العصور والحركات الأدبية
الأدب والشخصية القومية
ليس مجرد لعب بالخيال أو نزوة منفصلة لعقل متحمس، ولكنه نسخة من العادات والتقاليد المعاصرة وعلامة على حالة معينة للفكر. والاستنتاج المستمد من ذلك أنه من خلال الآثار الأدبية يمكننا تتبع شعور الناس وفكرهم منذ عدة قرون.
شكَّلت البنية السردية لتين دراسة التاريخ الأدبي الإنجليزي لمائة عام، وقد بدأ بالساكسونيين والنورمان ثم فترة تشوسر التي أصبحتْ فيها اللغة الإنجليزية الوسط الأدبي المهيمن للمرة الأولى. أما القسم الثاني فكان يطلق عليه «النهضة»، معطيًا أهمية للتأثيرات التي أدركها هازليت في العصر الإليزابيثي.
ثم أتى «العصر الكلاسيكي» الذي بدأ بعصر الاستعادة عام ١٦٦٠. وأكَّد تين أن ثمة تعايشًا بين انتقال السلطة الفاصل من الملكية إلى البرلمان الذي افتتحتْه الثورة المجيدة التي قامت عام ١٦٨٨ وظهور «إمبراطورية ذات روح تأملية وأخلاقية جادة، قادرة على النظام والاستقلال، يمكنها وحدها الحفاظ على الدستور ووضعه موضع التنفيذ» في العادات وفي الأدب. ورغم أن كلمة «إمبراطورية» توحي برؤية وطنية موحدة، فقد كان تين شديد الانتباه للخلاف السياسي؛ حيث أكد على التناقض المستمر بين جوناثان سويفت المعذَّب الذي ينتمي لحزب المحافظين وجوزيف أديسون الهادئ الذي ينتمي لحزب الأحرار، مشيرًا إلى أن إنجلترا قد أصبحتْ دولة حديثة وحققتْ مكانتها السياسية والأخلاقية بفضل الطريقة التي دعمتْ بها ثقافتها الأدبية روح الجدال بينهما، وبهذا التفسير، فإن الديمقراطية هي فن الخلاف المتحضر.
أما القسم الرابع من كتاب تين، فيُطلَق عليه «الحياة الحديثة»، وهو يهتم ﺑ «المدرسة الرومانسية» منتقيًا لورد بايرون بوصفه «أعظم هؤلاء الفنانين وأكثرهم إنجليزية … عظيمًا حتى إننا نعلم منه وحدَه حقائق عن بلاده وعصره أكثر مما نعلمها من الآخرين جميعًا.» وخاصة في ملحمته الساخرة «دون خوان» (١٨١٩–١٨٢٤) التي يصفها تين بأنها «حوار» و«مناجاة»، يُعدُّ بايرون «مَعِينًا إبداعيًّا خصبًا لا ينضب» معبرًا عن كل عاطفة وكل فكرة محتملة، حتى وهو يفترسه «داء العصر» وهو الشعور بأن السعادة متعذرة والحقيقة بعيدة المنال والمجتمع ظالم و«الإنسان مخفق أو مشوَّه.» ويختتم تين الكتاب بإلقاء نظرة على «المؤلفين العصريين» الذين كانوا لا يزالون على قيد الحياة أثناء قيامه بالكتابة، مُصدِرًا حكمًا نافذ البصيرة بأن الرواية سوف تصبح النوع الأدبي الذي سوف يشكل العصر الفيكتوري، والممثل الأول له هو تشارلز ديكنز.
تقسيم العصور الأدبية
وضع السرد لدى تين الأساس لتقسيم العصور الذي سيطر على التاريخ الأدبي الإنجليزي منذ ذلك الحين: عصر الأنجلوساكسونيين، وعصر القرون الوسطى من عام ١٠٦٦ وحتى مطلع القرن السادس عشر، وعصر النهضة الذي يُطلَق عليه الآن أحيانًا العصر «الحديث المبكر» والذي يمتد من عصر الإصلاح الديني وحتى عصر الاستعادة، والعصر «الكلاسيكي» الذي يمتد من ستينيات القرن السابع عشر وحتى ثمانينيات القرن الثامن عشر، وغالبًا ما يشار إليه بعصر التنوير (إشارة إلى الاتجاه الفلسفي لتلك العصور) أو العصر الأغسطي (نظرًا للطريقة التي كان كبار الكُتَّاب مثل ألكسندر بوب يقارنون بها ثقافتهم بالثقافة الرومانية القديمة بقيادة الإمبراطور أغسطس)، والرومانسية التي تمتد من الثورة الفرنسية حتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، والعصر الفيكتوري، وبعد تين ظهرت الحداثة في مطلع القرن العشرين.
ثمة مجادلات عديدة بشأن الوقت الذي بدأت فيه بالضبط كل حركة أدبية، فهل بشَّرت بالرومانسية العبقرية الشابة لتوماس تشاترتون أم «إحساس» ويليام كوبر أم «القصائد الرثائية» (١٧٨٤) لشارلوت سميث؟ الحداثة التي تنبَّأ بها إيقاع جيرارد مانلي هوبكينز أم التأثرية الحضرية لآمي ليفي وآرثر سيمونز؟ ولكن لا شك أنه في فترات عديدة في التاريخ الأدبي كانت ثمة محاولات منسقة من أجل «التجديد» (عبارة عزرا باوند). وأعلن نقاد العصر الإليزابيثي مثل ويليام ويب وجورج باتنام انتصار اللغة الإنجليزية على اللاتينية، وآمن جون درايدن ومعاصروه بأنهم بصدد تحديث تلك اللغة وتقديم نوع جديد من البساطة والدقة والوضوح للشعر الإنجليزي، وآمن مفكرو العصر الفيكتوري مثل توماس كارلايل وماثيو أرنولد وجون راسكين بأن الأدب أداة قوية على نحو منقطع النظير لقراءة رموز عصرهم وتفسير «مسيرة التقدم» وتعلم كيفية التعايش معها من ناحية، وهي تلك المسيرة التي تتكون من التمدن والتصنيع والسكك الحديدية والباعة الجائلين والإمبراطورية من ناحية، وتفسير الهدير الكئيب الطويل المرتد ﻟ «بحر الإيمان» (أرنولد، «شاطئ دوفر») وهو يتراجع على رمال نقد الإنجيل وعلم التطور ومذهب الشك الحديث.
في قصيدة تحمل عنوان «ثلاث حركات» (نُشِرت عام ١٩٣٢) حدد دبليو بي ييتس الآفاق الممتدة لعصر شكسبير والتعبير الذاتي عن الثورة الرومانسية وصدمته الخاصة بعصره بوصفها نقاط التحول الكبرى في التاريخ الثقافي والأدبي؛ فالنهضة والرومانسية والحداثة هي أكثر ثلاث حركات دُرستْ واعتُبرت غالبًا أزهى الفترات وأنجحها في تيار الأدب الإنجليزي. وفي كل لحظة تاريخية ساهمت مجموعات من الكُتَّاب الذين كانوا غالبًا ما يعرف بعضهم بعضًا في توسيع آفاق كل أنواع الأدب الإنجليزي تقريبًا: سيدني وسبنسر ومارلو وشكسبير وجونسون ودون وهربرت وميدلتون ومارستون وويبستر ثم ميلتون ومارفل أثناء عصر النهضة في أواخر القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، وبليك وويليام ودوروثي وردزوورث وكولريدج وشارلوت سميث وسكوت وبايرون وبيرسي وماري شيلي وكيتس وكلير أثناء الثورة الرومانسية في أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وإليوت وباوند وييتس وجويس وفورد مادوكس فورد ودوروثي ريتشاردسون وويندام لويس ووولف ودي إتش وتي إي لورنس وووه وأُلدوس هاكسلي وآخرون خلال الأعوام من ١٩١٠ حتى نشوب الحرب العالمية الثانية. ولكن الأسماء مثل النهضة والرومانسية والحداثة كانت تضاف بعد الحدث، لا عن طريق مخترعيها أنفسهم.
النهضة
في نهاية حكمه [هنري الثامن] ظهرتْ مجموعة جديدة من مبتكري الكياسة كان السير توماس وايت الأكبر وهنري (إيرل سري) يتزعمانهم؛ حيث سافرا عبر إيطاليا وتذوَّقا هناك الأسلوب والموازين العذبة الفخمة للشعر الإيطالي. ومع خروج المبتدئين من مدارس دانتي وأريوستو وبترارك، فقد صقلوا على نحو عظيم أسلوب الشعر العامي البسيط الخام عما كان عليه من قبل، ولهذا السبب يمكننا القول حقًّا إنهم المصلحون الأوائل للأسلوب الإنجليزي وبُحوره.
وتُنتزع هنا كلمة «المصلحون» من أصولها الكنسية وتخضع للتاريخ الأدبي، ويكشف التأكيد على الإصلاح عن المذهب الكامن خلف علم الجمال الأدبي الجديد الذي طوَّره باتنام؛ فقد أدَّى الانفصال عن روما إلى إيجاد حاجة مُلِحَّة لتزييف هوية ثقافية قومية.
ومن سبنسر إلى ميلتون إلى مارفل صيغ معظم أفضل ما كُتب في الشعر في ذلك العصر عن طريق التصادم الإبداعي بين قيم «النهضة» (الكلاسيكية الوثنية) و«الإصلاح» (الإنجيلي البروتستانتي). وقد شحذ جون ميلتون فنه في مسرحية موسيقية للطبقة الأرستقراطية في قلعة لادلو أصبحت تُعرف باسم «كوموس» (١٦٣٧): فهو يسترسل في غنائية شكسبير والأساطير الكلاسيكية، وفي الوقت ذاته يوجِّه لَكْمةً أخلاقية، وهو مزيج أصبح السمة المميزة لميلتون. وتعد «ليسيداس» (١٦٣٨)، وهي المرثية التي كتبها في طالبٍ زميل في جامعة كامبريدج كان يعرفه بالكاد، محاكاة عبقرية لمسرحية رعوية كلاسيكية («لا تبكوا ثانية أيها الرعاة المحزونون، لا تبكوا ثانية»)، ويوجِّه في الوقت ذاته هجومًا على رجال الدين الإنجليز. وقد تشبَّعت «الفردوس المفقود»، وهي قمة الملاحم الإنجليزية، على حدٍّ سواء بكتابات فرجيل وأوفيد من ناحية وبالإنجيل ودراسة ميلتون حول العقيدة المسيحية من ناحية أخرى.
وعلى غرار سبنسر من قبله كان ميلتون ذا موقف شديد الالتباس من الفن الإبداعي، وكما أهدى سبنسر بعضًا من أكثر أشعاره الحسية إلى المرأة المغوية في عش الحب الذي يدمره السير جيون بعنف، فإن ميلتون الشاعر يضع على لسان الشيطان وحواء كلمات مغوية يعلَم ميلتون العالِم باللاهوت أنها خطرة. وقد شكَّلت «الفردوس المفقود» الذوق الشعري الرفيع في القرن الثامن عشر وساهمت في تحركه بعيدًا عن القافية نحو الشعر الحر، ولكنها أيضًا شكَّلت رد الفعل ضد احتشام القرن الثامن عشر. ولم يُعجَب الشعراء الذين أصبح يُطلَق عليهم الرومانسيون لدرجة الهوس بأسلوب ميلتون العظيم فحسب، بل أيضًا بشخصية الشيطان الساحرة وبصورة ميلتون بوصفه «شاعرًا حقيقيًّا ينتمي لحزب الشيطان دون أن يدري.» ومن النهضة إلى الرومانسية؛ شاعر ظُنَّ أنه يُوحَى إليه من الروح القدس وأصبح مُلهِمًا للشعراء الذين كانوا يظنون أنهم ملهمون من نسيم الإبداع الخالص.
الرومانسية
ظهرت الرومانسية في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر كردِّ فِعْل ضد هيمنة الثقافة الفرنسية الكلاسيكية الحديثة، وعبر القارة ألزم الشعراء أنفسهم بالإطاحة بالنظام الثقافي القديم حتى وهُم مترددون في رد فعلهم نحو الثورة السياسية التي بدأت في فرنسا عام ١٧٨٩. وضع جان جاك روسو بعض الأسس الفكرية للثورة الفرنسية، ولكن تراثه الأكثر تميزًا يتمثل في الإعجاب الشديد بالإحساس. وبعد روسو أصبح مقبولًا حتى بالنسبة للرجل الإنجليزي أن يبكي، وتم التخلص من الشعور المستعارة وأصبحت الأثواب النسائية تتخذ شكل الجسد، ويزعم أن رواية جوته العاطفية «آلام فرتر الصغير» (١٧٧٤) التي وصفها ألف دبليو فون شليجل على نحو رائع بأنها إعلان عن حقوق المشاعر قد تسببت في موجة من حالات الانتحار تقليدًا لها. كانت العاطفة هي المسيطرة في ذلك الوقت.
عام ١٧٩٨ صدر عن دار نشر قروية مغمورة مجلد صغير من الشعر بلا اسم مؤلف على الغلاف يحمل العنوان البسيط «قصائد غنائية وبعض القصائد الأخرى»، وبعد ذلك بعشرين عامًا أدرك الناس أنه نقطة اشتعال الثورة الرومانسية في الأدب الإنجليزي. ويتذكر ويليام هازليت عام ١٧٩٨ بوصفه حقبة مهمة في حياته، ففي مقال قوي بعنوان «معرفتي الأولى بالشعراء» تذكر شرف مقابلة مؤلفَيِ المجموعة ويليام وردزوورث وصامويل تايلور كولريدج اللذين كانا لا يزالان مغمورَيْن وألقيا بعض القصائد، ويتذكر هازليت قائلًا: «أحسستُ بأسلوب جديد وروح جديدة في الشعر، وكان تأثير ذلك عليَّ مشابهًا لتقليب التربة الخصبة أو أول نسائم الربيع التي يُستبشَر منها بقدومه.»
لم تشارك المؤسسةُ الأدبية هازليت حماسَه؛ حيث كان استقبال «قصائد غنائية» في بداية الأمر فاترًا وأصيب وردزوورث بالإحباط، فلم يفهم الآخرون مقاصده. وهكذا ففي عام ١٨٠٠ عندما أعيد إصدار المجموعة مع إضافة مجلد ثانٍ يضم شعراءَ جددًا، كَتَب مقدمة طويلة كانت بيانه الرسمي للإعلان عن شعر الوجدان الجديد، وأوضح أن هدفه في القصائد هو اكتشاف «الطريقة التي نربط بها بين الأفكار في حالة الانفعال» وكيف يتصرف الإنسان في أوقات الضغط الوجداني الشديد. وقد سعى تحديدًا إلى التعبير عن بعض العواطف الأساسية التي أهملها كثيرًا الشعرُ المهذب والمصقول في القرن الماضي، كعاطفة الأمومة على سبيل المثال، وهي موضوع «الفتى الأحمق» و«الأم المجنونة»، أو «الارتباك والغموض اللذين يلازمان فكرتنا عن الموت في مرحلة الطفولة، أو بالأحرى عجزنا التام عن قبول تلك الفكرة والاعتراف بها»، وهي فكرة نُقلت ببراعة في قصيدة «نحن سبعة» التي يواجه فيها شابٌّ بالغ فتاةً صغيرة تنتمي لعائلة مكونة من سبعة أطفال تُوُفي منهم اثنان. فبالنسبة إلى البالغ الذي يعرف إجراء الحسابات «إذا كان اثنان يرقدان في مدفن الكنيسة/فأنتم إذن خمسة فقط.» ولكن بالنسبة إلى الطفلة التي تجلس وتغني لشقيقيها اللذين يرقدان في القبر لا يوجد اعتراف بالموت: «كلا، إننا سبعة!» فقد رأى وردزوورث أن الجمع بين الأمومة والأطفال والموت يعني فتح بوابة سَدٍّ يتدفق منه شلال من المشاعر، وأن القيام بذلك سوف يُعيد الشعر إلى مصدره الأصلي، فهو يقول في الجملة الأشهر في المقدمة: «كل الأشعار الجميلة عبارة عن تدفق تلقائي للمشاعر القوية.»
كان هدف وردزوورث استئصال كل مظاهر «الزيف في الوصف» وتجنُّب «الأسلوب الشعري» الرسمي الذي يتمثل في نزعة أشعار القرن الثامن عشر نحو تحويل «السمك» إلى «القبيلة ذات الزعانف»؛ حيث أعلن وردزوورث أن لغة الشعر الجيد لا تختلف عن لغة النثر الجيد؛ فالأسلوب المبهرج والصور البلاغية المرتبطة عادةً بالشعر تخنق ما أطلق عليه جون كيتس في أحد تأملاته العميقة عن الإبداع، المكتوبة على هيئة رسائل «الصوت الحقيقي للشعور».
كتب وردزوورث في مقدمته قائلًا: «حاولت دائمًا أن ألقي نظرة متمعنة على موضوعي.» وما اكتشفه من النظرة المتمعنة في الموت والفقد والألم أن الصدق يستوجب البساطة. ومن أكثر القصائد إثارة للعواطف على نحو مميز في ديوان «قصائد غنائية» الذي صدر عام ١٧٩٨ قصيدة «الفتى الأحمق»، ولا بد أنها أول قصيدة في كل اللغات تتناول حالة طفل مصاب بمتلازمة داون، وهي مؤثِّرة وطريفة وبها مسْحة من الطهارة القدسية والتُّقَى في الوقت ذاته، وهي تتحدث عن النعمة الخاصة التي تحل على الأطفال المعاقين ومَن يعتنون بهم، وكانت سمة الصدق الاستثنائية التي تتميز بها جديدة على الشعر.
تَستحضِر كلمة «الرومانسية» في الأذهان صورةَ الفنان وحيدًا في عُلِّيَّة منزله وهو يكتب في نوبة من الإلهام كما توحي صورة في مذكرات الملحن هكتور برليوز: «كنتُ أُنهي مقطوعتي الموسيقية عندما اندلعت الثورة … فكتبتُ على عَجَلٍ الصفحات الأخيرة في المقطوعة الأوركسترالية على أصوات طلقات الرصاص الطائشة … وهي تدوِّي بسرعة على الحائط الذي يقع خارج نافذتي.» فمن ناحية تُعرف الرومانسية بالعزلة، ومن ناحية أخرى بخلفية من الاضطراب السياسي. وعندما انتهى برليوز من مقطوعته الموسيقية خرج كي ينضم إلى الحشد الثوري، ولكنه بطريقة ما لا يُعتبر واحدًا من ذلك الحشد.
ذات لحظة، كان وردزوورث يهيم على وجهه «وحيدًا كسحابة» بينما أزهار النرجس تتمايل في الرياح بجوار بحيرة أولزووتر، وفي اللحظة التالية يوجد في باريس في قلب العاصفة الثورية العصيبة مُعْرِبًا عن مدى السعادة الذي يشعر به لكونه «حيًّا في ذلك الفجر». ولكن العزلة الرومانسية كانت غالبًا وهمًا أو أداة شعرية، فلم يتجول وردزوورث وحيدًا بل اصطحبتْه شقيقته دوروثي وكانت هي مَنْ لاحظتْ حركة أزهار النرجس. كتب وردزوورث قصيدته مستعيدًا الأحداث من خلال ما أطلق عليه في عبارة مفتاحية أخرى في مقدمة «قصائد غنائية»: «العاطفة التي يستحضرها المرء في هدوء»، وكانت مستوحاة من يوميات شقيقته بقدْر ما كانت مستوحاة من النزهة الأصلية.
كان الشعر الرومانسي الإنجليزي ظاهرة تعاونية إلى حدٍّ بعيد؛ حيث ارتبطت موجته الأولى في التسعينيات من القرن الثامن عشر ﺑ «مدرسة شعراء البحيرة» (وردزوورث وكولريدج وروبرت ساوثي)، وارتبطت الموجة الثانية أثناء عصر الوصاية ﺑ «المدرسة الشيطانية» (لورد بايرون وآل شيلي) و«المدرسة العامية الكونكية» (كيتس ولي هانت وويليام هازليت وتشارلز لامب). ورغم الطابع العدائي لتلك المسميات التي أطلقها النقاد المحافظون، فقد كان ثمة حس المسعى الجماعي يسري ضمن الفصائل المختلفة؛ حيث كُتِبت العديد من البيانات الرئيسة للشعر الجديد مثل «قصائد غنائية» ومجموعة مقالات هازليت ولي هانت بعنوان «المائدة المستديرة» (١٨١٧) على نحو مشترك، وكانت ماري شيلي تنقِّح قصائد زوجها بيرسي وتحررها للنشر، وكتب هو مقدمة روايتها «فرانكنشتاين»، وكانت بعض أعظم الأعمال الفردية نتاجَ حوارٍ إبداعي؛ فقصيدة وردزوورث الملحمية التي تتناول سيرته الذاتية والتي نُشِرت بعدَ وفاته بعنوان «المقدمة» (نُشِرت عام ١٨٥٠) كانت تأملًا يخاطب به كولريدج، وساهم وردزوورث بدوره في مقطع شعري جوهري في أشهر قصائد كولريدج «البحَّار العجوز». وحتى جون كلير «الشاعر الفلاح من نورثامبتونشير»، وهو شخص يبدو منعزلًا، كان يعتمد على أصدقائه الأوفر حظًّا من التعليم كي يساعدوه في تهذيب أعماله.
الحداثة
ثورة في الأسلوب الشعري ومحاولة أدبية جماعية تتلخص أهدافها في سلسلة من البيانات الرسمية؛ وكانت تلك أيضًا خصائص ثورة «الحداثة» في مطلع القرن العشرين.
في خريف ١٩١٢ قابل الشاعر الأمريكي عزرا باوند خطيبته السابقة هيلدا دوليتل والكاتب الإنجليزي الشاب ريتشارد أُلدينجتون في مقهى المتحف البريطاني، وكان ثلاثتهم متحمسين لتجريد الشعر الإنجليزي من الإفراط في الزخارف التي استغرقتْ فيها الرومانسية الحديثة، ووجدوا نماذج جديدة في الشعر الغنائي الصيني والياباني والإغريقي القديم وفي نموذج الشعر الرمزي الفرنسي الحديث الذي دافع عنه في مقال قوي عضو آخر من نفس الدائرة، وهو إف إس فلينت ابن الطبقة العاملة الذي علَّم نفسه بنفسه والذي أشاد بمزايا الشعر الحر والصور البلاغية المكثفة.
كان باوند يمثل مجلة «الشعر» التي تصدر في شيكاجو؛ حيث قرأ بعض القصائد الغنائية الإغريقية الحديثة المتميزة التي كتبتْها دوليتل ووقَّعتْها باسم «إتش دي، من أتباع المذهب التصويري» (الأحرف الأولى المختصرة هي نفسها رمز التبسيطية التصويرية) وأرسلتْها إلى هارييت مونرو المحررة بشيكاجو، وسرعان ما طبعتْ أمثلة من أعمال كلٍّ من هيلدا دوليتل وأُلدينجتون في مجلة «الشعر». وضم عدد أبريل ١٩١٣ قصيدة باوند التي تحمل عنوان «في محطة المترو» التي تضم في سطريها مسحة من الفن الياباني وأشباح العالم السفلي التقليدي والمتردد يوميًّا على المدينة الحديثة، وعناصر الصورة متباعدة في الصفحة في إشارة إلى الرموز المصورة الصينية:
- (١)
معالجة مباشرة «للمسألة» سواء أكانت شخصية أم موضوعية.
- (٢)
عدم استخدام أية كلمة لا تضيف شيئًا إلى العرض.
- (٣)
فيما يتعلق بالإيقاع: التأليف طبقًا لتسلسل الجمل الموسيقية لا طبقًا لتسلسل ضابط الإيقاع.
إنها تمثيل لشيء مركَّب لحظيًّا يعطيك ذلك الشعور بالتحرر المفاجئ، ذلك الشعور بالحرية من قيود الزمان والمكان، ذلك الشعور بالنمو المفاجئ الذي نمر به أمام أعظم الأعمال الأدبية. ومن الأفضل تقديم صورة واحدة في العمر عن كتابة أعمال ضخمة.
التمزق والانكسار والإخلال بالتتابع الزمني والتجرد من مظاهر الاحتشام والإسهاب القديمة: تعاظمت تلك العلامات المميزة للعصر الحديث بسبب الحرب العالمية الأولى التي أَلْقتْ بظلالها على كل ما كُتب في العشرينيات من القرن العشرين تقريبًا. وتعد قصيدة تي إس إليوت «الأرض الخراب» (١٩٢٢)، وهي النص المحوري في ذخائر الشعر الحديث والتي راجع مُسَوَّدتها باوند، حشدًا كبيرًا من الصور الضعيفة أو مجموعة من الشظايا التي تستند على حطام عالَم ما بعد الحرب، أو لغطًا من الأصوات يعبر بطريقة مسرحية عن الانهيار العصبي الذي يعيشه شاعر وعصر. ولكنها أيضًا محاولة من التقدير للتراث العريق من الشعر الغربي كُتِبت طبقًا للقاعدة التي وضعها باوند: «يمكنك أن تتأثر بأي عدد من الفنانين العظماء كما تحب، ولكن عليك أن تتحلى بالأدب اللازم إما للاعتراف صراحة بأنك مَدِين لهم أو لمحاولة إخفاء ذلك التأثر.»
فثمة بعض العذر للقارئ العادي والناقد التقليدي؛ اللذين يتخوفان من أي شيء يطلق عليه وصف «حديث»؛ سواء بالاستهجان أو الاستحسان. مَنْ أو ما هو الجونجولا؟ هل هو اسم شخص؟ أم مدينة؟ أم آلة موسيقية؟ أم كلمة عتيقة خاصة بعلم النبات بمعنى «البذور»؟ أم هو خطأ إملائي في اسم جونجورا الشاعر الإسباني الذي استُمِد من اسمه أسلوب «الجونجورية» الذي يعني «أناقة متكلفة في الأسلوب» ويطلق عليه أيضًا «الأسلوب التعظيمي»؟ ولمَ «البردي»؟ … وبدلًا من أن يجيب المنطق السليم عن أيٍّ من تلك التساؤلات، ويندفع إلى الخداع المكسُوِّ بالخزي المتمثل في المبالغة في تعظيم الشيء، فإنه ينسحب إلى أرض أكثر صلابة.
عارض أتباع المذهب التصويري خصوبة الشعر الرومانسي الحديث الذي يغلب عليه الطابع الريفي في عصر الملك جورج، وعارضهم جريفز ورايدينج بدوريهما، وصرح جريفز تحديدًا بالولاء — بدلًا من ذلك — لتراث من العواطف الإنجليزية الصادقة التي تتمثل في شعر توماس هاردي. أما فيما يتعلق بما تبقَّى من القرن العشرين، فقد انخرط الشعر الإنجليزي في معركة بين «صوت الشعور الحقيقي» لهاردي والالتزام الحديث نحو الصعوبة والتجريب.