار يسير بين الجبال وعلى حافة البحر بالتمام، فبينما هو يجري تحت الجبل وفي ظلام حالك، إذ ترى نوافذ منقورة في الصخر الذي يحيط بك من الجهات الست ترسل النور إلى النَّفَق، والأمواج إلى جسر السكة، والطمأنينة والسكينة إلى الباخرة ومن فيها، فتتجدد فيها وفيهم عوامل القوة وتدب روح النشاط.
ثم استمر الأمر على هذا النهج؛ نخرج من نَفَق، وندخل في نَفَق، يوصلنا إلى ثالث، يتبعه آخر فآخر، وهكذا. والمسافة بين كل واحد والذي يليه قدر الدقيقة أو أقل. ترى الوابور يقترب فيها من الطود الشامخ اقترابًا شديدًا، حتى كأنه يستند عليه أو يأوي إليه ليعصمه من الانزلاق في بحر الروم، ولكنه متى دخل النفق عَجل السير واندفع بسرعة كأنه نجا من خطر لأقل منه أو لشجاعة أوجدتها فيه العادة بل … في المسافر الذي مر تحت كثير من الأنفاق فما بقي يعبأ بها أو يسأل عنها، فضلًا عن أن أرضها ممهدة مطمئنة، وليست منحدرة كما في جنوبي إيطاليا. والخلاصة أننا وصلنا جنوة ونزلنا بها لنتفرج عليها أولًا، ثم على مظاهر الاحتفال الذي سيقام بها إحياء لذكرى أحد بنيها، وهو المخلد الذكر كرستوف كولمب مكتشف قارة أمريكا.
أما منظرها ففي غاية البهجة والجمال، ولا أقول مثل كُتاب الإفرنج أو الذين حذو حَذوهم من أبناء العرب أنها على شكل نعل الفرس أو حِدوته، بل أقول إنها كالنون وجوفها هو جونها. ومتى خيم الليل ترى هذه النون ساطعة كالهلال، بل تتلاقى من طرفيها بأضواء السفائن الراسية فيها، فتكون كحلقة مفرغة قد مُلئت من الأنوار ثم أُلقي بها في تيار البحار، ولا يقرب من مشابهتها فيما أعلم سوى مدينة دمياط في أيام الزينة والمواسم الكبيرة.
ولما أصبح الصباح نَزلنا من نُزُلنا واتخذنا دليلًا لنا (من الشبان)، فشاهدنا عظمة المعدات وجمال الاحتفال الذي سيكون لمن جعل العالم توأمين، وبُلِّغنا أن الأسطول البريطاني بعد أن رسا قبل غيره على مقربة من المدينة أقلع على نية الرجوع قبل الأجل المضروب، ولم يكن في المينا سوى ثلاث مراكب طليانية وواحدة هولاندية، فوطَّنا النفس على زيارتها في عصر النهار.
ثم طفنا المدينة صاعدين هابطين وشاهدنا حصونها وأبراجها وآثارها ومفاخرها، ثم دخلنا دار البلدية فأنستنا نظيرتها في الإسكندرية، فإن كل غرفة من غرفها وكل قاعة من قاعاتها مفروشة بالأثاث الفاخر، ومزينة بالنقوش الأصلية البالغة في الإتقان، وفيها من التماثيل والرسوم والأبسطة والستائر والموائد والمعدات ما يجعلها أشبه بديار التحف منها بديار الإدارة والسياسة، ورأيت في إحدى قاعاتها تمثال كرستوف كولمب، وتحت التمثال صندوق من المرمر مغلق منيع فيه كتابات الرجل ورسائله التي كتبها بخط يده؛ لكنهم لأجل أن لا يحرموا الناس من مشاهدتها وقراءتها أخذوا صورتها بالفوتوغراف، وعرضوها على الأنظار تحت ألواح من الزجاج، ثم إنك ترى صور وقائعه وأسفاره واكتشافاته وكل ما قاساه في آخر أيامه مصورًا محفوظًا فيها، بحيث إنك بمجرد الاطلاع عليها تعرف تاريخه وماجربانه عن ظهر قلب.
وفي دار البلدية المذكورة غير ذلك من تماثيل العظماء مما لا أرى حاجة للكلام عليه الآن. غير أني أقول إن القصر الفاخر الذي هي فيه كان ملكًا لإحدى العائلات الكبيرة فتنازلت عنه لها، وعلى ذكر ذلك أقول أيضًا إن أعظم منتزه في وسط البلد كان لعائلة غنية أخرى، فتنازلت عنه للبلدية، وهي جعلته منتزهًا للعامة، ومربى لبعض الأطيار الغريبة والأزهار النادرة، ومتحفًا للتاريخ الطبيعي، ولقد بلغني أن إحدى السيدات تبرعت للمدينة أيام حروبها بمبلغ يوازي ٢٠٠٠٠٠ فرنك لتعزيز الحصون وتقوية القلاع والمحافظة على أكبر أبواب المدينة، فأقامت لها البلدية بعد موتها التماثيل والأنصاب إقرارًا بفضلها على وطنها وإشهارًا لحبها لقومها، وعلى ذكر ذلك أقول وأقول وأعيد وأعيد ما ستراه مفصلًا في الرحلة، وإن غدًا لناظِره قريب.
غير أني أسألُك كلمة واحدة، ثم أنتقل من هذا الموضوع، وذلك أني قرأت تواريخ بلادي، ووقفت على وقائع قومي، وتحسرت لمَّا رأيت أني لا أتذكر شيئًا يشبه ذلك أو يقرب منه، فإن كان على بالك أمر من هذا القبيل أو أقل منه بقليل، فإني أُناشدك الوطنية ألا ما أتحفتني به لتزول عني الغُصَّة؛ وليكون في تذكير القوم به أعظم أُسوة.
فأظهر الاقتناع ثم قال لي: سَلمنا بذلك لرفيقك فإن شكله شرقي قح، وأما أنت فإنك بالملابس الأوروبية، وحيث إنك قد اخترت ملبوس الإفرنج على ملبوس بلدك فاقتدِ بالإفرنج في نزع القبعة. قلت له: كلا، فهذا هو الشكل الرسمي في بلادنا، وهذا الذي على رأسي ليس بقبعة، وقد زرنا قبل الآن كثيرًا من الكنائس، وأهمها كنيسة مار بطرس برومة، فحيَّانا رهبانها، وأكرموا مثوانا، وكلمونا بالعربية، وأطلعونا على ذخائرهم ونفائسها، وفرجونا على الأعمدة الرخامية التي أرسلها إليها ساكن الجنان أفندينا محمد علي باشا حينما احترقت وساعد ملوك الأرض على إقامتها. وحينئذ اقتنع تمامًا، وقال للحارس يطلعنا على ما عندهم من الذخائر القديمة الصحيحة من سلاسل وأخشاب وغير ذلك مما لا يحتمل المقام تفصيله.
ثم خرجت من الكنيسة وفي نفسي غُصة من ملبوسي هذا الذي ترتب على اتخاذه في بلادنا إماتة كثير من صنائعنا وصُناعنا وإحياء بعض صناعات الإفرنج السريعة العطب، ومساعدة التجارة الأجنبية على انتزاف ما بقي لنا من قليل الثروة، فضلًا عن أن الحذاء الإفرنجي يوجب في الأرجل سِقامًا قد تكون سببًا في نكد العيش ومرارة الحياة، أما البنطلون المحزق، والصديري المضيق، والسترة أو الجكته أو الساك والردنجوت أو السموكن أو الفراك، والقميص المكوي، ورباط الرقبة الملوي، وغير ذلك من الأزياء والأنواع فإنها ليست موافقة لطبيعة الإقليم في بلادنا بالمرة، وأما الطربوش فليس فيه من مزية سوى حبس الهواء فوق المخ، وعدم تمكينه من الخروج لاحتباك أطرافه على الرأس، فهو أجود وأنفع في البلاد الباردة وليس وراءه إلا الضرر في البلاد الحارة، وأما العمامة، وخصوصًا إذا كانت مقرونة بالعَذَبة، فإنها مفيدة جدًّا للصحة تمنع تأثير الشمس وأوارها عن الوجه وعما يحاذيه من الخلف، خصوصًا وأن البياض أوفق الملابس في البلاد الحارة، ومن جهة أخرى فإن عرب مراكش لا يزالون إلى الآن (وهم على ما هم عليه من التمسك بالإسلام) يلبسون على ما بلغني شيئًا شبيهًا بالقبعة له حواف تمنع وهج الشمس عن الوجه وعن نقيضه.
هذه ملحوظات عَنت لي إثر دخولي الكنيسة، وقد كان شيء شبيه بها دار في رأسي حينما رأيت أن الملبوس الشرقي أجلب للأنظار (كما وقع في نابولي وغيرها)، فكنت أودُّ أن أكون مُشاكلًا لرفيقي بعمامة وقُفطان وجُبَّة مرخاة الأردان، ولا أبقى على هذا الحالة التي اختارها أهل بلادنا، فكانوا أشبه بالغراب أراد أن يتشبه بمشية طائر جميل (هو الطاووس أو غيره)، فلم يتمكن من التقليد ونسي سَيره القديم.
لكن الطربوش — والحق يقال — جعل لي في أوروبا مزايا كثيرة، منها: أن القوم كانوا يفسحون لي في كل مكان، وإذا أقبلت على حانوت قابلوني بالبشاشة والإكرام، ولا بد أن يكون السبب في ذلك أن بعض أغنيائنا وكبرائنا يتوجهون بشكل مثل شكلي، وينفقون الدرهم والدينار من غير حساب، يأخذون ما حَصلوا عليه في بلادهم بأية الوسائط، وينفقونه في أوروبا من غير فائدة لهم ولا لأوطانهم، بل في قضاء أوطار باطلة وخلاعات زائلة تبقى بعدها حسرات متواصلة، والشواهد أكثر من أن تعد.
وإني لا أشكرهم مطلقًا على كونهم جعلوا أهل التجارة يرحبون بي، ويوسعون لي مقامًا محمودًا، بل كان أولى لهم ثم أولى لهم أن يتخيروا الصرف في نفس بلادهم بما هو أفضل لهم وأجدى لوطنهم، كما رأينا في مدائن أوروبا. هذا موضوع يدوخ منه رأس الكاتب والقارئ، فأتركه لغيري وأريح منه نفسي.
ولما كانت مدينة جِنوة متفردة على غيرها باصطناع الشفتشي، توجهنا إلى أحد المعامل ورأينا كيفية الاصطناع من أولها إلى آخرها، من أخذ الفضة وهي كتلة قاتمة، واصطناعها أسلاكًا مختلفة في الحجم تتراكب مع بعضها بجميع الأشكال مما يندهش له العقل، خصوصًا وأن القائمين بها أطفال وطفلات تحت إدارة معلمين ومعلمات، وسأكتب عليها بالتفصيل عند التيسير.
ولما خرجنا من المعمل تلاقينا بغتة برجل لابس طربوشًا، فوقف ووقفنا، ثم تبادرنا التحية بالعربية، وحصل لنا برؤيته فرح كثير؛ إذ لم نصادف أحدًا من أبناء الشرق من يوم خروجنا من الإسكندرية إلى ٢٥ أغسطس يوم وجودنا بجِنوة. ثم عرفنا أنه السيد محمد بن عبد الغني وكيل سلطان مراكش في إيطاليا، وأراد أن يستضيفنا فاعتذرنا؛ لأن الوقت لا يساعدنا. وبعد ذلك أردنا أن نزور السفائن البحرية، فأخذنا زورقًا كانت الأمواج تصده والتيار يمنعه، إلى أن أقررنا بوجوب الرجوع، وسلينا النفس بأننا سنجد في إنجلترا ما هو أعظم وأكمل، وكل الصيد في جوف الفرا.