الثورة الإيرانية والثورة العربية
أولًا: عقل الثورة
ولكن بقي السؤال: أين مثقفو العرب، ومنظِّرو الثورة العربية؟ أين مفكرو القومية العربية ودعاة حركة التحرر العربي؟ أين فلاسفة البعث والناصرية والنظرية الثالثة؟ أين العقل العربي الذي نظَّر للثورة العربية على مدى ربع قرن وهو يرى صيغة جديدة تجدد شباب الثورة العربية دون أن تعود إليه حيويته ويزدهر من جديد منطقه؟ لقد آن الأوان للعقل العربي وللعقل الإيراني أن يتلاحما من خلال الثورة العربية والثورة الإيرانية؛ فالثورة واحدة، وعقل الثورة واحد، وتنوع التجارب واختلاف الأوضاع إثراء للعقل والثورة معًا.
والأخطر من ذلك الانفصال بين عقل الثورتين هو تشويه أجهزة الإعلام في مصر للثورة الإيرانية حتى ينفر الناس منها ويعادوها؛ وبالتالي تقل مخاطرها كبؤرة جذب جديدة للجماهير العربية التي ما زال قسم كبير منها يتحسر على انحسار الثورة عنه بل تحولها إلى ثورة مضادة، يجد نفسه فيها، فيحن إلى الناصرية، ويتوحد معها من جديد، وينسى مواقفه النقدية منها. فقد صورت أجهزة الإعلام الثورة الإيرانية كالآتي:
-
(١)
أنها ثورة عقائد الشيعة الخاطئة التي رفضها أهل السنة وكفروهم فيها، وعلى رأسها عصمة الأئمة بل وألوهيتهم؛ حتى تنفر جماهير أهل السنة من الثورة الإيرانية؛ فالعقيدة الخاطئة لا بد وأن تنتج منها ثورة خاطئة. مع أن هذا التشويه ذاته مردود عليه في عقائد السنة، وهو أن العقائد الظنِّية على مستوى النظر إذا ما تولَّد عنها نفع يقيني على مستوى العمل فإن المحك هو العمل وليس النظر، حالها مثل أخبار الآحاد التي تكون ظنية في النظر يقينية في العمل؛ أي لا تكون أساسًا للعقيدة بل تكون معيارًا للسلوك. ولحسن الحظ فجماهير أهل السنة لا علم لها بالتاريخ ولا بالتراث ولا بالعقائد. وما قيل عن عصمة الأئمة وادعائهم النبوة والألوهية لم يُحدث أثره المرجو، وظلت جماهير أهل السنة بوجدانها مع ثورة إيران الإسلامية الكبرى وإن لم تستطع في مجموعها إدراك الهدف من هذا التشويه نظرًا لتزييف وعيها القومي من خلال أجهزة الإعلام.
-
(٢)
أنها ثأر شخصي بين الشاه والأئمة على ما هو معروف في تاريخ الإسلام الحديث. هناك ثأر بين حكام إيران وأئمة الشيعة. يحاول كل فريق اغتيال الفريق الآخر منذ جمال الدين الأفغاني ومحاولة أنصاره اغتيال الشاه حتى اغتيال الشاه للسيد مصطفى ابن آية الله الخميني في العراق. وبالرغم من أن الأخذ بالثأر وارد في حياتنا العامة ولا يحتاج إلى إقناع الجماهير به إلا أن الثورة الإيرانية لم تهتز في وجدان الجماهير؛ وذلك لأن الأخذ بالثأر لديهم واقع معاش وتجربة شخصية، يعانيها قريب المقتول، وليس فكرةً أو قانونًا مجردًا أو صوتًا تاريخيًّا يتحكم في مصائر الشعوب، ويسبب اندلاع الثورات وانتصارها.
-
(٣)
أنها مجرد حقد شخصي بين الشاه والأئمة بعد أن استولى الشاه على أراضيهم ووزعها على الفلاحين المعدمين، وبعد أن استولى الشاه على أملاكهم، وحاول تحديد مصادر أموالهم وحرمانهم من ريع الخمس حسب الفقه الجعفري حتى يبدو الشاه أكثر حرصًا على مصالح الأمة وأكثر عدالة في التوزيع، وأكثر دفاعًا عن الفلاحين المعدمين ضد إقطاع رجال الدين، وتحديدًا لثرواتهم، وتطبيقًا لقانون الكسب غير المشروع أو لقانون من أين لك هذا الذي ما زال يُلهب خيال الطبقات الكادحة في مصر، ويخفف من حدة ثورتها على الأغنياء والمترفين بمجرد ذكره في الصحف، وتوزيع استمارات مصادر الدخل، وتحديد موعد أقصى لتسليمها وإلا وقع الأغنياء تحت عقاب الدولة العادلة! ولحسن الحظ لم يحدث التشويه المقصود؛ وذلك لأن صورة رجال الدين في مصر هي صورة فقراء الأزهر وعلماء الريف في حين أن الحكام والأمراء هم أصحاب الأرض والملاك.
-
(٤)
أن الثورة الإيرانية هي انتصار رجعية الأئمة على تقدمية الشاه فيما يتعلق بحقوق المرأة الإيرانية والحجاب وتعدد الزوجات وفيما يتعلق ببناء الدولة الحديثة وتأسيسها على التاريخ القومي وفصل الدين عن السياسة. في حين أن الأئمة رجعيون يريدون للمرأة الحجاب، ويريدون للرجل الإبقاء على تعدد الزوجات، ويتدخلون في شئون الدولة، ويريدون التنكر لتاريخ البلاد الوطني من أجل إقامة حكم ديني في البلاد. ولكن هذا التشويه لم يُحدث أثرة السلبي لأن جماهير أهل السنة محافظة ولا ترى حرجًا في الحجاب أو في تعدد الزوجات. كما أنها لا تفصل بين الدين والسياسة، وما زالت مشاعرها إسلامية أكثر منها قومية، ورؤيتها فشل الحركات القومية الأخيرة وهزائمها المتتالية وكأنها لم تعش ثوراتها الأخيرة إلا على السطح في حين أن الأعماق ظلت إسلامية، رصيد لأية حركة إسلامية جامعة.
-
(٥)
بعد أن لم يفلح هذا التشويه اليميني للثورة الإيرانية قيل إنها إذن ماركسية كما قال الشاه من قبل واصفًا قادتها بأنهم مسلمون ماركسيون، تهدف إلى تطبيق الماركسية في إيران. ولما كانت الماركسية عدوة للإسلام، وناكرة للأديان، شيوعية ملحدة فإنه تجب مقاومتها باسم الدين. ولكن لحسن الحظ أيضًا لم يحدث التشويه المطلوب؛ وذلك لأن الجماهير سمعت نداء «الله أكبر، قاصم الجبارين» الذي كان يُصدر به الإمام الخميني نداءاته لشعب إيران المسلم، كما رأت تهاوي نظام الشاه الذي يقوم على الظلم والطغيان، ويمارس أبشع أنواع التعذيب والهوان على يد الصناديد أو الخالدين ورجال الشرطة السرية. والواقع في النهاية أصدق من القول، والمشاهدة أوقع من السماع.
-
(٦)
أنها ثورة دموية تقوم على العنف والقتل وسفك الدماء، وهذا مما يأباه الإسلام، دين المحبة والتسامح! ولكن لحسن الحظ أن الجماهير كانت تسمع أيضًا عن سفك الشاه للدماء، وعن المجازر التي أقامها لشعب إيران المسلم، وعن المذابح التي راح ضحيتها في يوم واحد مثل ١٥ خرداد (حزيران) ١٩٦٣م ما يقرب من عشرين ألف شهيد، وعن الفظائع التي ارتكبها رجال الجيش والشرطة ضد المسجونين السياسيين وفظائع التعذيب البدني، ورش مئات المواطنين من الطلبة والعلماء بالأسلحة الرشاشة. فأين كان دعاة المحبة والتسامح في ذلك الوقت؟
-
(٧)
أنها ثورة مضادة لحقوق الإنسان، يتم فيها سجن المواطنين بالمئات دون توافر شروط الاعتقال الضرورية التي نصَّت عليها حقوق الإنسان والتي تتم فيها المحاكمات من اللجان الثورية الإسلامية دون توافر الحد الأدنى من حقوق الدفاع. ولكن الجماهير التي عانت أيضًا من الطغاة والمستبدين والتي ما زالت الشريعة الإسلامية في وجدانها ترى أن جزاء القتل هو القتل، وأن رجال الشاه قد قتلوا بالآلاف من المواطنين الأبرياء، وأن جريمة الإفساد في الأرض هو القتل في الإسلام، بل الصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف. وقد حضر بقايا الأموات ومشوَّهو التعذيب كشهود، كما اعترف رؤساء الشرطة السرية، وتعرَّف المشوهون عليهم. ولماذا تظهر الرحمة في دين الله الآن بعد أن كانت غائبة أيام حكم الشاه؟
-
(٨)
قيل أخيرًا إن الثورة الإيرانية قد انضمت إلى جبهة الرفض العربية، وأنها قطعت علاقاتها مع مصر، وتدعو الجماهير الإسلامية لقلب النظام، وتحاصر مصر في المؤتمرات الإسلامية، وتقطع عنها البترول. ولكن الجماهير المسلمة تعلم أنه لا يجوز شرعًا الصلح مع بني إسرائيل بنصوص القرآن الصريحة التي تحرِّم الموالاة لهم.٤ كما أنه لا يجوز الصلاة في الأرض المغصوبة. فلا أصبحت السيادة المصرية كاملة على سيناء، ولا تحررت الأراضي المحتلة بعد هزيمة حزيران، وتم الاعتراف نهائيًّا باستيلاء الصهيونية على أراضي فلسطين سنة ١٩٤٨م، بل وتم قبول الصهيونية كعقيدة نعترف بها، ونهيئ الأجيال القادمة على التسليم بها. إن الخروج على إجماع الأمة الإسلامية جزاؤه الإخراج من الجماعة، ويكون حكمه حكم الارتداد على الدين.
لقد آن الأوان للمفكرين العرب ومنظري ثوراتهم أن يقوموا بواجبهم تجاه الثورة الإيرانية، ومحو هذا التشويه المتعمد في أجهزة الإعلام، وأن يدخلوا عقل الثورة الإيرانية. كما أن من واجب علماء الدين لدينا أن يقوموا بمهمة أصعب من تهمة المثقفين الثوريين العرب وهي إعادة النظر فيما كُتب عن الشيعة والإمامية في كتبنا القديمة في علم أصول الدين، وفي كتب الفرق التي كتبها أهل السنة؛ إذ إن من شروط النقل والرواية ألا ينقل الراوي أقوال الخصوم حتى لا يشوهها عمدًا. إن ما نقلته كتبنا القديمة عن الشيعة مثل القول بالتجسيم أو تأليه الأئمة أو ادعائهم النبوة أو القول بالعصمة والتقيَّة والرجعة تجب مراجعته ووضعه في سياقه التاريخي ووضع حد له لأنه لم يعد معاصرًا أو يُلزم المعاصرين بشيء. وفي مقالات أهل السنة أشنع وأفظع. فقبل أن نأمر الناس بالبر علينا ألا ننسى أنفسنا، وقبل أن نطالب الآخر بإخراج القشة من عينه علينا أولًا أن نُخرجها من عيوننا. ولقد بدأ الشيخ شلتوت رحمه الله ذلك عندما أفتى بجواز الأخذ باجتهادات الفقه الجعفري. كما بدأه الإمام القمي بمحاولته فتح الحوار من جديد بين اتجاهَي الأمة الرئيسيين الباقيَين في التاريخ: الشيعة والسنة. بل إن علينا رد الاعتبار للشيعة ولأئمتهم. فقد كان الصراع بين السنة والشيعة صراع قوًى غير متكافئ؛ قوة الدولة السنِّية المغتصَبة على يد معاوية وابنه يزيد وقوة المعارضة الشرعية التي قادها آل البيت بقيادة علي والحسين وباقي الأئمة. ولكن للأسف انحسم الصراع لصالح القوة على حساب الشرعية. ولم تنجح محاولة الخروج المستمرة التي قادها آل البيت، بل كان جزاؤهم القتل والتشريد. وأصدر مالك فتوى بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، فأصبحت القوة شرعية، وانتهت الشرعية إلى المقاومة السرية، فظهرت الإمامية كأيديولوجية للمعارضة يقودها الأئمة ضد الدولة السنية القائمة التي اعتمدت على فتاوى رجال الدين لديها بعد أن أغدقت عليهم العطاء عن رضى بالرشوة، وأرهبت وعذبت ونفت وطردت من لم يرضَ منهم. ومع ذلك ظلت ثورة الحسين واستشهاده في كربلاء نقطة تحول في تاريخ المسلمين جميعًا: شيعة وسنة. وسيظل الإمام الحسين سيد الشهداء عند الجميع، وفيه يلتقي السنة والشيعة من جديد لمقاومة الظلم والطغيان والتثبت بالشرعية الإسلامية.
كما أن مهمة مثقفينا العرب مراجعة تصوراتنا القومية العربية بعد أن أحطناها بالغموض أحيانًا وجعلناها قائمة على التاريخ والدين واللغة في أحسن الفروض أو على العرق في أسوء الفروض. ولما كانت النعرات القومية قد قامت في الغرب في القرن الماضي على العرق فإن أسوء القروض لدينا هو الذي ساد عقليتنا الشعبية. وفي الوقت الذي قامت فيه الثورة الإسلامية في إيران ضد النعرات الإيرانية التي كان يغذيها الشاه: حفيد رستم وإسفنديار، وخليفة دارا وقورش. وبعد احتفاله بمرور ألفين وخمسمائة عام على ميلاد الإمبراطورية الإيرانية، وتشييد بمرور نصبه التذكاري على مداخل العاصمة ليراه كل زائر أجنبي هابط إلى إيران يكون دور مثقفينا الثوريين هو إعادة النظر في صياغاتنا القومية والتطرف العرقي. فبين الثورة الإيرانية والثورة العربية حاليًّا تلاحم في المصير والهدف، واتفاق في المصالح، وأمامهما مخاطر مشتركة. والحقيقة أنهما ثورة واحدة ذات جناحين. وإن صدى المشرق الإسلامي في إيران ليبلغ مداه في المغرب الإسلامي، وصداه في تركيا ليس بأقل منه في السودان. وبالتالي يستطيع عقل الثورة أن يفوت على الاستعمار أغراضه بتفتيت نهضة الإسلام الجديدة وتقسيمها بين الشعوب الإسلامية الكبرى: الإيرانيون والأتراك والعرب والبربر اليوم، والباكستانيون والإندونيسيون والصينيون والفلبينيون والأذربجانيون غدًا.
ثانيًا: الثورة الإيرانية ومدلولاتها بالنسبة للثورة العربية
إن عقل الثورتين يبين لنا أن الثورة الإيرانية يمكنها أن تكون نموذجًا للثورة العربية وهي في حالة تعثرها الأخير، كما يمكن للثورة العربية أن تستخلص دروسًا من الثورة الإيرانية تقيلها من عثراتها، وأهمها:
-
(١)
قامت الثورة الإيرانية على أساس جبهة عريضة تضم كافة القوى الوطنية الدينية واليسارية بكافة فصائلها والليبرالية الوطنية في برنامج واحد يقوم على إسقاط نظام الشاه والقضاء على الطغيان والاستبداد السياسي، وإعادة توزيع الثروة في البلاد، وإقامة جيش شعبي لخدمة الأهداف القومية، والخروج من سياسة الأحلاف، ولعب دور الشرطي الأمريكي في الخليج، ورفضها أن تكون خنجرًا موجهًا إلى ظهر الثورة العربية وعميلًا مباشرًا لإسرائيل. وبالتالي قام الشعب كله وراء الجبهة الوطنية والقيادة الواحدة في اتجاه الثورة ورفض الدعوات الإصلاحية لإقامة حكومة دستورية وطنية في إطار النظام الشاهنشاهي، وكانت الزعامة الدينية الممثلة في شخص الخميني هي أكثر الزعامات قدرةً على تحريك الجبهة الموطنية وأشدها حسمًا وصراحة بالنسبة لنظام الشاه. وبالتالي أصبح الخميني زعيمًا للشعب الإيراني بجميع اتجاهاته السياسية. ولكن لسوء الحظ جاءت ثوراتنا العربية دون القيام بمثل هذه الجبهة بل ممثلة لتيار واحد هم الضباط الأحرار في مصر بل ودخولهم في صدام مباشر مع كافة القوى الوطنية الأخرى الإسلامية الممثلة في الإخوان المسلمين والتقدمية الممثلة في الأحزاب الشيوعية، والوطنية التقليدية الممثلة في حزب الوفد. وظلت الثورة تضرب مرة هذا الاتجاه ومرة ذلك الاتجاه حتى دخلت في صراعات متتالية أفقدتها ركائزها الشعبية. واضطرت بعد ذلك إلى الاعتماد المستمر على قوات الجيش في أحسن الأحوال وعلى المخابرات وقوات الشرطة في أسوء الأحوال. وفشلت المحاولات المتعددة لبناء تنظيم سياسي لأنه لم يكن يمثل أي تيار وطني، فملأه الانتهازيون، وأداره البيروقراطيون، وما زال الأمر حتى الآن. تصطدم ثوراتنا بالاتجاهات الوطنية فيها وتقضي عليها دون أن تجد لها البديل بالرغم مما يقال عن جماهير ثورة ٢٣ يوليو أو جيل أكتوبر. وقد حدث نفس الشيء في الثورات العربية الأخرى عندما قامت بتيار سياسي واحد هو التيار البعثي أو حتى بأحد أجنحته مع معارضته الأحزاب الأخرى وأجنحة البعث الأخرى لدرجة التخوين المتبادل أو الأحلاف المؤقتة بين الماركسيين والبعثيين ثم الاتهامات المتبادلة التي يعقبها الطرد من التحالف ثم السجن والاعتقال لأحد الأطراف. استحالت المعارضة في نظمنا الثورية وسادها جميعًا الرأي الواحد، رأي الزعيم أو القائد أو الرئيس أو على أكثر تقدير رأي جناح الحزب أو رأي الحزب. فأصبح الوطني واحدًا والباقي خونة عملاء، والبريء واحد والكل متهمون مدانون والقادر واحد والكل عاجزون أهل كلام. ثم تصفي كل ثورة رجالها حتى لا يبقى منها أحد، ويكون رجال الثورة خارج البلاد أكثر من رجال الثورة داخل البلاد، فيعلنون الثورة من الخارج أو يندرجون في الحياة العامة وينسون الثورة. تأخذ الثورة العربية إذن الدرس من الثورة الإيرانية فيما يتعلق بضرورة إنشاء جبهة وطنية تضم كل الوطنيين، وتشمل كافة الاتجاهات الثورية، ويكون لها جميعًا الحق في التعبير على قدم المساواة، وتكون الممارسة الثورية هي وسيلة صهر هذه الاتجاهات وأبرز زعامتها الأكثر بصيرة بقوى الشعب وبمسار الثورة. ولقد قامت الثورات جميعًا بالجبهة الوطنية في كوبا وفيتنام. بل إن الضباط الأحرار قبل اندلاع الثورة كانوا على اتصال مستمر بكافة القوى الوطنية من اليمين إلى اليسار. ولكن بعد وقوع الثورة يتم الاستئثار بالحكم والصراع على السلطة حتى تدور الثورة على عقبيها فتعمل عكس ما قامت لأجله بالاعتماد على القوى الخارجية بما فيها قوى الاحتلال وأعداء الثورة.
-
(٢)
لم تنشب نورة إيران في أواخر ١٩٧٨م وانتصرت في أوائل ١٩٧٩م على ما يبدو الأمر من الخارج، ولكنها بدأت منذ انقلاب الجيش ضد حكومة مصدق الوطنية التي أمَّمت البترول، وفر على أثرها الشاه. ولما بدأ الجيش باضطهاد الوطنيين وعودة الشاه والتنكيل بهم نظم الوطنيون حركات سرية تحت الأرض لمقاومة الشاه والاستمرار في النضال حتى كانت التيار السياسي الوحيد في البلاد الذي التف الشعب حوله. فإذا ما حان الوقت انفجر هذا البركان الكامن إلى سطح الأرض واندلعت الثورة تحرك الجموع على مدى سنتين، وبلغت ذروتها في الستة أشهر الأخيرة قبل انتصار الثورة. ويدل ذلك على أن النضال المستمر له صور عديدة؛ فإن استحال العلني أمكن السري دون التوقف. فإذا ما تم اكتشاف خلية نشأت خلايا أخرى، وإذا ما سقط شهيد أو اغتيل مناضل تقدم الشهداء والمناضلون بدلًا عنه. بل إن الثورة ما زالت مستمرة بعد انتصارها. ولم يتوقف البركان الثائر على سطح الأرض حتى تصفية عملاء نظام الشاه ورؤساء الشرطة السرية، وبقدر قوة السر تصبح قوة العلن، وبقدر قوة المياه الجوفية تظهر قوة المياه المتدفقة. ولكن يبدو أنه في ثوراتنا العربية في بدايتها حدث ذلك فقط في الجيش. فقد كانت تنظيمات الضباط الأحرار سرية قبل اندلاع الثورة. كانت هناك تنظيمات سرية أيضًا عند الإخوان في الجهاز السري وعند الشيوعيين ولكنها كانت تنتمي لحزب أو لطائفة مثل الجيش والجماعة الدينية والشيوعيين. وبالتالي لم تكن لها قاعدة شعبية عريضة. وكانت قصيرة المدى: سرعان ما يتم كشفها، ويُقبض على قياداتها، وحل خلاياها فلا تتحرك جماهير الشعب لمساندتها وكأن الأمر لا يعنيها أمام غرباء عنها. وكانت متنافسة فيما بينها، كل منها يعمل لمذهبه الخاص قبل أن يعمل للصالح العام. كانت منعزلة عن بعضها البعض: يصل التنافس والانعزال إلى حد العداوة والبغضاء. فاستفردت السلطة بكلٍّ منها على حدة، وقضت على التنظيمات السرية، الواحدة تلو الأخرى حتى قضي عليها جميعًا. ثم غابت معظم التنظيمات في الآونة الأخيرة باستثناء بعض الأفراد القلائل من الشبان أو الأدباء أو الرافضين لا تكاد تشعر الجماهير بهم، وهم كلهم تحت أعين السلطة ورقابتها، فما أسهل من تقديمهم للمحاكمات أو اتهامهم بأنهم على رأس قلاقل وقتية في الجامعات أو في المصانع أو الطرقات. إن العمل السري لا ينشأ عن مجموعة من الأفراد تتقابل فيما بينها في خلايا للدراسة أو للحفظ أو لسماع آخر التقارير ثم جذب بعض الأفراد إليها الواحد تلو الآخر، فهذا الأسلوب أقرب إلى غرز الحشيش منه إلى العمل السري. بل هو تحرك جماهيري واسع تختفي قياداته وتنظيماته؛ فالبداية لحركة الجماهير وليس لمبادرات الأفراد. وعمل جميع الأفراد خارج البلاد إن لم تصحبه حركة جماهيرية داخل البلاد فإنهم يكونون أيضًا دوائر إعلامية منعزلة يسهل اتهامها بالعمالة والعمل ضد مصلحة البلاد وأمنها. ويكون السؤال هو: كيف تتحرك الجماهير وكيف يوقظ وعيها الوطني في مواجهة تزييفه وخداعه حتى يمكن لقياداته أن تنظم نفسها في حركة سرية؟
-
(٣)
قامت الثورة الإيرانية بحركة جماهيرية في الشارع الإيراني. صحيح أن المثقفين في إيران كان لهم الدور الأكبر في بلورة الثورة وتقويتها ولكن المثقفين كانوا طليعة الشعب الإيراني كله تحت قيادة الزعامة الدينية. فالشعب الإيراني هو الذي انتصر في النهاية على الجيش والشرطة. وإن حركة الشارع الإيراني التي كان مركزها السوق والمسجد هي التي جعلت الثورة مستمرة في مرحلتها الأخيرة أكثر من ستة أشهر. الشارع الإيراني هو الذي نظم الإضرابات والمظاهرات، وهو الذي حرك الأئمة، وهو الذي تصدى لقوات الجيش والشرطة، وهو الذي حاصر قصور الشاه، وهو الذي سيطر على مظاهر الحياة في إيران. وما زال الشارع الإيراني هو الضامن الأول لاستمرار الثورة.
أما ثوراتنا العربية فقد أتت معبرة ولا شك عن آمال الأمة العربية في القضاء على الإقطاع والملكية والاستعمار، وتكوين جيش وطني قومي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة … والتفت الجماهير العربية حولها، وأولت القيادة الثورية الجديدة ثقتها. ولكن سرعان ما اصطدمت الثورة بالشارع العربي. ففي مصر اصطدمت الثورة بالجماهير التي أيدت نجيب والذي كان يمثل الزعامة الأولى الثورية والذي ارتبطت باسمه الثورة في أذهان الناس. ثم اصطدمت بمجموع المثقفين في مارس ١٩٥٤م وبجميع طوائفهم الذين رفضوا التضحية بالحرية وبالدستور في سبيل النظام العسكري بالرغم مما أصدره من قوانين ثورية مثل قانون الإصلاح الزراعي، وتحويل مصر من ملكية إلى جمهورية. كما اصطدمت بعد الهزيمة بالجماهير التي ثارت على أحكام الطيران. هذه الجماهير التي كانت تعاني من مرارة الهزيمة وإهمال القادة. وكان من الطبيعي بعد اختفاء القيادة الثورية في مصر أن تصطدم الثورة المضادة بالجماهير الشعبية في ثورة ١٨ / ١٩ يناير ١٩٧٧م التي عبرت من خلالها عن رفض المجتمع الطبقي، وطالبت بحق الفقراء في أموال الأغنياء، ورفضت مظاهر الزور والبهتان في أجهزة الإعلام. وبالرغم من الولاء العاطفي للجماهير كلها للزعامة الثورية الممثلة في ناصر إلا أن الحشد التلقائي دون حزب أو تنظيم يكون عصبًا له سرعان ما ينتهي بانتهاء الزعامة الثورية التي كانت الضمان الوحيد لوجوده. صحيح أن الزعامة الثورية أدركت بعد الهزيمة خطورة الموقف وضرورة إقامة تنظيم طليعي يكون عصب الجماهير ومحركها ولكن بعد فوات الأوان؛ إذ اختفت القيادة الثورية وحلت محلها الثورة المضادة التي اعتبرت هذا التنظيم مركزًا من مراكز القوى وقضت عليها، وأصبح ولاء الجماهير الظاهري للسلطة تحكمه أجهزة الإعلام التي استطاعت تزييف الوعي القومي وتغييبه تمامًا لدرجة الخيانة القومية في وعي كل مواطن دون أن يشعر بها، وإحساسه بالقضية الوطنية على أنها لقمة العيش، وبالاستقلال الوطني للبلاد على أنه منحة عشرة أيام، وبالكرامة الوطنية على أنها زيادة في الدخول وحرية الكسب، وكان الوطنية تباع وتشترى في سوق العمالة. لا حل للثورات العربية الآن إلا بنهضة الشارع العربي كما نهض الشارع الإيراني، وباشتراك الجماهير العربية في أخذ قراراتها المصيرية التي تحدد مسار تاريخها: وكأننا أخذنا من النظم الشمولية أسوء ما فيها وهو غياب الحرية والديمقراطية وتركنا أحسن ما فيها وهي العدالة الاجتماعية. وأخذنا من النظم الرأسمالية أسوأ ما فيها وهي اللامساواة، وتركنا أفضل ما فيها وهي حرية المواطن وديمقراطية الحكم.
-
(٤)
قامت الثورة الإيرانية بزعامة رجال الدين وعلى رأسهم الإمام الخميني. ولعب المسجد دور الخلية السرية أو الحزب العلني. وكان الأئمة في المساجد يلقون الخطب الدينية التي تتعرض لنظام الشاه وطغيانه وأجهزته في التعذيب والتنكيل بالمواطنين. وقد كان ولاء المواطنين لهم وليس للحكومة. يقوم رجال الدين بفض الخصوم والمنازعات، ويصدرون الفتاوى، ويجمعون الخُمس، ويسيطرون على مشاعر الناس. فكانوا مؤهلين بطبيعتهم للزعامة. وقد ساعد تاريخ الشيعة في إيران على وجود الأئمة كزعماء للمعارضة للنظم السياسية القائمة. فبعد ثورة الحسين بن علي واستشهاده في كربلاء، وخروج الأئمة تباعًا لإعادة الشرعية ضد تسلط يزيد بن معاوية، واغتصاب الحكم على يد الأمويين، وبعد استشهاد المئات واستتباب الأمن لدولة الظلم والطغيان تحولت المعارضة إلى حركة مقاومة سرية تحت الأرض واختفاء الأمام مؤقتًا حتى يعود عندما تكون الدولة حبلى بالثورة، فتتفجر الثورة ويعود الإمام ليملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا. وظلت الجماهير ملتفة حول الأئمة منتظرة عودة الإمام المخلِّص. وقد كان الأئمة الموجودون مستقلين عن الدولة في معاشهم وبالتالي لم تستطع الدولة إرغامهم على إصدار فتاوى لتأييدها إلا عن طريق البطش والإرهاب. ولكن الأئمة الأحرار استطاعوا الوقوف أمام إرهاب الدولة بالتفاف الجماهير حولهم، وبالتالي أصبحوا مهيئين أكثر من غيرهم لقيادة الثورة. هناك بعض الأئمة الذين ساروا في ركاب الدولة، والبعض الآخر الذي آثر الصمت والسكوت: ولكن المتعاون عاقَبته الثورة. والصامت وجد نفسه محاصرًا بين ثورة الأئمة وثورة الجماهير، فانضم إلى الثورة، وكما قال الإمام الخميني: «قاد الإمام الشعب ثم قاد الشعب رجال الدين.»
أما ثوراتنا العربية فقد قادها الضباط الأحرار الذين ذهبوا إلى رجال الدين في أول الثورة طالبين تأييدهم، مستثيرين تاريخ مصر بتعاون عرابي ورفاقه مع مشايخ الأزهر، وقبل ذلك في تعاون المماليك مع مشايخ الأزهر ضد نابليون. صحيح أن الثورات كانت تخرج من الأزهر، ولكن صحيح أيضًا أنه في ربع القرن الأخير وربما منذ نشأة الدولة الأموية على اللاشرعية ومنذ الحكم الفاطمي في مصر حتى عصر المماليك أن تحول رجال الدين إلى موظفين في الدولة يأتمرون بأمر السلطان، يبررون قراراته، ويصدرون الفتاوى على هواه. كان البعض يرفض وكان جزاؤه السجن والتعذيب أو التعذيب والنفي أو القتل بالتهم الملفقة. وكلما أتينا إلى تاريخنا الحديث وجدنا الدين أقرب إلى تبرير قرارات السلطة السياسية حتى انتهى الأمر إلى استعماله تمامًا. بل وسعى رجال الدين إلى التبرير من تلقاء أنفسهم طمعًا في منصب أو رغبة في رئاسة. فخرج الملك السابق فاروق من نسل النبي عن طريق سليمان باشا الفرنساوي! وكان الإسلام مرة ملكيًّا ومرة جمهوريًّا طبقًا لنوعية النظام السياسي القائم. وكان مرة رأسماليًّا ومرة اشتراكيًّا طبقًا للنظام الاقتصادي المتبع. والغريب أن نفس رجال الدين الذين أصدروا بعد قرارات مؤتمر الخرطوم في أواخر ١٩٦٧م فتوى بأنه لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف بإسرائيل هم الذين أصدروا بعد معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بيانًا يعلنون فيه تأييد الإسلام لمعاهدة الصلح مستشهدين بالقرآن والسنة وبتاريخ الإسلام! وبالرغم من صورة رجل الدين في الذهن الشعبي أنه يقول غير ما يعمل ويخشى السلطان، ويبيع ذمته بثمن بخس إلا أن صورة البعض الآخر صورة كريمة من خلال مواقفه العملية تجعلهم مؤهلين للزعامة الشعبية مثل الأئمة الشهداء: حسن البنا، وعبد القادر عودة، وسيد قطب. والأمل الآن في اليسار الديني أن يفرز زعماءه الدينيين. لقد كان في الإمكان ذلك لو قدر للإخوان المسلمين أن تعمل في صفوف الطلاب الأزهريين وأساتذتهم. ولكن ما زال الأمل معقودًا على الزعامة الدينية واستقلالها الفقهي وهو منصوص عليه في الشريعة. فلا يجوز عزل قاضي القضاة الذي يجوز له عزل السلطان، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وجواز خلع الإمام إذا ما نقض البيعة، وسلطة أهل الحل والعقد … إلى آخر ما سطره الفقهاء في موضوع «السياسة الشرعية».
-
(٥)
قامت الثورة الإيرانية وكان عصبها هم المثقفون. وكانت جامعة طهران قلب الثورة. ثم التف الشعب حول المثقفين، وسار الشارع وراء الجامعة. والطلاب هم رصيد الثورة في العالم كله خاصة في المجتمعات النامية والمتقدمة. وهم بدايات أصوات المعارضة في المجتمعات الاشتراكية، وأيضًا الأساتذة الأحرار في جامعة طهران وعلى رأسهم المفكر الفيلسوف الشهيد علي شريعتي الذي تنتشر صوره وأعماله في كل أنحاء إيران على الحوائط والأرصفة. وما زال المثقفون يحاولون صياغة نظرية ثورية وتحويلها إلى دولة من خلال السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلى رأسهم الحسن بني صدر.
أما ثوراتنا العربية فقد بدأت بصدامها مع المثقفين منذ أزمة مارس ١٩٥٤م حين حرص المثقفون على الحرية والديمقراطية والدستور والحياة النيابية. فحدث الصدام بين الجامعة والثورة حتى قضت الثورة على استقلال الجامعة، وفصلت الأساتذة الأحرار، وأغرقت الطلاب في الامتحانات بعد اعتقال الإخوان والشيوعيين منهم. ثم التف بعض المثقفين حول الثورة تأييدًا لبعض منجزاتها الوطنية مثل تأميم قناة السويس وما تلاها من العدوان الثلاثي وقيام الجمهورية العربية المتحدة في ١٩٥٨م، وصدور قرارات يوليو الاشتراكية في ١٩٦١م. ولكن سرعان ما اصطدمت الثورة من جديد بالمثقفين اليساريين في ١٩٥٩م. فسجن البعض وهرب البعض الآخر حتى أتى موضوع أهل الخبرة وأهل الثقة؛ أي المثقفون والضباط الأحرار. وكان الاختيار لأهل الثقة على أهل الخبرة، وكأن المثقف لديه علم دون ولاء في حين أن الضابط لديه ولاء دون علم، وكأن المهم الولاء لا العلم! ولما كانت الثورة في حاجة إلى إعلام فقد تعاون بعض المثقفين معها كجهاز إعلامي له مهمة تبرير قرارات السلطة. فنشأت الثقافة الرسمية مختلطة بالإعلام. وتكوَّن فريق من المبررين من اليمين إلى اليسار ما دامت القيادة ثورية تبغي البناء الاشتراكي وتعادي الاستعمار. ولكن كان تبرير الأخطاء لا يقل عن تبرير الصواب. وغاب روح النقد والتطوير. وكلما قامت الجامعة للتعبير عن أحد المطالب الوطنية خاصة بعد الهزيمة اتُّهم الطلاب بأنهم كانوا ضحية العملاء المندسين من الخارج، وكأن الطلاب غير قادرين على التحرك إلا بفعل العمالة. وكانت القيادة في ذلك الوقت وقد ضعفت ثوريتها، قد حاولت إقناع الطلاب بأن الخبز هو الحرية، وأنه ما دام الخبز متوافرًا فلمَ المطالبة بالحرية؟! فلما أتت الثورة المضادة أصبح المثقفون كلهم شيوعيين ماديين ملحدين كافرين وعملاء للاتحاد السوفييتي. كما أصبح اتحاد طلاب الجمهورية كذلك مثل كل الاتحادات الطلابية في الخارج. توقفت الحياة في الحرم الجامعي وتوقف نشاط الأسر والجمعيات والمنتديات الطلابية إلا من رحلات للسمر أو جماعات دينية تدعو الناس إلى الخير والحب والتسامح وتعكف على العبادة أو التفلسف دون السياسة وأمور البلاد. وكانت النتيجة القضاء على الجامعة علمًا وسياسة، وانزواء الطلاب، وتهرب الأساتذة، وامتداد الخيانة القومية إلى الشارع ذاته، وإعلان القيادة السياسية الخيانة كسياسة للدولة.
-
(٦)
وقد ساهم في الثورة الإيرانية المثقفون خارج البلاد الذين هربوا من السجون والمعتقلات داخل البلاد أو الذين أتموا دراساتهم وآثروا البقاء في الخارج لإشعال الثورة، وقد بدأ الرأي العام العالمي، من خلالهم التعرف على الأوضاع داخل إيران ورؤية صور المذابح ومعرفة أسماء الشهداء، وقراءة فظائع الشرطة السرية. وامتلأت حوائط العواصم الأوروبية بالشعارات المنددة بنظام الشاه، وجاءت الوفود الطلابية الإيرانية إلى معظم الجامعات الأوروبية والأمريكية تعرض القضية. قاموا بالمظاهرات أثناء زيارات الشاه المتعددة للدول الأوروبية، واعتصموا، واحتلوا السفارات، ومارسوا شتى أنواع المقاومة بالكتابة في الصحف حتى أصبحت فظائع الشرطة السرية على كل لسان في الغرب، ويكون أول سؤال يوجه إلى الشاه في أي مؤتمر صحفي. ولا غرو أن رؤساء اتحادات الطلاب الإيرانية في الخارج كانوا من أعضاء مجلس الثورة الإسلامي بعد انتصار الثورة، وكانوا من منظري الثورة، والمتحدثين باسمها، وأعضاء في أول حكومة بعد الثورة.
وإبان ثوراتنا العربية، هاجر عدد من المثقفين خارج البلاد خاصة بعد قدوم قيادة الثورة المضادة، وقاموا بحملاتهم من الخارج في الإذاعات الخارجية الموجهة أو في الصحف أو إصدار صحف جديدة أو مجلات يستحيل أرسالها داخل البلاد، فلا تحدث النتيجة المرجوة. ويضطرون لقبول مساعدات مالية من أنظمة عربية أخرى؛ مما يجعلهم عرضة للاتهام المباشر بالتعاون مع الأنظمة المعارضة. والبعض الآخر آثروا الاندماج في الحياة العامة، واستثمار نشاطهم في المال والتجارة، والاكتفاء باجترار ذكريات النضال والثورة. ومنهم من آثر تحويل الثورة إلى علم أو استراتيجية حضارية جديدة والتبشير بالثورة كنهضة للشعوب تقوم على استقلال الإرادة الوطنية. ولكنهم جميعًا لم يكسبوا الرأي العام الأجنبي لصالحهم، وما زال النظام القائم هو الذي يكسب الأنصار لدى رجل الشارع خاصة من قيادة مولعة بأجهزة الإعلام والمقابلات الصحفية والمؤتمرات العالمية والرحلات المسرحية المذاعة على الهواء أمام ملايين من البشر.
ثالثًا: مخاطر أمام الثورة الإيرانية
بعد هذه الدروس المستفادة من الثورة الإيرانية بالنسبة إلى الثورة العربية فإن من واجب الثورة العربية، خاصة عندما كانت في عنفوانها، أن تنبه على بعض المخاطر التي تهدد الثورة الإيرانية، فعقل الثورة واحد، وتراكم الخبرات الثورية لنفس الجماهير العربية والإيرانية يساعد على عمل الثورة وتنظيرها. ويمكن إيجاز هذه المخاطر في الآتي:
-
(١)
لما كانت الجبهة الوطنية هي من أبرز عناصر نجاح الثورة الإيرانية فإن تفتُّت هذه الجبهة هو مقتلها ونهايتها. لقد اتحدت الاتجاهات الثورية كلها: الدين الثوري، والأيديولوجية الثورية، والوطنية الثورية، من أجل إسقاط نظام الشاه، ونجحت في تحقيق هذا الهدف المشترك الأول. ولكن في مرحلة بناء الدولة قد تختلف الآراء حول بناء الدولة وصياغة الدستور، وشكل الحكم، وصورة الزعامة، وتكوين الأحزاب. قد تختلف الاتجاهات الثورية فيما بينها في الوقت اللازم لتحويل الثورة إلى دولة فيريد الدين الثوري تطبيق الشريعة الإسلامية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والأحوال الشخصية والعلاقات الدولية. وتريد الأيديولوجية الثورية تكوين جيش الشعب، وتطبيق الاشتراكية، والتحالف مع المعسكر الاشتراكي، ومعاداة الرأسمالية الغربية. وتريد الوطنية الثورية الأخذ بالليبرالية الثورية، ومسئولية الحكومة أمام المجلس النيابي، وتحويل الثورة إلى دولة. وكفالة حرية التعبير لكافة الاتجاهات. والخوف من أن يحاول كل اتجاه فرض رأيه على الاتجاهات الأخرى. فإما أن ينجح بالقوة فيصفي باقي الاتجاهات، وهو ليس بمستبعَد، وإما أن ينعزل ويخرج من الجبهة، ويكوِّن معارضة خارج الثورة، سرية أم علنية، حتى تنعزل معظم الاتجاهات: ويبقى اتجاه واحد هو السائد، فيغيب الحوار الداخلي، وتتفتت الجبهة الوطنية، وتضعف السلطة الثورية لكثرة معارضيها فيحدث الانقلاب. وواضح أن الجامعة على يسار الثورة، وأن الشارع الإيراني على يمينها، وأن الزعامة الدينية تحاول الحفاظ على وحدة القوى الثورية. ولكن هذه الزعامة نفسها تتراوح بين يمين الثورة مثل عدد من الأئمة وبين يسارها الليبرالي (طالقاني). ولكن الزعامة الثورية بقيادة الخميني هي الضامن الوحيد حتى الآن لاستمرار وحدة الثورة من خلال وحدة الزعامة ووحدة الجبهة الوطنية. الخوف كل الخوف من تقليدية اليمين، وطفولية اليسار، وسكون الوسط أو تحيزه إلى أحد الفريقين. إن الحفاظ على الوحدة الوطنية لكافة فصائل الثورة واتجاهاتها لهو الضامن لاستمرارها؛ تلك الوحدة التي لم تستطع الثورة العربية المحافظة عليها، فانتهت الثورة إلى الرأي الواحد، وسارت في الاتجاه الواحد، إما يمينًا أو يسارًا أو وسطًا، أو إلى استعمال الوحدة الوطنية كوسيلة لإيقاف التغير الاجتماعي والمحافظة على المكاسب الثورية في غياب مكاسب ثورية أكبر.
-
(٢)
بعد انتصار الثورة الساحق وسقوط الشاه ونظامه التسلطي بدأت عملية تحويل الثورة إلى دولة. وكانت أول خطوة لذلك هي البحث عن فكر أو نظرية؛ فالثورة إسلامية. لكن ماذا يعني الإسلام؟ صحيح أنه ثورة ضد التسلط والطغيان والإفساد في الأرض والتعذيب والقتل والاغتيال، وثورة ضد الاستعمار والرأسمالية وضياع الذاتية والهوية. ولكن ما هي نظرية الثورة في الملكية وفي وسائل الإنتاج وفي الأجور وفي الأسعار … إلخ؟ ما هو الشكل السياسي للدولة الإسلامية، وما هي نوعية النظم والمؤسسات؟ ما هو الدستور وما هي القوانين؟ لقد وجدت الثورة نفسها منتصرة ولديها وجدان الشعب وتأليه الزعامة «الله، والقرآن، وخميني». ولكن عواطف الشعب «وكاريسمية» القيادة لا تعطي فكرًا. فكر الثورة هو الانتقال من وجدان الشعب نحو الزعامة، والانتقال من الزعامة نحو الشعب في نقطة متوسطة هي عقل الثورة وفكرها؛ فالدولة تحتاج إلى فكر وقوانين كما تحتاج الثورة إلى وجدان وفورة. هناك محاولات الحسن بني صدر لإقامة اقتصاد «توحيدي». وكتابات علي شريعتي، ومؤلفات بازر كان وطالقاني ولكنها ما زالت لا تكوِّن فكر الثورة. ويعطي الأئمة، وعلى رأسهم الخميني، الفقه الجعفري التقليدي الذي يشمل أحكام العبادات والمعاملات مع التركيز على أهمية الاجتهاد دون التقليد، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى بعض المسائل المستحدثة مثل البنوك والفوائد وأشكال البيوع المحرمة ومقاومة الاستعمار والصهيونية كما يفعل الإمام الخميني في «تحرير الوسيلة» وفي ملخصه «من هنا المنطلق». ولكن الفقه وحده ليس فكرًا؛ فالقانون يقوم على الفكر ولا يمكن تطبيقه آليًّا دون نظرية في القانون أي دون أساس نظري ووضعي له. والقانون في نهاية الأمر تعبير عن وضع سياسي واقتصادي وليس مجرد تطبيق الشريعة تحت أي ظروف ودون اعتبار لتكوين المجتمع وللمرحلة التاريخية التي يمر بها.
وبالإضافة إلى ضرورة وجود الفكر كحلقة متوسطة بين وجدان الشعب وإرادة القيادة لا بد من وجود المؤسسات: المجلس النيابي، القضاء، الجيش، الشرطة، الصحافة. وأن الثورة بعد انتصارها لا يمكنها أن تمارس سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية في آنٍ واحد إلا كمرحلة انتقال قبل بناء الدولة. ولكن إذا استمرت هذه المرحلة طويلًا فإنه يُخشى على الثورة من قيادتها وإرادتها الثورية، كما يُخشى على الثورة من الشعب وفصائله المسلحة. فيحدث تنازع في السلطات بين القيادة والشعب نظرًا لوجود سلطتين: سلطة القمة وسلطة القاعدة، ودون أن يحكمهما قانون أو تعبر عنهما مؤسسة سلطات دستورية. ولا يكفي وجود دولة رمزية؛ أي حكومة ووزراء دون سلطات ودون مسئولية. كما أن من أخطر الأمور ممارسة الثورة سلطاتها الثلاث دون أن تكون مسئولة أمام مجلس تشريعي أو قضائي بحيث لا تكون الثورة بعد انتصارها حاكمًا ومحكومًا في نفس الوقت. الدولة إذن هي الوريثة للثورة. وبالتالي تخف قبضة فصائل الشعب المسلحة عن المرافق العامة وحراستها، وتحل محلها قوى الشرطة حتى تعود للدولة هيبتها بعد أن هدمتها الثورة.
-
(٣)
كما أنه لا بد من الإسراع بوجود فكر للثورة كحلقة متوسطة بين الإرادة الثورية للقيادة والوجدان الثوري للشعب. لا بد من الانتقال من فكر الثورة إلى تحقيق الثورة بالفعل؛ أي الانتقال من النظرية الثورية إلى الممارسة الثورية. وإن التحدي الحقيقي لأية ثورة ليس هو انتصارها وتصفية أنصار النظام السابق بل مواجهة المشاكل الحقيقية في مرحلة ما بعد انتصار الثورة وعلى رأسها مشاكل التخلف، وفي مقدمتها مشكلة الفقر. فبالرغم من انتصار الثورة ما زال جنوب طهران الفقير يمثل تناقضًا صارخًا مع شمال طهران الغني. وما زال الشحاذون والعجائز والأطفال المشلولون على الأرصفة نائمين. وفي قم، المدينة المقدسة، يفترش الفقراء رجالًا، ونساء، وأطفالًا، الأرصفة بجوار حوائط الروضة الشريفة، مسجد السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر، ويتساءل الإنسان: أيهما أكرم عند الله: كل هذا الذهب والفضة والبلور في القبة الشريفة، وكل هذا الأموال والصدقات على القبر الشريف أم إطعام الفقراء، وإلباس العرايا، وإيواء من لا مسكن لهم؟ والتخلف ليس هو الفقر وحده بل كل ما يسبب الفقر من قوالب ذهنية ومكونات نفسية، وما يسبب البؤس بوجه عام؛ فالرجال والسيدات يبكون ويتمسحون ويتبركون بمقابض النحاس وبأسوار الحديد للقبر الشريف، ويطهرون أنفسهم من انفعالاتهم وبؤسهم ببركة آل البيت، فيخرجون سعداء وكأن مشاكلهم قد حُلَّت في حين أن وضعهم الاجتماعي لم يتغير والبناء الاجتماعي كله باقٍ كما هو عليه، يفرز الفقر، ويولد البؤس. وكأن الثورة الإيرانية لن تنتصر على التخلف إلا بعد ثورة محمد بن عبد الوهاب على زيارة قبور الأولياء ومنازل الصالحين. والأمر بالمثل في التبرك بلمس الأئمة للباس والمأكل والمشرب، وتقبيل أياديهم، والركوع أمامهم، والطاعة لهم. وبعض الأئمة ما زالوا يعطون الأولوية للمذهب على العقيدة، وللإمامية على التوحيد. ما زالت مشكلة البطالة في إيران، حوالي ثلاثة ملايين عامل يرون الكويت كما رأى الأوروبيون العالم الجديد للبحث عن الذهب الأسود. ما زالت مشكلة تصريف المياه تتم في القنوات المفتوحة بجوار الأرصفة حيث تزدهر فيها الأشجار الباسقات! ما زالت مشاكل سوء التغذية لجماهير الشعب، وتحويل الثورة في الحياة اليومية في سلوك الجماهير في الأسواق وفي الحياة العامة. إن التحدي الحقيقي لأية ثورة ليس هو الوجدان الثوري أو الإرادة الثورية أو الفكر الثوري، بل الواقع الثوري. وإن كل النظريات الثورية عن الجوع لن تمنع طفلًا من أن يموت جوعًا. صحيح أن الثورة في بدايتها. ولكن لماذا لا تكون البداية هز البناء الاجتماعي مثل هز النظام السياسي بقوانين الإصلاح الزراعي، وتحديد الملكية، ورفع الحد الأدنى للأجور، ووضع حد أعلى للكسب، وتوزيع أراضي الشاه على المعدمين، وملكية المصانع للعمال، وتأميم النفط … إلخ.
-
(٤)
ما زالت الزعامة الدينية الثورية بإيران هي التي بيدها مفاتيح الثورة، ومقاليد الأمور، وما زالت هي التي تسيِّر سياسة البلاد؛ فالعاصمة هي قم وليس طهران، وإصدار القرارات بيد الخميني وليس بيد الحكومة، وهو الذي يقابل الزعماء والوفود أولًا قبل أن ينفذ ما يتم الاتفاق عليه مع الحكومة. وهذا طبيعي نظرًا لغياب مؤسسات الدولة ودستورها الذي ما زال في سبيل الصياغة النهائية، وطبيعي أيضًا من زعامة قوية لولا صلابتها ما انتصرت الثورة، يدين لها الجميع بالولاء، وتحوز ثقة الشعب كله واحترام جميع قياداته. ولحسن الحظ فإنها قيادة مستنيرة، قادرة على تغيير مواقعها طبقًا لحركة الجماهير ومطالب فئات الشعب. «فالشادور» الإيراني لم يعد شرطًا ضروريًّا لإثبات الفضيلة، بل هو رمز الثورة الإيرانية، وكفاح المرأة، وإثبات لأصالة الثورة الوطنية ضد تغريب الشاه للمجتمع وضياع معالمه القومية. والاستقلال الذاتي للمجموعات الشعبية: الأكراد، والتركمان، والعرب، داخل نطاق الأمة الإسلامية يثبت الزعامة الثورية. ما دام مطلبًا شعبيًّا تؤكده الشريعة ويثبته ميثاق المدينة. والممارسة السياسية اليومية هي الكفيل بتغيير القيادة الثورية معها. وكثيرًا ما تغيرت المنطلقات الأولى للثورات عن نهاياتها بعد طول ممارساتها ومجابهاتها للواقع والناس.
ولكن في مواطن أخرى تتصلب القيادة الثورية عن حق مثل تصفية رجال الشاه ورؤساء الشرطة السرية وكل من قام بالقتل والتعذيب. يحاكم كل هؤلاء بتهمة الإفساد في الأرض وعقوبتها في الإسلام القتل أو الصلب أو تقطيع الأرجل والأيدي من خلاف على ما هو معروف لدى الفقهاء. ويتم إحضار الشهود أو من وقع عليهم التعذيب فيتعرفون على القتلة، وجزاء القاتل هو القتل، النفس بالنفس، وفي القصاص حياة، والمحاكمات ليست سرية لأن القتل والتعذيب يعلمه كل الناس داخل إيران وخارجه أثناء حكم الشاه وبلا تهم أو محاكمات بل لمجرد معارضته. والدماء على جدران المدرسة الفيضية خير شاهد. وقُتل عشرين ألفًا تحت جنازير الدبابات يوم ١٥ خرداد (٥ حزيزان ١٩٦٣م)، وهو يوم الشهداء في إيران الذي يعلمه الجميع. فأي علنية أكثر من هذا؟ ولماذا الهوادة في دين الله؟ وأين كان أنصار حقوق الإنسان ودعاة الرحمة والعفو أثناء حكم الشاه؟ إنه لا فرق في الإسلام بين الآمر بالقتل ومنفذ القتل. إنما المهم أن تدرك القيادة أن جرائم الأفراد لها صلة بالبناء الاجتماعي والنظام السياسي. صحيح أن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا ولكن لا يكون من قتل كمن عذَّب. وقد يأتي يوم يتم فيه العفو العام حتى لا يتحول العقاب إلى ثأر شخصي وحتى تبدأ إيران مرحلة جديدة من كفاحها الثوري ثم تبدأ محاكمة الشاه نفسه رأس الحية، وهنا تكون المحاكمة السياسية للنظام السابق كله.٥ إن اغتيال الزعامات الثورية ما زال أيضًا أحد مخاطر الثورة الإيرانية. فزعامة الخميني فريدة في نوعها، وزعامة الأئمة أيضًا ما زالت عصب الثورة ومحركها. ويُخشى على الزعامات تصفيتها من اليمين أو من اليسار أو ممن يريدون أخذ ثأرهم بأيدهم أو من عملاء النظام السابق أو من أعداء الثورة وعملاء الاستعمار والصهيونية بالداخل. كما أن انتقال الزعامة الثورية للأجيال القادمة ما زال أيضًا أحد المخاطر؛ فالزعامة الفريدة مثل زعامة الخميني لا تتكرر، وتعميمها لدى الأئمة يُفقدها طابعها «الكاريسمي» ويغري فصائل الشعب واتجاهاته المسلمة بالانقضاض عليها. إنما الإسراع في بناء مؤسسات الدولة، وبناء الحزب الجمهوري الإسلامي هو الضامن لتحويل الزعامة الفريدة إلى تاريخ ثوري مستمر. -
(٥)
قامت الثورة الإيرانية منذ بدايتها على بعد إسلامي وليس فقط على بعد إيراني؛ فهي ثورة إسلامية في إيران. ليست ثورة إيران ثورة داخل حدود إيران وحده بل ثورة إسلامية تنطلق خارج حدود إيران، وتصبح مركز جذب لجميع الشعوب الإسلامية التي تعاني من نظم التسلط والطغيان الشبيهة بنظم الشاه. وقد حدث ذلك بالفعل؛ أن قويت عزيمة المسلمين الثوريين في أفغانستان، وبدأت شعوب باكستان وبنجلادش ينظرون إلى هذا النموذج الإسلامي الجديد الذي ألهب مشاعر المسلمين واستقطبهم، وأعطى صورة جديدة للحكم الإسلامي يقوم على ثورية رجال الدين وحركة الجماهير وتحديث الإسلام مواجهة الاستعمار والرأسمالية والصهيونية والثورة المضادة. وأصبحت صور الخميني إن لم تكن على حوائط المدن العربية فهي على الأقل في قلوب العرب جميعًا. يكفي الثورة الإيرانية أنها أحيت آمال المسلمين في استعادة القدس وتحرير فلسطين. ودفعت المجتمعات الأوروبية في الشرق والغرب على السواء إلى التساؤل عن نهضة الإسلام ومستقبل العالم معه. ولكن يخشى أن تهدأ الثورة، وأن يخف المد الثوري بطبيعة تباطؤ الدافع الحيوي في الزمان. يخشى أن تواجه الثورة الإسلامية في إيران مشاكلها الداخلية العويصة فتفشل بالداخل أكثر من الخارج، خاصة وأن القوى الرجعية العربية والاستعمارية الغربية بل والكتلة الاشتراكية كلها تودُّ حصارها حتى لا ينفذ إشعاعها إلى المسلمين في كل مكان، فتتغير النظم تباعًا، ويبدأ العالم عصرًا جديدًا، عصر الثورة الإسلامية، كما عاش في القرن الماضي وأوائل هذا القرن عصر الثورات الأوروبية. ويبدو أن تاريخ الثورات دائمًا يتبع هذا التطور من داخل الثورة إلى خارج حدودها ثم إلى داخلها من جديد، فقد خرجت الثورة الفرنسية خارج حدودها، ثم رجعت من جديد بعد هزيمة نابليون إلى حدودها الطبيعية. وبدت ثورة الجزائر أيام بن بلَّة منتشرة خارج حدودها ثم انقلبت إلى داخلها عند بومدين وربما إلى الداخل أكثر فأكثر عند خليفته. وانتشرت الناصرية خارج حدود مصر، والآن تعود مصر إلى الانغلاق بعد انحسار الثورة عنها. ولكن تأمن الثورة الإسلامية في إيران من هذا الخطر بالتأكيد على هويتها الإسلامية. وما إيران إلا وطن للإسلام كغيره من الأوطان، تحتاج كلها إلى ثورة كي تتحرر شعوبها، وتعود إلى سابقتها الأولى داخل الأمة الإسلامية الواحدة وتكون حينئذٍ يقظة الإسلام من جديد.
-
(٦)
حتمًا لن يتخلى أعداء الثورة الإسلامية في إيران عن معاداتها، خاصة أعداءها التقليديين؛ أولًا: الاستعمار الغربي الذي هددت الثورة مصالحه النفطية ونظمه الرأسمالية. ثانيًا: الصهيونية العالمية التي أصبح لا مأوى لها في إيران، فأضافت الثورة الإيرانية رصيدًا لا ينضب للثورة الفلسطينية. ثالثًا: النظام الشاهنشاهي السابق الذي ما زال أنصاره والذين استفادوا منه متربصين بالثورة دفاعًا عن مصالحهم القديمة وسلطتهم المفقودة أو أخذًا بالثأر من عقاب الله لهم. رابعًا: المعسكر الشرقي الذي قد يرى في الثورة الإسلامية في إيران يقظة الإسلام الثوري ووقوفه منافسًا للثورة الاشتراكية على قدم المساواة وجذب الشعوب الإسلامية نحوه؛ إذ إنه يضم الإسلام والثورة في حين ضمت الثورة الاشتراكية الثورة فحسب. لن تتخلى وكالة المخابرات المركزية عن سلطانها المفقود على أرض إيران بعد أن أخطأت في حساباتها القديمة وجهلت قوة الإسلام وحركة الشعوب ودور الأئمة. ولن تترك شركات النفط والسلاح والشركات الاستثمارية الكبرى الثورة الإسلامية في إيران بعد أن قطعت عليها مصادر النهب والسلب لثروات البلاد. ولن تترك الأحلاف العسكرية الغربية أو الشرقية الثورة في هدوء تبني المجتمع الجديد، وتعيد تنظيم الحركة الثورية الإسلامية، وتسترد حقوق المسلمين التي ضاعت منذ الحروب الصليبية حتى الآن. ولن تسمح بتصدع أجنحة دفاعاتها في المشرق بالنسبة للغرب وفي المغرب بالنسبة للشرق، ولن تقبل الوقوف أمام أطماعها في آسيا وأفريقيا. بل وقد تتحالف ضدها الكتلتان ويتكالب عليها النظامان السائدان لأن كليهما يرى في الثورة الإسلامية في إيران بديلًا ثالثًا تتوق الشعوب الإسلامية لوضعه كما تحاول الشعوب في آسيا وأفريقيا ودول عدم الانحياز والعالم الثالث كله العثور عليه تأكيدًا لهويتها، وتدعيمًا لاستقلالها. إنما يحرس الثورة الإسلامية في إيران صلابة زعامتها، ويقظة جماهيرها، ومساندة الشعوب الإسلامية لها. وبصرف النظر عن نوعية نظام الحكم فيها، وربما أيضًا حركة التاريخ التي تعيد البحث في وسط العالم أمام بوادر انهيار النظامين القائمين، كما كان الحال أولًا في انتشار الإسلام في الجزيرة العربية أمام نهايات الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية. يتنبأ المفكرون الغربيون أنفسهم ببداية النهاية بالنسبة إلى الحضارة الغربية، وتتحول الثورة الاشتراكية إلى دول متحاربة لكلٍّ منها أطماعها في السيطرة والسيادة، وينهض الإسلام من جديد، وتدب اليقظة في جماهير المسلمين، وتبرز الزعامة الثورية الإسلامية في إيران لتخشاها أنظمة الحكم في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وربما يكون بداية القرن الخامس عشر الهجري عام الفتح الجديد.