هل هناك مقومات فكرية وأيديولوجية للوحدة العربية؟١
أولًا: الموضوع والمنهج
-
(١)
إن الحديث في صيغة الإيجاب عن «المعوقات الفكرية والأيديولوجية للوحدة العربية» يوحي بوجود مثل هذه المعوقات بالفعل. وتكون مهمة الوحدوي حينئذٍ محاولة تجاوزها قدر المستطاع أو التخفيف منها قدر الإمكان. أما صيغة التساؤل «هل هناك معوقات فكرية وأيديولوجية للوحدة العربية؟» إنما تثير إشكالًا قد يكون موجودًا بالفعل وقد يكون وهمًا ناتجًا عن سوء فهم أو سوء تأويل. إن صيغة الإيجاب والتقرير تكشف عن حكم مسبق بوجود مثل هذه المعوقات، في حين أن صيغة التساؤل تكشف عن مجرد إمكانية وجودها. وبعد البحث والنظر قد تكون الإجابة إيجابًا أم سلبًا.
-
(٢)
قد يكون ما يسمى بالمعوقات الفكرية والأيديولوجية للوحدة العربية نتيجةً شعورية أو لاشعورية لسوء فهم أو تأويل للمنطلقات النظرية للأيديولوجيات السائدة نتيجة لإرث تاريخي طويل من سيادة المحافظة الدينية عند البعض أو نقل المذاهب الغربية عند البعض الآخر. وكلاهما نتيجة موقف واحد هو التقليد، تقليد القدماء أو تقليد المحدثين. تحجر الأنا أو التبعية للآخر؛ فالوصف التاريخي لهذه المعوقات يضعها في إطارها الظرفي، ويُسقط عنها طابع الشرعية De Jure بعد أن يحولها إلى واقع تاريخي صرف De Facto ويمكن للمنهج التحليلي للماضي البعيد Macro-analysis أن يحدد معالم هذا التواصل التاريخي والكشف عن الجذور التاريخية لهذه المعوقات.
-
(٣)
وقد يكون ما يسمى بالمعوقات الفكرية والأيديولوجية للوحدة العربية مجرد تعبير عن التاريخ العربي المعاصر، وظروف تفكك دولة الخلافة، وظهور القومية العربية كرد فعل على القومية الطورانية. وتمسك العرب ببديل عن دولة الخلافة وجدوه في القومية العربية. وقد ساعدت القوى الاستعمارية على هذا التفتيت بدخول العرب بجانب بريطانيا في الحرب ضد تركيا على أمل تحقيق الوعد في الاستقلال والوحدة. وكانت النتيجة المعروفة للجميع؛ الاحتلال والتجزئة. ويمكن للمنهج التحليلي للماضي القريب Micro-analysis أن يصف هذه المرحلة منذ الحرب العالمية الأولى حتى الآن.
ثانيًا: الأيديولوجيات الخمس
-
(١)
هناك أيديولوجيات خمس يُظن أنها المعوقات الفكرية والأيديولوجية للوحدة العربية. ثلاثة صغار: الطائفة اللبنانية، والقومية السورية، والفرعونية المصرية. واثنتان كبيرتان: الوحدة الإسلامية والأممية الماركسية.٢ ويمكن فهم الثلاثة الصغار الأولى بالتحليل التاريخي للماضي البعيد كرواسب تاريخية في الوعي العربي المعاصر. كما يمكن تحليل الأيديولوجيتين الكبيرتين بالتحليل التاريخي للماضي القريب الذي ما زال حيًّا فاعلًا، وما زال يشكل وعينا القومي. أما الصراع بين الإخوان والثورة؛ أي بين الأيديولوجية الإسلامية والناصرية بمضمونها القومي الاشتراكي فإنه يمكن تحليله كحالة خاصة للصراع بين أيديولوجيتين معاصرتين باستعمال المنهج الاجتماعي السياسي وتحليل التجارب المعاشة عند من انصهر في أتون هذا الصراع.٣
-
(٢)
فالأيديولوجية الأولى، الطائفية اللبنانية، والتي تريد الحرص على الخصوصية اللبنانية «إن لبنان لا يُعرف بغير ذاته»، واقع تاريخي منذ الحروب الصليبية حتى الآن وكما يعرف الجميع. ولكن السؤال هو: هل يعني ذلك سيطرة إحدى الطوائف على الطوائف الأخرى بدعوة الأغلبية في مقابل الأقلية على افتراض صحة الإحصاء؟ ومن ثم تسقط حجة الانعزالية التي ترفض سيطرة المحيط العربي الضخم على الخصوصية اللبنانية. إنما يتم تأكيد الخصوصية اللبنانية في إطار التعدية الدينية والثقافية التي تتفق مع المنظور الوحدوي، لا فرق في ذلك بين وحدة عربية أو وحدة إسلامية. كلاهما يقر بمبدأ التعددية واللامركزية. العرب أمة تشمل في داخلها العديد من الطوائف، والإسلام أمة تضم في داخلها العديد من الديانات. إنما تنشأ المشكلة من جعل الخصوصية اللبنانية على النقيض من المحيط الثقافي العربي الواسع وليس أحد مكوناته، سواء تم ذلك عن سوء فهم لها أو كستار يحمي مصالح الطائفة المسيطرة. هنا تظهر الانعزالية ليس باعتبارها موقفًا نظريًّا أو عائقًا فكريًّا أو أيديولوجيا، بل مجرد حفاظ على مصالح الطوائف الأخرى. وما الفكر والأيديولوجية في البلاد النامية إلا سلاح في مواجهة الخصوم ومجرد غطاء شرعي ظاهري يخفي المصالح الفعلية.
تاريخي لا يمكن إنكاره؛ فسوريا الكبرى وريث حضارات الشام ومنطلق العروبة الأول. ولكن بانتشار الإسلام دخلت القومية السورية في محيط ثقافي عربي أوسع يشمل الحجاز ومصر والمغرب بل ومناطق شاسعة أخرى في آسيا وأفريقيا منذ انتقال عاصمة الخلافة من الحجاز إلى الشام في العصر الأموي. إن وضع سوريا المتميز في قلب المحيط العربي وتاريخها الطويل وتجانسها الثقافي جعلها أقوى البدائل بعد سقوط دولة الخلافة. ومع ذلك فقد أصبحت بعد انتشار الإسلام بؤرة ثقافية منذ عصر الترجمة حتى عصر الإبداع. ولا يمكن تجاهل هذا الموروث الثقافي الواحد الذي امتد على المنطقة العربية كلها وحول الأطراف. وبالتالي تظل الدعوة العلمانية غربية النشأة وعلى النقيض من الخصوصية القومية أو القطرية التي تقوم الدعوات الانعزالية عليها.
-
(٣)
والأيديولوجية الثالثة، الفرعونية المصرية، هي أيضًا واقع تاريخي تحول بعد ذلك إلى مشروع ثقافي أوسع بعد فتح مصر. وأصبحت مصر مركز دائرة أوسع من فينيقيا في الشمال والسودان في الجنوب وبلاد الحيثيين في الغرب. وقامت بدورها في الفتح امتدادًا إلى الشمال الأفريقي كله، «جندها خير أجناد الأرض، وشعبها مرابط إلى يوم القيامة». ونجحت في صد الغزو الصليبي وفي حفظ التراث الإسلامي. واستقر ذلك كله في الوعي القومي وتحوَّل إلى منطقة اللاشعور. ولكن في الفكر السياسي المعاصر وكأداة للصراع ضد الاستعمار، وتأسيس الدولة القطرية، بعد انهيار دولة الخلافة، بزر مفهوم الأمة المصرية وتأصلت جذوره في الفرعونية القديمة في وقت كان المد الإسلامي فيه قابعًا في اللاشعور وظهور المد الوطني ثم العربي في الشعور. وكما حمل نصارى الشام لواء الخصوصية تحت وهم إنقاذ الأقلية من الأغلبية حمل أقباط مصر نفس اللواء تحت نفس الوهم وتحت أثر التغريب ومفاهيم الدولة الوطنية Nation-State. ولكن سرعان ما تبدد هذا الوهم إذا ما أعيدت مصر إلى مكانها الطبيعي ودورها التاريخي في مركز العروبة والإسلام.
-
(٤)
والأيديولوجية الرابعة، الأممية الماركسية، فإنها مجرد تقليد للأممية العالمية وتجاهل للخصوصيات الحضارية والمراحل التاريخية والموروث الثقافي لدى كل شعب. ولا يمكن انتزاع التاريخ ونقل أمة من مسارها التاريخي إلى مسار تاريخي آخر … وقد لا يكون مفهوم الطبقة هو الغالب على كل ثقافة وطنية. بل قد يكون مفهوم الوحدة الوطنية أكثر تعبيرًا عن الواقع السياسي وإمكانية التغير الاجتماعي من الصراع الطبقي خاصة في مواجهة المستعمر الأجنبي. وإذا كانت الماركسية أيديولوجية علمية فإنها بإنكارها الخصوصيات القومية تتحول إلى أيديولوجية طوباوية. ويظل الواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي أبلغ وأصدق من الرؤى النظرية المجردة الصرفة. بل إن الأممية نفسها لم تتحقق داخل المنظم الاشتراكية ذاتها، وتحطمت على حدود القوميات والخصوصيات الوطنية.
-
(٥)
والأيديولوجية الخامسة: الوحدة الإسلامية، تقرب إلى الإعلان عن مبدأ وإقرار واقع في نفس الوقت. فالإسلام ليس عقيدة فقط بل تاريخ وحضارة وتراث وعلم وفن. وإن الوحدة العربية لها امتداداتها وإشعاعاتها في الوحدة الإسلامية، دائرتان متداخلتان مشتركتان في نفس المركز (حسن البنا). إنما ينشأ الصراع بينهما في حالة خاصة عندما يتم الصراع بينهما على السلطة وإحساس القومية العربية أن الإسلام منافس لها على السلطة بما له من شرعية تاريخية ورصيد لدى الجماهير (سيد قطب). وطالما كانت النخبة الحاكمة في الأقطار العربية تنقصها شرعية الحكم نظرًا لأنها إما ملكية وراثية أو انقلابات عسكرية لم تأتِ عن طريق انتخاب ديمقراطي حر أو عقد اجتماعي يفسر نشأة السلطة السياسية ويشرع لها، وطالما كانت علمانية تتنكر للموروث الثقافي التاريخي الوطني والذي يكون فيه الموروث الديني أحد مكوناته الرئيسية ستظل الوحدة الإسلامية أحد الاستقطابات الرئيسية للجماهير، ترى في العقيدة وطنًا، وفي الإيمان دولة، وفي الدين أمة، وفي الماضي مستقبلًا.
-
(٦)
وبصرف النظر عن هذه الأيديولوجيات الخمس وإلى أي حدٍّ هي معوقات فكرية أو أيديولوجية للوحدة العربية، حقيقة أم وهم، ما هو الطريق إلى هذه الوحدة؟ هناك ثلاثة مداخل متباينة. ويدل قيام الوحدة بالفعل على محدودية كل منها ونسبيته. هذه المداخل هي:
-
(أ)
الإبداعية اللاتاريخية. وهي تعطي الأولوية للثابت على المتحول (الأكثرية الشعبية) أو للمتحول على الثابت (الأقلية المضطهدة). وبالتالي تصعب الحركة الثورية نظرًا لغياب فاعلية الأمة أو يضحى بالتاريخ كله لصالح أصولية نصية. والحقيقة أن هذا المدخل يفصل الوعي السياسي عن الوعي التاريخي. ولا إبداع بلا تاريخ.٤
-
(ب)
التسويغية الكيانية، وهي تنكر وجود الوعي القومي العربي بسبب الصراعات على الهوية. ومع ذلك فالموجود المتاح هو المشروع الممكن. وهذا نوع من إقرار واقع دون تشريع، وكأن حجة الواقع هي حجة المبدأ. وهذا أيضًا ترك للأمر على ما هو عليه وكأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. يجعل الواقع نظرية دون تأصيل نظري مسبق وكأن القومية العربية أساس الوحدة العربية، شر أو خير لا بد منه.٥
- (جـ)
-
(أ)
ثالثًا: الصراع بين الإخوان والثورة
-
(١)
وهذه دراسة حالة خاصة لوصف التاريخ الحديث للثورة العربية في مصر وسوريا والعراق ولبنان وتونس، وبدرجة أقل في الجزائر والأردن والكويت، مع التركيز بوجه خاص على مصر كدراسة حالة. فمن حيث المبدأ، الإسلام والعروبة دائرتان مداخلتان مشتركتان في مركز واحد؛ الأولى — أي الإسلام — أوسع من الثانية — أي العروبة — ورصيدها خارج حدودها، والثانية — أي العروبة — خطوة مرحلية لتحقيق الأولى — أي الإسلام — ومنطلقها من قلبها (حسن البنا). فإذا ما حدث الصدام بين الدائرتين انفصل المركز الواحد، وانقسم إلى مركزين. فتتقاطع الدائرتان وتتصادمان، كل مركز يريد احتواء محيط الآخر، فلا وجود إلا لقلب واحد مهما تعددت الأطراف (سيد قطب). وهذا ما حدث بالفعل فيما يسمى بأزمة مارس ١٩٥٤م في مصر عندما نشب الصراع بين الإخوان والثورة، وانتصرت الثورة، وانزوى الإخوان. طورت الثورة نفسها منذ التأميم في ١٩٥٦م، والوحدة مع سوريا في ١٩٥٨م، وقوانين يونيو الاشتراكية في ١٩٦١م، ومعركة الحلف الإسلامي في ١٩٦٥م، وفي إعادة بناء الجيش وحرب الاستنزاف في ١٩٦٩م. وتم ذلك بصورة علنية فوق الأرض، وفي ممارسات سياسية في مواجهة التحديات المصيرية، واكتساب تجارب عن طريق المحاولة والخطأ. وتطور الإخوان سرًّا داخل جدران السجون لمراجعة أنفسهم وموقفهم من العلمانية وتعذيبهم مرة باسم الليبرالية قبل الثورة ومرة باسم القومية والاشتراكية بعد الثورة. وخرج فكر إسلامي جديد غاضب ثائر، جسَّده «معالم في الطريق». يضع تعارضًا وتناقضًا لا صلح بينهما بين الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، حاكمية الله وطاغوت البشر، الحق والباطل، النور والظلمة، يعبر عن نفسه السجين أكثر مما يعبر عن الواقع السياسي والممارسات العملية في مواجهة تحديات العصر. وبعد ١٩٧۰، وانقلاب الثورة المصرية على نفسها، وخروج الثورة المضادة من بطن الثورة ثم استعمال هذا الفكر الإسلامي السجين بعد إطلاق سراحه واستعماله لضرب الثورة وإنجازاتها نشأ الاتفاق الوقتي في المصالح بين الثورة المضادة في السبعينيات وبين العداء للناصرية كما مثَّله الفكر الإسلامي بين جدران السجون. ولكن في أواخر السبعينيات، بعد زيارة القدس، والصلح مع إسرائيل، والارتماء في أحضان الغرب، والتبعية للولايات المتحدة، وصدور القوانين المقيدة للحريات، والانعزال عن المحيط العربي، نشأ صراع جديد في المصالح بين الثورة المضادة والجماعات الإسلامية التي جسَّدت الفكر الإسلامي السجين، وحدث انفجار أكتوبر ١٩٨١م، وما زال الموقف حاملًا بإمكانيات انفجارات أخرى.٨
-
(٢)
ومع ذلك، هناك دوائر أربع متداخلة يقربها الإخوان والثورة لا تصادم بينها إلا حين يقع الصراع على السلطة: القطرية (المصرية)، والقومية (العربية)، والعقيدية (الإسلامية)، والإنسانية (العالمية). ولا فرق في هذا بين الإخوان (حسن البنا) أو الثورة (جمال عبد الناصر في نظرية الدوائر الثلاث في فلسفة الثورة). وقد توجد حلقات متوسطة بين كل حلقتين، وهي التكتلات الإقليمية؛ مثل وحدة مصر والسودان بين القطرية والعربية، والوحدة الشرقية بين العربية والإسلامية، والوحدة التاريخية بين المناطق التي انحسر عنها الإسلام بعد ازدهار (الأندلس، صقلية، البلقان، جنوب إيطاليا، جزائر بحر الروم) بين الإسلامية والعالمية؛ فالوحدة تبدأ من القطرية حتى العالمية. وما الوحدة العربية أو الإسلامية إلا إحدى المراحل المتوسطة.
-
(٣)
والحقيقة أن كل هذه الأطروحات النظرية بصرف النظر عن الاختلافات بينها أنها تشترك في شيء واحد وهو أولوية النظر على العمل أو أسبقية النظرية على الممارسة، وكأن الوحدة العربية تتم طبقًا لوحدة النظرية. القومية أو الإسلامية. إنما تتم الوحدة العربية بداية بالتنسيق بين الدول الإقليمية ابتداءً من فتح الحدود، وإلغاء تأشيرات الدخول، وحرية الاستيراد والتصدير، ورفع القيود عن انتقال الكتب والمجلات والصحف اليومية. فحرِّية الفكر تسبق حرية الأنظمة. وقد قامت الوحدة الأوروبية كهوية قبل أن تتم كوحدة سياسية. فإذا ما تم التفاعل والانتقال وتبادل المصالح يمكن بعد ذلك الانتقال من المستوى الثقافي الاجتماعي الاقتصادي إلى المستوى السياسي. لقد كان حجر العثرة باستمرار أمام الوحدة العربية ومحاولات إقامتها في تاريخنا الحديث هو أنها تبدأ من القمة وليس من القاعدة: رئيس واحد، وعلم واحد، ونشيد واحد، ومجلس واحد، ومقعد واحد في الأمم المتحدة، وجيش واحد، والتفرق ضارب في الأعماق في الولاءات القطرية، والانتماءات الحزبية، وتعارض المصالح بين الفئات الاجتماعية، والصراع على السلطة بين القوى السياسية، والاختلاف على الزعامة بين الحكام.
-
(٤)
إن الوحدات الإقليمية قد تكون هي الممكن الذي يسهل تحقيقه في عصر التفتت والتشرذم والتجزئة لإيقاف الحروب الطائفية ومعارك الحدود، وتخفيف حدة التوتر بين الأقطار العربية المتجاورة … وقد كان ذلك نهج معظم الوحدويين من قبل؛ إسلاميين (الأفغاني) أو قوميين (ناصر)، ابتداء من وحدة وادي النيل، وحدة مصر والشام، وحدة الشام والعراق، وحدة المغرب العربي، وحدة الجزيرة العربية. يكفي شبكة الاتصالات السلكية واللاسلكية، وشبكة الطرق والمواصلات كما هو الحال في أوروبا الموحدة. وحق المواطن العربي في الانتقال والعمل وممارسة حقوقه كمواطن عربي في أي قطر عربي. إن لجان التنسيق بين قطرين لإقامة صناعة مشتركة وزراعة مشتركة خطوة تتجاوز الصراعات الإقليمية ومعارك الحدود الفاصلة. وإذا كان للانفتاح الاقتصادي ميزة فإنه يكون بين الأقطار العربية فيما بينها وليس بين قطر عربي والدول الغربية الرأسمالية الكبرى.
-
(٥)
ويمكن للجمعيات والاتحادات والنقابات العربية القيام بالدور المؤثر الفعال لخلق الوحدة من القاعدة إلى القمة وليس من القمة إلى القاعدة مثل: اتحاد المحامين العرب. اتحاد الأطباء العرب، اتحاد المهندسين العرب، اتحاد المؤرخين العرب، اتحاد العمال العرب، الجمعية العربية لعلم الاجتماع، الجمعية الفلسفية العربية … إلخ. وذلك لخلق تيار عام وحدوي داخل كل نشاط علمي أو ثقافي أو اجتماعي أو مهني. وكلما كان كل اتحاد منتخبًا انتخابًا شعبيًّا حرًّا كان الاتحاد العام أكثر فاعلية وأكثر قدرة على تحريك الجماهير العربية؛ فالبداية بالجزء وليس بالكل، بالمادة وليس بالصورة، بالمضمون وليس بالشكل. وقد تمت الوحدة الألمانية والوحدة الإيطالية بل وإرهاصات الوحدة العربية في أوائل هذا القرن على هذا النحو. وفي حالة الخصام بين الحكومات يتم التمييز بين مصالح الشعوب الدائمة والاختلافات السياسية الوقتية بين الحكام. ففي حالة الاختلاف بين وجهات النظر لا تُقطع علاقات، ولا تُغلق حدود، ولا يوقف مواطنون، ولا يطرد رعايا، ولا تحاك مؤامرات. فصلة الأرحام واجب مطلق لا يقطعها الخلاف بين الأشقاء، وإلا ففيمَ الإبقاء على المقدسات لو تم تدنيس كل شيء في فورة غضب سرعان ما تهدأ كي تبدأ القبلات والأحضان!
-
(٦)
لما كانت أولى تحديات العصر بالنسبة إلى جيلنا هو تحرير الأرض والذي له الأولوية المطلقة على باقي التحديات الأخرى مثل الحرية في مواجهة القهر الداخلي، والعدالة الاجتماعية في مواجهة الفروق الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، والوحدة ضد التجزئة، والتقدم في مواجهة التخلف، والهوية في مقابل الاغتراب، وتجنيد الجماهير في مقابل سلبيتها ولامبالاتها؛ فإن هذه القضية، تحرير الأرض، قادرة على توحيد الأمة؛ نظرًا لاتفاق جميع الدول القطرية عليها؛ فهي المكون الرئيسي لمشروع التحرر العربي. وإن تحقيق هدف مشترك هو ذاته إحدى مراحل تحقيق الوحدة. ويمكن السماح بأكبر قدر ممكن من تعدد الأطر النظرية والمداخل الأيديولوجية والاتفاق على برنامج عمل وطني موحد يقوم على هذه القضايا السبع وفي مقدمتها تحرير فلسطين.
-
(٧)
إن المعوقات الفكرية والأيديولوجية للوحدة العربية في حقيقة الأمر مجرد نقص في الوعي الثوري، ونسيان لمكونات الوعي التاريخي، وعدم إدراك للواقع الحالي والتجارب المعاشة لجيلنا الذي أصبح أسير تاريخه الحديث وصراعاته وخاضعًا لأحزانه، لا ينسى ثأره، وكأن التراكم التاريخي الوحيد الممكن هو تراكم سلبي للغضب والانتقام. إن ما يسمى بالمعوقات الفكرية والأيديولوجية هو في حقيقة الأمر تراكم سلبي إما من الماضي البعيد أو من الماضي القريب أو من تجاربنا المعاشة. يكفي لتبديدها تحويلها من اللاشعور إلى الشعور مع مزيد من النقاء الثوري ورؤية محكمة للوحدة الوطنية وتحويل معارك المثقفين إلى جبهتها الفعلية في واقع مشترك وأمام خطر داهم لا يستثني أحدًا أو تيارًا أو حزبًا. إن إعادة بناء الثقافة الوطنية خاصة مكونها الرئيسي وهو الموروث الديني القديم من أجل التخلي عن رواسب التفرقة وإعادة بناء وجداننا المعاصر على عناصر الوحدة تصبح مهمة عاجلة للمثقفين الوحدويين جميعًا على اختلاف منطلقاتهم النظرية.٩
- (١)
الدين والثقافة الوطنية
- (٢)
الدين والتحرر الثقافي
- (٣)
الدين والنضال الوطني
- (٤)
الدين والتنمية القومية
- (٥)
الحركات الإسلامية المعاصرة
- (٦)
الأصولية الإسلامية
- (٧)
اليمين واليسار في الفكر الديني
- (٨)
اليسار الإسلامي والوحدة الوطنية، مدبولي، القاهرة ١٩٨٨م