الدين والحركات الدينية في حوض البحر المتوسط ١
سيظل يتجاذب المجتمعات النامية طريقان: طريق التصوف وطريق الثورة. ففي هذه المجتمعات التقليدية المرتبطة بتراثها، وهو في الغالب تراث ديني، يكون الدين لدى شعوبها مصدر قيمها، وموجه سلوكها، وأداتها لتفسير العالم وفهمها للأحداث، وإدراكها لذواتها. وفي لحظات التغير الاجتماعي التي تمر بها هذه المجتمعات يظهر الدين إما كعامل لإيقاف التغير ولتثبيت الوضع القائم أو كعامل لدفع التغير وإقامة وضع أفضل. يظهر الدين إما لصالح الأقلية المسيطرة المتعاونة مع الإقطاع والرأسمالية والرجعية والاستعمار أو لصالح الأغلبية المقهورة من أجل العدالة الاجتماعية والحرية والتقدم. وقد ظهرت هذه الحقيقة في معظم الأوراق المقدمة إلى مؤتمر أمستردام عن «الدين والحركات الدينية في حوض البحر الأبيض المتوسط» الذي دعت إليه جامعة أمستردام والجامعة الحرة في ديسمبر كانون الأول الماضي. ففي القسم الجنوبي عن «الإسلام» قُدمت اثنتا عشرة ورقة، نِصفها عن الحركات الصوفية ونصفها الآخر عن الحركات الثورية. وفي القسم الشمالي عن «اليهودية والمسيحية» قُدمت أيضًا اثنتا عشرة ورقة نصفها عن الكهنوت والشعائر والطقوس (اليمين الديني) ونصفها الآخر عن الحركات الدينية المعارضة للكهنوت (اليسار الديني).
وما يهمنا نحن في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي هو مدى انتشار حلقات البحث والمؤتمرات الدولية حول الدين والثورة نظرًا للأحداث التي تمر في منطقتنا من استعمال الدين كأساس أيديولوجي لتدعيم الثورة المضادة من أجل التعاون مع الاستعمار، والدخول في الأحلاف العسكرية، والاعتراف بإسرائيل، وتأييد الاقتصاد الحر، وتدعيم النظم القائمة، واستعماله أيضًا حولنا في آسيا كدافع ثوري مناهض للاستعمار والتسلط؛ فالعالم كله اليوم يتحدث عن مستقبل المنطقة ونكون موضوعًا لحديثه، ونحن غافلون عما يدور حولنا، والسؤال الآن: متى نتحول نحن كموضوع دراسة إلى دارسين لموضوع، وهو ذواتنا؟
كانت مصر دائمًا محور الحديث وموضع اهتمام الباحثين؛ لأن ما يحدث فيها أو ما يُتوقع حدوثه سيكون له أثر بالغ على المنطقة بأكملها. وكانت إيران في الماوراء الجغرافي لمصر، وكان وضع الإسلام في مصر ويقظة الإسلام في إيران هما المحوران الرئيسيان في المنطقة. فمصر مركز الثقل في العالم العربي الإسلامي، وإيران مركز الثقل في العالم الإسلامي الآسيوي.
أولًا: من التصوف إلى الثورة
دارت كل أبحاث القسم الجنوبي في حوض البحر الأبيض المتوسط على محورين أساسيين: التصوف والثورة. وبينهما الاستعمار والتخلف. وأول ما يسترعي الانتباه هو غياب الأسس النظرية للدراسات المقدمة وحيرة الباحثين وترددهم بين نماذج ثلاثة؛ الأول: دوركايم والوضعية التقليدية التي ورثتها الدراسات الاستشراقية القديمة والأنثروبولوجية المعاصرة، والتي تعتبر الذين مجرد وقائع اجتماعية، والثاني: ماركس والماركسية التقليدية التي تعتبر الدين أفيونًا للشعوب طبقًا لنصف العبارة الأولى: «الدين أفيون الشعب وصرخة المضطهدين»، ودون ذكر النصف الثاني الذي منه خرجت ماركسيات القرن العشرين ودراساتها عن الدين والثورة في أفريقيا (شمالي وجنوب أفريقيا)، وآسيا (الصين وفيتنام). وأمريكا الجنوبية (حركة الرهبان الثوريين). والثالث: فيبر واعتباره الدين هو الزعامة الكاريسمية وظواهر الإلهام والأولياء والجن والبركة حتى يرد الاعتبار لما جعله ماركس مجرد تعبير عن الأوضاع الاجتماعية. وقد ضاع الإسلام في هذه المسيرة النظرية ولم يجد له نظرية نوعية خاصة به تفسره كدين وكحركة ثورية أو مضادة للثورة في تاريخنا الحديث. احتار الإسلام بين هذه النماذج الثلاثة. فليس الإسلام هو ما يحدث في تونس أو الجزائر أو المغرب أو مصر من دينية وسلوك جماعي. وهو ليس كل ما يحدث في العالم الإسلامي من مظاهر التخلف، وليس كل ما يوجد عند المسلمين. وقد وقع في هذا الخطأ الاستشراق القديم الذي سادته الوضعية في القرن الماضي. ولم تستطع أن تتخلص منه الأنثروبولوجيا الحالية التي ورثت الوضعية الاجتماعية القديمة التي خلطت بين الواقع والفكر، وبين المادة والروح. وقد ورثت الدراسات الأنثروبولوجية أهداف الاستشراق القديم ومناهجه التي تحقق لها هذه الأهداف، وهو جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب غير الأوروبية، عاداتها وتقاليدها، ودياناتها، وأخلاقها، وقيمها، وسلوكها. فيتوجه الباحثون نحو دراسة الحركات التي تؤثر في الجماهير مثل الطرق الصوفية وعلماء الدين. ويتوجه فريق آخر بالدراسات المستقبلية نحو دراسة حركات المعارضة لمعرفة اتجاهات المنطقة ونوعية نظم الحكم في المستقبل. وما زال الخلط في جميع الدراسات بين الأسس الاقتصادية والاجتماعية والوصف التاريخي من ناحية، وبين البواعث والعقائد والأفكار من ناحية أخرى.
وقد ظهر ذلك بوضوح في بحث كاتي سلات عن «جزر قرقينيا» في تونس. وقد كانت تونس باستمرار مثار اهتمام للغرب. فهي أكثر انفتاحًا عليه بعكس الجزائر والعراق والسعودية على اختلاف نظمها، وما أسهل أن يتحول الوصف التاريخي الخالص إلى وصف دالٍّ. فإذا كانت الصفوة التي تتحكم في مثل هذا المجتمع التقليدي هي الصفوة الدينية المتمثلة في إمام المسجد، ومعلم القرية، وحارس الضريح، والقبالة، والحاج، والشافي … إلخ، والصفوة المهنية التجارية المتمثلة في موظفي الحكومة، فإن ذلك يعني تعاون السلطات الدينية والاقتصادية والسياسية على الحفاظ على الطابع التقليدي للمجتمع نظرًا لتشابك مصالحها. وإذا كانت الصفوة الدينية تعطي تفسيرًا حرفيًّا شعائريًّا للدين فما أسهل أن يساعد هذا التفسير الصوري على استتباب الوضع القائم وتسهيل حركة رجال الأعمال ورجال السياسة.
ولم تكن هناك دراسات ماركسية مع أنها شائعة في الغرب. ولا يخلو مؤتمر علمي من نموذج منها. ولكن الذي ساد هو النموذج الثالث؛ نموذج ماكس فيبر في دراسة تيرنر «نحو نموذج اقتصادي لدين الزعامة»؛ فالدين لا يرد إلى الأسس الاقتصادية والاجتماعية كما أراد ماركس، بل ظاهرة مرتبطة بظهور الزعيم: النبي، أو المولى، أو القديس، أو الملهم، أو العراف، أو الكاهن، أو الصوفي، أو الزاهد، أو العابد … إلخ. وهو نمط مثالي للدين مثل «أخلاق العمل» التي تحدد النظم الاجتماعية الاقتصادية، وتجعل البروتستانتية مسئولة عن النظام الرأسمالي، والهدف من ذلك إبعاد الناس عن التحليلات الماركسية والإبقاء على الطابع الصوفي الإلهامي للدين لصلاحيته للنظم الرأسمالية حيث تجد في هذا الدين تعويضًا روحيًّا عن الحياة المادية. تتظاهر به الطبقات الغنية، وتجد فيه الطبقات الفقيرة العزاء والسلوى. والإسلام لا يدخل في هذا النمط لأنه ليس مركَّزًا على النبي أو العراف أو القديس أو الولي بل على نوعية خاصة، وهي أنه فكرة، فكرة التعالي أو المفارقة وهي التي سماها علماء العقائد التوحيد أو التنزيه؛ فالإسلام يحرك الجماهير عن طريق الأفكار، وهي العقائد على مستوى النظرية والبواعث والسلوك، مثل المسئولية الفردية، والعمل، والرسالة، وليس دينًا بمعنى السحر والخرافة، والأسطورة، والقرابين وهو المعنى المعروف في قواميس تاريخ الأديان. فإذا ما لاحظ الباحث تحول الإسلام في التاريخ إلى حركة اجتماعية سمى ذلك تحويل الإسلام إلى دين عربي وطني حربي، واعتبر الجهاد حركة إقطاعية للسيادة على العالم ولأخذ مكان الصدارة فيه. وفسر التوحيد على أنه سيطرة الرجاء على النساء والبنين! ومع ذلك يقر بالصلة بين الإسلام والمساواة، ويعترف بأن الإسلام لا ينفي العالم كما تفعل البوذية والمسيحية بل يثبت العالم ويجعل الإنسان مسئولًا عن كل ما يحدث فيه.
ولم تنقطع النظريات الأنثروبولوجية الجديدة في تفسير الإسلام كحركة اجتماعية وفهم صفاته المميزة له مثل قدرته على التأقلم والتغير، والتوحد مع المعطيات المحلية، والتعدد في إطار الشمول. كما لم تنفع النظريات النفسية في اعتبار المتدينين مرضى الشعب أو النظريات الفلسفية وما فيها من صراع بين الاتجاهات العملية النفعية والاتجاهات الصورية الرمزية. وظل الإسلام في حاجة إلى إطار نظري خاص وهو التحدي الأعظم أمام علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الوطنيين من أجل توسيع مادة البحث وتغيير الأطر النظرية في العلوم الإنسانية العربية بحيث تعتمد على أكبر قدر ممكن من المعطيات العلمية.
ولقد أثبت عديد من الدراسات حول الطرق الصوفية تعاون الصوفية مع الاستعمار نظرًا لوجود مصالح مشتركة بينهم وهي السيطرة على الجماهير الجاهلة الفقيرة واستغلالها لصالح الإقطاع الداخلي أو الاستنزاف الخارجي. فقد تعاون شيخ الطريقة المدنية بتونس مع الاستعمار حتى عيَّنه الاستعمار رئيسًا للطريقة وأعطاه قلادة الشرف؛ فهي طريقة غير سياسية تفصل الدين عن السياسة على عكس العلماء الذين كانوا ينادون باستقلال البلاد. أقطع الاستعمار الشيخ الأراضي كما أيد الشيخ الاستعمار لأنه يضمن الأمن والاستقرار في البلاد وينشر الدين بتأييده الطرق الصوفية؛ فالمواطنون، في رأي الشيخ، غير مؤهلين لحكم البلاد بأنفسهم ولا يستطيعون صلاح الدين كما يفعل الاستعمار. الوطنيون كفار يهددون الشعب وقادته الدينيين! وهنا تبدو أهمية السنوسية والمهدية اللتين جمعتا بين التصوف والثورة وحوَّلتا الدين إلى ثورة ضد الاستعمار من أجل التحرر الوطني.
وقد عارض الصوفية المصلحين الدينيين ونشب صراع بينهما لأن الإصلاح الديني يبغي تنوير الجماهير الإسلامية حتى تستطيع مواجهة التخلف الداخلي والاستعمار الخارجي، والصوفية تعيش على هذين المصدرين. بل قد توجه الإصلاح نحو الطرق الصوفية ذاتها لتنقيتها من الخرافات والبدع ولتوجيهها لصالح الأمة وتنقية أخلاقها، وإرجاع التصوف إلى عهده الأول. كما عارض الصوفية كل الاتجاهات العلمانية للتحديث واعتبروها كفرًا وزندقة وخروجًا على الدين لأنها تدعو الناس إلى العقل والتحرر مما يسبب زلزلة السلطة الدينية لمشايخ الطرق.
ومع ذلك استعمل الوطنيون الدين من أجل تثبيت حركات الاستقلال وتدعيم المقاومة ضد الاحتلال. فبدءوا بتفسير العقيدة الإسلامية تفسيرًا وطنيًّا تحت أثر الأفغاني وتلاميذه في مصر، والأثر والمباشر لمصطفى كامل. كما استعمل حزب الدستور الجديد الإسلام من أجل مقاومة الاستعمار، ووظف الأعياد الدينية لمقاومة الأجانب وإذكاء الروح الوطنية واعتبار ترك الجنسية الوطنية وتغييرها إلى الجنسية الفرنسية كفرًا وإلحادًا، والاعتماد على «الله أكبر» وتوجيه الشعار ضد سيطرة الاستعمار، كما رفع حزب الدستور الجديد «الجهاد» في مواجهة الاحتلال الأجنبي حتى تناقص أثر مشايخ الطرق الصوفية، وأصبح الوطنيون هم الزعماء الجدد. ولكن بعد نجاح حزب الدستور الجديد في استعمال الدين كوسيلة للنضال، وبعد الحصول على الاستقلال فقد الدين مقوِّماته، وتم استبعاده من أيديولوجية الحزب. وقد استعملت الحكومة الأفكار الإصلاحية من أجل القضاء على الدين التقليدي؛ حتى يسهل بعد ذلك التحديث العلماني. ومع ذلك لم تستجب الجماهير للأفكار الإصلاحية، وظلت الزاوية عامرة بالناس على عكس مراكز حزب الدستور الجديد ومراكز الحزب الشيوعي. مما يدل على أن الدين ما زال هو الوسيلة الوحيدة للتنمية، ليس فقط كوسيلة برجماتية لتحقيق أهداف عاجلة من أجل استبعاد الدين كليةً وفصله عن الدولة وسيادة الدولية عليه بل كأيديولوجية تثوير للجماهير حتى تظل حافظة لهويتها واستمراريتها في التاريخ.
ويحدث أحيانًا صراع لدى الباحث الأوروبي بين حبه للتصوف الذي يعطيه دفعة روحية تنقصه في مجتمعه المادي وبين التزامه بمصالح الشعوب التي يحبها، ويدرسها، ويعيش مع أفرادها، ويتعامل مع أصدقائه فيها. فأحيانًا يكون التصوف أفيونًا للشعب وأحيانًا يكون حالة روحية طاهرة، ولا مانع أن يكون الزاهد مليونيرًا؛ فالزهد عمل القلب وليس عمل الجوارح، وحياة روحية باطنية وليست حياة مادية خارجية (مناقشة الباحث مع الشيخ عبد الحليم محمود). والسؤال إذن: كيف جمع المليونير الزاهد ملايينه وقلبه غير معلَّق بالمادة «والكسب» أو الربح؟ وهل الملايين تأتي طوعًا للزاهد وهو لا يستطيع لها دفعًا؟
ومن الواضح في البحث أن وظيفة الطرق الصوفية هي السيطرة على الشعب لأنها موضع ثقته، والدفاع عن النظام. فهم أهل الدين والتقوى والصلاح الذين يُسمع أمرهم، وتُقبل مشورتهم. فقد كانت الطريقة الحامدية الشاذلية متعاونة مع الإقطاع الريفي للسيطرة على الجماهير الجاهلة لصالح بريطانيا أو القصر أو البورجوازية الكبيرة. وقد انتشرت الطريقة في الأحياء الفقيرة في المدن خاصة في القاهرة. وكانت تدعو الناس، من ضمن ما كانت تدعو إليه، إلى التواضع لأنه ثروة الفقير وإلى تحريم مجالسة الأغنياء لأنها مقساة للقلوب، وإلى مساعدة الفقراء والتعاطف معهم ماديًّا ومعنويًّا قدر الإمكان. وهنا يبدو الدين أفيونًا للشعب بمدح الفقر والفقراء وذم الغنى والأغنياء. وقد استعملت الثورة المصرية، كلما أعوزتها الحاجة إلى سند شعبي، سواء في أول الثورة أو في نهايتها، الطرق الصوفية لتجنيد الجماهير من أجل الطاعة والولاء والمساندة والتأييد. ولكن هجوم الإخوان المسلمين على الطرق الصوفية قلل من تأثيرها على الشعب.
ويبدو الصراع بين التصوف والثورة أحيانًا في صورة تعارض بين الإسلام الشعبي والإسلام الصوري. الأول يمثله الصوفية والثاني يمثله الفقهاء. الأول خاص ببيئة معينة والثاني عام وشامل لكل الأماكن والعصور. وقد أيد الاستعمار الإسلام الصوري نظرًا لتركيزه على الشعائر والطقوس التي لا يخشى منها الاستعمار شيئًا كما فعل في خروميريا (جنوب غرب تونس). وقد نشأ صراع بين الإسلام الشعبي والإسلام الصوري؛ صراع من أجل البقاء، كل منهما يودُّ تمثيل الإسلام والسيطرة على الجماهير. وكلاهما في النهاية يؤيد الاستعمار، والاستعمار يستعملهما معًا، ويختار أحيانًا أيهما أكثر فعالية وتأثيرًا على الناس. وإذا كان الإسلام الشعبي دين الأغلبية فإن الإسلام الصوري دين الأقلية، تستعمله من أجل الصعود الاجتماعي. الإسلام الشعبي منتشر في الريف والإسلام الصوري منتشر في الحضر كوسيلة للطبقات المتوسطة حتى ينالوا احترام الناس بتطبيق مظاهر الشريعة الخارجية. هم طبقة الأفندية: الياقات البيضاء، الذين يستخدمهم الاستعمار أيضًا لتبرير قراراته نظرًا لثقة الشعب فيهم، وللسيطرة من خلالهم على الجماهير. وقد فشل التحديث أيضًا عندما عارض الدين الشعبي في حين تحول هذا الدين إلى شعور فلاحي بالأرض وبالزراعة. ويكون السؤال: أيهما أفضل؟ الوقوف أمام الدين الشعبي ومعارضته من الخارج أم تحويله إلى تراث شعبي يحفظ للناس أرضهم وزرعهم ونتيجة عملهم؟
وفي نفس الموضوع قدَّم باحث إسرائيلي مهاجر من ألمانيا دراسة عن «حجيج القبائل لقبور الأولياء في جنوب سيناء، ليس القصد منه دراسة أنثروبولوجية على ظاهرة التوسط بين الإنسان والله عن طريق زيارة الأضرحة، وليس المقصود منه تشويه الإسلام بأنه دين القبائل الرعوية في حين أن اليهودية وحدها دين التوحيد. وكأن الباحث لم يسمع مطلقًا عن محمد بن عبد الوهاب ودعوته، أو عن موقف الفقهاء وعلى رأسهم ابن تيمية من «أولياء الشيطان»، ولكن القصد منه هو إدخال سيناء ضمن نطاق البحث الإسرائيلي، وكأن موضوعات الدين اليهودي قد اختفت. فسيناء ليست فقط موضع البحث عن البترول والتنقيب عن الثروات المعدنية من فوسفات ومنجنيز بل هي أيضًا موضع البحث في العلوم الاجتماعية، وتاريخ الأديان، وأن الرباط الروحي بين إسرائيل وسيناء أقوى وأعمق من الرباط المادي والاقتصادي. ويوغل الباحث في التفصيلات، شبرًا شبرًا من الأرض، وجيلًا جيلًا من الرعاة، وقبيلةً قبيلةً من المجموعات السكانية، وكأنهم جزء من الشعب اليهودي يعرفونه حق المعرفة بينما نجهله نحن تمامًا. فأصبح عدوي في الأرض غريمي في البحث. وإذا كان الأولياء وسطاء بين القبائل والله فإن القبائل تريد الوصاية السياسية ولا تعرف الاستقلال والمباشرة، واليهود هم خير وسطاء!
وفي بحثٍ آخر عن الوضع الحالي للطرق الصوفية في يوغوسلافيا يظهر موضوع التصوف في البلاد الاشتراكية، ويكون السؤال الرئيسي: كيف ازدهرت الطرق الصوفية في مجتمعات اشتراكية يتم فيها القضاء على الاغتراب الاجتماعي وأساسه في الاغتراب الديني؟ إن الباحث يكتفي برصد ظاهرة انتشار الطرق الصوفية وازدياد أعضائها مثقلًا بحثه بعشرات المراجع والمقالات، إلا أن التحليل النفسي الاجتماعي للجماهير يؤكد بقاء الإسلام كتراث نفسي عند الجماهير دون أن تحدث له عملية تطوير؛ فالتحديث الماركسي مثل التحديث العلماني يفصل تراث الناس ومأثوراتهم الشعبية ويعتبرها مجرد فلكلور أو تاريخ متحفي دون أن يكون له أي دور في صياغة أيديولوجية ثورية تعتمد على الثقافة الوطنية؛ فالجماهير «التراثية» لا تكتفي بتحقيق مبادئ الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية ولكنها تود أيضًا أن يكون هذا التحقيق تطبيقًا عمليًّا لقيمها وعقائدها الموروثة حتى لا تفقد وحدتها في التاريخ. وهي غير قادرة حتى على فهم هذه الأفكار إن لم تكن قراءة في تراثها القديم من أجل اكتشاف مكنوناته وإعادة فهمها له بما يتفق مع مطالب عصرها؛ فالإسلام عقيدة ووطنية وجنسية عند المسلمين في يوغوسلافيا ومن الصعب صهرهم في دولة وطنية قومية علمانية. فإذا ما تقوقع الإسلام في قلب الناس وتراجع أمام العلمانية والأفكار التقدمية فإنه سرعان ما يظهر في الفرق الصوفية كعواطف ومواجيد، وما دام لا يوجد له محب في العالم الخارجي فإنه يجد ذلك في العالم الداخلي أولًا ثم في العالم العلوي ثانيًا. ولما كان الإسلام ثورة ثم تأتي الثورة الاشتراكية فتحاصره من الخارج فإنه ينتظر الفرصة أن تكسر ثورته هذا الحصار، فيصبح جميع المسلمين بيوغوسلافيا ناصريين بعد ظهور عبد الناصر. فإذا ما اختفى عبد الناصر تبدأ مشاكلهم، وإذا ما انحسر المد الثوري عن الوطن العربي تقوقعوا من جديد وغرقوا في الطرق الصوفية ولا يجدي مفكرو الدولة المسلمون الماركسيون شيئًا لأنهم يستعملون الإسلام لتبرير الماركسية، وبالتالي لا يجدون آذانًا صاغية لهم كما حدث أيضًا في مصر لدى مفكري الدولة الذين استحلوا الإسلام لتبرير الاشتراكية كنظام للدولة دون تحويل الإسلام من الداخل إلى نظرية اشتراكية تحقق المساواة والعدالة والحرية الاجتماعية. لم يظهر لدى المسلمين بيوغوسلافيا فكر إسلامي تقدمي مستقل، ولم يتحول الإسلام إلى أيديولوجية تقدمية اشتراكية. لم يساهم المسلمون باعتبارهم كذلك في حل مشاكل العصر وفي مقاومة النازية، وفي إصهار القوميات، وفي صياغة عدم الانحياز، ولكنهم ارتبطوا روحيًّا بخراسان، مصدر الإسلام ومنبعه في آسيا، من خلال تركيا، حيث لا تفصلهم البحار، بل هو مد أرضي واحد.
وقد ركزت بعض الأبحاث على التحديث السلفي وحاول البعض إعطاء خصائص نوعية للإسلام مثل استمراريته عبر القرون وعدم حدوث تغير جذري فيه كما حدث في المسيحية بالرغم من انهيار المجتمعات الإسلامية، واحتواء الإسلام على أقل قدر ممكن من الأساطير والشعائر والرموز القديمة والعقائد، وعدم الفصل بين الدين والسياسة ودور الإسلام كأيديولوجية ثورية ضد الاستعمار، وهو ما ظهر في حركات الإصلاح الديني التي خرجت كلها من ثنايا السلفية التي جمعت بين الدين والوطنية والنهضة، وفشل مناهج التحديث الغربية في مصر وتركيا لأن تطوير المجتمعات الدينية لا يتم إلا من خلال الدين، وهو تراثها القومي.
ولكن تمت دراسة الحركة التحديثية السلفية بالمقارنة مع مثيلاتها في المسيحية واليهودية والتي حاولت الوصول إلى حد أدنى لتعريف الدين في ثلاثة مبادئ؛ الأول: هناك عالم آخر ولكننا لا نعرف الكثير عن تكوينه وصفاته. الثاني: يمكن للإنسان الدخول في علاقة مع هذا العالم الآخر من خلال الصلاة (أو القرابين) ولكن ينحصر مع أثر هذه العلاقة على المستوى النفسي ولا يتعداه إلى المستوى الإعجازي الخارق للعادة الثالث: تقوى هذه الشعائر من وحدة جماعة المؤمنين وترابطهم، وليست مجرد رموز للعالم الآخر تفسر على نحو مجازي. والحقيقة أن الحركة السلفية لم تصل بعدُ إلى هذا الحد من العقلانية كما وصل إليه المعتزلة القدماء؛ فالسلفية ظلت أشعرية نصية حرفية تشبيهية.
ويبدو أن الباحث قد وحد بين السلفية والليبرالية، بالرغم من تعريفه السلفية بأنها فهم الكتب المقدسة فهمًا حرفيًّا وليس فهمًا رمزيًّا أو تاريخيًّا، أو على أنها أمثلة لمفاهيم أخلاقية مجردة أو شعائرية لا تتطلب تطبيقها بالضرورة في العصر الحاضر. وبهذا المعنى تكون السلفية عكس الليبرالية. والحقيقة أن السلفية لا تعني فقط حرفية التفسير، بل تلجأ أيضًا إلى المضمون الاجتماعي والسياسي كما وضح في حركة الإصلاح الديني، دون أن يعني ذلك تغير المضمون في التاريخ والقضاء على المعنى المستقل للنص الديني. ويعزو الباحث نشأة الاتجاهات الليبرالية إلى ثقافة الشباب العالمية، مع أنها نشأت نشأة طبيعية من داخل الحضارة الإسلامية سواء عند المعتزلة القدماء أو عند الطهطاوي ولطفي السيد وطه حسين من المحدثين. وإذا كانت الليبرالية المعاصرة ما زالت نسبية لأنها ما زالت تشق طريقها من بين ثنايا الأشعرية التي دامت أكثر من ألف عام. ويتشاءم الباحث فيما يتعلق بمستقبل حركات التحديث وإمكانية مواجهتها للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وحلها حلًّا جذريًّا. وفي هذه المقالة أيضًا لن تتخلى الجماهير عن الإسلام كليةً وتيأس منه وتتجه إلى الأيديولوجيات الجذرية كما يرجو الباحث، بل ستزيد من عقلانيتها وجذريتها من داخل الإسلام وتدفع بحركات الإصلاح خطوة أخرى إلى الأمام حتى تتحول العقيدة إلى أيديولوجية ثورية للجماهير تكون حاملًا لمتطلباتها الاجتماعية والسياسية.
وقُدمت دراستان عن الدين والثورة في الحرب اللبنانية؛ الأولى عن حركة «المرابطين» بزعامة إبراهيم قليلات، والثانية عن وصف الحرب الأهلية اللبنانية بأنها حرب دينية طائفية وهي في حقيقة الأمر حرب اجتماعية؛ فقد ظهرت الصلة بين الدين والثورة في الحرب الأهلية في لبنان على نحوين؛ الأول: ثورة اجتماعية وطنية ووحدة عربية ونضال مشترك من أجل تحرير الأراضي المغتصبة في فلسطين، والثاني طائفية وتعاون مع الغرب وانعزالية عن الوطن العربي وتعاون مع إسرائيل. الأولى ثورة لصالح الأغلبية، والثانية ثورة مضادة لصالح الأقلية. البداية أولًا في الموقف السياسي ثم يأتي الدين بعد ذلك كدعامة وتبرير له، البداية هو الوطن ثم يأتي الدين كتنظير أيديولوجي للموقف من الوطن؛ فالخلاف سياسي في جوهره، والسياسة تعبير عن أوضاع اجتماعية واقتصادية وتاريخية.
وبالرغم من أن الدراسة تركز على الجانب السياسي لحركة المرابطين أكثر من تركيزها على الجانب الديني ولا توضح كيفية تحول الدين إلى أيديولوجية وطنية، إلا أن تاريخ الحركة وسلوكها يشير إلى بعض هذه العناصر. فقد نشأت الحركة إبان الحرب الأهلية اللبنانية في ١٩٥٨م إبان المد الثوري العربي بفضل الوحدة مع سوريا وثورة يوليو (تموز) في العراق وهز العرش الهاشمي. وتبنت مبادئ الحرية والاشتراكية والوحدة من الناصرية، ورفضت الإقطاع السني من ناحية والانعزالية الطائفية من ناحية أخرى. وتبنت الاشتراكية الغربية، وميزت بين الرأسمالية المستغلة والرأسمالية غير المستغلة. وأخذت عبد الناصر بطلًا قوميًّا؛ فهو صاحب السيرة الفريدة، والسيرة المتكاملة، وهو بعد ذلك الشهيد. وفي مكتب قليلات وفوق رأسه توجد صورة عبد الناصر وبعض الآيات القرآنية. وبالرغم من أن الدين جزء من الأمة العربية إلا أنه رباط روحي يجمع بينها؛ وهو رباط لا يتعارض مع ارتباط الأمة باللغة، والحضارة، والتاريخ، والتراث، والمصالح المشتركة؛ فالوطن العربي سابق على الإسلام. ولكن يظل السؤال لدى الباحث وهو كيفية الانتقال إلى العلمانية ومتى ارتبطت الجماهير السنية التقدمية بالحركة. ويظهر قليلات في صورة مع المفتي، إلا إذا ظهرت العلمانية من داخل الإسلام على أنها جوهره، وليست من خارجه على أنها تغريب. وقد ركز البحث الثاني على الطابع الاجتماعي للحرب الأهلية اللبنانية؛ فالحرب بين قوتين اجتماعيتين؛ الأقلية المسيطرة الغنية، والأغلبية المقهورة الفقيرة، ثم استغلال الدين أكثر كتعمية وغطاء وستار على الوضع الاجتماعي. ليست الحرب بين المسيحيين والمسلمين، بل بين الأغنياء والفقراء. في حين أن المسيحية في أمريكا اللاتينية على أيدي الرهبان الشبان استطاعت أن توحد نفسها مع مطالب الأغلبية في مقاومة الاستعمار والرأسمالية والرجعية. وبالتالي تكون شعارات المرابطين «لا للطائفية ونعم للعلمانية»، أو «لا للطائفية ونعم للأمة»، أكثر تعبيرًا عن مطالب الجماهير اللبنانية.
وتتناول الأبحاث الأخيرة الإسلام باعتباره أيديولوجية سياسية، سواء فيما يتعلق بالمغرب أو بالوطن العربي ككل، حيث يظهر الإسلام كوسيلة للاعتراض. ولكن يغلب على الدراسة الأولى طابع التحليل الاجتماعي والاقتصادي لبلاد الغرب خاصة فيما يتعلق بالصلة بين الأرض والدولة، كما تظهر فيه بعض تحليلات الاستشراق عن دور العلماء في حركات التغير الاجتماعي نظرًا لوجود مثل هذا الدور في الغرب لرجال الدين والكنيسة. وتفتقر الدراسة إلى تحليل نظري خالص بالرغم من الإشارات المستمرة إلى الحركة السلفية في مصر وامتدادها في المغرب عند عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي وجمعية العلماء. فقد كان العقيدة الإسلامية دور فعال في حركة التحرير الوطني الجزائرية وفي ثورة الريف في المغرب وفي ثورة عمر المختار بليبيا ضد الاستعمار الإيطالي ولكن يظل النموذج الإسلامي: التحرر عن طريق العقائد بعد تحويلها إلى أيديولوجية ثورية، خارجًا عن نطاق التنظير الشامل.
وقد حاول بحث «الإسلام كوسيلة للاعتراض» سد هذا النقص في التنظير للإسلام الثوري والانتقال من الإسلام الثوري المعاصر إلى نظرية الإسلام الثورية. عرض الباحث أولًا لمستويات الاعتراض مثل الجهاد ضد الاستعمار ومقاومة الاحتلال، ومقاومة القرآن للأيديولوجيات المعارضة؛ مثل الكفر، وثورة الصوفية ضد مظاهر البذخ والترف والحياة الدنيوية، ووقوف الإسلام في مواجهة العلمانية وحركات التحديث من الخارج. ثم يعطي الباحث ثانيًا أمثلة من الحركات الدينية ذات الطابع الاعتراضي الواضح؛ فمنها من استعمل الإسلام استعمالًا وظيفيًّا خالصًا لتجنيد الجماهير للاحتجاج على التدخل والسيطرة الأجنبية؛ مثل الجهاد ضد الاستعمار، وتوحيد الأمة الإسلامية بناء على دعوة الأفغاني، ومعارضة الاستعمار الإنجليزي والفرنسي. وبداية الحركة الوطنية الفرنسية ضد الغزو الصهيوني، ودفاع الإسلام عن ذاته ضد اتهامات المبشرين والمستشرقين بأنه سبب التخلف. وهناك صور مباشرة للاحتجاج الديني داخل الإسلام ذاته كحضارة دينية وعلى رأسها الحركات الإصلاحية سواء في التاريخ القديم أو الحديث؛ مثل الحنابلة، والاثنا عشرية، والإسماعيلية، والخوارج، والوهابية، والمهدية، والسلفية في مصر، والإخوان المسلمون. وهناك صور أخرى غير مباشرة للدفاع عن الشريعة والفلسفة والعقائد ضد الغزو الفكري الخارجي. وينتهي الباحث إلى أن الاحتجاج الديني بناء مميز للإسلام كدينٍ؛ فهو دين الرفض وليس دين التسليم؛ دين يضع الإسلام في مواجهة الجاهلية على ما تقول الحركات الدينية المعاصرة. ويحاول الباحث تصنيف حركات المعارضة الدينية إلى أربعة مستويات؛ الأول: الاعتراض الفعلي ومقاومة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال من أجل إقامة الدولة الإسلامية. الثاني: صياغة أيديولوجية للاعتراض ضد التمايز الطبقي والظلم الاجتماعي باللجوء إلى مثل القرآن في المساواة والعدالة الاجتماعية. الثالث: مقاومة حضارية ضد الحضارات الغازية للدفاع عن الإسلام كتراث قومي وثقافة وطنية. الرابع: رفض الأيديولوجيات المستغربة دفاعًا عن الأصالة. ثم يضع الباحث أربع إمكانيات لمستقبل الإسلام كوسيلة للاعتراض؛ الأولى: الإمكانية الخالقة؛ وهو إحداث تغيير من أجل خلق شيء جديد أكثر مطابقة للمعايير والمثل الإسلامية. الثانية: الإمكانية الخلقية؛ وهو نقد أخلاقي يقوم على المثل والمعايير التي يؤمن بها المسلمون اسميًّا ولا يطبقونها في حياتهم العملية، وبرهنة على إفلاس النظم والمعايير الأخرى. الثالثة: إمكانية الاعتراض؛ وهو رفض طاعة أية قوة لا تستند إلى معايير الشعب ومُثله والمعارضة العلنية لهذه القوة والمطالبة بتحقيق هذه المعايير والمُثل كبديل عنها. والرابعة: الإمكانية الأخروية؛ وهو رفض كل ما هو قائم من أجل قيام نظام آخر إن لم يتحقق في هذا العالم فإنه يظل هدفًا أقصى تغرق فيه الجماعات الدينية ويستشهدون في سبيله.
وبالرغم من أن هذه الدراسة عن «الإسلام كوسيلة للاعتراض» تمثل أكثر الأبحاث دقة وتنظيرًا إلا أنه يعيبها اعتبار التصوف ثورة، وهو في الحقيقة ثورة سلبية أو ثورة مضادة نحو الداخل بعد اليأس من الثورة في الخارج. كما أن الإسلام لم يستخدم في المعركة ضد الصهيونية إلا في أوائل الحركة الوطنية الفلسطينية؛ فالمعركة سياسية وليست دينية. هذا بالإضافة إلى تداخل مستويات التحليل؛ فحركات التحديث مرتبطة بحركات الإصلاح الديني ونتيجة لها.
وكان البحث الأخير «نشأة الاتجاهات المحافظة والحركات الإسلامية المعاصرة» محاولة لتفسير الردة الثورية في وطننا العربي وخروج المحافظة الدينية على السطح واستعمالها من أجل تدعيم النظم القائمة. ولم يعتمد البحث على الإحصائيات أو الوقائع التاريخية بل اعتمد على تحليل التجارب النفسية والاجتماعية لرجل الشارع مستعملًا المنهج الفينومينولوجي المباشر وتحليل التجارب المشتركة بين الباحث ورجل الشارع. وقد أرجع الباحث ظاهرة المحافظة الدينية إلى ثلاثة عوامل؛ الأول: فشل مناهج التحديث المعاصرة في تحقيق ما كانت تهدف إليه من تحرر وطني وعدالة اجتماعية وثورات شعبية؛ فقد زاد احتلال الأرض، وتوسعت الصهيونية، واتسعت المسافة بين الأغنياء والفقراء، وامتنعت الجماهير عن المشاركة في الثورات القائمة وانزوت على نفسها تحمل همها، وتنعى حظها. فقد انتهت الليبرالية إلى حكم ملكي، حزبي فاسد، إقطاعي رأسمالي، موالٍ للغرب بالرغم من محاولاتها لتحقيق اقتصاد وطني واستقلال سياسي. كان التعليم للأقلية وكانت الأمية منتشرة. وبالرغم من بعض مظاهر حرية التعبير تم اغتيال زعماء المعارضة واضطهاد جماعاتها. كما فشلت اشتراكية الدولة نظرًا للفرق الشاسع بين الشعار والتطبيق، وظهور الطبقات المتوسطة، وغياب حزب شعبي يدافع عن مصالح الجماهير، ثم استعمال الدين أخيرًا كوسيلة لتدعيم الثورة المضادة بعد غياب القيادة الثورية وتكفير كل طرق المعارضة. كما تواجه الماركسية الحاكمة بعض الصعوبات في إقناع الجماهير وتخاطر بإحداث انفصام في تاريخ الشعب بين ماضيه وحاضره وتساوم الاستقلال الوطني وحرية القرار السياسي. كما فشل النظام القبلي باسم الإسلام في إقناع الشعوب وانتهى إلى العشائرية والإقطاع والموالاة للغرب. لم يعد يبقى أمام الجماهير إلا تراثها الديني الطويل تستمد منه قيمها. ولما كان هذا التراث تقليديًّا ظهرت المحافظة الدينية.
والعامل الثاني هو تحدي الغرب وتحويل مركَّب النقص منه إلى مركَّب عظمة كما حدث أخيرًا في الثورة الإسلامية في إيران. فطالما هاجم الغرب تراث الشعوب غير الأوروبية، وجعله مسئولًا عن تخلفها، ونال من دينها وأنبيائها، وحكم على عقليتها بالسحر والتناقض. وبعد أن نالت هذه الشعوب استقلالها، وأحيت تراثها الوطني، واكتشفت أزمة القيم في الحضارة الغربية حدث لديها اعتزاز بتراثها الذي حاول الاستعمار القضاء عليه للقضاء على الهوية القومية. ولما كانت هذه الشعوب ما زالت تمر بفترة الانتقال من عصر إلى عصر ظهرت المحافظة الدينية كتعبير عن الرصيد التاريخي الذي تحافظ عليه الشعوب والتي ما زالت في مرحلة الإصلاح الديني ولم تنتقل إلى مرحلة النهضة.
والعامل الثالث هو اكتشاف قدرات الشعوب الخاضعة على الإبداع والحركة كما حدث في تاريخها القديم، وأن الخلف ليسوا بأقل من السلف، وأن ما يبغونه من عقلانية وطبيعية وحرية وديمقراطية ومساواة وعدالة اجتماعية يمكن تأصيله في الرصيد التاريخي لهذه الشعوب. وإن هذه الثروات الجديدة لا تكفي لصنع مستقبل جديد أو وضع نظام عالمي جديد إن لم يصاحبه اكتشاف إمكانات إبداعية جديدة وصياغة هذا النظام العالمي الجديد أمام نظامين عالميين يتنازعان العالم، وكلاهما يمر بأزمات طاحنة. فلما لجأت هذه الشعوب لتحقيق ذلك وجدت المحافظة التقليدية التي لم يتم تثويرها بعد. ويكون السؤال: متى تتحول العقيدة الدينية إلى أيديولوجية ثورية للجماهير؟
ثانيًا: من الكهنوت إلى السياسة
أما البحوث المقدمة في القسم الشمالي عن المسيحية واليهودية فإنها أيضًا ضمت اثني عشر بحثًا، نصفها حول الشعائر والطقوس والرؤى الصوفية والنصف الآخر حول السياسة والمشاكل الاجتماعية. وكان السؤال أيضًا هو كيفية الانتقال من الكهنوت والتصوف إلى السياسة والاجتماع. وقد غلبت «دراسة الحالة» على معظم الأبحاث. وحظيت مالطة وإسبانيا باهتمام معظم الباحثين.
وقد أثبت أحد البحوث انتشار التشخيص الديني في مالطة وتضخيم الاحتفالات والمواكب الدينية، وفي مقدمتها الصعود في طريق الآلام تشبهًا بالسيد المسيح. وبصرف النظر عن التجسيم والتشخيص في الأديان وكون ذلك مرحلة أقل في تطور الدين من التنزيه والتجريد فإن السؤال الذي لم يطرحه الباحث بعد أن اكتفى بالجانب الفولكلوري للظاهرة هو: ما دلالة هذه الظاهرة من الناحية السياسية؟ والحقيقة أن الاتجاه الاشتراكي في مالطة الذي يمثله دوم منتوف يبدو أنه لم يلمس قلوب الناس ولم يغير من عقائدهم الموروثة شيئًا. لذلك خرج التراث الديني في صورته التقليدية ليعبر عن استمرار التاريخ واتصال الزمان وانقطاع من حجج التحديث الاشتراكية العلمانية عن تراث الأمة وتاريخها. لم تحدث عملية تطوير لتراث الشعب حتى يكون حاملًا للمطالب الاشتراكية، وظل الناس مؤمنين في الجانب الروحي واشتراكيين في الجانب الاجتماعي. وكلما ازدهرت الاشتراكية اتسعت ظاهرة المواكب والاحتفالات الدينية. أما لدى الطبقات الفقيرة فما زالت هذه الظاهرة تمثل أفيونًا للشعب، وتطهرهم من عذاب الدنيا عن طريق المشاركة في آلام السيد المسيح، بدل أن يتحول العذاب إلى رفض سياسي ومطالبة إلى تغيير الوضع القائم بحيث يحقق مطالب الفقراء. وقد تعبر هذه الظاهرة لدى طوائف الشعب عن جانب فني مسرحي مأساوي تقوم بدور المسرح الدنيوي وتكون مناسبة للتعبير عن الطوائف الإنسانية من براءة وإدانة ودفاع وعقاب. ولكنها في الحقيقة تعبر عن العواطف الدينية الدفينة التي لم تتحول إلى نضال ثوري. فقد تمت الثورة على أيدي الاشتراكيين العلمانيين.
ومن أطرف الدراسات المقدمة الدراسة عن «قداس المافيا» لوصف الشعائر والطقوس الدنيوية لدى المافيا في صقلية وجنوب إيطاليا، ولما كان القداس في نشأته رومانيًّا فقد عاد لدى المافيا إلى أصله الدنيوي. فيجلس أعضاء المافيا حول المائدة كما هو الحال في العشاء الأخير حول الرئيس ويقومون بنفس الترانيم والأناشيد. ويحملون الأدوات كما يحمل الرهبان الصلبان، ويأخذون الخبز المقدس كما يفعل المؤمنون في التناول. ويدل ذلك على أن أي عمل ضخم في حاجة إلى طقوس شعائر إذا ما تم في مجتمعات متخلفة ترى الرمز فعلًا.
وبالإضافة إلى موضوع الشعائر والطقوس يبرز موضوع الرؤية الدينية وظهور السيدة العذراء لبعض المؤمنين. ويبين البحث المقدم عن الرؤى الدينية والحرب الباردة في جنوب أوروبا للصلة بين هذه الرؤى والظروف السياسية. معظم الذين تظهر لهم السيدة مريم العذراء والطفل على يديها من الفقراء الصبية والإناث في الريف. مما يدل على تديُّن الفقراء، وجهل الصبية، وروحانية الإناث، وأمية الريف. وصورة الظهور صورة الحنان والعطف والأموية؛ وهي الصورة التي تشبع لدى الطبقات المحرومة حرمانها. يقوم الدين بإعطاء نماذج حضارية للجماهير ويكون بالنسبة لها مصدرًا للصور الفنية تعبر من خلالها عن أوضاعها النفسية والاجتماعية. ولكن الأهم من ذلك كله هو الظروف السياسية التي تحدث فيها هذه الظواهر. فطبقًا للإحصائيات كثرت هذه الرؤى في سنوات الحرب الباردة ما بين ١٩٤٧–١٩٤٩م. وفي أثناء الحرب الكورية في أوائل الخمسينيات تشعر الناس بأزمات ومصائب ولا تجد لها حلًّا إلا في ظهور السيدة العذراء تخفيفًا للهَمِّ … وقد استغلت الكنيسة هذه الرؤى لإثبات أن الله مع المؤمنين ضد الكفار الشيوعيين، وأن النصر سيكون للإيمان على الإلحاد. كما استغل التجار هذه الرؤى لرواج السياحة وتجارة الأيقونات والذكريات. وقد حدث نفس الشيء بظهور عذراء الزيتون إثر هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م؛ تعويضًا عن الهزيمة ولجوءًا إلى الإيمان كدعامة للنصر.
وعلى عادة الأوروبيين في إدخال الجنس وتحرير المرأة في كل مؤتمر دولي أو منتدى ثقافي يعرض بحث «التقسيم الجنسي للعمل الديني في حوض البحر الأبيض المتوسط»، يجمع فيه بين الدراسات الإثنوجرافية والأنثروبولوجية من عمل النساء في الحقول كما تبدو في الرسوم من ناحية والعقائد اللاهوتية خاصة فيما يتعلق بمريم العذراء من ناحية أخرى. هذه الازدواجية في المنهج هي التي جعلت البحث مذبذبًا بين العلم والدين. والأخطر من ذلك هو توجيه المادة العلمية بحيث تثبت صحة بعض العقائد الدينية؛ وبالتالي انتقاء أية مادة علمية بصرف النظر عن صحتها ما دامت تؤيد العقائد الدينية في حين أن التراث العلمي الديني الأوروبي سار في الاتجاه المضاد وهو إثبات صحة العقائد الدينية بالرجوع إلى المادة العلمية.
واستعمل الباحث لتلك التحليلات المقارنة لوضع المرأة وصلتها بالعمل في الإسلام والمسيحية من أجل إثبات أنه في الإسلام يتدين الرجل بينما لا تتدين المرأة، في حين أنه في المسيحية تتدين المرأة، بينما لا يتدين الرجل. ويكون الهدف هو أنه إذا تطورت المجتمعات الإسلامية سيتحول الرجل إلى علمانية خالصة كما هو الحال في الغرب، وتصبح المرأة الوثنية في الإسلام متدينة كزميلتها في الغرب! وبصرف النظر عن صدق هذه الأحكام العامة المطلقة في كل زمان ومكان، وفي كل مراحل التاريخ، فإن كل الأحكام الجزئية التي يطلقها الباحث على الإسلام تخلط بين الوقائع والماهيات وتنتقل من الوصف الجزئي لمجتمعات تاريخية إلى أحكام عامة وشاملة على الإسلام ذاته كدين. كما أن هذه الأحكام الجزئية ذاتها خاطئة تقوم على دراسات جزئية لبعض مظاهر التخلف في المجتمعات الإسلامية الحالية. فمثلًا يذكر الباحث أن النساء في الإسلام تبقى في البيوت يوم الجمعة للطهي حتى يرجع الرجال بعد الصلاة، وأن الرجال أكثر إيمانًا من النساء، وأن فاطمة وعائشة وخديجة يمثلن عقيدة خاصة فيما يتعلق بالمرأة ويتخذن المسلمات كنموذج للتعبد، وأن النساء في الإسلام أقرب إلى السحر والخرافة منهن إلى العقل المنطق، وأن الأمة الإسلامية تتكون من الرجال وحدهم دون النساء، وأن النساء مدنسات نظرًا للعادة الشهرية. كل هذه الأخطاء وقع فيها الاستشراق القديم والتي تروجها الدراسات الشعبية لإثارة الحقد والضغائن وتشويه حضارات الغير يرجع عن عمد.
ويبين بحث آخر في أخلاق الجنس عن «الخراف والماعز: خرق ميثاق الشرف» عن الصلة بين الدين والأخلاق، وأثر الأخلاق الشعبية على سلوك الناس؛ فالرجل الذي تخونه زوجته يسمى «المقرن» في خوض البحر الأبيض المتوسط، وسواء الساحل الشمالي أو الجنوبي. وفي الجاهلية كانت توضع القرون على منازل البغاة؛ فالشرف مرتبط بالجسد ونقص الشرف مرتبط بالعدوان على الجسد. والماعز تسمح بالمنافسة عليها ويتوالى عليها عدد من الجديان. في حين أن الإسكندر موصوف في القرآن بأنه ذو القرنين دليل على الشجاعة والشرف؛ مما يثير سؤال الرمز المتعارض في الدين الشعبي ودين الوحي.
وتتناول معظم الأبحاث موضوع الانتقال من الكهنوت إلى السياسة ومن العقائد إلى الأيديولوجية، ومن الدين إلى الثورة. ففي بحث «الشماس، الوضع المتغير لشماس الأبرشية في مالطة» يبين الباحث تغيُّر وضع القسيس من مجرد خادم الله إلى خادم للشعب. فقد كان الوضع القديم للقسيس هو التمييز بين المؤمن المنتسب إلى الكنيسة وبين الغريب عضو الحزب السياسي. ويمكن لهذا الأخير أن يُحرم من صلاة الجنازة. وبعد ذلك استطاع القساوسة الحصول على قدر أكبر من الاستقلال عن رؤسائهم. وكانوا يؤمنون ببعض الأفكار التي لا يرضى عنها هؤلاء الرؤساء ولكنها تقربهم إلى الشعب وتجعلهم أكثر قدرة على فهم مشاكل الناس الاجتماعية والأوضاع السياسية والاقتصادية. فإذا ما أدان الرؤساء الاشتراكية بأنها خطأ دافع عنها القساوسة الشبان، وإذا ما أدان الرؤساء العمل السياسي اشترك فيه القساوسة الشبان. لقد اعتبرت الكنيسة دائمًا العلمانية مصدر خطر عليها في حين اقترب القساوسة الشبان من العلمانيين لمعالجة مشاكلهم باسم الإيمان. وكان لا يسمح للقسيس أن يكون ممثلًا للشعب، ثم حصل القسيس على هذا الحق بتبنيه الأفكار الاشتراكية ودفاعه عن مصالح الناس. لم يترك القسيس مجالًا في الحياة إلا ودخل فيه حتى الغناء والرقص والحب والزواج. وهكذا أصبح القسيس إنسانًا، ودخل الدين في معارك الحياة.
وتركز عديد من الدراسات على الحركة المناهضة للكهنوت في إسبانيا والبرتغال، والانتقال من الملكية إلى الجمهورية، ومن الاتجاهات المحافظة إلى الاتجاهات التقدمية. فقد ارتبط التقدم في أوروبا، وعلى ما هو معروف في فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر في فرنسا، بمناهضة الكنيسة ورجال الدين ورفض كل سلطة لتفسير الكتاب المقدس أو الصياغة قواعد الإيمان أو لتحقيق الخلاص. وقد حدث ذلك مؤخرًا في إسبانيا والبرتغال في هذا القرن نظرًا لسطوة الكنيسة وبقايا محاكم التفتيش. ونازعت هذه الحركة سلطات الكنيسة في الصلوات الجماعية ومواعيد الصلاة، وحقوق المؤمنين في الطقوس الدينية، وفي ملكية الكنيسة، وفي حق رجال الدين في الزواج العلني بدلًا من الزواج السري أو إدارة مساكنهم بربات البيوت.
أما بحث «الدين والدين المضاد، نشأة وسقوط الفوضوية الألفية» فإنه يصف أيضًا إحدى هذه الحركات المضادة للكهنوت وهي الفوضوية الألفية، والفوضوية أكبر رد فعل على تسلط الكهنوت ورفض التسلط المطلق، وتبنِّي الحرية المطلقة. أما الألفية فهي هذه النزعة الدينية التي تقوم على الخلاص كل ألف سنة. وبالرغم من ظهور أمثال هذه الحركات في جنوب إسبانيا، في الأندلس، إلا أن أثر الإسلام في نشأتها ونشأة الحركات الجمهورية والنزعات الاجتماعية لم يتم تقصِّيه لأن الباحث يدين هذه الحركات مدافعًا عن القانون، وقد قامت حركة الفوضوية الألفية على مفهومين رئيسيين: الحرية والمساواة، الحرية ضد تسلط الكهنوت، والمساواة ضد التفاوت الطبقي وظلم الإقطاع. وبالتالي ارتبطت الحركات المعارضة للكهنوت بحركات الإصلاح الاجتماعي، ونشأة الاتجاهات الاشتراكية والنظم الجمهورية كما اتضح أخيرًا في الحرب الأهلية الإسبانية. ويبين بحث آخر عن «الدين والسياسة، الجماعات الدينية والطبقة» الفرق بين الدين الشامل والدين الشعبي؛ الأول دين الكنيسة والثاني دين الأولياء؛ الأول دين ملاك الأراضي والثاني دين عمال التراحيل والأُجراء الزراعيين ومن لا أرض لهم. ومن هنا تكون الصلة بين الدين والطبقة. وتتحد الطبقة بملكية الأرض في المجتمعات الزراعية؛ فالصراع بين الدينيين هو في جوهره صراع طبقي. قامت الجماعات الدينية تدعو إلى الدين الثاني ضد جماعة الكهنوت. وفي كلتا الحالتين يؤدي الدين وظيفة الترابط الاجتماعي بين أعضاء الجماعة ويعبر عن مصالحها. وبعد دراسة حالة معينة في مدينة أندلسية يلاحظ الباحث تغير العلاقات بين الكنيسة والمجتمع والدولة. تناقصت سلطة الكهنوت وفقد القسيس وظيفته الاجتماعية التي كان يؤديها لمجموع الشعب. ووحدت الكنيسة مصالحها مع مصالح الأقلية المالكة، ولم يبقَ للكنيسة إلا الأحوال الشخصية. ثم خرجت الاتجاهات الوطنية من الدين الشعبي بينما ظل دين الكنيسة مواليًا للقوى والأحلاف الأجنبية.
وقد عرض بحث «أيديولوجية الديمقراطية المسيحية في فترة» الحرب الباردة» إلى الصراع الأيديولوجى بين الدين والماركسية وكيف استغلت الأحزاب الديمقراطية المسيحية الدين لتخويف الناس من الماركسية وتكفيرها لها. فالديمقراطية المسيحية أيديولوجية محافظة تريد الإبقاء على الوضع القائم في حين أن الماركسية أيديولوجية ثورية تريد تغيير الوضع القائم. واستغلت الأيديولوجية الأولى الدين لإيقاف المد الثوري للأيديولوجيات الثانية في مجتمعات متدينة توجد فيها الرئاسة الدينية للعالم المسيحي. وتتشبث الديمقراطية المسيحية بطقوس العماد، والمشاركة الأولى، والزواج، والصلاة الجنائزية، وبطريق الآلام، ومباركة المنزل. وتعتمد في الدعاية على الصليب، رمز المسيحية، والدرع لحماية المجتمع من مخاطر الكفر والإلحاد الشيوعي ودعت الناس إلى أن الاختيار بينها وبين الشيوعية هو الاختيار بين الخير والشر، بين القانون والفوضى، بين الأسرة والشيوع، وهو ما يحدث الآن لدينا للتخويف من حركات التقدم والتغير الاجتماعي.
وقُدم بحثان عن اليهودية وصِلتها بالحركات الاجتماعية والمذاهب الاقتصادية. الأول عن «الجماعات الدينية في اليهودية الأرثوذكسية» وهي جماعات الدراسة والتحصيل (الحلقة) أو جماعات الذكر والتعبد (الهجدة). وهو الصراع الدائم والمستمر في اليهودية بين فقهاء القانون والصوفية. ومن أبرز الجماعات الصوفية «الخاسرين» في صراعها فقهاء القانون (متناجديم). ويعرض البحث بالتفصيل نظرية بعل شيم توف عن العلاقة بين الروح والمادة وتصنيف هذه المجتمعات منذ بدايتها في القرن الماضي حتى الآن. ويبين أن الأرثوذكسية هي الصورة المتوسطة بين التيارين المتعارضين والتي تجمع بين القانون والتصوف في جماعات الدراسة، وجماعات الحياة المشتركة، وفي جماعة المعبد.
أما البحث الثاني عن «اليهودية والدين والمال في فترة جنيزة القاهرة» فإنه يحاول بيان العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام في العصر الوسيط الأوروبي. فيعرض مسائل ثلاث: الصلة بين الدين والأخلاق، والتنظيم الاجتماعي اليهودي، والتنظيم السياسي للعصر الوسيط. حرَّمت اليهودية وكذلك حرَّم الإسلام الربا، واعتبرته شراء، وقدمت في ذلك الحجج النقلية والعقائدية. وكان النظام الاجتماعي يسمح بحرية الانتقال بين أطراف العالم الإسلامي، مما سهَّل حرية التجارة والتعامل. وكان النظام السياسي أيضًا يسمح لكل طائفة وملة بحرِّية تطبيق شريعتها، تحميها الدولة الإسلامية. هذه الحرية الاجتماعية والسياسية هي الدافع على ازدهار المعاملات المالية للطوائف اليهودية في العصر الوسيط. ويعطي البحث كله نموذجًا للدراسات المعاصرة لتحديد الصلة بين العقائد الدينية والنظم الاقتصادية وتلك التي ساهم فيها فيبر ببحثه عن «البروتستانتية وروح الرأسمالية وبحث تويني «الدين والرأسمالية».