هل يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل؟

أولًا: مقدمة

في هذا العصر الذي تعيش فيه أجيالنا افترقت فيه الأمة إلى فريقين: الأول يريد الصلح مع بني إسرائيل والاعتراف بالدولة التي أقامها الصهاينة منهم، والثاني يرفض الصلح معهم وعدم الاعتراف بدولتهم. ونحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.

ونحن نحاول من جانبنا المساهمة في حل هذا الخلاف الذي أضاع وحدة الأمة وذهب بشوكتها. نحاول ذلك من موقفٍ شرعي خالص، مستنبط من رأي كتاب الله في بني إسرائيل، دون الاعتماد على مصلحة فئة أو قوم، دفاعًا عن نظامٍ سياسي أو رفضًا لنظامٍ آخر. وبالتالي يمكننا أن نعزم الأمر ونحسم الخلاف دون تدخُّل الأهواء والأغراض والمصالح فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [٤: ٦٥]، ومن موقفٍ فقهي خالص لا شأن له بالجبهتين المتصارعتين، فعسى الله أن يهديهما معًا إلى الحق ومصالح الأمة، وتلك سنة الفقهاء، حماة الشرع، والمدافعين عن مصالح المسلمين، منذ تصديهم للغزوات الصليبية وندائهم للجهاد.

وهو أيضًا حديث الأمة العربية التي تضع مقاديرها الآن على أكفها، والتي تمر بمرحلةٍ حاسمة من تاريخها قد تشطرها شطرين إلى الأبد — لا قدر الله — وتكون أشبه بالأمة الألمانية أو الكورية، في وقتٍ ما زالت فيه أطراف الأمة في الفلبين جنوبًا وأفغانستان شرقًا معرضة للتآكل أو الانحسار. وقد تخبو الأمة — لا قدر الله — ولا تقوم لها قائمة بعد ذلك إذا ما استشرى الداء في روح الأمة، وتخلت عن الجهاد الذي هو فريضة على المسلمين، على كل مسلمٍ أن ينويه مرةً في حياته كالحج تمامًا إن لم يكن أبدى وأهم.١ فالحرمان الشريفان في مأمنٍ ولكن المسجد الأقصى وأراضي المسلمين في فلسطين في خطر. والقرآن هو تراث الأمة، ومصدر فكرها، وأساس شرعها، ومحرك جماهيرها، ومُحيي قلوبها، وإن لم يكن حتى الآن ملهم قادتها، ومرشد القائمين عليها، والمسئولين على ولاية أمورها.
وهو أيضًا حديث مصر، تلك التي ذكرها الله في القرآن والتي وصفها الحديث بأن جندها خير أجناد الأرض، وبأن شعبها في رباطٍ إلى يوم القيامة حتى لا تأثم مصر، وهي كنز الإسلام، وكعبة المسلمين، وشقيقة العرب الكبرى، ومفرق الشرق، وحتى تتحمل مصر مسئولياتها الإسلامية ورسالتها العربية وشخصيتها القومية، وتبعتها التاريخية.٢

ويهمنا أولًا توضيح الحقائق الآتية منعًا لأي اشتباهٍ أو التباس:

  • (١)

    إن قيل إن بني إسرائيل الذين وصفهم الله في القرآن غير بني إسرائيل في دولة إسرائيل، فقد اندثر الأوائل وتاهوا في الأرض، والأواخر مجموعة من الهجرات الأوروبية البيضاء في أوج المد الاستعماري الأوروبي في القرن الماضي لا صلة لهم بالأوائل، واليهود الشرقيون عربٌ خُلَّص تجمعهم وباقي الأعراب من مسلمين ومسيحيين عادات العرب وتقاليدهم ولغتهم ودياناتهم الشعبية … قلنا إن ذلك صحيحٌ تاريخيًّا وعلميًّا لا جدال في ذلك. فكرة نقاء الشعب وبقائه في التاريخ واستمرار هويته فكرة عنصرية صرفة، وهي إحدى أشكال العنصرية الغربية الدفينة. ومع ذلك فإن حجة إسرائيل الكبرى هي أنها سليل بني إسرائيل، العبرانيين القدماء، وأن دولة إسرائيل حاليًّا هي تجميع لشتات بني إسرائيل القدماء. وسواء كان ذلك الادعاء حقًّا أم باطلًا فإنه في كلتا الحالتين واقعٌ سياسي، يدعم دولة إسرائيل، وتربي أجيالها عليه، وتستقطب الرأي العام حوله. وقد ضاعت أراضي المسلمين بسبب هذا الادعاء وعدم مقابلته من جانب المسلمين بتوضيح زيفه وبطلانه وإيضاح الحقائق وصياغة نظرية مقابلة، وإن كانت ما زالت مطمورة في صدور المسلمين.

  • (٢)

    لا يعني التوحيد بين بني إسرائيل في القرآن، وإسرائيل الجاثمة على صدورنا في أرض فلسطين استمرارية في النسل، وأن إسرائيل اليوم هي من لحم ودم بني إسرائيل؛ فذاك ما ينفيه علماء الأجناس نظرًا لتداخل الشعوب وتزاوجها. وبالرغم من انعزالية بني إسرائيل التي تقترب من العنصرية، والتي تجعلها أقرب إلى الحرص على بعض الخصائص الثابتة المتوارثة نفسيًّا واجتماعيًّا، إلا أن التماثل القائم بين بني إسرائيل التي وصفها الله في القرآن وإسرائيل الحالية، هو تماثل في السلوك وفي المفاهيم وفي النظرة للعالم وفي رؤيتهم لباقي الشعوب وفي طريقتهم في التعامل معها؛ فهي وحدةٌ معنوية وإن لم تكن وحدة جنسية عرقية.

  • (٣)

    إن وصف القرآن لبني إسرائيل يطابق سلوكهم اليوم وادعاءهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله دخل معهم في ميثاقٍ أبدي، يعطيهم كل شيء ولا يطلب منهم شيئًا، حتى الطاعة لم يطلبها منهم، ووعدهم بالأرض والنسل والغُنم والنصر؛ فهو رب الجنود، وجيشهم جيش الله، ولغيرهم الاستئصال والغرم والهزيمة والاستعباد. ثم إن سلوك بني إسرائيل لم يتغير في التاريخ القديم أو الحديث وإن تغيرت أساليبه وطرقه، وهو ما تعتز به إسرائيل وما يؤديه سلوكها طبقًا لوصف القرآن له؛ فالهوية هنا ليست تاريخية بل سلوكية وليست بيولوجية بل أخلاقية. وقد ينطبق على إسرائيل وعلى أي شعبٍ يتسم بهذه الخصائص السلوكية، والتي يشارك فيها أحيانًا الغرب المسيحي كله بعنصريته وعنجهيته.

  • (٤)
    لا يعني ذلك الوقوع في أي دعوةٍ للمعاداة للسامية، بإصدار أحكام عامة وشاملة على بني إسرائيل ووصف خصائص ثابتة لهم، بل يعني حكمًا شرعيًّا ما دام سلوك بني إسرائيل قائمًا على ما هو عليه. لذلك جاءت معظم هذه الأوصاف في السور والآيات المدنية عند تأسيس الدولة ووصف سلوك الجماعات والأفراد كمواطنين في الدولة حرصًا على أمنها وسلامتها، ولا ينطبق الحكم على من يغير سلوكه وموقفه، كما فعل أنبياء بني إسرائيل والمسيح وأتقياء اليهود مثل أهل الكهف، وكل من يرفض ادعاءات بني إسرائيل في الاختيار الإلهي مثل المصلحين اليهود وفي عصر التنوير، ويكون جزاؤه القتل والتشريد والتعذيب منهم.٣ ونحن قادرون على الوقوف أمام علماء بني إسرائيل، الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، معتمدين على كتبهم المقدسة وتراثهم الديني وأبحاث علمائهم ونتائج دراساتهم. ولكننا لم نشأ الاعتماد على ذلك هنا نظرًا لأننا نكتب لجماهير الأمة الإسلامية، معتمدين على تراثها وكتابها الذي ما زال لديهم مصدرًا للفهم والتصديق.
  • (٥)
    لا يعني ذلك دعوة إلى الحرب، فذاك متروكٌ لجيوش المسلمين، وحكام العرب، وقادة الأمة، إنما الهدف هو الحرص على وعي الأمة، وعلى شرعية نظرتها للعالم، وعدم تزييف وعينا القومي سواء في الحاضر أو في المستقبل. ليست الخطورة في أن تهزم الأمة عسكريًّا ولكن الخطورة في أن يضيعها وعيها، وأن تصيب الهزيمة روحها.٤ والعلماء ورثة الأنبياء، وأعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس. مهمتنا مهمة فقهاء المسلمين في الدفاع عن مصالح الأمة، والحرص على روحها، والدفاع عن براءة وحيها، فلسنا فقهاء السلطان، أو فقهاء الحيض والنفاس.٥ مهمتنا التصدي لقضايا الأمة المصيرية وعلى رأسها الاستعمار والصهيونية والتخلف الاجتماعي والقهر السياسي.
  • (٦)

    مهمتنا هي إيجاد الصورة الأخرى لبني إسرائيل بعد أن حاولت أجهزة الإعلام تغييرها. وأصبح بنو إسرائيل نموذج التحديث لمجتمعاتنا في زرعهم للصحارى، وتشييدهم للمستعمرات والمدن الجديدة، وتأسيسهم للصناعات، وعلمهم وثقافتهم وخبرتهم وقدرتهم وعبقريتهم. بل ويتعدى الأمر إلى وصف شرفهم وأمانتهم وإخلاصهم ووفائهم وصدقهم وكرمهم وشجاعتهم وعفتهم. وحاول البعض منا حتى تغيير صورة اليهودي في التاريخ بأنه لم يعد ذلك الأحدب الظهر، المقوس الأنف، الأخنف الصوت، الأعمش العين، المرابي العجوز، شيلوك الأدباء، بل إنسانٌ معتدل القامة، حسن المظهر والصوت، إنسانٌ مثل باقي البشر، دمث الأخلاق، يعرف معنى الحب والوفاء. واستمرت أجهزة الإعلام في مدح القدس الموحدة والخدمات الجديدة في القدس الشرقية من نظافةٍ وطرق ومياه وكهرباء، في حين كان العرب يتبولون على حوائط القدس القديمة! في مواجهة هذا الإعلام تهدف هذه الدراسة إلى إعطاء صورة بني إسرائيل في القرآن الكريم حتى تعرف الأمة أي الصورتين أصدق؛ والحق أحق أن يتبع.

  • (٧)

    ولم أستعمل الحديث الشريف تأييدًا للقرآن حتى لا يعترض أحد الأدعياء برواية الحديث، وسنده، ودرجة صحته، وتضيع القضية في مماحكات العنعنة! هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد شيء في الحديث لا يوجد أصله في القرآن. والاعتماد على القرآن وحده هو الرجوع إلى الأصل أولًا وهو أوعى وأشمل وأكمل. أو أن يفسر إحدى وقائع التاريخ النبوي وأقواله بصراعه مع اليهود وتحويل الأحكام العامة إلى ظروفٍ ومناسبات طارئة خاضعة لمجريات الأحداث وتقلبات الزمن. كما لم أشأ الإشارة إلى وقائع التاريخ سواء في حياة النبي أو الصحابة أو فيما بعد؛ فالوقائع لا بد أن تكون شاملة غير منتقاة سلفًا بناء على غاية المؤرخ وهدفه. كما أنها تخضع للتفسير والتأويل. وقد يأتي من هو أعلم منا بالتاريخ وبالتالي تصعب مجاراته في كثيرٍ مما يختار. وكثيرًا ما يختار المؤرخ وقائع دون أخرى أو يؤَوِّل الوقائع على هواه. والتاريخ في نهاية الأمر لا يكون حكمًا شرعيًّا، فلا يمكن الانتقال من الفرع إلى الأصل، أو من الواقع إلى الفكر، والتاريخ أيضًا مدٌّ وجزر، وإن كان اليهود قد عرفوا عصرهم الذهبي في الأندلس أيام الحكم العربي الإسلامي، ولم يعانوا من الاضهاد إلا في الغرب من مسيحيي الغرب، وإن كان العرب الآن هم الذين يدفعون الثمن.

  • (٨)

    ولا يهمنا في تفسير الآيات القرآنية الرجوع إلى الوقائع التاريخية المحددة، والتي كانت وراء أسباب النزول. فذاك يهدف إلى ضبط معاني الآيات، ولكن الذي يهمنا هو تقييم هذه المعاني والأحكام والأوصاف، ما دامت الوقائع متكررة على ما يحدث في القياس عند علماء أصول الفقه. مهمتنا قراءة أحوال المسلمين المعاصرين في النصوص ورؤيتهم مآسيهم فيها. وليس صدق التفسير في نهاية الأمر هو مطابقة مضمون النص للواقع التاريخي المحدد في الحوادث التي نشأت في عهد الرسول، وقت نزول القرآن، بل في الواقع الحي المتكرر والدائم في حياة المسلمين. وبالتالي، تجد الأمة نفسها في القرآن، ويكون القرآن معبرًا عن وضع الأمة في التاريخ. ليس المطلوب إذن أن يقول المتعالمون إن هذه الآية في وصف بني إسرائيل لا تعني ما أرمي إليه، بل تعني شيئًا آخر تاريخيًّا محددًا، فإن عزل النص عن واقع المسلمين وحبس طاقاته الكامنة التي يمكن أن يولدها في نفوسهم، لهو خوفٌ وجبن وتميع وحرص على الدنيا، يأبى فقهاء المسلمين من الوقوع فيه.

  • (٩)

    فإن قيل: إن مقاومة الصهيونية والصراع مع إسرائيل أقوى وأعتى من أن تتم المواجهة معه عن طريق بيان أوصاف بني إسرائيل في القرآن، حتى بعد تعميمها وإطلاقها على سلوك إسرائيل قادةً وشعبًا؛ فالصهونية حركةٌ سياسية عنصرية توسعية استيطانية قامت في القرن الماضي وقت نشأة الحركات القومية والنزعات الرومانسية. وبالتالي لا يمكن مقاومتها إلا بحركاتٍ سياسية مشابهة، حركات تحرر ومناهضة للاستعمار، وكما قامت على العدوان فإنها لا ترد إلا بالقوة. وهذا صحيحٌ علميًّا وتاريخيًّا أمام مجامع العلماء والرأي العام المستنير. لا ينكره إلا مكابر أو صاحب هوى. ولكن الذي يهمنا هو الحرص على الوعي القومي لشعوبنا الإسلامية، وتقوية مناعتها ضد تسرب الصهيونية إلى أعماقها، بعد أن ظهروا في أجهزة الإعلام على أنهم أولاد العم، الأصدقاء الذين يفون بوعودهم، وبعد أن أصبحت عند البعض منا بعد أن تم تزييف وعيهم القومي، نموذجًا للتحديث في زراعة الصحراء، وصناعة الماس، وتربية الكتاكيت. أما أسباب قوتهم الأخرى من عقائد وتضحية وتجنيد للجماهير فهي غائبة عنا. مهمتنا إذن شحذ وعينا القومي واستعمال الوحي كحصن حصين لنا ضد مخاطر الصهيونية، والاعتراف بها والتعامل معها، وغض النظر عن أطماعها بدعوى ضعف الحيلة والمهادنة المؤقتة.

  • (١٠)

    وهذا نداء إلى علماء الأمة الإسلامية وفقهائها للتكاتف والاتحاد، من أجل الوصول إلى حكمٍ شرعي واحد. فقد أخطئ وأصيب، فإن أخطأت فأرجو تصويبي، وإن أصبت فأرجو تكاتف الجميع من أجل حماية وعي الأمة والحرص على روحها وتاريخها ووحيها؛ فهي مسئولية أمام الله وأمام الناس وأمام التاريخ، وقضية ليست حكرًا لأحدٍ لأنه موضوعٌ يعم به البلوى ويمس كل مسلم، وتتشرد بسببه الملايين. وحتى لا تأتي أجيالٌ بعدنا، تكون ضحيةً للصهيونية وتوسعها وأطماعها وانتشارها كنموذج حديث لمجتمعاتنا، ونتحول نحن إلى حضاراتٍ متحفِيَّة في تاريخ البشرية ثم نتساءل: أين كان علماء المسلمين وفقهاء الأمة؟

ثالثًا: الكفر بالحق

يتناول القرآن بني إسرائيل وهو اللقب الغالب، كما يتناول اليهود وهو الاستعمال الأقل، كما يشير إليهم ضمن أهل الكتاب، ويصفهم بصفاتٍ أقرب إلى الطبيعة والجبلة، بعد أن تكررت أفعال الكفر والنفاق والعصيان.

وأول وصفة لبني إسرائيل هي الكفر بالحق وتجاهله وعدم الاعتراف به والتسليم والإذعان له، فهم شعبٌ لا يعترفون بأية حقوق، وبالتالي لا يسلمون بأية حقوق، ومن ثم يكون انتظار إسرائيل أن تسلم في يومٍ من الأيام بحقوق شعب فلسطين هو انتظار سيطول إلى يوم القيامة.

فأول مظاهر الكفر بالحق هو الكفر بأنبيائهم وعدم تصديقهم لهم، مع أن الحق الذي يأتي به الأنبياء، حقٌّ مطلق من الله، ليدعو إلى التصديق المباشر والإذعان التام.

فهم أولًا لا يصدقون أنبياءهم ولا يؤمنون بهم وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [٣: ١١٠]، عصوا كل الأنبياء: نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وصالحًا. فلقد أمرهم صالحٌ بترك الناقة دون عقرها ولكنهم عقروها [١١: ٦٤-٦٥]، ويركز القرآن على عصيانهم الأنبياء الأربعة الكبار.

لقد أنذرهم نوحٌ قبل أن يحل بهم العذاب (٧١: ١–٢٨)، وأمرهم بعبادة الله وتقواه وطاعته من أجل أن يغفر الله لهم ويطيل عمرهم ولكنهم لم يسمعوا دعواه، بل كلما دعاهم نفروا منه وهربوا ووضعوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا. دعاهم نوح سرًّا وعلانية، ووعدهم بكل النعم المادية والمعنوية، الأموال والبنين والجنات التي تجري من تحتها الأنهار، كما وعدهم المغفرة، دعاهم نوح إلى النظر في حال الدنيا وما فيها من تغيرٍ وتطور ولكنهم عصوا، واتبعوا الباطل، ومكروا وتشبثوا بآلهتهم، وخدعوا الناس وظلموهم، وكان عقابهم الغرق بعد أن دعا نوح الله ليدمرهم كليةً واستئصالهم من على وجه الأرض، حتى امرأة نوح وامرأة لوط قد خانتا، وكأن الأنبياء وحدهم من بني إسرائيل هم الأتقياء، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [٥٤: ٩–١٢].

كذب بنو إسرائيل نوحًا (٥٠: ١٢)، وقالوا عنه إنه مجنونٌ فنصره الله. قوم نوح قومٌ فاسقون (٥١: ٤٦)، وقوم سوء إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ [٢١: ٧٧]، لقد اتهموه بأن به جِنة وبأنه بشرٌ مثلهم يريد أن يتفضل عليهم ولو شاء الله لأنزل ملائكة (٢٣: ٢٣–٢٨)، ولكذبهم قوم نوح أيضًا لأنهم لا يصدقون بشيء؛ فالنبي لا يتبعه الأراذل من القوم وبنو إسرائيل يستكبرون (١١: ٢٥–٤٩).

وقد اعتبروا أنفسهم من نسل إبراهيم، وأرادوا أن تكون النبوة في ذريته، وكأن النبوة ميراثٌ خاص بهم وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [٢: ١٢٤]؛ فالنسل هو العمل الصالح وليس الدم أو الوراثة، وإبراهيم هو أبو الأنبياء وأول المسلمين، وكل من ينتسب إليه لا يكون يهوديًّا ولا نصرانيًّا بل حنيفًا مسلمًا، وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [٢: ١٣٥]، بل إن أنبياء بني إسرائيل كلهم مسلمون لأنهم يدعون إلى عبادة الله وحده والإخلاص لطاعته، وإلى التقوى والعمل الصالح، أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [٢: ١٤٠]؛ فالجدل حول إبراهيم جدلٌ عقيم لأنه سابقٌ على التوراة والإنجيل، فإبراهيم هو أول المسلمين الذي استطاع أن يستدل على التوحيد بعقله ويصل إليه بفطرته يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [٣: ٦٥–٦٨]، إن إيمان إبراهيم هو الذي يعطي الأمن والاطمئنان، في حين أن جدل قومه له لا يدل إلا على الخوف الدفين وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٦: ٨٠-٨١].

وبالرغم من أن موسى قد أنجاهم من عذاب فرعون وطغيانه، إلا أنهم عصوه وطالبوه بعبادة أصنام مشابهة لأصنام الشعوب المجاورة وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [٧: ١٣٨–١٤٠]، وكانت عبادتهم للعجل في غياب موسى قمة عصيانهم وعدم إدراكهم للتوحيد وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [٧: ١٤٨]، يستضعفون الأنبياء، ويقوون عليهم، ولا يرهبون الله، وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [٧: ١٥٠–١٥٢]، وأن ما فعل موسى لقومه لإنجائهم من فرعون لم يفعله نبي لقومه (٧٩: ١٥–٢٦)، ومع ذلك عصوه وآذوه … وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [٦١: ٥].

وإن صدقوا أنبياءهم فإنهم لا يصدقون من يأتون بعدهم مثل عيسى ومحمد، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [٢: ٩١]؛ فالإيمان بالأنبياء واحدٌ لا يتجزأ، ومن يؤمن بالبعض دون البعض الآخر، فإن ذلك يطعن في إيمانه الأول. لذلك يقول المسلمون لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [٢: ٢٨٥]، هذا الإيمان بالأنا والكفر بالآخر يكشف عن أنانيةٍ وعنصرية تجعل بني إسرائيل غير قادرين على الاعتراف بالآخرين وحقوقهم.

ويكفرون أيضًا برسالة المسيح وما أنزل الله عليه من كتاب وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ [٣: ٥٠]، وقد أتت رسالة المسيح لصالحهم تخفيفًا للتوراة وليحل لهم بعض ما حرم عليهم، ومع ذلك كفروا به ولم يصدعوا للحق لأنهم ليسوا أهل حق، ولا يعترفون بحقوق أحدٍ سواهم وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [٥: ٤٦]، وهم يكفرون بعيسى بل ويفترون عليه وعلى أمه مريم، وقد أتى عيسى مصدقًا لما بين أيديهم من التوراة وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [٤: ١٥٦–١٥٩]، لم يصدقوا بعيسى وبشارته بالرغم من البينات التي أتى بها واتهموه بالسحر وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [٦١: ٦–٩]، لقد خاصموا عيسى وجادلوه وتكبروا عليه، وقد أتى ليبين لهم ما كانوا فيه يختلفون.

وهم يكفرون بمحمدٍ وقد أتى مصدقًا لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٢: ١٠١]، مع أن الوحي الذي نزل لهم على محمد، والذي يصدق ما معهم من وحيٍ نزل على موسى، أوجب للتصديق إذا كان الإيمان لديهم إيمانًا شاملًا كاملًا دون تفرقةٍ بين الرسل. ولكن بني إسرائيل اعتبرت إنزال الوحي عليهم وإرسال الأنبياء لهم ميزة خاصة بهم يتفردون بها على غيرهم من الشعوب. فهم أول الكافرين بالوحي الإسلامي وبالقرآن بالرغم من تصديته لما معهم من كتبٍ سماوية، وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [٢: ٤١]، فإيمانهم بالوحي إيمانٌ أناني خالص، يصدقون ما أنزل إليهم ويكفرون بما أنزل إلى غيرهم نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [٣: ٣]، وعدم الإيمان بالوحي الإسلامي ليس له عذر ويستوجب اللعنة ومسخ البشر؛ لأن الإيمان بآخر الرسالات نتيجة طبيعية للإيمان بأوائلها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولًا [٤: ٤٧].

وقد أتت رسالات الأنبياء على فتراتٍ حتى يتعود بنو إسرائيل على الإيمان درجة فدرجة، وحتى لا يكون لهم عذرٌ في النهاية، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٥: ١٩]، ومع ذلك فإنهم يستعجبون من ذلك، ويتناسون الوحي السابق. وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ … [٦: ١٥٦–١٥٧].

وبالرغم مما يبدو بين اليهود والنصارى من تحالفٍ واتحاد ضد المسلمين، إلا أنهم فيما بينهم يناهضون بعضهم بعضًا، وكلٌّ منهم لا يعترف بالآخر، ويكفره ولا يؤمن بما أنزل الله له وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [٢: ١١٣]، اجتمعوا معًا على عداوة المسلمين ونهب ثرواتهم والاستيلاء على أراضيهم، وضياع همتهم، والقضاء على وعيهم، مع أن المسلمين وحدهم هم الذين يعترفون بهم، ويسلمون بما أنزل الله لهم، كل فريقٍ منهم أناني لا يحب إلا نفسه، وبالتالي استحالت الوحدة الداخلية بينهما، كلٌّ منهم لا يرى أبعد من حدود أنفه، ولا يقدر على الخروج من جنسه وعنصره وجلده ولونه، ومن ثم وقعت الحروب بينهما، ورأى كل فريقٍ بقاءه في استئصال الفريق الآخر، وهذا هو أحد الجذور التاريخية للعنصرية الغربية المتمثلة في الاستعمار والصهيونية.

ولا تنفع معهم البيانات والآيات والبراهين لأن كفرهم بالحق كفرٌ جبلِّيٌّ طبيعي مِلِّيٌّ، سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [٢: ٢١١].

وبالرغم من كل ما لديهم من آياتٍ يشاهدونها، فإنهم يكفرون بها وبما يثبتها يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [٣: ٧٠]، والذي يكفر بالآية فإنه يكفر بكل شيءٍ ويكون كالأعمى وأضل سبيلًا؛ لأنه قضى على وسائل المعرفة لديه فيعيش كالحيوان الأعجم ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [٣: ١١٢]، والعجيب أن الكفر بآيات الله لا يمكن إنكاره لأن الله شاهدٌ على كل شيء قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ [٣: ٩٨].

وبالرغم من معرفتهم بالوحي معرفة حسية إلا أنهم يكفرون به، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [٦: ٢٠]، وهم بكفرهم يخسرون أنفسهم لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا مدركًا للحق متمثلًا له.

وهم يتركون ما ينزل على الأنبياء ويأخذون ما تتلوه الشياطين؛ أي إنهم يتركون الحق ويأخذون الباطل، وبالتالي فهم غير قادرين على الاختيار بينهما، بل تدفعهم طبيعتهم إلى ترك الحق وأخذ الباطل، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ [٢: ١٠٢]، يستبدلون بالوحي السحر، وبالحق الأسطورة؛ فالأنبياء لم تأمر بما تفعله الصهيونية حاليًّا.

ويضر بني إسرائيل أنفسهم بالكفر وتركهم رسالات الأنبياء وأخذهم تعاليم الشياطين فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ [٢: ١٠٢]، وبالتالي فإنهم سبب عداء الشعوب لهم، وكل ضررٍ يلحق بهم هم سببه؛ لأنهم لا يتعلمون ولا يسلمون إلا بما يضرهم.

وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت أي بالظلم والعدوان، ويروجون للكفر ضد الإيمان أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [٤: ٥١–٥٣].

ثالثًا: عصيان الحق

ويظهر الكفر بالحق عمليًّا في مظاهر عصيانه ومخالفته، ومنها:

  • (١)
    الجهل التام بالحق واستبداد الباطل به وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ … ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ [٩: ٣٠]، ومن ثم يستحيل إقناعهم بالحق، والحق عندهم لا يخطر على بال، بل إن مهمتهم هي وضع الباطل في مقابل الحق حتى يشوشوا به عليه، لن يجدي معهم إقناع أو إفهام، بل إن مهمتهم إطفاء نور الله ومحو الحق يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [٩: ٣٢].
  • (٢)
    فإن عرفوا الحق فإنهم يكتمونه ولا يعلنونه للناس، وكأن معرفة الحق جريمة لا بد من التستر عليها؛ لأن الاعتراف بالحق يدمغ كفرهم، ويكشف نفاقهم، ويدحض سلوكهم، ويبين للناس عصيانهم الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢: ١٤٦]، فهم يعرفون الحق معرفةً عيانية تقوم على الحس والمشاهدة، طبقًا لطبيعتهم المادية، ومع ذلك فإنهم يتكتمون عليه، ومن يكتم الشهادة فإنه آثمٌ قلبه وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [٢: ١٤٤]، فهم يعلمون الحق ولكن لا يعترفون به ولا يظهرونه حتى لا تدحض أعمالهم، وتظهر عورات سلوكهم. لذلك أتى القرآن ليكشف عما كانوا يخفونه يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [٥: ١٥]، ويقومون بذلك عمدًا وكتابةً إخفاء للقراطيس قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [٦٠: ٩١]، ومن ثم يبدلون كلام الله فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [٧: ١٦٢].
  • (٣)

    فإذا عرفوا الحق وأعلنوه فإنهم يكذبون على الرسل، ويزيفون رسالاتهم، ويكذبون على الله، ويزيفون كلامه.

  • (٤)
    فإذا عرفوا الحق وأعلنوه وزيفوه فإنهم بذلك يلبسون الحق بالباطل والباطل بالحق، حتى يضيع الحق في غمرة الباطل وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢: ٤١]، ويكون الخلاف بينهم وبين باقي الشعوب هو خلافٌ على الحق وليس على المصلحة، ويضيع الوقت في البحث عنه وتخليصه من الباطل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٣: ٧١].
  • (٥)
    فإذا أظهروا للناس بعض الحق فإنهم يحرفونه حتى يتم التمويه على الناس يحرفون نصوصه، ونطقه، ومعانيه وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٣: ٧٨]، يحرفون الكلم عن موضعه عمدًا على غير معناه مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [٤: ٤٦]، يسيئون نطق الكتاب حتى يفيد غير معانيه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [٢: ١٠٤]، ويكون التحريف كتابة باليد أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٢: ٥٧]، يكتبون بأيديهم ويقولون هو من عند الله فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [٢: ٧٩].
  • (٦)
    فإذا أظهروا الحق فإنهم يؤمنون ببعضه ويكفرون بالبعض الآخر، حتى لا تكتمل الحقائق وتظهر كلها أمام الناس، وذكر الحقائق إلى المنتصَف هو نوعٌ من الكذب كمثَلنا المشهور فيمن يقول لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاة وحتى يختاروا من الكتاب ما يتفق مع هواهم، ويرفضون ما يختلف معه أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [٢: ٥٨].

ويحتجون بالأعذار لتبرير الكفر، ومن هذه الأعذار الغباء، وعمى القلوب، وهو عذرٌ أقبح من ذنب، فأي إنسانٍ يعترف بظلام قلبه فإنه ينكر إنسانيته وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [٢: ٨٨]، فهم يعترفون بصدأ قلوبهم وبعدم قدرتهم على فهم الحق والإذعان إليه، وهو في الحقيقة تراكم لعصيانهم، وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [٤: ١٥٥]. والحقيقة أن قسوة قلوبهم هي السبب وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [٥: ١٣]؛ لأنهم يشعرون بغيرهم من البشر، ولا يعترفون بوجودهم، ولا يعرفون معنى الإنسان ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [٢: ٧٤].

وأحيانًا يحاجون المؤمنين ويجادلونهم من أجل نصرة الباطل على الحق، وما ينفع معهم جدال فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [٣: ٢٠]؛ فالوسيلة الوحيدة للمصالحة هو الإسلام لله والتوحيد لله، وتمثل ما يتطلبه التوحيد من تخلٍ عن العنصرية والعدوانية، وما يتطلبه من العمل الصالح، وما يقتضيه من مساواةٍ بين الشعوب.

ويرفضون الحق حكمًا بينهم وبين الناس؛ لأنهم لا يعتبرون الحق مقياسًا لسلوكهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [٣: ٢٣]، وبالتالي لا تنفع معهم محاكم دولية أو لجان تحكيم أو وساطة، ولا تفلح معهم مفاوضات أو إقناع أو دعوة لهم للاعتراف بالحق أو الإذعان له، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [٥: ٦٨]، ولا تعامل معهم إلا بالتحكيم، تحكيم كتاب الله أو الإعراض عنهم فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ … وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [٥: ٤٢–٤٤].

وهم سيئو النية كثيرو السؤال، ليس من أجل المعرفة بل من أجل التلكؤ والتباطؤ في تنفيذ الأوامر الإلهية، لا يصدعون للأمر الإلهي لأنه الحق بل يلجئون إلى اللجاجة التلكع، ويتضح ذلك من قصتهم مع موسى وذبح البقرة وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [٢: ٦٧–٧١]، فيسألون عن البقرة أولًا فإذا ما تحدد عمرها يسألون عن لونها، فإذا ما أجيب عنه بطريقةٍ واضحة سئل عن ماهيتها حتى تصعب الإجابة، فأجيب عن الماهية بوظيفتها أي بطريقةٍ حسية عملية مرئية حتى لا يكون لديهم حجة، وهو بالضبط موقف المفاوض الإسرائيلي الذي يكثر من السؤال ويتمحك في الحق وهو يعلمه، حتى يضيع جوهر الأشياء ويقع الجميع في متاهاتٍ لا مخرج منها.

وقد نزلت التوراة للحكم بها إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ … [٥: ٤٤]، وقد كانت العقوبات لديهم للردع حتى يتعودوا على العدالة المطلقة والقصاص من النفس وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٥: ٤٥]، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [٥: ٦٦].

والحق واحد ولكنهم يختلفون فيه طبقًا لمشاربهم ومآربهم، ونظرًا لتضارب أهوائهم وتعارض مصالحهم، فضاعت وحدة الحق، وتحولوا إلى شيعٍ متنافرة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [٣: ١٩]، والطبيعي أن الإنسان ما دام قد علم الحق فإنه لا يقع الاختلاف حوله، إلا أن بني إسرائيل علمت الحق بعد أن أعطاهم الله إياه، ولكنهم اختلفوا فيه نظرًا لتضارب أهوائهم واختلاف مشاربهم، وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [١٠: ٩٣]، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [٤٢: ١٤]، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [٤١: ٤٥]، فعلى الرزق والمادة والنعم يتفقون، وعلى العلم والحق يختلفون، وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [٤٥: ١٦-١٧]، وقد أتاهم القرآن ليقضي على خلافهم، ويعودون إلى وحدتهم من خلال وحدة الحق لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ * رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ * وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [٩٨: ١–٥]، ثم تحول هذا الخلاف إلى عداوةٍ وإيقاظ لنار الحرب والعدوان، وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ [٥: ٦٥]، وعدوان اليهود الغربيين على اليهود الشرقيين واحتقارهم لهم معروفٌ ومشهود، ويؤكد ذلك أيضًا المجتمع العسكري الإسرائيلي، وقيامه على الحرب ومكانة المؤسسة العسكرية فيه.

فإذا ما آمنوا بالحق بعد كل هذه المحاولات لطمسه وضياعه، وإيهام الناس بعكسه وهو الباطل، فإن إيمانهم يتصف بالآتي:

  • (١)
    هو إيمانٌ وقتي لا يدوم لهم لأنهم ينوون الكفر ويضمرون الغدر وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [٣: ٧٢].
  • (٢)
    هو إيمانٌ تنقصه الجدية، ويتخذونه مجرد لعب وهزؤ، يطلبون الإيمان فإذا ما جاءهم ليؤمنوا به تراجعوا؛ لأنهم لا يطيقون الإيمان، ولا يستطيعون مواجهة الحق أو الثبات عليه وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [٢: ٨٩].
  • (٣)
    ومجتمعهم مجتمعٌ مغلق، لا يثقون إلا به، ولا يكسرون حصاره؛ فاليهودي لا يكون يهوديًّا إلا إذا كان يهودي عن يمينه، ويهودي عن يساره، ويهودي أمامه، ويهودي خلفه، وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ [٣: ٧٣]، فهم ذوو شخصيتين: شخصية علنية مع غيرهم وهي شخصيةٌ مزيفة، وشخصية سرية مع أنفسهم وهي الشخصية الحقيقية وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [٣: ٧٦-٧٧].
  • (٤)
    وهو إيمانٌ يقوم على الهوى والمصلحة وليس على الاقتناع والتصديق أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [٢: ٨٧]، يمنعهم الاستكبار من التصديق، والاستكبار هو التعالي على الحق لدرجة الأنانية والزهو والخيلاء، وهو ما يسمى بلغة اليوم التمركز على الذات أو العنصرية. لذلك يكذبون الأنبياء أو يقتلونهم حتى لا يوجد أمامهم شهداء على الحق.
  • (٥)
    وهم يتخذون الأحبار أربابًا من دون الله بطاعتهم دون الله مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [٣: ٧٩-٨٠]، فمقياس الوحي هو التحرر من عبادة البشر وطاعتهم إلى عبادة الله وحده وطاعته، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [٩: ٣١].
  • (٦)
    وهم يصدون عن سبيل الله كل من آمن به، يبغونها عوجًا، ولا يريدون الإيمان لأحدٍ حتى لا ينكشف زيفهم وحتى يظل العالم كله في كفرانٍ ونكران قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [٣: ٩٩].

وهم يغالون في الإيمان مزايدةً منهم على كفرهم وتغطية له يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ … [٤: ١٧١]؛ فالغلو في الدين لا يدل على زيادة الإيمان بل يدل على الكفر الدفين والتستر عليه بالإيمان قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [٥: ٧٧].

وهم في نهاية الأمر لا يفهمون إيمانهم، ولا يعقلون كتابهم، ويفصلون مضمونه عن عملهم، وتكون معرفة الحق النظري في جانبٍ والسلوك العملي المخالف له في جانبٍ آخر، ويكونون كالحمار يحمل أسفارًا مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٦٢: ٥]، أو على أكثر تقدير يسقطون من أنفسهم على الكتاب، ويتمنون ما يريدونه منه وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [٢: ٧٨].

وهم منافقون، يؤمنون بأفواههم وليس بقلوبهم، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [٥: ٤١]، ينافقون حتى يخدعوا المؤمنين يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥: ٤١]، ومن مظاهر النفاق سماعهم للكذب، وتحريفهم كلام الله وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ [٥: ٤١]، ومن مظاهر النفاق كتمان الحق في قلوبهم وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ [٥: ٦١].

وهم أنانيون يحسدون الآخرين على إيمانهم وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [٢: ١٠٩]، يريدون أن يتخلوا عن إيمانهم ويعودوا إلى الكفر مثلهم أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [٤: ٥٤-٥٥]، بل إنهم لا يرجون أن ينزل الله على غيرهم من الشعوب أي وحي، حتى ينفردوا بهذه النعمة دون سواهم مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [٢: ١٠٤-١٠٥]، يأمرون غيرهم بالبر، وينسون أنفسهم وهم أحق بالدعوة والتوجيه أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [٢: ٤٤]، فإسرائيل تطلب من غيرها السلام وهي تسود الحرب، وتطلب لنفسها الأمن وتهدد غيرها، وتستحوذ على الأرض وتطلب من غيرها التخلي عنها.

وهم يشترون الدنيا بالآخرة، ويؤثرون الحال على المآل، ويشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [٢: ٨٦]، وذلك عندما يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض الآخر الذي لا يوافق هواهم، وعندما يتركون الوحي إلى تعاليم الشيطان، وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [٢: ١٠٢]، وعندما يرفضون التصديق بالقرآن الذي يصدق ما معهم، فإنهم أيضًا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [٢: ٤١].

وقد أدى حبهم للدنيا إلى إنكار البعث والحياة بعد الموت إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ * فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [٤٤: ٣٤–٣٦]، وقد كان الصدوقيون منهم بالفعل ينكرون البعث حتى ظهور المسيح، ولم يؤمن البعض منهم إلا بعد الأسر البابلي وظهور الأخرويات في حالات الضنك والقهر والعذاب أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [٢٣: ٣٥–٣٧]، وقد بين الله لهم بمثلٍ حسي بعث الموتى، ومع ذلك لم يؤمنوا به، وحاولوا إخفاء الجسد وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [٢: ٧٢]، وحقيقة الإيمان بالآخرة هو الخشوع في الدنيا، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [٢: ٤٦].

ويأكل أحبارهم أموال الناس بالباطل، وهم رؤساؤهم، ونموذج سلوكهم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ [٩: ٣٤]، فهم لا يعترفون بحقوق الناس، ولا يمثلون قيمةً أو مبدأ للسلوك، يبغون المادة، الذهب والفضة. لذلك أصبحوا في التاريخ تجار ذهب ومصوغات، ورجال أعمال وصيارف وبنوك، ويتمثل أكل أموال الناس بالباطل في الربا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [٥: ١٦١]، قد عُرف اليهود بأنهم مرابون، يستغلون ضنك الناس لزيادة ثرواتهم.

ويأكلون الحرام أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [٥: ٤٢]، ولا يعرفون إلا جشع المال وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [٥: ٦٢-٦٣].

وقد أسقط بنو إسرائيل صورتهم على الله فتصوروا الله بخيلًا مثلهم وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا [٥: ٦٤].

رابعًا: الجحد بالنعم

وبنو إسرائيل جاحدون بنعم الله. فهم كافرون بالحق النظري وكافرون بالحق العملي. وكما لم تنفع الآيات والبراهين معهم كذلك لم تنفع النعم المحسوسة التي أعطاها الله لهم.

ومظاهر النعم كثيرة؛ فقد نجاهم الله من عذاب فرعون ومن استئصال شأفتهم من على وجه الأرض بذبح ذكورهم واستبقاء نسائهم فيستحيل النسل والتكاثر وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [٢: ٤٩]، وهم مهددون بالاستئصال باستمرارٍ ما لم يسمعوا كلام الله ويذعنوا لأوامره؛ فالله أبقاهم من الفناء، ونجاهم من العذاب، ولكن إسرائيل كفرت بهذه النعمة وجحدت بها، وما فعله فرعون بها تفعله إسرائيل بغيرها من الشعوب، محاولةً استئصالها كما تفعل حاليًّا بشعب فلسطين. ولقد نجى الله إسرائيل من عذاب فرعون ومن استكباره وجبروته واستعلائه وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [٤: ٣٠-٣١]، وإسرائيل تفعل نفس الشيء مع غيرها.

كما أنقذ الله بني إسرائيل من الغرق في البحر بعد أن تبعهم فرعون وجنوده وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [٢: ٥٠]، وإسرائيل الآن تقضي على غيرها في المخيمات وتحت وابلٍ من الرصاص وبين ألسنة النيران.

ثم بعثهم الله من بعد موتهم حتى يشكروا الله بالرغم من أنهم ينكرون البعث والحياة الأخرى ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [٢: ٥٦]، ولا تشكر إسرائيل مهما تم العفو عنها، ورغب الناس في نسيان آثامها والعيش معها.

وقد أعطاهم الله من النعم المادية الكثير: الراحة والسكن والظل الوفير، والطعام والشراب والغذاء الكثير وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٢: ٥٩]، ولكن يبدو أن بني إسرائيل قد ظلموا أنفسهم بالرغم مما لديهم من أمنٍ واطمئنان، فاتخذوا ذلك وسيلة لبث عدم الأمن والاستقرار في نفوس الغير.

وزاد لهم الله على الطعام والشراب وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [٢: ٦٠]، ولكن يبدو أنه في مقابل الماء عثوا في الأرض مفسدين، وفي مقابل الرزق وخيرات الله يفسدون في الأرض بالبغي والعدوان.

وآتاهم الله النبوة، وأنزل عليهم الكتاب حتى يهتدوا، وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [٢: ٥٣]، وهي هبةٌ لا تقدر بثمن، يعتز بها صاحبها، وتوجه إلى الطاعة لا إلى المعصية، وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [٥: ٢٠]، بل وأعطاهم الله الدولة، ولكنهم بعصيانهم فقدوها ودمروها، بل إنهم بدلوا كلام الله، ورفضوا التوبة والاستغفار، ورفضوا الطاعة والامتثال لأوامر الله وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [٢: ٥٨-٥٩]

ثم عفا الله عنهم، ونسي آثامهم، وغفر ذنوبهم ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [٢: ٥٢]، ولكن يبدو أن إسرائيل لا تعرف معنى العفو أو مقابلته بالشكر، ومهما نسي العرب من مآسيها فإنها تعود فتذكرهم بذنوبها بارتكاب الكثير منها.

وليس الوحي خاصًّا ببني إسرائيل وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [٣٥: ٢٤] بل هو فضلٌ من الله، أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [٢: ٩]، والهدى هدى الله يؤتيه من يشاء قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [٣: ٧٣]. ليس الوحي ميزة لشعب على حساب شعب آخر بل إن الوحي معطى الناس جميعًا لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [٥٧: ٢٩].

ومع ذلك جحدت إسرائيل بهذه النعم كلها، ولم تشكر الله عليها، ولم تقابل هذه النعم بطاعة الله وتنفيذ أوامره والإيمان برسله والتصديق بكتبه، فقتلوا الأنبياء وكذبوا الرسل، وعبدوا العجل، وبدلوا قول الله، وقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأنكروا البعث والحياة الأخرى، ولم يتناهوا عن المنكر، واعتدوا في السبت، وجبنوا في القتال.

فقد أعطى الله لهم ما شاءوا من خيرات الأرض على مستوى طلبهم: البقول، والفول، والعدس، والبصل، والقثاء، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [٢: ٦١]، فهم شرهون، لا يكتفون بطعامٍ واحد بل يريدون جميع أنواع الطعام، سواءٌ الموجودة لديهم أم الموجودة عند غيرهم من الشعب خاصةً عند جارتهم مصر. أعطاهم الله الوحي ولكنهم يستبدلون به خيرات مصر، وكان جزاء كل من يطمع في خير مصر الذلة والمسكنة وغضب الله، تركوا الوحي، وقتلوا الأنبياء، وعصوا أوامر الله، واعتدوا على جيرانهم؛ فالاستثمار المشترك في سيناء، ورغبتهم في مياه مصر ومحاصيلها، كل ذلك لا يستجاب له بل ويعاقبون عليه.

فما إن غاب عنهم موسى حتى ظهر كفرهم، وكأنهم لا يؤمنون إلا في حضور الرقيب، فعبدوا العجل وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [٢: ٥١]، إن الثقل الطبيعي والارتكان الدائم إلى الأرض جعل بني إسرائيل يرجعون إلى الوثنية باستمرار، فهم لا يتزحزحون عن المادة، ولا يتركون الأرض وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [٢: ٩٢]، فهم في حاجةٍ إلى رقيبٍ من نبيٍ حتى يحدث التوازن في شعورهم ويذكرهم بالله، ولكن الإيمان لا ينشأ طوعًا واختيارًا من أنفسهم في قلوبهم، وبمحض إرادتهم، وببرهان عقولهم، وبتمثلهم للخير، ومن ثم فإن يقظة العرب ضرورية؛ حتى لا تركن إسرائيل إلى الأرض وتستحوذ عليها وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [٢: ٥٤].

وقد بلغت ماديتهم وحسِّيتهم أقصى حد في طلبهم رؤية الله جهارًا! وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [٢: ٥٥]، وكل هذه المطالب تعبر عن طبيعةٍ حسية واحدة، طلب كتاب، عبادة العجل أو طلب رؤية الله عيانًا يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا [٤: ١٥٣]، فإسرائيل تطلب المستحيل المادي، وكان جزاؤها على طلبها العقاب والردع. وبالتالي فطلب الأرض العربية مستحيل، وطلب التوسع مستحيل، وطلب إقامة المستوطنات مستحيل، ولا يقابل ذلك كله إلا بالردع والصواعق.

وشيمة بني إسرائيل العصيان والعدوان وجزاؤهم اللعنة والغضب من الله لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٥: ٧٨-٧٩]، ولم يأمروا بالمعروف أو ينهوا عن المنكر ولم يذكروا بعضهم بطاعة الله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

ويتمثل العدوان والعصيان في عدم امتثالهم لقوانين السبت والطعام، فقد اعتدوا في السبت ولم يراعوه وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [٢: ٦٥-٦٦]، وقد أخذ الله منهم ميثاقًا ألا يعتدوا في السبت ولكنهم نقضوا الميثاق وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [٤: ١٤٥]. والحقيقة أن الحياة أقوى من السبت، وأن منفعة الإنسان وخيره يتحققان في السبت، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [٧: ١٦٣]، كما شرع الله السبت لهم نظرًا لاختلافهم فيه وتحقيقًا لوحدتهم ولكنهم ظلوا على خلافهم، إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [١٦: ١٢٤].

أما بالنسبة لقوانين الطعام فقد كان كل الطعام حلًّا لبني إسرائيل، ولكنهم يادة منهم في النفاق ومزايدةً منهم في مظاهر الإيمان، حرموا على أنفسهم بعض الطعام، ولكن طبيعتهم المادية لم تستطع الصبر عليه كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٣: ٩٣-٩٤]، وجزاء على هذا الظلم والبغي حرَّم الله عليهم ألوانًا من الطعام عقابًا لهم وردعًا لهم وتطويعًا لإرادتهم، فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا [٤: ١٦٠]؛ فالأصل في الأشياء هو التحليل، ولكن التحريم أتى لهم تربيةً لنفوسهم وتحريرًا لوعيهم من أسر المادة وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [٦: ١٤٦].

وهم ليسوا أهل قتال، لا يريدون الموت والاستشهاد في سبيل الله؛ نظرًا لأنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [٢: ٢٤٦]، فهم يطالبون بالقتال لاستدراج الأنبياء، فإذا جاءت المعركة ولوا الأدبار، ويقبلون سبب القتال نظرًا وهو الإخراج من الديار، ولكنهم لا يجاهدون في سبيله وكأنهم يقبلون الظلم والطرد من الديار عملًا، فإذا ما واجهوا غيرهم نكصوا وولوا الأدبار وتراجعوا وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [٢: ٢٤٧–٢٥١]، وهنا تبدو مقاييس إسرائيل في تصورها للملك، وهو الملك الغني؛ أي ذو المال الوفير إسقاطًا من أنفسهم في حب المال، في حين أن مقاييس الملك النبي هما العلم والقوة، ومع ذلك أعطاهم النبي آيةً حسية وهو التابوت الذي به العهد تحمله الملائكة وسطهم، وفي أول امتحانٍ في الحرب لم تستطع إسرائيل طاعة النبي في عدم الشرب من النهر، فإذا ما ظهر العدو تراجعت إسرائيل وخافت، ودب الرعب في قلبها. ليست إسرائيل إذن بالدولة الحربية، وليس جيشها بالجيش الذي لا يقهر، وليس رجالها هم أشجع الرجال، وانتصاراتها على غيرها لم تتم لقوتها بل لضعف الآخرين.

فإذا ما حدث النزال وتمت المواجهة فإنهم يولون الأدبار وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [٣: ١١١]، بل إنهم حتى في دخولهم الأرض المقدسة التي يزعمون أن الله قد وعدهم بها يولون الأدبار يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [٥: ٢١–٢٦]، فهم لا يدخلون أرضًا بها شعب، ولا يقدرون على مواجهة الشعوب الكامنة في الأرض، ويتركون المواجهة لله وللنبي، يقومون بتهجير عرب فلسطين حتى تظل خاويةً لهم، ولكن لا أرض بلا جهد، ولا نصر بلا حرب؛ لذلك ظلت إسرائيل تائهةً بين الشعوب بلا أرض.

وإذا حاربوا فإنهم لا يحاربون إلا داخل حصونٍ مشيدة، يخشون المواجهة والنزال هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [٥٩: ٢–٤]، فهم جبناء في القتال يحاولون تغطية رعبهم الداخلي بالحصون المشيدة، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [٥٩: ١٣-١٤]، فهم يخشون المسلمين أكثر من خشيتهم الله، والله أخرج أهل الكتاب من ديارهم وهم يظنون أنهم لن يخرجوا، وظنوا أن حصونهم تمنعهم، فأتاهم الله بغتةً من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب. كتب الله عليهم الجلاء من الأرض جزاء عصيانهم له، فإذا كانوا لا يعترفون بأن هناك قوةً فوقهم فقد أجلاهم الله وأراهم قوته، ومن ثم فإن ردهم إلى حجمهم الطبيعي أمرٌ إلهي.

خامسًا: نقض الميثاق

وأكبر نعمة أعطاها الله لبني إسرائيل هو الميثاق؛ ميثاق الإيمان والطاعة، ميثاق الصلاة والزكاة، وطالبهم بالوفاء به وذكر نعمه يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [٢: ٤٠]، فذكر النعمة والوفاء بالعهد مرتبطان وإلا كان الجحود والنكران، وهو عهدٌ مشروط وليس عهدًا مطلقًا كما تدعي الصهيونية الآن، وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ؛ أي إن إسرائيل لو أوفت بعهدها من جانبها في الطاعة والإخلاص، فإن الله يفي بعهده من جانبه، ولكن إسرائيل لا تذكر النعمة، وتكفر بها، ومهما أُعطي لها من اعترافٍ ورُضي بها من قبول، فإنها تظل جاحدة كافرة، ومهما يُعطَ لها من أموالٍ فإنها تطلب المزيد وتتنكر لمن يعطونها. إسرائيل لا تفي بعهد، ولا تبقي على كلمة، ولا تحرص على وعد، ولا ترعى قانونًا، ولا تلتزم بمعاهدة، ومن ثم فطريق المعاهدات معها مسدود، والحديث عن الشرعية الدولية معها لا يؤدي إلى شيء. إسرائيل لا تخشى إلا من هو أقوى منها وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، ولا تعلم إلا لغة القوة والرهبة، لا تخشى الله ولا تتقيه بالرغم من نداء الله وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ، ونداء الله لها بأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتركع وتسجد، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [٢: ٤٣]، وأن تصبر على الطاعة حتى يتم ترويضها واستعينوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [٢: ٤٥]. ليس الميثاق كما تقول الصهيونية ميثاق الغنم والنعم والنسل والأرض والمعبد، ميثاق الحظ والهبات، بل هو ميثاق الطاعة والأخلاق وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [٢: ٨٣]، وليس عبادة المال والطاغوت، وترك الفقراء واليتامى والمساكين، وتشريد الشعوب خارج أوطانهم، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [٢: ٨٤–٨٦].

والميثاق ميثاق حكمة ونبوة وليس ميثاق أرض وغنم وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [٣: ٨١-٨٢].

والميثاق من أجل التبيان والإعلان وليس لأجل التكتم والإخفاء، وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [٣: ١٨٧].

ولكن إسرائيل نقضت الميثاق، ميثاق إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل وتأييدهم، وإيثار الله على ما سواه، وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [٥: ١٢-١٣]، وكان جزاؤهم لعنة الله عليهم، قسوة قلوبهم، نظرًا لتحريفهم كلام الله ولنسيانهم أوامره ونواهيه، باستثناء البقية الصالحة منهم. لقد نكص بنو إسرائيل على أعقابهم وتولوا بعد أن عقد الله معهم ميثاق الخير والفضيلة والعمل الصالح، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٢: ٦٣-٦٤].

نقضوا الميثاق بكفرهم بآيات الله وبقتلهم الأنبياء وباعتدائهم في السبت، وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا [٤: ١٥٤-١٥٥]، والميثاق ثقيلٌ ثقل جبل الطور، ولكنه يقضى بالطاعة سجدًا لله؛ فالارتفاع بالعهد إعلانه خفض الجباه، لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ * وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون [٥: ٧٠-٧١]، فنقضهم الميثاق نتيجة لعماهم وصممهم، لا يرون آيات الله ولا يسمعون كلامه.

ونقضوا ميثاق الإيمان بعبادتهم العجل، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [٢: ٩٣]، فبدلًا من الحرص على الميثاق وطاعته سمعوه وعصوه، وعبدوا العجل من قلوبهم، ذهبُ العجل لديهم أفضل من طاعة الله والوفاء بعهده، فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ * أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [٢٠: ٨٦–٨٩]، غضب منهم الأنبياء وتأسفوا على حالهم، ولم يروا سببًا للعصيان إلا تسرعهم إلى الغنم سعيًا وراء الذهب، وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى * قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي * قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا [٢٠: ٩٠–٩٧].

والاختيار الإلهي لإسرائيل ليس اختيارًا عشوائيًّا لا مبرر له، وليس اختيارًا عن جهلٍ ولكنه اختيار عن علمٍ مسبق وببرهانٍ مبين، وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ [٤٤: ٣٢-٣٣]، وهذا الاختيار أحد مظاهر نعم الله عليهم، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [٢: ٤٧]، والفضل هنا ليس لعنصرٍ أو جنس بل هو تكريمهم بالوحي وبنصرهم وتأييدهم ضد الطغيان، ومن ثم فإن عصيانهم للوحي وطغيانهم على غيرهم يُذهب فضلهم، وتكبرهم واستعبادهم للشعوب يقضيان على أسباب تفضيلهم، ويتكرر نداء القرآن لهم، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [٢: ١٢٢-١٢٣]؛ فالتفضيل إذن مشروطٌ بتقوى الله في الدنيا حتى تتم النجاة في الآخرة، وهدفه هو تربية الجنس البشري ممثلًا في إسرائيل، حتى تتحقق المسئولية الفردية طبقًا لقانون الاستحقاق.

لا يفضل الله شعبًا على شعب، وليس له أبناء ولا أحباء إلا بمقدار تمثلهم للفضيلة وبمقدار طاعتهم له، وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [٥: ١٨]، فلا توجد «علاقة شخصية» بين الله والإنسان إلا العمل الصالح، قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [٦٢: ٦–٨].

وكما يدعي بنو إسرائيل أنهم أبناء الله وأحباؤه، يدعون أن الله لن يعذبهم ولن يدخلهم النار بل سيرسلهم إلى الجنة قذفًا، قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [٢: ٩٤–٩٨]، والذي يضمن الجنة لنفسه فإنه يتمنى الموت حتى يفوز بها، وهذا ليس حال بني إسرائيل؛ لأنهم يعضون على الحياة بالنواجذ حبًّا للدنيا وليس خوفًا من عذاب الآخرة، فبالرغم من أن بني إسرائيل تجعل الجنة لأنفسهم والنار لغيرهم، فإنهم لا يتمنون الموت ليحصلوا على ما يريدون، ويحرصون على الحياة، يود كلٌّ منهم لو يعمر ألف سنة حتى ينهل من الحياة الدنيا، ولن يمنعه ذلك من العذاب؛ لذلك استنكر بنو إسرائيل ملائكة الموت ولعنوهم لأنهم يقبضون الأرواح، وعداوة الملائكة عداوة لله، وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢: ١١١-١١٢]، وفرقٌ بين التمني والواقع. إن من مظاهر أنانيتهم أن الجنة لهم وحدهم والنار لغيرهم، في حين أن الجنة ثوابٌ على الأعمال الصالحة والنار عقابٌ على أفعال السوء لأي فردٍ ومن أي شعب، وأحيانًا يتواضعون ويضعون أنفسهم في النار أيامًا معدودة! وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [٢: ٧٩–٨١]؛ فالثواب والعقاب مشروطان بالأعمال، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [٣: ٢٤-٢٥]، بل إن لعنهم في الدنيا بنقضهم الميثاق يجعل عذابهم مؤكدًا، وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [٧: ١٦٤–١٦٧]. فمقياس الثواب والعقاب هو العمل الصالح، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [٩٨: ٦-٧].

وكانت النتيجة أيضًا العذاب في الدنيا والتيه والتشتت والضياع، وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ * وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [٧: ١٦٨–١٧١].

سادسًا: استحالة المصالحة

ما دامت هذه أوصاف بني إسرائيل فإنه يستحيل عقد الصلح معهم أو موالاتهم، أو اتخاذ بطانة أو تلقيبهم بالأصدقاء الأوفياء أو بأولاد العم، فلن تؤمن بنو إسرائيل بغيرها من الشعوب ولن ترضخ لحقوق غيرها، تستحيل مصالحة بني إسرائيل فهم ينكثون بالوعود، وينقضون اليوم ما يعاهدون عليه بالأمس، لن يؤمنوا بحق أحدٍ سواهم، ولن ترضى إسرائيل عن غيرها من الشعوب حتى تحيلها إلى عبيدٍ لهم يرضخون لها، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [٢: ١٢٠]، لن ترضى إسرائيل إلا بصهينة جميع الشعوب والقضاء على هويتهم والتخلي عن مبادئهم والتنازل عن شخصيتهم، تود إسرائيل إخراج كل شعبٍ من دينه، وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [٣: ٦٩]، تبغي إسرائيل إخراج كل الشعوب من دياناتها وحضاراتها، حتى يضيع الحق كله ولا تبقى إلا إسرائيل ومطامعهما، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [٣: ١٠٠-١٠١].

ولن تصدع إسرائيل لحقوق غيرها مهما قدم لها من حججٍ وبراهين ومهما عرض عليها من آياتٍ بينات، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [٢: ١٤٥]؛ فالعلاقة الطيبة بين إسرائيل وغيرها من الشعوب هي علاقة التضاد والتناحر، وبالتالي تستحيل المصالحة لاستحالة توحيد المآرب والأهداف، والصراع بينها وبين غيرها هو صراع الحق ضد الباطل، والخير ضد الشر، والعلم ضد الظن، والوحي ضد الهوى، والإيمان ضد الكفر.

ولذلك يحذر القرآن من اتخاذ بني إسرائيل أولياء للمسلمين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [٥: ٥١]؛ فاليهود والنصارى أولياء بعض، ولن ينصر النصارى المسلمين على حساب اليهود، ولن ينصر اليهود المسلمين على حساب النصارى، الاتفاق بين إسرائيل والغرب أكثر من الاختلاف بينهما، والاختلاف بين المسلمين من ناحيةٍ وإسرائيل من ناحيةٍ أخرى أكثر من الاتفاق بينهما؛ فالاتفاق والاختلاف في المبادئ والعقائد والنظريات أولًا قبل أن يكون في المصالح الوقتية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ * قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [٥: ٥٧–٦٠]، لن يرضى اليهود والنصارى عن المسلمين إلا بعد أن يترك المسلمون دينهم ويقلدوا إسرائيل والغرب ويصبحوا تابعين لهم داخلين في أحلافهم، مروجين لبضائعهم، متمثلين لثقافاتهم، لن يحترموا ثقافات غيرهم ودياناتهم وقومياتهم وتراثهم وعقليتهم بل يسخرون من سلوكهم وثقافتهم وحضارتهم، مع أن الله قد مسخ اليهود والنصارى وجعلهم قردة وخنازير؛ أي إنهم ليسوا نموذجًا للتحدي أو نمطًا يُحتذى به أو أسوة تتبع، يحرم القرآن موالاة اليهود والنصارى ويكفر من يوالونهم من المسلمين، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [٥: ٨٠-٨١]، وكيف يوالي المسلمون من يعادونهم ويودون القضاء عليهم دينًا ودنيا، لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [٥: ٨٢].

لذلك يحذر القرآن من اتخاذ بني إسرائيل بطانةً للمسلمين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [٣: ١١٨–١٢٠]، يحرم القرآن اتخاذهم أصدقاء يوثق بهم أو حلفاء تبدو البغضاء من تصريحاتهم وأقوالهم وإهاناتهم للعرب وللمسلمين ولأهل مصر، كنانة الله في الأرض، وما تخفي صدورهم أعظم، يعبرون عنه في كتاباتهم بما فيها من عنصريةٍ وغرور، فكيف يحبهم المسلمون وهم لا يحبون أحدًا؟ وكيف يبغي المسلمون معهم السلام وهم يبغون الحرب؟ يفرحون بكل مصيبةٍ تحل بالمسلمين ويحزنون لكل خيرٍ يأتيهم.

إن المصالحة الحقة لا تأتي إلا بناء على تسليم اليهود بالحق المستقل عنهم، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [٣: ٦٤]، المصالحة الحقة تتم بناء على الاتفاق على عبادة الله وحده، وليس عبادة الطاغوت أو المال، والإخلاص له وليس الإيمان أول النهار والكفر آخره، أو الإيمان في العلن والكفر في السر، أو الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، كما تقوم على المساواة بين الشعوب أمام إلهٍ واحد، وألا يعتبر شعب نفسه فوق الجميع، له حق الحياة والوجود وليس أمام الآخرين إلا الموت والفناء.

سابعًا: البقية الصالحة

هذه الأوصاف التي أطلقها القرآن على بني إسرائيل تصدق على الأغلبية منهم، على أكثرهم وليس على الأقلية منهم، وهي الأقلية المؤمنة التي تعلم الحق وتعمل به، والتي تذكِّر أحيانًا الأغلبية بكفرها وعصيانها، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [٣: ١١]، لذلك يشير القرآن إلى «فريق منهم» وليس إلى مجموعهم أو إلى «طائفة منهم» وليس إليهم كلهم، أو «من الذين هادوا» وليس كل الذين هادوا، أو «ومن الذين أوتوا الكتاب» أو «الذين كفروا من بني إسرائيل» وليس المؤمنون منهم. هذه الأحكام الكلية والجزئية تفصل بين الأغلبية الكافرة والأقلية المؤمنة، وأحيانًا يكون الحكم مستثنيًا للأقلية من الكفر «إلا قليلًا منهم». وقد تبلغ الأقلية أمة وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [٧: ١٥٩]، أو وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ [٧: ١٦٨].

وأحيانًا تبلغ الأقلية رجلًا أو رجلين قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ …، هذه الأقلية هي التي تصدت للعنصرية الإسرائيلية القديمة والحديثة، والتي آمنت بالرغم من كفرهم، وأطاعت بالرغم من عصيانهم، وهم الحنفاء الذين رفضوا القبلية العبرانية، والذين كان إبراهيم منهم، والذين خرج منهم أخيرًا محمد؛ فالحنفاء يؤمنون بالله ويخلصون له ويطيعونه، ويعملون الخير، ويتقون الله، ويعيشون على الفطرة، ويحترمون الآخرين، ولا فضل لعربي على عجمي لديهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، وهم من المحدثين كل من يرفض العنصرية اليهودية من أمثال فلاسفة التنوير، الذين أرادوا جعل اليهود مثل غيرهم من البشر، وليسوا منفصلين عنهم.

وقد استغل اليهود هذه الأقلية أسوأ استغلال، عندما جعلوا الأكثرية تفعل ما تشاء من كفرٍ وعصيان، وأن الله سيغفر لها من أجل الأقلية، فتركت الأكثرية لنفسها الحبل على الغارب تعلق أخطاءها على تقوى الأقلية، وتنتظر خلاصها من خلال إيمان الأقلية؛ إذ يكفي أن يكون منهم مؤمن واحد حتى يتم خلاص الجميع من خلاله. وبالتالي ضاعت المسئولية الفردية وانتشر الكفر والفسوق والعصيان، في حين أن إيمان الأقلية كما يصفه القرآن لا يعفي من عقاب الأكثرية التي لعنها الله، وضرب عليها المذلة والمسكنة وغضب منها ولفظَها وخلدها في النار.

ويصف القرآن هذه البقية الصالحة بالإيمان والعمل الصالح، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٢: ٦٢]، فهم المؤمنون سواء كانوا مسلمين أم يهودًا أم مسيحيين أم صابئة، مؤمنون بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، الإيمان بالله أي التوحيد، واليوم الآخر أي رفض التكالب على الدنيا، والعمل الصالح أي رفض الاختيار المسبق، وليس المهم هو اليهودي المنتسب إلى الشعب اليهودي، بل المهم هو بماذا يؤمن وماذا يعمل؟ هل يعتبر نفسه فوق الجميع أم مساويًا لغيره من الشعوب؟ هل يعتدي على غيره أم يعترف بوجودهم؟ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [٥: ٦٩]، ولا يساوي القرآن بين الأكثرية والأقلية لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ [٣: ١١٣–١١٥]؛ فالأقلية مؤمنةٌ تقية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، على عكس الأكثرية من بني إسرائيل التي كانت لا تتناهى عن منكرٍ تفعله، ولا تسارع في الخير وتقترف إثم العدوان، ويستثني القرآن هذه الأقلية من أهل الكتاب وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [٣: ١٩٩]، وهم الذين يتصفون بنقيض صفات بني إسرائيل والذين يؤمنون ويعملون ويصلون ويزكون، لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [٤: ١٦٢].

١  انظر مقالنا: مخاطر الإسلام، قضايا عربية، مارس ١٩٨٠م.
٢  عمر بن محمد بن يوسف الكندي، فضائل مصر، تحقيق إبراهيم أحمد العدوي، علي محمد عمر، محسنة وهبة، القاهرة ١٩٧١م.
٣  انظر مقدمتنا وترجمتنا لسبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسية، الطبعة الثانية، الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٧٧م.
٤  انظر مقالنا: إجهاض العقول، الفكر المعاصر، العدد الثاني، القاهرة ١٩٨٠م، وأيضًا الجزء الأول: الدين والثقافة الوطنية.
٥  الإمام الخميني: جهاد النفس أو الجهاد الأكبر، إعداد وتقديم د. حسن حنفي، القاهرة ١٩٨٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥