الفصل الثالث

المشهد الأول

مكسيم، أوفورب
مكسيم : لقد باح لي بكل شيء. كلاهما محب وحبيب. هو يهيم باميليا وهى هائمة به. ولكن لا مطمع له فيها إذا لم ينتقم لأبيها، فهو في سبيل الفوز بها ورطنا في الائتمار.
أوفورب : إذن، فلا يدهشني هذا الجهد الذي يبذله في إكراه أغسطس على الاحتفاظ بالسلطان. ولو نزل قيصر عن أريكته لانحلت العصبة وانقلب المتآمرون أصدقاء له.
مكسيم : إنهم لا يبقون ولا يذرون في خدمتهم شهوة رجل يعمل لنفسه وهو يورَّي١ بالعمل لروما، وكان من مصابي المنقطع النظير أن أنخدع فأتوهم أنني أخدم روما وما أخدم إلا منافسي في هوى اميليا.
أوفورب : أأنت منافسه في هواها؟
مكسيم : نعم. أحب التي يحبها. وطالما بالغت في كتمان شغفي بها، رجاء أن أوفق إلى عمل مجيد أكسبها به قبل أن أبوح بغرامي المكنون، ولكني ما لبثت أن رأيته ينتزعها مني بيدي. ففي قضاء وطره بواري٢ وأنا معينه على هذا الوطر. أدنّي له الفوز وفيه حتفي، وأعيره ساعدي لينحرني به. فما أشد تلك الصداقة نقمةً عليّ.
أوفروب : المخرج ميسور: اعمل لنفسك وتحاش الضربة القاضية بترك ممالأته على مأربه، وباتهام منافسك لتربح عشيقتك. بذلك تنقذ حياة أغسطس، فلا يأبى عليك الزواج من اميليا.
مكسيم : ماذا؟ أأخون صديقي؟
أوفورب : الحب يبيح كل شيء. والعاشق الصادق لا يعرف له أصدقاء، بل من العدل أن يخان الخائن الذي يغدر بسيده في سبيل هواه. انس الصداقة كما نسي هو الحسنات.
مكسيم : الاقتداء بالمجرمين يجب اجتنابه.
أوفورب : كل عمل جائز في درء ذلك الغرض السيئ. وليس مجرمًا من يعاقب مجرمًا.
مكسيم : جريمة تحصل بها روما على حريتها!
أوفورب : خف كل شيء من نفس ملئت جبنًا كتلك النفس — ليست مصلحة البلاد هي التي تحتثُّها — لا — ولا المجد هو الذي يذكي شجاعتها. إن هي إلا مصلحة سنَّا وما كان أثبته في الولاء لقيصر لو أنه لم يمسسه العشق. وبعد، فهو كفور بالنعمة، ليس من الكرم في شيء …
أتخالك اطلعت على ما في قرارة نفسه؟

إنه أخفى عليك، وراء ستار القضية العامة، غرامه المتأجج. ففي وسعه أن يخفي أيضًا وراء هذه الصبابة نيران مطامعه الخبيثة. ولربما حدثته نفسه، بعد موت أكتافيوس لا بتحرير روما، بل باستعبادها! ولا يبعد أن يكون قد احتسبك منذ الساعة أحد التبع أو أنه على هلاكك يبني صروح آماله.
مكسيم : ولكن كيف أتهمه من غير أن أذكر الآخرين؟ إن المصيبة تحل يومئذ بالجميع فنغدر أقبح الغدر بأولئك الذين انضموا إلينا ولا أمنية لهم إلا الخير للوطن. هيهات أن أجد عونًا من نفسي على مثل هذه الفعلة الدنيئة فيموت الأبرياء بجريرة واحد، إنني أجسر على إتيان كل أمر للإيقاع به ولكنني أخاف عليهم كل أمر.
أوفورب : لقد تعب أغسطس من كثرة البطش، وسئم الفتك والتعذيب! فهو في مثل هذا الشأن إذا اقتص من الزعماء يعفو عن الشركاء، ثم إذا كنت لا تزال تخشى غضبه على الآخرين، فتكلم باسمهم جميعًا ساعة ابلاغه الخبر.
مكسيم : أرانا في حوار لا يجدي، فمن الجنون أن أرى في نَكال٣ سنَّا ما يدني إليَّ اميليا، وليس مقتل من تحبه وتؤثره على غيره هو الذي يروق في عينيها الجميلتين: وأنا قليل الاعتقاد أن أغسطس يعطينها. فالذي أريده إنما هو استمالة قلبها لا احتياز شخصها. ولا سبيل إلى هذا بغير التحبب إليها. وهل أتحبب إليها بإساءات ثلاث أؤذيها بها: خيانتي لحبيبها، وتقضي ما أبرمت لانتقامها، وحقني الدم الذي تشتهي أن يراق؟
أيُّ أمل يبقى لي بعد هذا في أن تصبو٤ إليّ؟
أوفورب : في الحق إني أرى الأمر جدّ عسير، ولكن المخادعة فيه قد تفيدك. فانظر في حيلة تجوز عليها، أو دع التدبير للزمن وهو خير مدبر.
مكسيم : ولكن لو عمد سنَّا إلى تخفيف جرمه فذكر اميليا شريكته ولو حدث أن أغسطس عاقبها كما يعاقبه، فهل في وسعي أن أطلب إليه، جزاء على بلاغي أن يمنحني تلك الفتاة التي دفعتنا إلى الائتمار بحياته.
أوفورب : لك أن تقيم في وجهي من شتات الصعاب ما لا يذلل إلا بمعجزات. ولكني على ذلك آمل بفضل الإمعان في التفكير …
مكسيم : إليك عني الآن، وسألحق بك عما قليل … سنَّا قادم وأريد أن أستوفي منه شيئًا يعينني فيما بعد على عمل أنويه.

المشهد الثاني

سنَّا، مكسيم
مكسيم : أراك مفكرًا.
سنَّا : لا لغير سبب.
مكسيم : هل لي أن أعرف ما يشغلك؟
سنَّا : اميليا وقيصر كلاهما يرهقني. هذا بإفراطه في الإحسان إليّ، وتلك بإفراطها في غلظة الكبد. ألا ليت الآلهة قدرت لقيصر أن يستزيد حبها له أو ينقص من حبه لي، وليت آلاءه٥ تقع من المليحة التي سبتني موقعها مني فتزيل حنقها كما أزالت حنقي. أشعر في قرارة قلبي بالندم اللذاع حين أتمثل كل حسناته تجاه عيني.
ذلك العطف التام الذي أجزيه عنه بالجحود يكاد في كل لحظة يقتلني أسفًا. وإني لأتخيل على الدوام صورته وهو يضع في أيدينا سلطانه المطلق، ويستمع لمشورتنا ويطرئها ويقول: «سأستبقي الامبراطورية أخذًا برأيك، يا سنَّا، ولكني لا أستبقيها إلا ولك حصة فيها» أفي صدر هذا الرجل أستطيع إغماد الخنجر؟

آه! لا! ولو.. ولكنني، وا أسفاه، أعبد اميليا، وقد أقسمت أيمانًا مغلظة على مقته، فكراهتها له تبغضه إليَّ، وأراني من الناحيتين أسيء إلى مجدي وإلى الآلهة. فأنا مرتكب ما ينكره ديني، أو قاتل ولي نعمتي. إني في الحالين لغادر.
مكسيم : لم يتبين فيك قبل الآن هذا التردد. وكنتَ ثابتًا على ما انتويت ولم يكن في ضميرك من وخز ولا في نفسك من ندم.
سنَّا : لا يحس المرء ذلك إلا عند اقتراب الساعة ولا تتضح له أمثال هذه الجرائم إلا إذا انبسطت يده للعمل. تكون النفس مأخوذة بغرضها فتتعلق على غير هدى بأول فكرة. ولكن إذا حقت الحاقة فأي عقل لا يضطرب، بل أي عقل لا يرزح. وأظن بروتوس نفسه، مهما قيل في تمداحه، قد أراد العدول غير مرة عما تصدى له، وأنه قبل أن يضرب ضربته قد ساوره من ألم الضمير ما ساور وخامره من الندم ما خامر.
مكسيم : كانت اريحتيه أعظم من أن يتردد، ولم تهم يده بالكنود٦ وكان متحمسًا في الإيقاع بالطاغية على قدر ما أصاب من خيره وجنى من ثمرات وده. ولما كنت تحذو حذوه فافعل فعله. واترك وخز الضمير لما هو أجلّ وأعظم. أليس الأجدر بك أن تلوم نفسك على تلك النصائح المشوبة بالجبن التي نصحت بها أغسطس اليوم، فحالت دون تجدد سعادتنا ببلوغنا الحرية؟ أنت وحدك انتزعتها منا اليوم. ولو امتدت بها قبلًا يد قيصر لتقبلها بروتوس ولم يأبه لسبب خفيف من انتقام أو حب يرد به البلاد إلى الحرمان فلا تستمع لصوت طاغ يحبك ويريد أن يشركك في سلطانه الأعلى، ولكن استمع لروما تصيح بك: «اعد إليَّ، اعد إليَّ، يا سنَّا، ما فوتني إياه بنصحك لأغسطس! وإذا كنت منذ هنيهة قد آثرت علي عشيقتك فلا تؤثر علي الباغي الذي يظلمني».
سنَّا : أيها الصديق لا تتماد في انحائك باللائمة على نفس شقية، تتناول بالجبن غرضًا كريمًا. اعرف ذنبي إلى ابناء وطني. وعما قليل سأرد عليهم ما سلبتهم، ولكني افتقر للمودة القديمة، وهي على شفا٧ الزوال، ألا تموت من غير أن تحرك شفقتي.
واتركني، رحماك، انتظر اميليا مسترسلًا ما شئت في كآبتي، إن كدري يشق عليك، ولكن الاضطراب الذي أخذ مني مأخذه يتطلب الخلوة، فهي التي تسكِّن ما يجيش بالصدر من أمثال هذه الأكدار.
مكسيم : أراك تريد أن تتحدث إلى فاتنتك بكرم أوكتافيوس وبعجزك. وأن الحديث بين العشاق لا يكون إلا سرًا، فالوداع وسأذهب وأكون أمينًا كتومًا.

المشهد الثالث

سنَّا وحده
سنَّا : سَمِّ بأكرم مما سميت ذلك السلطان المجيد، سلطان النزعة الشريفة التي توحيها إليَّ الفضيلة، والتي يحول بها الشرف دون الضربة العاجلة يحفزني إليها جحودي وجبني، بل امض في تسميتها بالضعف لأنها نزعة تدفعه إلى نهاية الوهن٨ أمام العشيقة فتُبقي على حب كان ينبغي أن تُخمِدَ جذوته،٩ ولا تجسُر، إن هي كافحته، أن تتغلب عليه.
ليت شعري بأي رأي آخذ، وإلى أية ناحية أوجه عزيمتي؟ ما أشق الذلة على النفس الأبية!

كيفما كانت الثمرة التي أرجو جنيها من بهجة الحب، أو لذة الانتقام، أو مجد تحرير بلادي، فليست بكافية في إغرائي واستهوائي، والسبيل إليها هي الخيانة. فإذا كان لا بد، دون تلك الثمرة، من طعن خاصرة أمير كريم، يُعلي مقداري على رخص مقداري، ويوليني نهاية الفخر، ويسدي إليَّ سوابغ١٠ النعم، ولا يرجع في حكمه وسلطانه إلى غير نصحي، فيا للإساءة! يا لخيانة لا يقترفها رجل! لتدم أبدًا عبودية روما وليهلك هواي، وليمت أملي، ذلك خير من أن تقترف يدي هذه الجريمة النكراء!

كيف لا!! ألم يعرض علي كل ما اشتهيت مما حركتني الصبابة إلى شرائه بدمه؟ أفأقتله لأتمتع بعطيته؟ أفأسلبه ما يريد أن يهبني؟ ولكنني مقيد بك أيها القسم الجريء! يا لحقد اميليا! يا لذكرى أبيها! لقد رهنت لكما ضميري وقلبي وذراعي. فلست بمستطيع فكاكًا إلا إذا حللتني من اليمين. عليك، يا اميليا، أن تدبري ما ينبغي أن أفعله، عليك أن تمنحي العفو لأغسطس.

إرادتك هي المسيطرة على مصيره. وهي التي تجعل في يدي حياته ومماته! أيتها الآلهة! خلقتها معبودة مثلك، فاجعليها مستجيبة لتوسلاتي كما تستجيبين، وأعينيني على إمالتها إلى رغبتي ما دمتُ لا أستطيع الخلاص من سلطانها.

أراها مقبلة، هذه المحبوبة التي لا ترحم.

المشهد الرابع

اميليا، سنَّا، فلفيا
اميليا : حمدًا للآلهة، يا سنَّا، كان خوفي لغير ما موجب إذ لم يخنك أحد من أصدقائك، ولم يكن في الأمر ما يدعو إلى وساطتي في شأنك. لقد قصَّ أكتافيوس الخبر على ليفيا في حضرتي فردَّ به عليّ روحي.
سنَّا : أتستنكرين ما جرى؟ وهل ترين أن تؤخِّري عني التمتع بالعطية التي جاد بها علي؟
اميليا : الأمر في يدك.
سنَّا : بل في يدكِ أنتِ.
اميليا : أنا على عهدي، وقلبي هو قلبي، وليس الجود بي على سنَّا بجود، بل هو تقدمة ماله إليه.
سنَّا : في طاقتك مع ذلك … يا للآلهة … أأجسر على القول؟
اميليا : ما الذي في طاقتي؟ وماذا تخشى؟
سنَّا : إنني أرتجف وأتنفس الصعداء. وأرى أنه لو كانت لقلبينا رغبة واحدة لم تكن بي حاجة إلى ذكر السبب في زفراتي، أجدني عن يقين مخطئًا رضاك، فلا أجسر على القول، ولا أصبر على السكوت.
اميليا : لقد أَثرْتَ بي الشجون، فتكلم!
سنَّا : طاعتك واجبة. سأتكلم. وإذن سأنطق بما لا يحظيني عندك، وسأبوء١١ منك بالمقت. إنني أحبك، يا اميليا. ولتصعقني السماء إذا لم يكن في هذا الحب كل ما أصبو إليه من مسرات العيش، وإذا لم يكن هواي من التأجج بحيث يبلغ نهاية ما يرجوه محبوب كريم من قلب عظيم. ولكن تبيّني بأيّ ثمن تهبين لي فؤادك … فإنك من حيث تريدين لي السعادة تُلبسيني ثوب العار … إن إحسان أغسطس …
اميليا : كفى، كفى! … فهمت مرادك. تبينت ندمك وأمانيك المضطربة، وأرى أن آلاء الطاغية قد أنستك وعودك، فخمدت نيرانك، وَوَهَتْ أقسامك لدى ملاطفاته، واجترأ عقلك في سذاجته أن يتصور أغسطس، وهو القادر على كل شيء، قادرًا أيضًا على إعطائك إياي. فأنت تطلبني من يده لا من نفسي، ولكن لا يَدُرْ في خلدك أنني أكون بذلك ملك يمينك.
قد يستطيع أغسطس أن يزلزل الأرض تحت قدميه وأن يخلع ملكًا عن عرشه، واهبًا بلاده لغيره، وأن يخضب وجه البر والبحر بدماء المغضوب عليهم، وأن يغير نظام الدنيا على ما يشتهي، أما قلب اميليا فما له عليه من سلطان!
سنَّا : لهذا لا أطلب هذا القلب إلا إليك، ولا أريده إلا منك. إنني عند ظنك بوفائي، وضميري طاهر كما تعلمين، والشفقة التي أشعر بها لا تجعلني ناكثًا بالعهد، حانثًا باليمين. فلقد أخلصت الطاعة لك في كل ما تجنحين إليه وعقدت العزم على قضاء مأربك بما يجاوز الأيمان التي أقسمتها. ولقد كان في مقدرتي، كما تدرين، من غير حنث ولا إجرام أن أفوِّت عليك تلك الضحية العظيمة: إذ لو أن قيصر تخلى عن السلطان لأفسد علينا كل حجة نحتج بها لقتله، ولانتقضت المؤامرة، ولأخفقت مطالبك وطاش سهم حقدك. ولكني وحدي أذهبت عن نفسه الروع، وأقنعته بالبقاء على الملك وتوجته بيدي لأقدمه لك قربانًا.
اميليا : لتقدمه لي قربانًا، أيها الخائن، وتريد أن أكون أنا التي أرد يدك عنه، وأن يعيش إذن، وأن أحبه، وأن أكون الغنيمة لمن أبقى عليه، والثمن للنصح الذي أمْسَك به في الحكم.
سنَّا : لا تسرفي في اتهامي بعدما قدمت من خدمتك، فلولاي ما بقى لك من سلطان على حياته. ومع إحسانه إليَّ قد وكلت مصيره إلى ما يقضي به الحب. فإما أجهَزْتُ عليه وإما مَنَنْتِ عليه بالبقاء، وما دمت قد وفيت بنذوري الأولى في طاعتك، فاعرفي لي هذاالصنيع بعض الشيء، واسمحي لي أن أزيل عنك سخطًا غير جدير بك، واعطفك عليه مثل عطفه عليك.
إن النفس الكريمة التي تهتدي بهدى الفضيلة تفر من عار الكنود والخيانة، وتمقت الغدر، ولو أنال السعادة، ولا ترضى بخير الدنيا إذا كان جزاؤه بذل الشرف.
اميليا : ولكنني أرى في هذا العار مجدًا لي. ما أنبل الغدر إذا رُمي به الطاغي! ومتى أريد انقاذ قوم من عثرات الجد التاعس كان أشد القلوب كنودًا أعظمها كرمًا.
سنَّا : تحدثين من الفضائل ما يشاء لك الحقد!
اميليا : أخلق من الفضائل ما هو خليق بالمرأة الرومانية.
سنَّا : إن القلب الروماني الأصيل …
اميليا : هو الذي يجترئ على كل شيء في اختطاف حياة مرذولة تستعبده. وإنه ليفر من عار العبودية فراره من الموت أو أكثر.
سنَّا : العبودية مع أوكتافيوس عبودية مشرفة. ولطالما رأينا ملوكًا جاثين لدينا يلتمسون مثل عبوديتنا للاعتزاز بها والاستظهار — فأوكتافيوس قد خفض لنا كبرياء تيجانهم، وأدان لسيادتنا عزة سلطانهم، وأخذ منهم الإتاوات١٢ التي تغنينا، وخلع عليهم النير الذي خلعه عنا.
اميليا : إن الطمع المزري الذي خامر نفسك قد خدعها إذ أوهمها أنك لم تصبح شيئًا مذكورًا إلا بعد أن أنزلت منزلة أكبر من منزلة هؤلاء الملوك.
تعلم أن ليس في طرفي الأرض من يستطيع أن يزعم أنه عِدْلٌ للوطني الروماني.

لقد جر انطونيوس على نفسه أحقادنا وأضغاننا حين تدنس بحب ملكة. وذاك أتالُ الملك العظيم الذي شاب في الارجوان، كان لقبه معتق الشعب الروماني. فلما دانت آسيا بأسرها لحكمه المطلق، كان أقل اعتزازًا بعرشه منه بلقب الروماني.

اذكر، يا سنَّا، مَحْتدك١٣ وصُنْ شرفه، وخذ عن الروماني الكرم، واعلم أن الآلهة لم تخلق غيره ليسود ويعيش غير مسود.
سنَّا : طالما أرتنا الآلهة في أمثال هذه المؤامرات أنها تسخط على القتلة، وتعاقب كل كنود، وأنها إذا رفعت عرشًا لم تبالِ كيد الكائدين له وانتقمت ممن تسقطه، وأنها أبدًا في جانب الذين آتتهم الملك. فالضربة التي يُقتَلون بها يطول معها أمد انتزاف الدم. وإذا صح عزمها على أخذهم بجرائرهم لم تعاقبهم بأيدينا، بل أرسلت عليهم الصواعق.
اميليا : قل إنك أنت أيضًا تنزع إلى جانبهم، وأنك تكل إلى الصاعقة عقاب الطغاة … لن أخاطبك في شيء من هذا. اذهب واخدم الطاغية، ونُط زمام نفسك بنزعاته الواهية وهدِّيء بالك المتردد بنسيانك النبعة التي جئت منها، والجائزة التي كنت ترجوها. سأعرف كيف أنتقم لبلدي ووالدي وإني غير مستعيرة يدك للأخذ بثأري.
ولعمري لكان لي فخر قتله من زمن مضى لو أن الحب لم يمسك بذراعي إلى الساعة. فالحب هو الذي استعبدني وجعلني أُعنى بحياتي في سبيلك، كنت أستطيع ان أهاجم الطاغية وحدي، فأودي به ويودي بي احراسه، ولكنني لو فعلت لحرمتك يومئذ أسيرة ائتمرت بأمر هواك وعاشت من أجلك وحدك.

على أنني أردت الاحتفاظ بنفسي لك، وتهيئة السبب لجعلك جديرًا بي. فلم يجدني الأمران فتيلًا. إعفي عني، أيتها الآلهة العظيمة، إذا كنت قد خُدعت بتوهمي أنني أهوى حفيدًا لبومبيوس، وإذا غرتني الظواهر الخلابة ووقع اختياري على عبد مكانه، ولكنني أحبك كيف كنت. وإذا ما سمتك، دون وصالي، أن تخون مولاك، فألفٌ غيرك لو استطاعوا بهذا الثمن أن يحظوا حظوتك عندي لتنافسوا في قبول شرطي. ولكن اطمئن فلا سبيل لغيرك إليَّ. عش أنت لطاغيتك المحبب ولأمت أنا لك. سأعجل عليه وأجلي مرتهن بأجله.

ولما كان جبنك لم يجعلك أهلًا لي فتعال يومئذ وانظرني غريقة في دمه ودمي، أموت ولا يصحبني إلا فضيلتي، وأقول لك عند احتضاري في نفس راضية: «لا تتهم سوء طالعي لأنك أنت مسببه» ثم أنزل القبر الذي قضيت علي به يتبعني المجد الذي كان معدًا لك. أموت وقد هدمت صرح السلطان المطلق وكنت أعيش لك لو أنك أردت لي العيش!
سنَّا : أما وهذه إرادتك، فلا بد من إرضائك. لا بد من تحرير روما، ولا بد من الثأر للأب، ولا بد من ضرب الطاغي ضربات عادلة. ولكن اعلمي أن أغسطس أقل منك استبدادًا.
إذا كان قد انتزع منا ما شاء من أملاكنا وأرواحنا ونسائنا، فإنه لم يبغ إلى اليوم على أرواحنا.

أما الجبروت الذي تتبسط فيه محاسنك بلا رحمة، فلا مرد لحكمه حتى في الألباب وحتى في المشيئات.

تسومينني طيب النفس بما يسلبني الشرف، وتبغضين إليَّ ما يدين به ضميري، وتحملينني على إراقة دم حقيق أن أفديه بدمي ألف ألف مرة … ذلك مرادك. فلبيك سأعمد إلى تحقيقه لساعتي إيفاءً لما تقدم به وعدي. غير أن يدي سترتد إلى صدري بالخنجر فتقتل حبيبك قربانًا لرفات ذلك الأمير الكريم، وكفارة عن جريمتي التي سأقترفها بكرهي وبهذين العملين المتصلين سأستعيد شرفي منذ أفقده! الوداع! …

المشهد الخامس

اميليا، فُلْفِيا
فلفيا : لقد ألقيتِ بنفسه في اليأس!
اميليا : لِيَخْلُ من حبي، وليمض إلى واجبه!
فلفيا : سيطيعك ببذل حياته. أراك تبكين!
اميليا : وا أسفاه! أسرعي وراءه يا فلفيا، وإن كنت لي مسعفة، أيتها الحبيبة، فانتزعي منه العزم على قتل نفسه … قولي له …
فلفيا : أقول له أنك تعفين عن حياة أغسطس كرامةً له؟
اميليا : آه تحكمين على ضغينتي حكمًا جدَّ ظالم!
فلفيا : وماذا أقول إذن؟
اميليا : قولي له أن ينجز ويبرئ ذمته. وليختر بعد ذلك بين الموت وبيني.
١  يورّي: يتظاهر.
٢  بواري: خسارتي، تلفي.
٣  نكل به: أصابه بنازلة، صنع به صنيعًا يحذر غيره ويجعله عبرة له.
٤  تصبو إليَّ: تحن إليَّ.
٥  الآلاء مفردها الإلي: النعمة، الحسنة.
٦  الكنود: الكافر بالنعمة، البخيل.
٧  شفا: حافة.
٨  الوهن: الضعف في الأمر أو البدن.
٩  الجذوة: الجمرة الملتهبة.
١٠  أسبغ الله عليه النعمة: أتمها.
١١  سأبوء: سأقع.
١٢  الإتاوات: الخراج، الرشوة.
١٣  محتد: أصل، نسب كريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤