أولًا: مقدمة: دوافع البحث١
كثيرًا ما يجد الإنسان نفسه وقد انتابه الرعب
أمام خطرٍ داهم وعجز عن مواجهته الفعلية، ولا يجد
أمامه إلا الجهاد المعنوي الفكري الكلامي، منبهًا
على الخطر، ومُشخِّصًا إياه، مبينًا دوافعه،
ومحذرًا الناس منه. وكثيرًا ما يجد الإنسان نفسه
وهو يصور هذا الخطر، ليس فقط في الحاضر بل أيضًا في
الماضي وفي المستقبل، مُكتشفًا جذوره في الماضي،
ومتنبئًا بخططه وتطلعاته في المستقبل؛ فهو قديمٌ
بقدم الزمان، وباقٍ ببقائه. وذلك طبيعي على المستوى
النفسي الخالص. فمن أجل التنبيه على الخطر لا بد من
تضخيمه، ولأجل بيان أثره على المعاصرين لا بد من
البحث عن جذوره في الماضي؛ فهي مبالغةٌ نفسية تخضع
لقانونٍ نفسي وإن لم يكن واقعًا تاريخيًّا صرفًا
على النحو الموصوف. ومع ذلك يظل الخلاف بين الواقع
النفسي والواقع التاريخي خلافًا في الدرجة وليس في
النوع. حتى ولو كانت الوقائع التاريخية أقل أو
أكثر، فإن ذلك لا يقلل من شأن الوصف النفسي أو
الباعث القومي.
ومن هذا
النوع الحديث عن الجذور التاريخية للغزو الصهيوني
في التراث الإسلامي؛ فالغزو الصهيوني بالمعنى
الحديث حركةٌ استعمارية مرتبطة بتاريخ أوروبا في
القرن التاسع عشر، ما دامت الصهيونية الحديثة إحدى
نتائجها. الصهيونية حركةٌ سياسية ترتكز على مبرراتٍ
دينية، وتعبر عن حال أوروبا في القرن الماضي من
قوميةٍ رومانسية، بعد أن رفضت كل القوميات
الأوروبية وجود أقليات منفصلة عنها. وبعد أن كانت
الروح السائدة هي الرومانسية والعودة إلى الأصول
والأحلام الطوباوية، صاغت الأقلية اليهودية
الانفصالية في الغرب أيديولوجية لها في هذا الجو،
وزادت عليها المبررات الدينية التاريخية نظرًا
لامتدادها في التاريخ، وبنفس الدافع وهو الاتجاه
نحو الشرق ونحو السواحل لاحتلال الأرض المتاخمة
لها. صحيحٌ أن المبررات الدينية للصهيونية لها
جذورها التاريخية في يهودية التوراة، ولكن ذلك لم
يكن صهيونية بالمعنى السياسي الحديث، بل كانت
«النزعة الخاصة»
Particularism
التي تغلب على التراث اليهودي، وهي النزعة التي
تقوم على العرق، والشعب، والميثاق، والاختيار،
والموعد، والأرض، والدين، وإسرائيل … إلخ، في مقابل
النزعة العامة
Universalism
التي تجعل الشعب اليهودي مثل باقي الشعوب، وتركز
على الإيمان والعمل الصالح والطاعة والتوحيد، والتي
كان الإسلام آخر مراحل التعبير عنها من خلال دين
إبراهيم. غلبت النزعة الأولى في التوراة في الزمان
القديم، ثم تحولت إلى مبرر ديني في الصهيونية في
العصور الحديثة. وتوارت النزعة العامة عند
الأنبياء، ثم غلبت في التراث اليهودي الإسلامي ثم
في عصر التنوير الأوروبي. وتوارت النزعة الخاصة
وكادت تنقرض، ولم تظهر إلا عند بعض الأحبار الذين
أرادوا المحافظة على خصوصية التراث اليهودي الروحي.
٢
والغزو
الثقافي الصهيوني جزءٌ من الغزو الثقافي الغربي
العام الذي تعرضت له البلاد إبان الحقبة
الاستعمارية وما زالت مستمرة. فارتباط الصهيونية
بالغرب ونشأتها فيه جعلتها إحدى الأيديولوجيات
الغربية، التي تعتمد على مبرراتٍ دينية لإحدى
القوميات المنبوذة فيها. وهو موضوعٌ جديد لم يتطرق
إليه علماء الغرب بطبيعة الحال؛ فالسارق لا يقول
إنه كذلك. وبدأ العلماء العرب البحث والتنقيب فيه،
والتنبيه على مخاطره، بصرف النظر عن مراحله القديمة
أو الحديثة. ويصعب في مثل هذا الموضوع التمييز بين
العلم والسياسة، بين التاريخ الموضوعي والالتزام
القومي. ولكن يكفي تقديم خطة بحث قومي من أجل تحويل
هذا الموضوع إلى جزءٍ من المشروع القومي العربي
العام في التحرر والنهضة.
وهناك
أنماطٌ عديدة للغزو الصهيوني للتراث الإسلامي تتوقف
على طبيعة العلاقة بين التراث اليهودي وتراث الشعوب
القديمة والحديثة. ففي تاريخ الحضارات القديمة حدث
غزوٌ صهيوني للحضارات القديمة عن طريق النهب والسلب
العلني أو التأثر والتأثير غير المباشر، كما حدث مع
الحضارة الكلدانية في فلسطين والديانة، المصرية في
مصر، والحضارة الآشورية والبابلية فيما بين
الرافدين. الغزو هنا لا يعني هيمنة ثقافية من شعبٍ
غالب على تراث الشعوب المغلوبة كجزء من النهب
الاستعماري، وكما هو حادثٌ الآن في نهب الفنون
الشعبية الفلسطينية وجعلها ممثلة للدولة الصهيونية
المغتصبة. وهناك نمط آخر وهو ما يحدث إبان تقدم
الشعوب ونشأة الحضارات، تم تسرب الإسرائيليات أي
الخرافات اليهودية إليها من مواطن ضعف وكنوعٍ من
ضرب الحضارات الجديدة من الخلف. هذا الغزو هو نوعٌ
من المقاومة السرية الثقافية للحضارات الجديدة
الناشئة دون وعيٍ منها؛ فالمؤرخون المسلمون خاصة
المفسرين هم الذين وقعوا ضحية هذا التسرب في لحظة
جمع المعلومات دون التحقق من صدقها. وهناك نمط ثالث
للغزو وهو الذي اشتهر في العصور الحديثة، وهو تشويه
الثقافات غير اليهودية بما في ذلك الثقافات
الأوروبية، وتغلغل الغزو الصهيوني إلى مراكز
الأبحاث اللغوية والثقافية والحضارية من أجل
الاستيلاء على ثقافات الشعوب وحضاراتها وإرجاعها
كلها إلى الحضارة اليهودية، دينًا ولغة وثقافة. حدث
ذلك في الاستشراق الأوروبي. وفي الفلسفات والمذاهب
الأوروبية التي روجت للخصوصيات والنعرات القومية
حتى يكون لليهودية نصيب، والتي روجت للمذاهب
الدولية والاشتراكية والأممية حتى يسهل لليهودية
السيطرة عليها كما هو الحال في الاشتراكية الدولية
والأممية في الغرب.
ثانيًا: الغزو اليهودي للحضارات القديمة
وقد وجدت
الصهيونية الحديثة مبرراتها الدينية في أيديولوجية
الغزو القديمة التي تقوم على عقائد الأرض، والوعد،
والميثاق، والاختيار. فمن أجل أن تنتصر القبائل
العبرانية على غيرها من القبائل السامية، ومن أجل
الاستيلاء على أرضها، صاغت السلاح العقائدي، ونقلت
بعض العادات اليهودية من مستوى المجتمع إلى مستوى
الله. فتحول حلف القبائل إلى حلفٍ بينها وبين الله؛
حلف أبدي يعطيها الله فيه النصر والأرض والمعبد
والهيكل في مقابل لا شيء. حروبها حروب الرب، وجيشها
جيش الرب، وانتصارها انتصار الرب. ووضعت هذا العهد
في تابوت العهد تحمله في الحروب وتدافع عنه. ونقلت
طقوس العهد؛ ذبح الحيوان وسيلان الدماء إلى سيلان
دماء من نوعٍ آخر في طقس الختان، علامة على الدخول
في العهد.
وبالإضافة إلى صياغة العقائد من العادات السامية
كسلاحٍ أيديولوجي للعبرانيين في حروبهم وغزوهم
للقبائل السامية الأخرى، ثم استيلاء العبرانيين على
عقائد القبائل السامية الأخرى وأدبهم وإدخالها ضمن
العقائد العبرانية وآدابها. تكوَّن التراث اليهودي
من هذين المصدرين ولكن المصدر الثاني كان هو
الغالب. أصبحت من طبيعة التراث اليهودي القائم على
النزعة الخاصة غزو الحضارات المجاورة، أو تلك التي
يعيش اليهود فيها عن طريق أخذ دياناتها وقوانينها.
ويكون هذا الغزو الثقافي لاحقًا للغزو العسكري،
وكأن الاستيلاء على الأرض يعقبه امتصاص الروح،
وتفريغها من كل مضمونٍ خاص بها. وفي هذه الحالة
يظهر أثر المغلوب في الغالب، وكأن الهزيمة العسكرية
للشعوب المغلوبة تتحول إلى نصرٍ ثقافي لها بتغلغل
ثقافتها في الشعب المنتصر. وقد ظهر ذلك في الغزو
اليهودي للقبائل السامية القديمة، وأثر الحضارات
السامية القديمة في تكوين العقائد اليهودية
وآدابها.
وتتمثل حضارات الشرق القديم في حضارات ما بين
النهرين، سواء في العقائد أو الشرائع أو العادات أو
الأعراف الاجتماعية، وكما يبدو ذلك في التشابه
المشهور بين ملحمة جلجامش وبين العهد القديم، بين
سفر التكوين البابلي وسفر التكوين التوراتي، وعلى
ما يبدو في ثنائيات النور والظلمة، وخلق السماء
والنور، وخلق النبات والحيوان، وخلق الإنسان ثم
سقوطه، وعالم المخلوقات، والراحة الإلهية، والألواح
السبعة، والأيام السبعة، وعلى ما هو في «إنوما
إليش»
Enuma Elish.
في الملحمة البابلية يشترك الروح الإلهي والمادة
الكونية في الوجود والقدم، وفي سفر التكوين يخلق
الروح الإلهي المادة الكونية ويستقل عنها. وفي
التكوين البابلي العماء الأول مغلفٌ بالظلمات، وفي
سفر التكوين الأرض أيضًا مُغطاة في أعماقها بها،
وفي كليهما يخلق النور والسماء واليابسة والإنسان،
ثم يستريح الله في اليوم السابع. كما تتشابه شخصيات
الملحمة والسفر مثل كيريت، وأغات، وروفاعيم، وحداد،
وبعل وشاشار وشاليم، ونيكال وكاتيرات. لقد كان
لبابل والدين البابلي أثرٌ ضخم على التراث اليهودي
في فترة تكوين التوراة. كما يوجد كثيرٌ من شريعة
حمورابي في التوراة في مخاطبة الإله شمش للطبيعة
وكلام ألوهيم للأنبياء.
٣
ويمتد الغزو الثقافي اليهودي من العراق إلى
الشام، ومن حضارة ما بين النهرين إلى الحضارة
الأوغاريتية
Ugarite. وكما
وضح أخيرًا في اكتشافات «رأس شمرة» في فينيقيا
القديمة، والتشابه الكامل بين ملحمة أغات وبين سفر
دانيال، وبين الشعر الأوغاريتي والشعر اليهودي،
وبين الألفاظ والأشكال الأدبية والعادات الاجتماعية
في الثقافتين الأوغاريتية واليهودية.
٤ ويمتد الغزو أيضًا من البابليين
والأشوريين إلى الكنعانيين والآراميين والعرب
والإثيوبيين. فبعد استيلاء يشوع على أرض كنعان
استولى اليهود على حضارة الكنعانيين، دينًا وعقائد
وثقافة وأدبًا وفنًّا. ويبدو ذلك في المقارنة بين
أسماء آلهة كنعان وأسماء الإله عند اليهود.
٥ كذلك ظهرت ديانة مصر القديمة في الدين
العبري في التوحيد وعبادة العجل، ومظاهر الاحتفالات
والفنون الشعبية في كثيرٍ من أعمال السحر مثل
الطاعون وعبور البحر الأحمر والتجليات الإلهية.
٦ وظهرت أيضًا الثقافة العربية القديمة
في الدين اليهودي من خلال الحروف العربية والأمثال
العربية والديانات العربية القديمة مثل الصابئة.
٧
وبينما تجاهل الفكر اليوناني اليهود كلية إلا أنه
تسرب إليهم عن طريق فيلون والتفسير الرمزي للعهد
القديم. كما أنه ساهم في صياغة الأخرويات اليهودية
في رحلات الروح إلى عالم الموتى، وصور العالم
الآخر، والبعث وتناسخ الأرواح، وزواج الملائكة
والجن، والشياطين والمردة، رؤساء الملائكة والحراس والرعاة.
٨
وبالرغم من خروج المسيحية من جماعة الإسينيين كما
تكشف ذلك مخطوطات «قمران»، إلا أن الفكر اليهودي
استطاع غزو الفكر المسيحي الناشئ خاصة من البيئة
اليهودية، فخرجت المسيحية اليهودية في صراعٍ مع
المسيحية. ولما كانت اليهودية أقوى سلاحًا من
الوثنية ظهر الغزو اليهودي للدين الجديد من الداخل
من منافذ عدة منها:
-
(١)
دخول بولس الدين الجديد، وهو الحبر
اليهودي، عالم عصره الذي استعمل كل
ثقافته وعلمه لطمس معالم الدين الجديد،
يدفعه في ذلك إحساسه بالنقص بالنسبة
للحواريين الذين رأوا السيد المسيح،
ودفعًا عن نفسه إحساسه بالذنب بالنسبة
لتعذيبه المسيحيين، وعدائه لليهودية من
أجل إقناع الناس بإيمانه الصادق بالدين
الجديد. فتمت مقارنة عيسى بموسى،
والكنيسة بالمحكمة اليهودية. ولم يكن
هناك شيء في الدين الجديد إلا وله ما
يشابهه في الدين القديم.
-
(٢)
الإشارات المستمرة في كتاب العهد
الجديد إلى العهد القديم، ورؤية كل
الأحداث الحاضرة وكأنها تحقيق لنبوءات
العهد القديم من أجل إقناع البيئة
اليهودية بالسيد المسيح. وبالتالي تم
تهويد الحاضر من خلال الماضي، وتنميط
الحوادث طبقًا لنصوص العهد القديم التي
وضعوها على لسان السيد المسيح وكأنه
يستشهد بها.
-
(٣)
وضع العهد الجديد مع العهد القديم في
الكتاب المقدس وكأن العهد الجديد تحقيق
للعهد القديم وختام له، مما فرض على كل
مؤمنٍ أن يفهم العهد الجديد بالرجوع
إلى العهد القديم. ولم تنفع محاولة
سلسوس
Celsus
في الوقوف أمام هذا الخلط، ولم تنجح
محاولته للتمييز بين الدينين، والتفرقة
بين العهدين بعد أن تصدى له أوريجين
وقضى عليه. وأصبحت الحضارة المسيحية
الأوروبية ازدهارًا وإنماءً للمصدر
اليهودي فيها على الرغم من العداء
الدفين بين الطائفتين وصراعهما من أجل
السلطة والريادة، عنصرية عبرية في
مقابل عنصريةٍ رومانية.
٩
ثالثًا: الغزو الصهيوني للتراث الإسلامي
لا يمكن الحديث تاريخيًّا عن الغزو الصهيوني
للتراث الإسلامي؛ لأنه في هذه الفترة استطاع التراث
الإسلامي أن يتمثل اليهودية، وأن تصبح اليهودية أحد
مظاهره. ولما كان التراث الإسلامي قائمًا على
النزعة الشاملة
Universalist
طبقًا لروح الإسلام، فإن هذه النزعة نفسها قد تغلبت
على التراث اليهودي، وكادت أن تختفي النزعة الخاصة
Particularist
باستثناء بعض الأحبار الذين كانوا يمثلون النزعة
المحافظة بدعوى الحفاظ على التراث اليهودي. ويؤرخ
لهذه الفترة علماء اليهود أنفسهم، ويصفونها بأنها
كانت العصر الذهبي للتراث اليهودي الذي ظهرت فيه
الفلسفة اليهودية العقلانية، وقواعد اللغة العبرية
المنمطة على أساسٍ من قواعد اللغة العربية، والتصوف
اليهودي الذي اقترب من التصوف الإسلامي، وأصول
الفقه اليهودي الذي تشابه مع أصول الفقه الإسلامي،
والعقائد اليهودية التي تحدثت لأول مرةٍ عن الذات
والصفات والأفعال، كما هو الحال في علم أصول الدين
الإسلامي، والطب اليهودي الذي كان مع الطب الإسلامي
الطب العلمي القديم.
لذلك، بدلًا من الغزو المتبادل على النمط الأول —
سرقة اليهود لتراث الحضارات القديمة أو غزو اليهود
للدين المسيحي — ظهر نمطٌ إسلامي آخر يقوم على
دعامتين:
-
(١)
ضياع العنصرية والانعزالية اليهودية؛
أي النزعة الخاصة
Particularist
العملية، وذلك عن طريق تطهير الجزيرة
العربية منهم، والتفويت على دسائسهم
مثل محاولات اغتيال النبي، وتفرقة
المسلمين، وحديث الإفك، والنفاق،
ومحاربتهم حتى تنكسر شوكتهم ويصبحوا
مثل باقي الناس.
-
(٢)
التأكيد على اليهودية الشاملة
Universalist
كما ظهرت عند الحنفاء، دين إبراهيم
وإسماعيل، ولدى أتقياء اليهود في
الجزيرة العربية الذين يعترفون بالحق.
دخل من شاء منهم في حلف المدينة،
واعتُبروا في الشريعة الإسلامية مع
النصارى والمجوس من الأمة الإسلامية.
وقد كان شعراؤهم في الجاهلية مثل شعراء
النصارى أقرب إلى الشعر العربي منهم
إلى التراث اليهودي. وقد تجسد ذلك كله
في كعب الأحبار الذي آمن برسالة
محمد.
وقد حاول اليهود التسرب إلى الدين الجديد عن طريق
الدس عليه، وإدخال مشاكل الدين اليهودي وصوره
وعقائده في الدين الجديد في جوٍّ من الحريات العامة
وتسامح ديني عريض. وهنا يظهر النمط الثاني من الغزو
عن طريق تسرب الثقافات اليهودية إلى الدين الجديد،
وكنوعٍ من انتقام المغلوب من الغالب، على عكس النمط
الأول، وهو الاستيلاء من الغالب — وهم اليهود — على
ثقافات الشعوب والقبائل السامية المغلوبة. وقد حدث
هذا التسرب في النمط الثاني بطريقتين:
وقد استطاع التراث الإسلامي احتواء ما تبقى من
خصوصيةٍ
Particularism
اليهودية داخل بنائه العام. وأصبح من السهل
المقارنة بين الحالة الخاصة والبناء العام
Universalist،
والحكم عليهما والانتساب إلى العام دون الخاص. ففي
علم أصول الفقه رفض الفقهاء شرع من قبلنا باعتباره
أحد مصادر الشرع سواء في توراة موسى أو في شريعة
عيسى؛ فالشريعة قد تطورت والشريعة الإسلامية آخر
مراحلها، في حين أن التوحيد لم يتطور، والعقيدة
واحدة منذ آدم حتى محمد. وفي علم أصول الدين رفض
العلماء التشبيه والتجسيم، وتحدثوا عن اليهودية ضمن
الفرق غير الإسلامية. وتم إخضاع نصوص التوراة للنقد
التاريخي كما فعل ابن حزم، وظهرت الكتابات العديدة
في الرد على اليهودية. وقد رفض المتكلمون قصر
النبوة على اليهود وحدهم أو قصر نبوة محمد علي
العرب وحدهم دون سائر الأمم كما تفعل العيسوية
منهم. كما فندوا إنكار اليهود للنسخ دفاعًا عن
اليهودية وإنكارًا للإسلام لأن النسخ ثابت في
الشريعة ولأن التطور واقعٌ فيها. كما فند المسلمون
آراء الباطنية والشيعة وكل الفرق التي دس اليهود
فيها على الإسلام لهدمه من الداخل والتشويش على
عقائده. وفي الفلسفة تمثَّل إخوان الصفا اليهودية،
ووضعوها في إطار البناء العام مع كل الشرائع
والديانات ما دام الإسلام دين العقل، ودين الطبيعة.
وأصبحت اليهودية إحدى ديانات البشر على قدم
المساواة لا تتميز على غيرها في شيء. وفي التصوف
احتوى الصوفية المسلمون كل أنواع التصوف السابقة،
اليوناني، والهندي، والفارسي، واليهودي، والمسيحي
دون تمييزٍ لواحدٍ على الآخر. وفي العلوم الطبيعية
كان الأطباء اليهود يعملون في الدولة الإسلامية
ويعالجون خلفاءها، ويعيشون في بلاط الأمراء وينالون
كل تقديرٍ واحترام. ولقد تقلد منهم مناصب الوزارة،
كانوا يهودًا عقيدة، ومسلمين ثقافة، ويدينون
بالولاء للأمة.
لم يتبقَّ
من التراث اليهودي إلا النزعة الشاملة
Universalist،
والتي ظهرت على نسق البناء الإسلامي العام والتصور
الإسلامي للكون والحياة والإنسان والمجتمع
والتاريخ. وقد اتضح ذلك في العصر الذهبي للتراث
اليهودي خاصة في الأندلس عندما عاشوا في كنف
المسلمين، يحميهم الإسلام ويحافظ على تراثهم، حتى
لقد تحول البعض فيهم إلى الإسلام دينًا بعد أن تشبع
به ثقافة، وعاشه حضارة، ودافعوا عن النزعة الشاملة
التي تجمع اليهودية والمسيحية والإسلام، وفندوا
النزعة اليهودية الخاصة التي تنكر المسيحية والإسلام.
١١ ونشأ لأول مرة في تاريخ اليهود علم
الكلام اليهودي العقلاني معتمدًا على الحجج
والبراهين، لا فرق بينه وبين علم الكلام الإسلامي،
ومكتوبًا باللغة العربية وعلى أقصى تقدير باللغة
العربية بالحروف العبرية.
١٢ ونشأت الفلسفة اليهودية على نسق فلسفات
المسلمين عند الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد،
حتى إنه ليصعب التفرقة بين ابن ميمون وابن رشد؛
كلاهما في قرطبة، يدرسان في المعبد أو المسجد،
يتحاوران أمام جمهورٍ واحد، ويعمل ابن ميمون طبيبًا
لصلاح الدين، قاهر الصليبيين، ويعرِّف ابن ميمون
نفسه كهوية بأنه الحكيم الفيلسوف القرطبي الأندلسي،
أي بالفكر العام وبالمكان وليس الحبر اليهودي.
١٣ وكان سليمان بن جبرول تلميذ الفارابي،
يرد مثله على الفلسفة اليونانية، ويقبل منها مثله
ما يتفق مع العقل. ونشأ التصوف اليهودي في إسبانيا
في مجموعة «زوهار»
Zohar، لا فرق
في وصفه لتجليات الروح في الكون بينه وبين ابن عربي
في الفتوحات المكية. ونشأ الفقه اليهودي على منوال
الفقه الإسلامي، فصنف ابن ميمون الأوامر والنواهي
كما فعل الأصوليون المسلمون، وظهر علم أصول الفقه
اليهودي وموضوعات الاستدلال والقياس والصلة بين
الأصول والفروع. وكما أصبحت «الهاجادة» جزءًا من
التلمود أصبحت «الحلقة» كذلك جزءًا آخر منه. وبان
أثر العبادات الإسلامية في الشرائع اليهودية في غسل
الرجلين، واغتسال المجانب، وإلغاء صلاة السر،
وإصلاحات الحسيدين
Hassides في
الصلاة في السجود والركوع، واستقبال القبلة،
والاصطفاف، وبسط اليدين.
١٤ كما نشأ النحو العبري على منوال النحو
العربي، وساعد على ذلك أن اللغتين فرعان من لغة أم
واحدة وهي اللغة السامية. عرف اليهود لأول مرةٍ
قواعد النحو والصرف وعروض الشعر، ومع ذلك ظلت اللغة
العربية هي لغة التأليف أو اللغة العبرية بحروفٍ
عربية. كما ظهرت قواميس اللغة العبرية على منوال
قواميس اللغة العربية، واشتغل اليهود لأول مرةٍ
بالعلوم الطبيعية والرياضية، وظهر من بينهم العلماء
والأطباء والرياضيون في الحساب والهندسة والموسيقى
والفلك في إسبانيا ومصر والعراق والمغرب العربي.
١٥
وظل الحال كذلك إلى أن ضاع حكم المسلمين في
الأندلس واسترجعها النصارى في بداية الغزو
الاستعماري الأوروبي. فوقع أبشع اضطهاد للمسلمين
واليهود على السواء للتحول إلى النصرانية من جديد.
فمن تحول إلى النصرانية بقي، ومن رفض وآثر الثبات
على دينه قُتل أو هرب إلى المغرب. فاستقر هناك
المسلمون واليهود وحملوا معهم تراثهم. وضاع
التراثان الإسلامي واليهودي إبان الحكم المسيحي
لإسبانيا، وانتقلا إلى المغرب لتدوينه هناك. وما إن
هيمن الغرب الاستعماري الجديد على المناطق الحضارية
في إسبانيا، حتى بدأت نهضة الغرب الحديثة. وكان
اليهود والمسيحيون الإسبان قد قاموا من قبل بترجمة
أمهات التراث الإسلامي إلى اللغة اللاتينية في
الفلسفة والكلام والعلوم الرياضية والطبيعية، فقامت
نهضة الغرب الحديثة من الجنوب إلى الشمال، وكان نفس
الشيء قد تم عبر إيطاليا وبيزنطة. ونشأت في الغرب
الاتجاهات العقلانية في الفلسفة والدين والتجريبية
في العلم والصورية في الرياضة. وقد استغرق ذلك
قرنين من الزمان، الثاني عشر والثالث عشر. وفي
القرن الرابع عشر، عصر الإحياء، عندما بدأت الثورة
على أرسطو العربي الإسلامي، بدأت النهضة الحديثة
أيضًا بالعودة إلى الآداب القديمة على حساب العقل
النظري القديم، ووجد الوعي الأوروبي في الأساطير
اليونانية ما لم يجده في الفلسفة اليونانية. وفي
القرن الخامس عشر، عصر الإصلاح الديني، ظهر الإسلام
على نحوٍ غير مباشر في دفاع لوثر عن حرية التفسير،
والصلة المباشرة بين الإنسان والله، واعتبار الكتاب
وحده مصدر الإيمان، والتأكيد على حق القوميات ضد
الهيمنة الرومانية اللاتينية القديمة باسم الإيمان
المسيحي … إلخ. وفي القرن السادس عشر، عصر النهضة،
تم تطوير العلوم التجريبية بفضل أنصار ابن رشد
اللاتين، والتصور الحتمي للطبيعة وتسخيرها لصالح
الإنسان وقدرة العقل على معرفة قوانينها. وفي القرن
السابع عشر، عصر العقلانية، بدأت آثار العقلانية
الإسلامية فظهرت العقلانية اليهودية تؤكد النزعة
الشاملة
Univeersalist،
وكما هو الحال عند اسبينوزا وكأنه معتزليٌّ جديد.
وفي القرن الثامن عشر، عصر التنوير، ظهر التنوير
اليهودي عند مندلسون وكأنه فيلسوفٌ إسلامي يؤكد صفة
العمومية للتراث والشمول للروح الإنساني، واضعًا
حدًّا للخصوصية اليهودية والانعزالية في السلوك.
وقد توجت الثورة الفرنسية ذلك بإعلان وثيقة التحرر
العام لليهود كمواطنين لهم ما لغيرهم من حقوقٍ
وواجبات دون ما تمييزٍ في دينٍ أو عقيدة وباسم
الحرية والإخاء والمساواة.
رابعًا: الغزو الصهيوني الأوروبي في القرنين
التاسع عشر والعشرين
نشأت الصهيونية في القرن التاسع عشر الأوروبي كرد
فعل على حركة التنوير اليهودي
Askala في
القرن الثامن عشر، فتمركزت حول الذات، وظهرت فيها
القوميات، وعادت الخصوصية العرقية من جديد، وانتهت
العالمية والشمول، ووقعت في حبائل الرومانسية
والعودة إلى الأرحام، حيث الأرض والشعب والروح
والتاريخ. ثم تحولت الصهيونية من الصهيونية
الروحية، مجرد حفاظ على التراث اليهودي من
الاندثار، إلى الصهيونية السياسية أي تأسيس الدولة
اليهودية.
في هذه الفترة نشأ الغزو الصهيوني للتراث
الإسلامي، عندما ضعف المسلمون بعد سقوط غرناطة في
المغرب وفساد الدولة العثمانية في المشرق، فانهارت
دولتهم، وضاعت شوكتهم، وهُمشوا وشُرحوا وتوقفوا في
الوقت الذي بدأت الحضارة الأوروبية فيه في التقدم.
ابتدأ الوعي الأوروبي يتحول إلى ذاتٍ تتضخم
تدريجيًّا حتى ابتلعت ما سواها من الحضارات غير
الأوروبية، وحولتها إلى موضوعٍ تلتهمه وتشوهه باسم
الدراسة والبحث، وتأخذ عصارتها، ولا تترك لها إلا
النفايات. في هذه العصور الأوروبية الحديثة التي
تعادل فترة التوقف لدينا، بدأ الغزو الصهيوني
للتراث الإسلامي كجزءٍ من غزو الغرب الثقافي. فقد
كانت الصهيونية أحد مظاهر التراث الغربي، تقوم على
أكتافه، وتتعلق به، وتتسرب إلى الفكر الغربي ذاته
وإلى الحضارات غير اليهودية.
وهنا يبدو النمط الثالث للغزو الصهيوني للتراث
الإسلامي، ويمتد ويتسع حتى يشمل الأرض والشعب
والوطن والتاريخ. يبدأ الغزو الصهيوني للثقافة
الإسلامية على أوسع نطاق، ينكر الجميل والفضل
اللذين كانا بالأمس القريب. فانحسرت النزعة العامة،
وسادت النزعة الخاصة، وتحول الدين اليهودي إلى
عنصريةٍ عرقية تقوم على الدم، وتنكر اليهود لأصولهم
الأولى التي منها نشأت حضارتهم، سواء في الشرق
القديم أو في الشرق والغرب الإسلاميين. وأرادوا
الاستئثار بفضل كل الأمم وتنصيب أنفسهم معلمي
البشرية جمعاء والأوصياء عليها. وفي نفس الوقت كانت
الدولة العثمانية تقاوم الاستعمار غربًا وشرقًا،
فأراد الاستعمار النفاذ إليها والنَّيل منها عن
طريق هدم الحضارة الإسلامية مصدر قوتها، وعنصر
بقائها في التاريخ.
انتشر علم
الأجناس وسيكلوجية الشعوب وطبائعها. وظهرت النظريات
العنصرية التي تجعل الأوروبيين وشعوب الشمال أكثر
رقيًّا وتقدمًا، وأنقى دمًا ولحمًا من شعوب الجنوب
أو الشرق في أفريقيا وآسيا. ونشأ علم اللغة الحديث
وصُنفت اللغات، وظهر الفرع السامي أصلًا للغات،
والعبرانية أصل للسامية، والعربية أحد فروعها. وتمت
دراسة اللغة العربية كأحد فروع اللغات السامية،
وانقلب الأمر على ما كان عليه أيام نشأة التراث
اللغوي اليهودي في الأندلس، عندما كان فقه اللغة
العربي أساس النحو العبري الوليد. ونشأت محاولات
تقويض الحضارة العربية من داخلها. فظهرت نظريات
انتحال الشعر العربي حتى يتم القضاء على السجل
القومي للعرب. وقارن مرجوليوث وغيره الانتحال في
الشعر العربي والشعر اليوناني تعميةً وتغطية،
وإخفاءً للباعث السياسي تحت غطاءٍ علمي تاريخي،
وأسوةً بالانتحال في الكتاب المقدس، واحدة بواحدة.
ثم ظهرت محاولات تقويض المصدر الأول للحضارة
الإسلامية وهو القرآن، عن طريق إنكار الوحي وإثبات
أنه تلفيقٌ وتوفيق بين روايات يهودية ونصرانية
منتحلة، أو روايات صحيحة لم يفهمها النبي الجديد أو
فهمها وأولها لصالح قبيلته. الشعر منتحل، والقرآن
تجميع من رواياتٍ منتحلة وغير صحيحة، أو أسيء فهمها
عن عمدٍ أو عن غير عمد. وكثرت الدراسات عن اليهودية
والإسلام لإثبات أن الإسلام مجرد فرع لليهودية في
الجزيرة العربية، وأن النبي قد استقى معلوماته من
اليهودية والنصرانية خلال أسفاره من الأحبار
والكهنة، وأن قصص الأنبياء، والشريعة، والعبادات،
والأخلاق، والعادات كلها مستقاة من اليهود في
الجزيرة العربية حتى لم يعد للمسلمين شيء يذكر.
أصبح الفرع وهو اليهودية مصدرًا للفرع الآخر وهو
الإسلام، وتحول الفرع الأول إلى أصل، ونُسي الأصل
السامي المشترك.
١٦ ثم ظهرت محاولات لإعادة كتابة تاريخ
الحضارة الإسلامية من منظورٍ يهودي صهيوني، فخرجت
«دائرة المعارف اليهودية»، التي تظهر فيها الحضارة
الإسلامية كأحد روافد التراث اليهودي، فانقلب الأصل
فرعًا والفرع أصلًا. ثم ظهر الاستشراق وسيطرت
العناصر الصهيونية عليه من أجل تفريغ الحضارة
الإسلامية من إبداعها وماهيتها ووحدتها العضوية
ونشأتها من مركزٍ واحد، عن طريق المناهج التحليلية
والتاريخية والإسقاطية ومناهج الأثر والتأثير.
١٧
وظهرت الصهيونية على نحوٍ مباشر عن طريق تسللها
إلى معظم الحركات الأوروبية الحديثة لاحتوائها
والسيطرة عليها؛ فالماسونية قد بدأت منذ القرن
الماضي تعبر عن مُثل جديدة لإعادة بناء الروح
الإنسانية الشاملة، باسم وحدة الإنسانية واستقلال
الروح. وكان الغرض منها القضاء على القوميات حتى
يمكن باسم الإنسانية الشاملة القضاء على ما ينقص
اليهود كأقلياتٍ في قوميات غالبة، وفي نفس الوقت
تتمسك اليهود بقوميتها الخاصة؛ فالكيل هنا
بمكيالين، الإنسانية للغير، والقومية للأنا، الأخوة
والتسامح للغير والتعصب والعدوان للأنا، السلام
والوئام والمحبة للغير، والحرب والضغينة والكراهية
للأنا. والاشتراكية التي أرادت تحرير الطبقة
العاملة وتأسيس مجتمعات بلا طبقات تسودها الحرية
والعدالة الاجتماعية، سيطرت عليها الصهيونية أيضًا
حتى يكون لها اليد الطولى في العالم ودون أن تتخلى
عن رأسماليتها. وهنا يبدو نفس المنطق المزدوج،
الاشتراكية للآخر والرأسمالية للأنا، الحرية
والمساواة والعدالة الاجتماعية للآخر، والاستغلال
والتسلط وسيطرة رأس المال للأنا. والعلمانية التي
أرادت فصل الدين عن الدولة من أجل أن يكون الدين
لله والوطن للجميع، وعدم تدخل الدولة في شئون الدين
أو الدين في شئون الدولة دفاعًا عن حرية الأديان،
وتأسيسًا للحق الطبيعي للأفراد وللشعوب تسربت
الصهيونية من خلالها، من أجل تأسيس الدولة على
الدين، حتى يسهل بعد ذلك السيطرة على الدولة،
وتبرير جودها باسم الدين. وهو نفس المقياس المزدوج،
العلمانية للآخر والدينية للأنا. أما المذهب
الإنساني الذي نشأ في الغرب منذ عصر النهضة دفاعًا
عن الإنسان في مواجهة طغيان الكنيسة والدولة، فقد
تسربت إليه الصهيونية كذلك من أجل جعل اليهودي وحده
هو نموذج الإنسان، والذي له حق الحياة والبقاء
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ
سَبِيلٌ [٣: ٥٧].
١٨
وقد ظهرت حركاتٌ جديدة في القرن العشرين حاولت
الصهيونية أيضًا السيطرة عليها، وأمكن ذلك بسهولة
لأن البعض نشأ بتشجيعٍ منها من أجل خدمة أهدافها.
ومن ذلك البهائية وتحويل الإسلام إلى حركةٍ صوفية
إشراقية بعيدًا عن الأرض لا جهاد فيها لأعداء أو
لنصرة الشعوب، لا تعتمد على العقل ولا ترتبط
بالواقع، وأصبح معبدها الرئيسي في حيفا، تعلن نهاية
الصراع بين الأديان؛ أي بين الإسلام واليهودية،
وتحرِّف القرآن، وتحذف منه كل الآيات التي تحتوي
على نقدٍ لبني إسرائيل، سواء لتحريفهم التوراة أو
لتشويههم العقائد أو لعصيانهم أوامر الله. كما ظهرت
نظريات العقل العربي لتستأنف النظريات العنصرية
القديمة. فهناك منهجٌ عربي في التفكير وأسلوبٌ عربي
في الحياة له سمات خاصة، في مقابل منهج التفكير
اليهودي وأسلوب الحياة اليهودي. والفرق بينهما هو
الفرق بين التخلف والتقدم، بين الجهل والعلم، بين
الهزيمة والنصر، بين الفناء والبقاء.
١٩ وتمت سرقة الفن العربي وأساليب الحياة
العربية وعزوها إلى اليهود، وأصبح «الأرابيسك»
يهوديًّا، والموسيقى العربية يهودية، والخيمة
والنخلة والعقال والناي والصحراء والإبل كلها
يهودية، مع أن اليهود عاشوا في الطراز المعماري
العربي، وكما يبدو الأمر من المعبد اليهودي الذي
كان يدرس فيه موسى بن ميمون في قرطبة. وظهر
الاستشراق في دفعةٍ جديدة من داخل إسرائيل عن طريق
ترجمة الأدب العربي الحديث والفكر العربي الحديث،
ودراسة التراث العربي الإسلامي، وإصدار المجلات
الثقافية المتخصصة للرواية والشعر والنقد، ونشر
النصوص القديمة، وإعادة فهرسة المعاجم العربية
القديمة، ونشرها نشرًا علميًّا حديثًا تسهيلًا على
الباحثين وكبديل عن جهد العلماء العرب والناشرين
العرب. كما سيطرت الصهيونية على كثيرٍ من مراكز
بحوث الشرق الأوسط في الغرب، وروجت لبعض الموضوعات
لتشويه الثقافة العربية الإسلامية دفاعًا عن
إسرائيل مثل «الجنس واللون» في الإسلام، والرق في
الإسلام، وصلة الإسلام بأفريقيا حتى لا يقال عن
الصهيونية وحدها أنها حركةٌ عنصرية. وبالتالي يتم
التشريع للتعاون بين إسرائيل وجنوب أفريقيا.
٢٠
ثم حاول الغزو الصهيوني الاتجاه نحو العقل العربي
الحديث بعد التطبيع، حتى يمكنه القضاء على المناعة
العربية ضد الصهيونية، والتي بدأناها منذ عدة
أجيالٍ، وحتى يمكنه تصدير الصهيونية إلى العالم
العربي ثم من خلاله إلى أفريقيا وآسيا وإلى العالم
الثالث كله، بعد أن كان العالم العربي قلب تحرره
ومركز قيادته؛ فالصهيونية كانت حركة تحرير للشعب
اليهودي، كما أن القومية العربية حركة تحرر للشعب
العربي. كلاهما قوميتان شرعيتان، وحركتان
تاريخيتان! والصهيونية، كما تدعي، نموذج للتحديث:
زراعة الصحراء، إنشاء المدن الجديدة، التصنيع،
التدريب، الأخذ بأساليب العلم الحديث، الأبحاث
النووية. إذن يمكن صياغة مشروع واحد بين القوميتين
يجمع بين العبقرية اليهودية والمال النفطي والعمالة
العربية، وذلك يتطلب السلام مع الجيران، ووقف
العداء، وإنهاء حالة الحرب، وقبول الجسم الغريب،
وإعلان الاستسلام، والتكفير عن الذنوب السابقة. كما
يتطلب أيضًا الزيارات المتبادلة لإحداث الصدمات
الحضارية اللازمة لدى الزوار العرب حين المقارنة
بين تقدمهم وتخلفنا. كما يقتضي ذلك إنشاء مراكز
أبحاث إسرائيلية داخل الوطن العربي لتعويد الطلاب
العرب على البحث، وإبعادهم عن مراكز أبحاثهم
الوطنية، توجيهًا للعقل العربي وامتصاصًا لقدراته
في جمع مادة عن التراث الوطني والتكوين الشعبي
ومزاج الأمة، حتى يسهل قيادتها والسيطرة عليها.
٢١ وما أكثر التسهيلات التي تقدمها
الصهيونية لذلك؛ مثل المنح الدراسية، وتبادل
المعلومات، والأساتذة الزائرين، والقيام بمشاريع
البحث المشتركة المباشرة أو من خلال مراكز البحوث
الأمريكية بالمنطقة. والهدف من ذلك كله هو تحويل
المنطقة إلى دويلاتٍ طائفية صغيرة متناحرة تكون
إسرائيل في وسطها الدولة اليهودية الكبرى. وبالتالي
تعطي الشرعية لوجودها في مواجهة أي مشروعٍ آخر
يقدمه الميثاق الوطني الفلسطيني، مثل مشروع تكوين
دولة علمانية يتعايش فيها اليهود والمسلمون
والمسيحيون، بصرف النظر عن العقيدة أو العرف أو
الثقافة.
والأسوء من ذلك كله أن يمهد لهذا الغزو من بعض
الأقلام العربية، التي كانت تبرز بعض الأنظمة
العربية التي استسلمت للغزو الصهيوني، وأنهت
مقاومتها، وألقت السلاح، وذلك عن طريق الترويج
لمجمعٍ للأديان في سيناء فوق جبل الطور، حتى يجتمع
فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون ليصلوا من أجل
السلام، أو ليحتفظ فيه أحد القادة بكنوز الدير
المجاور، تمهيدًا للاستيلاء عليه أو لتهريبه إلى
الخارج! فاليهود أولاد العم وليسوا غرباء عنه،
بيننا وبينهم مجرد حاجز نفسي وليس صراعًا قوميًّا
على أرض وطن وقضية شعب.
وتسهل مقاومة هذا الغزو الصهيوني للتراث الإسلامي
كمقدمة لتأكيد غزوه للتراث الوطني وتشريعه عن طريق
اللجوء إلى هذا التراث ذاته واستمداد عناصر
المقاومة منه. ففي القرآن الكريم، مصدر هذا التراث
ومنبعه الأول، لا يجوز الصلح مع بني إسرائيل؛
يكفرون بالحق إذا عرفوه أو يكتمونه ويكذبونه
ويبدلونه ويحرفونه، أو يؤمنون بالبعض دون الآخر
وفقًا للهوى أو يجهلونه كليةً؛ إذا عرفوه فإنهم
يعصونه أو يؤمنون به إيمانًا غير جاد، يعيشون في
مجتمعٍ مغلق يقوم على الهوى والمصلحة، يصدون عن
الحق، يغالون في الدين وينافقون فيه، تسيطر عليهم
الأنانية وحب الدنيا، ويأكل الأحبار أموال الناس
بالباطل، ويعتدون على غيرهم من الشعوب، يجحدون
بالنعم مثل النبوة والخلاص والمغفرة، ينقضون
الميثاق فلا عهد لهم؛ ومن ثم تستحيل المصالحة معهم،
باستثناء البقية الصالحة التي رفضت الصهيونية
كعنصرية، وأبقت على اليهودية كدينٍ شامل كما حاول
المصلحون وفلاسفة التنوير.
٢٢ فالثقافة الوطنية خير ركيزة يقوم عليها
الصمود أمام الغزو الصهيوني لروح الأمة. وإنها
لمسئولية كل المثقفين العرب وكل المسلمين
المستنيرين، حماية وجدان الأمة وثقافتها القومية
بهذه الدرع الواقية وأمام هذا الغزو. وإذا كان
النضال الوطني في تاريخ الشعوب في مدٍّ وجزر، وكان
المد قد وصل إلى حده الأقصى في الصلح، فإن الجذر قد
يبدأ من جديدٍ اعتمادًا على الثقافة
القومية.