تعقيبات ومراجعات
التمايز والتكامل بين القومية العربية والإسلام١
-
(١)
بحث يتميز بالحيوية والاعتدال والمحايدة والعلمية. ليس الهدف منه الدعاية لتيار معين أو التحزب والتعصب لطائفة، ولا يقوم على أحكام مسبقة، ويتميز بمنهج تاريخي واضح يصف الوقائع كما يهدف إلى تحقيق المصالح الوطنية في الأمة العربية عامةً بين التيارين الرئيسيين فيها وداخل لبنان خاصة.
-
(٢)
يغلب على البحث أحيانًا تيار القومية العربية، ولكن بحجج علمية رصينة دون أية رنة دعائية أو محاولة التستر وراءها أو إشباع النفس منها تعويضًا عن إحساس بالدونية. ولكن هذه الحجج نفسها، والتي يأتي أغلبها من أبحاث د. عمارة، يمكن الرد عليها؛ فالوهابية والسنوسية والمهدية حركات إصلاحية إسلامية تتم داخل الأقطار الإسلامية الناطقة بالعربية من الهند وتركيا وإندونيسيا والملايو. الوهابية تيار أهل سنة، ينتسب إلى أحمد بن حنبل وابن القيم وابن تيمية، وتبنِّيها لشرط القرشية هو موقف أهل السنة والأشاعرة، ولا يعني تبني القومية العربية. كما أن معارك السنوسية ضد الاستعمار الإسلامي إنما تتم باسم الإسلام ورفع الظلم والاضطهاد وليس باسم العروبة. وقتال الترك في المهدية يدل أيضًا على قتال الظلم والبغي، وهو مطلب إسلامي.
-
(٣)
لذلك يكون السؤال: هل الاعتزاز بالإسلام الثوري، وبالإسلام كحركة تحرر، يقوم على اقتناع أساسي أم أنه محاولة للتوفيق بينه وبين القومية العربية بمضمونها الثوري التحرري في مقابل الإسلام اليميني المحافظ؟ هل أصبح الإسلام الثوري بعد الثورة الإسلامية العظمى في إيران موجة جديدة يمكن أن يراجع الفكر القومي نفسه من خلالها؟ وإذا كانت الثورة الإسلامية قادرة على تحقيق أهداف القومية العربية بمضمونها الثوري التحرري فما الداعي للإبقاء على هذه الازدواجية في الفكر والسلوك؟ ولماذا تتحرج الثورة العربية الآن من مناصرة الثورة الإسلامية في إيران ولا تتورع من أن تناصبها العداء؛ ليس فقط دفاعًا عن الأنظمة العربية أو دفعًا للقومية الإيرانية، بل من موقف أيديولوجي خالص، بالرغم من بعض الانتقادات الموضوعية في ممارسات الثورة الإيرانية؟ وكيف يمكن الرد حاليًّا على التيار الإسلامي بجناحيه المحافظ والتقدمي الذي يرى في شمول الإسلام وتجاوزه لحدود القوميات مانعًا من الانتساب الأيديولوجي للقومية العربية؟
-
(٤)
وماذا يكون موقف القومية العربية من الثورة الإسلامية العامة التي لا ترتبط بالقومية العربية كما هو الحال في المد الإسلامي في الجمهوريات الإسلامية داخل الاتحاد السوفييتي، وباكستان، والملايو، وإندونيسيا، والفلبين؟ أليست أشمل وأعم؟ ولماذا لا يمكن تجاوز القوميات إلى وحدة المذهب وشموله كما هو الحال في الأيديولوجيات لمعاصرة من رأسمالية واشتراكية، وحدة المعسكر الاشتراكي، ووحدة النظام الرأسمالي؟ بل إن القومية العربية نفسها وجدت نفسها في تحالف متين مع حركة التحرر في أفريقيا وآسيا، وأصبحت رمزًا أساسيًّا في حركة تضامن شعوب آسيا وأفريقيا، ومكونا رئيسيًّا لدول عدم الانحياز، وثورة مركزية في العالم الثالث؛ مما يدل على إمكانية تجاوز الحدود القومية إلى ما هو أعم وأشمل، والأمة الإسلامية لها وجود تاريخي ووجداني وفعلي.
-
(٥)
قد يغلب على البحث طابع التوفيق بين التيارين الرئيسيين في فكرنا القومي: الإسلام والقومية، كرد فعل على تعارضهما وعلى وقوع الإسلام في المحافظة دفاعًا عن مصالح اليمين، ووقوع الإسلام في التغريب على أيدي اليسار الغربي العربي وجعلها علمانية مقطوعة الصلة بالتراث القومي للجماهير العربية. ومن ثم كان الإسلام الثوري والقومية المرتكزة والمتحدة به شيئًا واحدًا. والحقيقة أن مجموع خطأين لا يكون صوابًا، وأن التوحيد بين التيارين حقيقة جوهرية أساسية تتجاوز ردود الأفعال ومحاولات التوفيق.
-
(٦)
وهذا يكون السؤال الرئيسي: هل العلاقة بين الإسلام والقومية علاقة تمايز وتكامل أم علاقة تأسيس بمعنى أن يتأسس الإسلام على العروبة وأن تقوم العروبة على الإسلام، خاصة في محور اللغة وما ينتج عن اللغة من ثقافة وحضارة. فقد كان الوعي العربي قبل الإسلام مؤسسًا لليهودية والمسيحية والحنيفية والشخصية العربية، وظل كذلك بعد الإسلام؛ فالعروبة هي الوعاء الحضاري والثقافي للإسلام. ومن هنا ظهر التشابه بين اليهودية العربية، والمسيحية العربية، والإسلام؛ فالديانات الثلاث تصدر عن وعاء ثقافي واحد جسدته الحنيفية، دين إبراهيم.
ويمكن تحديد العلاقة بين القومية العربية والإسلام ليس على أساس أنها علاقة تمايز وتكامل فقط بل على أنها علاقة تمايز وتجاوز. ولا تقوم هذه العلاقة الجديدة طبقًا لم يتم حاليًّا من مراجعة في الفكر القومي أو تزمتًا وتحزبًا للإسلام، بل بناء على رؤية للواقع وللتاريخ واستقراء لتاريخ العرب والأمة الإسلامية الحديث. ويمكن تحديد هذه العلاقة الجديدة على النحو الآتي:
أولًا: الظروف التاريخية لدولة الخلافة
-
(١)
بدأ انهيار الحضارة الإسلامية منذ القرن الخامس الهجري، منذ هجوم الغزالي على العلوم العقلية ودعوته إلى التصوف، ثم انتصار الأشعرية على المعتزلة ومحنتهم. ولم تستمر محاولة ابن رشد في رد الاعتبار للعقل. وجاء ابن خلدون أخيرًا ليؤرخ لقيام الحضارة العربية وانهيارها معلنًا بذلك نهاية مرحلة. ورثت الدولة العثمانية ألف عام من الأشعرية والتصوف؛ وبالتالي تخلفت المجتمعات الإسلامية وفي مقدمتها دولة الخلافة. وكان من مظاهر هذا التخلف العصبية القومية وعدم قدرة دولة الخلافة على مزج القوميات وأصهارها وتعريبها، واستعمال السيف بدلًا عن ذلك. فبدأت في محاربة القوميات مثل الأرمن والأكراد حفاظًا على وحدة الأمة. وتم تصحيح الخطأ وهو النعرة القومية بخطأ آخر وهو الاضطهاد. فلولا هذا التخلف وهذه العصبية وهذا الاضطهاد لما نشأت الحركات القومية في دولة الخلافة. بل لوجدت في الأمة الإسلامية تثبيتًا للهويات القومية؛ لغة، وعادات، وتقاليد، داخل الأمة الإسلامية الموحدة. بل أصبح التركي نموذج التعصب والقسوة، لا يعرف إلا الحريم والسيف.
-
(٢)
كانت محاربة العرب للأتراك في الثورات الإسلامية الإصلاحية مثل المهدية في السودان ليست لأنهم أتراك في مقابل العرب أو لأنهم عرب في مقابل الأتراك، بل محاربة الظلم والفساد والقسوة والتخلف والسيطرة والطغيان باسم الإسلام. فلو كانت دولة الخلافة دولة إسلامية تعطي القومية حقها في لغتها وعاداتها وشرائعها التي لا تتعارض مع شريعة الإسلام لما نشأ هذا العداء للأتراك باسم الدين. وقد كان «ميثاق المدينة» أيام الرسول نموذجًا للأمة الإسلامية التي تصنع على قدم المساواة، اليهود والنصارى والمجوس داخل الأمة الإسلامية، والاعتراف بكل منها كأمة مستقلة لها حرية العبادة والحياة، وعلى المسلمين واجب الدفاع والحماية.
-
(٣)
كانت هناك حركات إصلاحية إسلامية (الأفغاني مثلًا) تبغي القضاء على مظاهر التخلف في دولة الخلافة حين يقوى المسلمون ويستطيعون مقاومة الاستعمار في الخارج والتسلط والطغيان والفساد في الداخل. وقد لاقت هذه الحركات الإصلاحية قبولًا عند العرب خاصة، وكان لها أنصارها في الدولة العثمانية ذاتها. بل إنها هي التي كانت وراء معظم حركات الاستقلال الوطني في الأمة العربية (الحزب الوطني في مصر مثلًا). بل كان الأفغاني هو واضع شعار «مصر للمصريين» شعار الحزب الوطني باسم الإسلام. وهو الداعي لوحدة وادي النيل باسم الإسلام، ووحدة شمال أفريقيا باسم الإسلام، واستقلال إيران باسم الإسلام. هذه الحركات الإصلاحية هي رد الفعل الطبيعي على مظاهر الانهيار في دولة الخلافة. ولو قُدر لها الاستمرار والنجاح لما ظهرت مشكلة القوميات داخل الدولة العثمانية. وقد عادت هذه الحركات القومية الطورانية والعلمانية الممثلة في جمعية «تركيا الفتاة» أو جماعة «الاتحاد والترقي» التي كانت القومية العربية ومصر الفتاة ردًّا عليها.
-
(٤)
كان نجاح الثورة الكمالية في تركيا الحديثة نجاحًا نسبيًّا بعد أن وقعت في «التغريب» والقضاء على الهوية الإسلامية، والعلمانية، والانقطاع التاريخي. ودخلت الأحلاف العسكرية الغربية، وتوالت عليها الانقلابات العسكرية، وعمَّها اضطهاد التيارات المعارضة الإسلامية منها والتقدمية، وتفضيل الغرب أعداءها القدامى عليها (اليونان مثلًا) في قضية قبرص وفصلها عن الأمة الإسلامية، وإيقاع التناقض بينها وبين الأمة العربية وافتعال خلافات الحدود (لواءات قطنة والإسكندرونة مثلًا)، وأخيرًا الاعتراف بإسرائيل. وقد تم كل ذلك باسم القومية التركية.
-
(أ)
الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية بالرغم مما فيها من صراع للقوميات، وهو الصراع الذي لم تخلُ منه حتى الثورات التقدمية الكبرى مثل الثورة البولشفية في روسيا القيصرية أو الدول ذات القوميات المتعددة مثل الهند.
-
(ب)
استمرار الفتوحات الإسلامية داخل الغرب ذاته وفي أوروبا الشرقية، وقوة جيش الدولة وعظمة قوادها وشجاعة محاربيها وقدراتها الإدارية والتنظيمية لهذه الرقعة الفسيحة.
-
(جـ)
الاستمرار في تحدي الغرب الصليبي، والوقوف أمام أطماع الاستعمار واستمرار الحياة في الرجل المريض مئات السنين.
-
(د)
الحفاظ على فلسطين قلب الأمة الإسلامية، ورفض بيعها أو استيطان الصهيونية بها.
-
(هـ)
الحفاظ على أطراف العالم الإسلامي في إندونيسيا والملايو والفلبين والهند وأفريقيا وربطه بعاصمة الخلافة إستانبول قبل أن تتآكل الأطراف بعد القضاء على المركز.
-
(و)
الحفاظ على التراث الإسلامي تدوينًا وتسجيلًا وفهرسة وتبويبًا حتى أصبحت دولة الخلافة حتى بعد انهيارها مع الهند، مركزًا للإشعاع الحضاري الإسلامي، وكما حدث بعد ضياع الأندلس من قبل.
ثانيًا: مصادر الفكرة القومية
-
(١)
هذه الظروف التاريخية التي مرت بها الدولة العثمانية والتي تشير إلى تخلف ألف عام أدت إلى ظهور القومية الطورانية كأحد الحلول في مقابل العثمانية والحركات الإصلاحية. وكانت القومية الطورانية أيضًا أحد مظاهر التخلف الحضاري وأثرًا من آثار التغريب، وعصبية لا تقل خطورة على الأمة من العصبية العثمانية. وبالتالي أرادت القومية الطورانية درءًا خطر خطأ التخلف العثماني، بخطأ آخر، وهو القومية الطورانية. ثم جاءت القومية العربية كرد فعل على القومية الطورانية لتصحح الخطأين السابقين بخطأ ثالث بدل أن تحارب مظاهر التخلف العثماني ورد فعل القومية الطورانية عليه. القومية العربية إذن رد فعل تاريخي على ظروف تاريخية خالصة وليست فكرة شرعية مبدئية؛ أي إنها ظاهرة De Facto وليست De Jure على ما يقول فقهاء القانون.
-
(٢)
تأييد بريطانيا للعرب ضد الأتراك فيما يسمى بالثورة العربية الكبرى لم تكن حبًّا للعرب؛ بدليل خديعتهم بعد ذلك، بل كرهًا للعثمانيين وقضاء على دولتهم بأيدي غيرها طبقًا لمبدأ الاستعمار المعروف «فرِّق تَسُد»، وتقليص الدولة العثمانية داخل حدود القومية الطورانية حتى يسهل ابتلاع الأجزاء، وتقسيم الدول العربية بين القوى الكبرى، ثم ابتلاع القومية الطورانية ذاتها داخل التغريب والعلمانية. فأيد العرب البريطانيين ضد دولة الخلافة، واستبدلوا طغيان الغرباء بطغيان الأقرباء.
-
(٣)
نشر الغرب للفكرة القومية عن طريق الإرساليات والمدارس الأجنبية خاصة في الشام ولبنان وتعليم أبناء العرب وتربيتهم على الفكرة القومية سلخًا لهم عن الأمة الإسلامية التي يكون فيها العرب أيضًا أمة، بل والأمة الرئيسية نظرًا للغة وقربها من منبع الحضارة، وتمثيلها لرافدها الأول. وقد قام المبشرون بتلك المهمة بدعوى تعليم الحداثة والمدنية ودرأ التخلف والتحرر من القديم.
-
(٤)
وقوع الإخوة نصارى الشام في هذه الحيلة وتبنِّيهم الدعوة القومية؛ فقد كانوا أكثر الطوائف في الأمة عرضةً للأثر الأجنبي والتغريب والخلط بين الدين المسيحي والحضارة الغربية، وشعورهم بمدى القرب في الدين بينهم وبين الغرب مما استتبع الغرب أيضًا في الحضارة ومظاهره المدنية. وربما سهَّلت على ذلك أوضاع نفسية بإحساسهم بالأقلية وسط الأغلبية، وإن كان هذا الوضع يكون أحيانًا دفاعًا على نشاط الأقلية وحماسها وظهورها في مركز الصدارة مثل الطوائف اليهودية داخل المجتمعات الأوروبية ومثل الأقباط في مصر.
-
(٥)
نظرًا لتخلف العرب أيضًا حينذاك وسيادة النظام القبلي في الجزيرة العربية فقد طمع مشايخ القبائل في أن يتحولوا إلى ملوك وأمراء: فرحين بمظاهر الملك، وحبًّا في مزيد من السيطرة على بقاع الأرض والتحول من الترحل إلى الاستقرار، ومن صحراء الجزيرة إلى ربوع الشام. ففرحوا بالوعود، وتنصيبهم ملوكًا، فعادَوا الأتراك، الذين يمنعونهم السلطة والترؤس والسيطرة. وأخذت بريطانيا بعد ما يسمى بالثورة العربية في تنصيب هذا ملكًا، وذاك أميرًا، هذا على سوريا، وابن عمه على العراق، وثالثًا على الحجاز، وأصبحوا جميعًا ألعوبة في يد بريطانيا، يقومون باضطهاد الوطنيين من القوميين العرب أو الإصلاحيين أو التقدميين بوجه عام … فاستبدلت الشعوب العربية طغيانًا بطغيان؛ طغيان أمراء العرب بطغيان حكام الترك. بل ازداد البلاء عندما تحول أمراء العرب إلى واجهات تحكم بريطانيا من ورائها في حين استطاع الحكام الأتراك الوقوف في مواجهة الاستعمار وأطماعه.
-
(٦)
كانت الفكرة القومية هي الفكرة السائدة في القرن التاسع عشر الأوروبي، وظهرت كحلٍّ عادل للإمبراطوريات المجرية والنمساوية والجرمانية والأنجلوسكسونية، بعد أن حاولت كل قومية قهر القوميات الأخرى. ولما كان الفكر القومي الغربي يعني القوة والسيطرة فقد حملها الاستعمار خارجه كي يسيطر بها على الشعوب غير الأوروبية. ولما كان كثير من المفكرين العرب ورواد النهضة الأوائل قد تعلموا في الغرب وعاشوا فيه فقد حملوا الفكرة القومية السائدة كما حملوا الأفكار الأخرى مثل الحرية والعدالة والديمقراطية والاشتراكية وروجوا لها جميعًا في الأمة العربية. ونظرًا للاغتراب الثقافي لم يعِ المثقفون العرب ظروف نشأة القومية في الغرب ومحليتها وظنوا أنها فكرة عامة وشاملة صالحة لكل الشعوب في كل صور التاريخ وفي كل الحضارات.
-
(٧)
ونظرًا لخفوت الحركات الإصلاحية بعد أن هبطت من الأفغاني إلى محمد عبده إلى النصف، ثم هبطت من محمد عبده إلى رشيد رضا إلى نصف آخر وسيادة السلفية، ونظرًا إلى ازدياد التغريب، وامتداد الثقافة الغربية في الثقافة المعاصرة للأمة العربية، فقد بدأ الحل القومي يبدو أسهل وأكثر يسرًا وقربًا من محاولة الإصلاح من جديد، ومن إعادة النظر في المسائل من أسسها، وإغفال أن ما يحدث في فلسطين من تقسيم هو ما يحدث في الهند من تقسيم، وأن الاستعمار واحد في مواجهة الأمة العربية والأمة الإسلامية. وظهر مفكرون عرب يوصلون الفكرة القومية، ولم يظهر أمامهم مفكرون إصلاحيون يعيدون للإصلاح حيويته ويجددون مفاهيمه، حتى ابتعدت الأمة الإسلامية شيئًا فشيئًا في الهند وباكستان وبخارى وسمرقند وإيران وتركيا، ووقعت كلها تحت سيطرة الغير، وهو الغرب. وأرادت الأمة العربية أن تقاوم وحدها فابتلعها الاستعمار أيضًا حتى على الرغم من الصحوة الأخيرة في السنوات العربية الثانية في جيلنا بريادة الناصرية.
ثالثًا: مآسي تاريخ العرب الحديث
بعد أن تبنى العرب الفكرة القومية ظهرت بعض المآسي في تاريخهم الحديث منها:
-
(١)
خديعة الإنجليز الكبرى في بداية الحرب العالمية الأولى، بوعد العرب بالاستقلال عن الأتراك إذا ما هم عاونوا الإنجليز، أعداء الأتراك، ضد تركيا. وقد وقع العرب في الشَّرك، وثاروا على دولة الخلافة، وأيَّدوا بريطانيا عدوة المسلمين، ورمز الاستعمار الأول، وبعد انتهاء الحرب، وهزيمة تركيا، وقع العرب تحت سيطرة بريطانيا، وتم توزيع أراضيهم بين القوى الكبرى.
-
(٢)
دخول العرب في حروب لا شأن لهم بها، مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية، بعد أن أصبحوا في رِكاب الغرب، وجزءًا من مصالحه ومناطق نفوذه. وزاد ارتباطهم بالغرب، ووقعوا في الأحلاف العسكرية، وزادت سيطرة الاستعمار على كل أنحاء الوطن العربي في شمال أفريقيا ومصر والعراق وسوريا وفلسطين.
-
(٣)
تفتيت العرب والقضاء على وحدتهم، وتقسيم الأمة ومحاصرتها بحدود مصطنعة، وخلق مناطق حدودية مثارًا للنزاع والخلاف بين كل دولتين عربيتين متجاورتين؛ حتى يستمر النزاع بين الإخوة الأشقاء. ومحاربة كل محاولة للوحدة العربية، ومناهضة القومية العربية إذا ما هدد مضمونها الثوري مصالح الاستعمار في المنطقة، كما حدث للناصرية.
-
(٤)
ضياع فلسطين، وتسليم بريطانيا فلسطين للصهيونية. وهي التي ناصرها العرب في حربين عالميتين، وقد كانت التيارات الإسلامية أولى حركات المقاومة دفاعًا عن فلسطين وما زالت حتى الآن هي الباقية والأكثر تأثيرًا وجماهيرية.
-
(٥)
توالت الدعوات القومية في الأمة العربية لتفتيتها. الفينيقية، الفرعونية، الآشورية، الكردية. كما ظهرت الدعوات الطائفية لتحقيق نفس الغرض: المارونية، والقبطية، والدرزية، والعلوية، والشيعة، والسنة. ولم يستطع الفكر القومي العربي احتواء هذه الدعوات العنصرية والطائفية حتى الآن وكما هو واضح في لبنان.
-
(٦)
تخلُّف العرب، ونسبية تحديث مجتمعاتهم. ومظاهر التخلف كثيرة؛ من تسلط في الحكم، وأمية، ونقص في العمران، وعدم استثمار لموارد البلاد، وسيطرة القبلية والعشائرية. وبالتالي لم يكن الفكر القومي أكثر قدرة على تحقيق التقدم من دولة الخلافة.
-
(٧)
نكوص العرب عما بدءوه في القرن الماضي. فقد بدأت بواكير النهضة العربية والعرب ما زالوا في كنف الأتراك. وظهرت تياراتهم الرئيسية من إصلاحية وليبرالية وعملية في دولة الخلافة. وكان العرب روادًا للنهضة ورسلًا للحرية والعدالة. ولكن ما بدءوه في القرن الماضي عاد ونكص في هذا القرن. فانتهى الإصلاح إلى سلفية، والحرية إلى تسلط، والعدالة إلى تفاوت طبقي. وأصبحت نهضتنا الحديثة لا تبدأ إلا لكي تنتهي، عمر قصير في مقابل النهضة الإسلامية الأولى التي عاشت ثمانية قرون.
-
(٨)
لم تعد الأمة العربية عنصر تهديد للغرب كما كانت الأمة الإسلامية المتمثلة في دولة الخلافة، بعد أن استطاع الاستعمار الغربي تفتيت الأمة الكبرى ثم تفتيت الأمة الصغرى واحتواء الجميع. وبالتالي ضاع من الأمة عنصر التحدي والإحساس بالرسالة، وضرورة الانتشار والتبليغ.
-
(٩)
انتهاء محاولات الثورات العربية التالية في مقاومة الاستعمار. والدعوة إلى الوحدة العربية، وإقامة نظم اشتراكية تقدمية ترسي قواعد الحرية والعدالة الاجتماعية، وإلى تخليص الأمة العربية من بقايا الاحتلال. وقد انتكصت الناصرية كما انتكصت دولة محمد علي من قبل. وتم القضاء على كبرى محاولات الاستقلال الوطني في المنطقة العربية.
-
(١٠)
وقوع الأمة العربية في الانحياز إلى الغير، البعض منها إلى الشرق، والبعض الآخر إلى الغرب، وفريق ثالث إلى صالحه الخاص والعزلة عن الدنيا. فأصبحت المنطقة العربية امتدادًا لنفوذ القوى الكبرى مع اختلاف في الدرجة. ولم تشفع محاولات عدم الانحياز الأخيرة عن الانحياز الفعلي لهذا المعسكر أو ذاك.
-
(١١)
الهجوم على الثورة الإسلامية (إيران)، واضطهاد التيارات الإسلامية (الإخوان المسلمين)، ووقوع النظم الثورية العربية في حبائل الغرب وشراك الاستعمار للقضاء على الثورة الإسلامية التي تود تجديد الناصرية على أسس تراثية وشعبية وتعيد الاستقلال الوطني للمنطقة في مواجهة الاستعمار والصهيونية.
-
(١٢)
ضياع حرية الشعوب العربية، حرية القول والتعبير، وأصبحت أنظمتها في غالبيتها تقوم على انقلابات عسكرية، يسودها الرأي الواحد والحزب الواحد، وكل رأي آخر كافر خارج ملحد زنديق عميل للأجنبي. وبالتالي لم تفترق الثورات العربية التقدمية عن التخلف كثيرًا.
-
(١٣)
ظهور الرأسمالية العربية بعد اكتشاف النفط، وتكدس عائداته في أيدي القلة المترفة أمام جماهير معدمة تموت بالقحط أو الفيضان، بها أكبر نسبة دخول للعالم وفي نفس الوقت يضرب به المثل في الفقر وسوء التغذية. تودع الأموال في البنوك الأجنبية لتنمية الغرب الصناعي والأمة العربية أحوج إليها منه.
-
(١٤)
اشتداد المحافظة العربية، وانتشار الاتجاهات المحافظة، واستعمال الدين كوسيلة للدفاع عن النظم المحافظة القائمة. فلم تشهد الأمة العربية في تاريخها مثل هذه الردة تحت راية الثورة العربية التقدمية وأثر نكوصها، حتى أصبح الفكر الليبرالي أو الإصلاحي أو العلمي ذاته الذي بدأناه منذ القرن الماضي كفرًا وإلحادًا، وكأن التقدمية لم تكن إلا شعارات جوفاء تخفي تحتها محافظة أصلية تاريخية متواصلة.
رابعًا: إمكانيات الثورة الإسلامية
وفي مقابل حدود القومية يمكن إبراز تجاوز الثورة الإسلامية لها على النحو الآتي:
-
(١)
تجاوز حدود القوميات العتيقة، ورتق الفتق، وتوحيد الفئات، وإصهار القوميات والنزعات الطائفية داخل الوحدة الإسلامية الشاملة في عصر التكتلات الكبرى. وقد تجاوز الغرب ذاته حدود القوميات العتيقة إلى جانب المعسكرات والنظم والأهداف والمذاهب الرأسمالية والاشتراكية. كما تجاوزت الشعوب الأوروبية حدود أوطانها في الدول المتحررة حديثًا، أو دول آسيا وأفريقيا، أو دول عدم الانحياز، أو دول القارات الثلاث، أو الشعوب الفقيرة، أو العالم الثالث، أو العالم الرابع.
-
(٢)
لم تعد الثورة قصرًا على القومية العربية بل تجاوزتها الثورة الإسلامية التي أصبحت مرادفة هي أيضًا للثورات الوطنية، كما حدث في الثورة الجزائرية حيث كان الإسلام رافدها الأول والثورات الإسلامية الحديثة: المهدية، والسنوسية، وثورة الريف، وكما حدث في ثورة عرابي، والثورات التي أشعلها الأفغاني، وكما حدث في الثورة الإسلامية الكبرى في إيران، وكما يحدث الآن في الفلبين.
-
(٣)
لم يعد الدين أفيونًا للشعب أو محافظة ورجعية، أو تدعيمًا للنظم القائمة، بل ثورة تقدمية شعبية في صالح الجماهير المعدمة، كما هو الحال في أمريكا اللاتينية، وثورة الرهبان الشبان دفاعًا عن الفلاحين أصحاب الأرض، وكما حدث أخيرًا في ثورة البوذيين في فيتنام أثناء العدوان الأمريكي، وكما حدث أيضًا في الديانات الأفريقية أثناء حروب التحرير الوطنية، وبالتالي انضمام الثورة الإسلامية إلى ثورة الأديان في كل مكان كما كانت عليه أيام الأنبياء.
-
(٤)
العودة إلى مقاومة الاستعمار، وتحدي الغرب الذي أذل الشعوب غير الأوروبية منذ الحروب الصليبية وإلى الآن، والوقوف في مواجهة عنصريته الدفينة العرقية الحضارية، حضارة في مواجهة أخرى، وإقالة الثورات العربية من عثراتها بتجديد دمائها وإعادة الحياة إلى روافدها المقطوعة. ويشعر الاستعمار ذاته أن الخطر الداهم الذي يهدده هو استيقاظ العملاق الإسلامي.
-
(٥)
الوقوف في وجه الصهيونية بعد أن تناكصت الثورات العربية عن القيام بدورها الأول، وبعد أن ازدادت الصهيونية توسعًا وانتشار بعد انتصار الثورات العربية الأخيرة. الثورة الإسلامية هي القادرة بأفكارها عن تحرير أراضي المسلمين أو الشهادة على عدم التنازل عن المبادئ بدعوى المصالحة أو الواقعية أو العلمانية أو التعايش.
-
(٦)
تجنيد الشعوب الإسلامية، وتحويل الملايين إلى جند بعد أن عجزت الثورات العربية عن تجنيد الجماهير العربية وراءها ووقوف معظمها موقف التفرج أو الحياد. وقد أسقطت الجماهير الإسلامية الثائرة من الشوارع أعتى نظام تسلطي عرفه التاريخ في إيران.
-
(٧)
حل قضية القوميات والنزعات الطائفية في الأمة العربية بتحقيق ميثاق المدينة الذي يعترف لكل قومية باستقلالها داخل إطار الأمة الإسلامية الواعدة؛ وبالتالي القضاء على مشروع الاستعمار لبلقنة العالم وتحويله إلى حروب طائفية ودويلات دينية تكون إسرائيل فيه الدولة اليهودية الكبرى.
-
(٨)
القضاء على التغريب والانحياز إلى الشرق أو إلى الغرب؛ وذلك عن طريق الإسلام باعتباره هوية قومية وأيديولوجية سياسية تحمي الأمة من التشيع والتمذهب والفرقة والاستغراب والبداية بالنظريات الجاهزة من حضارات الغرب أو الشرق، والبداية بحضارة الأمة، وتاريخها، وتراثها، وفكرها.
-
(٩)
تكوين دولة الفقراء والمحرومين والمعذبين في الأرض، ورد الاعتبار للأغلبية الصامتة، لجماهير الأمة الإسلامية وعوامها الذين أثْرت الثورات العربية على حسابهم وباسمهم؛ فالدولة الإسلامية هي دولة المساكين والجياع.
-
(١٠)
تكوين دولة المستضعفين في الأرض والمستعبدين للأقوياء حتى يكون الجميع أحرارًا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وحتى لا يتسلط إنسان على إنسان، ويكونوا جميعًا متساوين في التوحيد، يحتكمون لقانون واحد، بعد أن أصبحت الحرية مجرد شعار بلا مضمون.
-
(١١)
إحياء الأطراف في الأمة الإسلامية وعودتها إلى القلب بعد عودة الحياة إليه؛ فالمسلمون في أواسط آسيا وفي الملايو والفلبين وتايلاند وبورما وفي أفريقيا وفي أمريكا الشمالية وفي شرق أوروبا ما زالوا بوجدانهم مع قلب الأمة الإسلامية في الوطن العربي؛ ثقة يمكن استثمارها، وواجب يتحتم القيام به. فما زالت القاهرة ودمشق وفاس ومكة والمدينة وبغداد في قلوب الملايين خارج الأمة العربية؛ رصيد لها يمكن استثماره.
-
(١٢)
والثورة الإسلامية هي الأكثر عمقًا في قلوب الناس، تموت في سبيل لا إله إلا الله لتنال الشهادة أكثر من استعدادها للموت في سبيل القومية … ومن الحكمة الاعتماد على أعماق الناس وليس على مستوياتهم المسطحة.
-
(١٣)
تحقق الثورة الإسلامية الاستمرار التاريخي والتواصل الحضاري للشعوب في التاريخ؛ فهي أكثر امتدادًا في جذور التاريخ من القومية لارتباطها بالفكر والمبدأ. فتنتقل القبائل من مكان إلى مكان في حين يبقى الفكر في كل مكان، وتندثر الشعوب والقوميات في الزمان في حين يبقى الفكر في كل زمان.
-
(١٤)
وبالتالي يمكن للثورة الإسلامية أن تقدم مشروعًا تتجاوز به المشروع القومي، تكون الأمة الإسلامية فيه، وقلبها الأمة العربية، مركز الثقل في العالم، قلب ينبض وحوله جسم تدب فيه الحياة من جديد، حتى تنهض الأمة وتعيد سيرتها الأولى، في عالمٍ بدأ الحوار يدب فيه بجناحيه المهيضين شرقًا وغربًا. وتعطي الأمة نموذجًا لإنسانية جديدة وتقدِّم فكرًا لا يعرف حدود الأجناس والقوميات، وتكون من جديد وريثة للحضارة الإنسانية التي ساهمت في صنعها.
وعلى هذا النحو تكون العلاقة بين القومية والإسلام ليست فقط علاقة تمايز وتكامل بل علاقة تمايز وتجاوز، وقد يكون التجاوز أحد مظاهر الاكتمال.
الإسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية٢
يمكن جمع الملاحظات كلها في محاور أربعة:
الموضوع والمنهج والأسلوب
-
(أ)
موضوع البحث غير محكم، وربط بين موضوعات أربعة يصعب إحكام تحليلها معًا. ويتم علاج كل موضوع بطريقة مختلفة؛ فالإسلام دين العرب وليس دين غيرهم، في حين أن المسيحية دين العرب ودين الغرب، والقومية العربية دين الجميع، فيها خروج عن الإسلام وتأكيد للمسيحية العربية. أما العلمانية (أثر من أثار الغرب) فهي التي يصب فيها الجميع. وهكذا يتم الجمع بين موضوعات تاريخية ودينية وسياسية بطريقة غير منزهة عن الغرض والهوى.
-
(ب)
لم يخضع البحث لقواعد المنهج العلمي أو اتباع أي منهج علمي محدد. لم يتبع المنهج التاريخي أو المقارن أو وصف الأفكار بل يغلب على البحث الطرقة الانتقائية من حوادث التاريخ لتأييد غرض الباحث الذي حدده مسبقًا دون انتظار لنتائج البحث، بالإضافة إلى أن البحث يقوم على خلط بين التاريخ والفكر خاصة فيما يتعلق بالإسلام. إذ يفرق الإسلام بين ما يحدث في التاريخ وبين الإسلام كمبدأ، على عكس المسيحية التي توحد بين نفسها وبين تاريخها. واستعراض تاريخ مفاهيم أربعة على مدى أربعة عشر قرنًا أو يزيد مما يفوق قدرة باحث بعينه في بحث محدد. لذلك خرجت كثير من الموضوعات على الموضوع الرئيسي؛ مثل حديثه عن التشريع الجنائي، ووضع المرأة، والصيام في الإسلام.
-
(جـ)
ويقوم البحث على أفكار مسبقة يغلب عليها التحامل على الحضارة الإسلامية والدفاع عن الحضارة المسيحية، والإعجاب المتناهي بالغرب وتقليد حلوله في العلمانية، واعتباره مهد الحرية والمساواة والرفاهية. كما لا يخلو من موقف طائفي متعصب على عادة مشاهير الآباء الذين درسوا الحضارة الإسلامية. وينقد الإسلام من خارجه وليس من داخله، وكأن الباحث أحد المصلحين الكبار. والباحث يعترف بأنه لبناني ماروني.
-
(د)
وقد كُتب البحث بأسلوب خطابي دعائي وكأنه خطبة في اجتماع شعبي أو موعظة في إحدى دور العبادة مثل: «إنه وضع محترم جدًّا، ولائق جدًّا»، أو مجموعة التساؤلات والنداءات الجماهيرية عن مآسي العرب. ولا يعني ذلك الإقلال من الحماس ولكن فرق بين حماس الخطابة ودقة العلماء.
الأحكام المتحاملة على الحضارة الإسلامية
-
(أ)
إن جميع الأحكام السلبية التي أطلقها الباحث على الحضارة الإسلامية، وما أكثرها من أول البحث إلى آخره! إنما ترجع إلى تخلف المجتمع وليس إلى الإسلام ذاته؛ مثل التسلط، واستعمال الدين لتبرير التسلط، والجهل وحرق المخطوطات وقلة المدارس، وعدم التسوية بين المسيحيين والمسلمين ومظاهر التفرقة في اللباس، ومنع حرية العبادة، فكل ذلك ضد الإسلام.
-
(ب)
الهجوم الشديد على الدولة العثمانية، هجوم شاسع، يؤخذ عادةً حجةً على الإسلام ذاته وليس وصفًا لتخلف المجتمعات الإسلامية وغيرها ومنها المجتمع العربي. بل يعزو الباحث الإصلاحات التي تمت في الدولة العثمانية إلى انتشار أفكار الثورة الفرنسية وليس إلى جهود المصلحين المسلمين، ولا يكاد يذكر عن الإسلام شيئًا كأحد الاتجاهات في الدولة العثمانية مثل الطورانية والعثمانية، والاتجاه العربي. ولا يكاد الباحث يذكر أية فضيلة للدولة العثمانية مثل الحفاظ على وحدة الأمة، والحفاظ على الهند من الاستعمار الغربي، ورفض بيع فلسطين أو استقرار الصهيونية فيها.
-
(جـ)
يُسقط الباحث كثيرًا من الأحكام الغربية على الحضارة الإسلامية؛ مثل ضرورة الفصل بين الدين والدولة بعد أن خلط المسلمون بينهما، في حين أصبح من المعروف عند جميع الباحثين ومنهم المستشرقون أن الإسلام لا يفرق بين الدين والدولة؛ لأنه دين ودنيا، عقيدة وشريعة. وإن وضع عبارة أن دين الدولة هو الإسلام لا يعني أي تطبيق للشريعة الإسلامية في الدول العربية، بل نفاق وتستُّر وتملُّق لحسِّ الجماهير الديني. وقانون الأحوال الشخصية مطبق في كل المجتمعات، سواء بها هذه العبارة في دستورها أم لا.
-
(د)
ربط الباحث الإسلام بالجزيرة العربية وجعله مرتبطًا بها، مما قد يعطي حجة للصهيونية بربط اليهودية بفلسطين، ويقضي على شمول الإسلام، ويجعله دينًا عربيًّا، للعرب فحسب. والعروبة عند الباحث تعني قومية تقوم على العرق والشعب والتاريخ، في حين أن العروبة في الإسلام تعني اللغة. كما أن الباحث كثيرًا ما يسقط من مفهوم القومية اليوم ويعني بها التعصب على التاريخ الإسلامي القديم؛ فالفكر ليس فيه عربي أو فارسي أو هندي. وأخشى أن يكون ذلك إسقاطًا من الجاهلية على الإسلام. كما أن الباحث يُؤَوِّل نهضة الإسلام اليوم على أنها نهضة للعرب، في حين أن الحركة كما تمثلت في الثورتين الإيرانية والأفغانية قد تمت خارج العالم العربي، وكذلك انتشار الإسلام في أوروبا وأمريكا.
-
(هـ)
يجعل الباحث الحضارة الإسلامية وكأنها قد قامت بفضل الترجمات عن الثقافات الأجنبية وخاصة اليونانية، ولولا هذه الترجمات لما قامت الحضارة الإسلامية، في حين أن علم أصول الدين وعلم أصول الفقه وعلوم التصوف والعلوم النقلية كلها قد قامت قبل عصر الترجمة، القرن الثاني الهجري. بل إن الفلسفة ذاتها التي كثيرًا ما يشار إليها على أنها هي التي ينطبق عليها هذا الحكم قد تمثلت الفلسفة اليونانية واحتوتها في إطار التصور الفلسفي العام للكون. فقد كانت شروح الفارابي وابن سينا وابن رشد أحد مظاهر هذا الاحتواء. ويؤكد الباحث أنه لولا نصارى الشام وما قاموا به من ترجمات لما كانت الحضارة الإسلامية، معطيًا كل الفضل للنصارى واليونان. في حين أن النصارى قد قاموا بذلك بدافع إسلامي، وهو التعرف على ثقافات الغير وعدم العزلة عنها ورفضها رفضًا مسبقًا.
-
(و)
توجد بعض الأحكام العلمية الخاطئة مثل «منذ النصف الثاني من العصر الأموي نشأت المذاهب الكلامية كالإرجاء والاعتزال، ثم مذاهب الشيعة والخوارج»، في حين أن المذاهب الكلامية نشأت منذ الفتنة والحديث عن الإيمان والعمل والإمامة. أو الحكم على ابن الفارض وابن عربي وابن خلدون بأنهم أبدعوا بفضل اطلاعهم على التراث الأجنبي، في حين أن التصوف الإسلامي وفلسفة التاريخ عند ابن خلدون إسلاميان أصيلان لا أثر للتراث الأجنبي فيهما. وكذلك القول بأنه «بين وفاة ابن رشد وظهور ابن خلدون، قرن ونصف قرن ليس فيها فلسفة عامة ولا علم مبتكر»، في حين أن علم الكلام الفلسفي تأسس في هذه الفترة عند المرازي (٦٠٦ﻫ) والآمدي (٦٣١ﻫ) والبيضاوي (٨٦٥ﻫ) والإيجي (٧٥٦ﻫ) والتفتازاني (٧٩١ﻫ). كما أن الباحث يتجاوز بأحكامه الحضارة الإسلامية إلى القرآن والحديث نفسهما معلنًا أنهما مملوءان بالعناصر اليهودية والمسيحية موحيًا بأنهما مستقيان منهما، في حين أن القرآن يتحدث عن الديانات التي عرفتها الجزيرة العربية قبل الإسلام. ويسمي الأزهر معهدًا أسوة بالمعاهد الدينية في الغرب.
الأحكام المتحيزة للمسيحيين العرب
-
(أ)
يذكر الباحث القبائل المسيحية العربية في شمال الجزيرة العربية في الشام وكأن المسيحية هي الدين العربي السابق على الإسلام، في حين أن المسيحية واليهودية كانتا هامشيتين في الجزيرة العربية، على حين كان الحنفاء في قلب الجزيرة في مكة خاصة ينالون احترام العرب جميعًا. والإسلام إن هو إلا استمرار للحنيفية. كما يذكر أيضًا أن المسيحيين كانوا هم الرواد الأوائل للحضارة الغربية في عصر النهضة وحملة العلم العربي، ويذكر أيضًا أسماء المعلمين الأوائل. والحقيقة أن هؤلاء كانوا يتعلمون في الغرب ويعلمون في الغرب، وكانوا يبشرون بمآثر الحضارة الغربية عند العرب أو يعلمون العرب العلم الغربي على طريقة المستشرقين.
-
(ب)
يجعل الباحث وضع المسيحيين أيام الحكم العربي (الدولة الأموية) والحكم العثماني على نفس المستوى، وكأن اضطهادهم داخل الحكم الإسلامي قضية مبدأ أو عقيدة. ويصف مظاهر هذه التفرقة الطائفية بأن المسيحيين كانوا هامشيين في الحياة الوطنية، وجواز زواج المسلم من مسيحية وتحريم زواج المسلمة من مسيحي، وتمييز المسيحي في المجتمع الإسلامي بلباس معين، وتحريم تعليم لغتهم وتاريخ بلادهم ودينهم وإنكار حقهم في تكوين أمة. وكل ذلك أحكام تجافي الصواب. فلم يرَ المسيحيون أو اليهود عصر ازدهار حضاري إلا في ظل الحكم الإسلامي. وتاريخ الأندلس معروف للجميع. وللمسيحيين مكان الصدارة في الثقافة والتجارة ويكونون إحدى شرائح الطبقات العليا المتميزة في الموطن العربي. وكانوا روادًا للحركة الوطنية المصرية والثورة التقدمية العربية. وزواج المسلم من مسيحية وليس العكس جزء من الشريعة الإسلامية، وحكمته في ضرورة طاعة الزوجة للزوج. ولا أظن أن هناك قيودًا على تحريم لغات المسيحيين أو دينهم أو تاريخهم. وإذا كان المسلمون أمة فإن المسيحيين لهم ملكوت السموات ولا يضيرهم ذلك في شيء.
-
(جـ)
إن الإصلاحات التي يذكرها الباحث لأحوال المسيحيين تحت الحكم العثماني تدل على ارتباط أوضاع المسيحيين بالنظام السياسي وليس بالوضع الديني، وإن اضطهاد المسلمين من قوميات أخرى غير تركية (الأرمن مثلًا) كان لا يقل عن بعض مظاهر اضطهاد المسيحيين العرب. وبالتالي لا يمكن للباحث أن يأخذ مظاهر التخلف والتسلط المتغيرة كنظام سياسي ويجعلها ثابتة وكأنها مبدأ أو عقيدة في النظام الإسلامي.
-
(د)
ربما حمل المسيحيون العرب راية القومية العربية في الشام وبثها في مصر. فقد كانت مصر منذ القرن الماضي محط المفكرين والأدباء والصحفيين والفنانين الشوام؛ حماية لأنفسهم من الغالبية الإسلامية، أو تحت تأثير القومية الغربية وبدافع من علمانية الغرب للقضاء على حيوية الدين الإسلامي في قلوب المسلمين تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع» منذ شبلي شميل وفرح أنطون. والحقيقة أن الإسلام كان درعًا للمنطقة كلها ضد مخاطر الاستعمار منذ الحروب الصليبية حتى الثورة الإيرانية.
الأحكام الموالية للغرب
-
(أ)
الغرب عند الباحث هو مهد الحضارة، ومبعث المدنية، ومصدر أفكار الحرية والمساواة والرفاهية؛ مما يبين أثر التغريب على الباحث، وكأن آثار الاستعمار الغربي ليست في الأذهان، وكان الغرب اعتنق هذه الأفكار داخل حدوده وخارجها معًا. واعتبر الحضارة الإسلامية أحد روافد تقدم الغرب فهو المصب النهائي لتقدم الإنسانية. تعلَّمنا على يديه، ونشأت فينا مظاهر عقدة النقص وإحساسنا بالدونية أمامه. أحكامه علينا المنصفة منها ترضينا؛ فهو الحكم المنصف العادل. ويدل على ذلك وضع الباحث التاريخ الإسلامي ضمن التاريخ الميلادي.
-
(ب)
هذا الإعجاب الشديد بالغرب جعل الباحث ينسى مظاهر التخلف فيه من عنصرية وإجحاف بحقوق المرأة، خاصة في أمريكا، وفقر، وسيطرة، وحروب، ورشوة، واستغلال، وانحلال، ومادية، بشهادة الغرب نفسه … وكأننا ملكيون أكثر من الملك!
-
(جـ)
يقع الباحث في أسطورة الثقافة العالمية التي تتجاوز الثقافات المحلية. والحقيقة أن هذا مجرد وهم؛ فالثقافة العالمية إنما تعني الثقافة الغربية، وتصديرها لدى باقي الشعوب غير الأوروبية إمعانًا في التغريب والسيطرة؛ فالثقافات لا تكون إلا خاصة تعبر عن روح الشعوب وتاريخها وتراثها الوطني.
-
(د)
العلمانية هي أحد مظاهر التغريب. وقد قامت الثورة الجزائرية وحركة التحرر الفيتنامي وحركة تحرير أفريقيا والثورة الإيرانية على أساس ديني، بل إن حركة اللاهوت الأسود في أمريكا الشمالية والرهبان الشبان الثوار في أمريكا اللاتينية لبرهان على أن التقدم والثورة لا يحدثان في شعوب العالم الثالث بعيدًا عن الدين. ومن الطبيعي أن يدخل الدين في السياسة، ولكن المهم لصالح من: الأقلية أم الأغلبية؟ الأغنياء أم الفقراء؟ والحقيقة أن ما يطلب به الباحث في النهاية دولة للجميع دون تمييز أو تفرقة هو مطلب إسلامي خالص. فالأمة في الإسلام تتكون من جميع الطوائف، ولكلٍّ حقها ولغتها ودينها وشريعتها، وهي متساوية في الحقوق فيما بينها.
ريح الشرق: روح التكامل الحضاري بين القومية العربية والإسلام في صياغة عالم جديد٣
-
(١)
لا بد لي هنا من أن آخذ موقف الدفاع عن صديقي د. أنور عبد الملك. ومع أننا من منطلقين دينيين مختلفين إلا أن كلانا ينتسب إلى جمال الدين الأفغاني الذي استطاع أن يكون أستاذًا لأديب إسحاق ومحمد عبده لدرجة التنافس بينهما على أيهما أقرب إلى قلب الأستاذ. والحقيقة أن الدوائر المتداخلة ليست نظرية بل وصف لواقع الأمة. والجرأة على صياغة مصطلحات جديدة مثل غرب السويس وشرقه أو الحرب الاستعمارية الأوروبية تدل على تصورات جديدة وأصالة في إعادة صياغة المواقع بعيدًا عن مقولات الغرب الشائعة التي صاغها هو تعبيرًا عن مركزيته وعنصريته الدفينة.
لقد كان الأفغاني هو واضع شعار مصر للمصريين، ومؤسس الحزب الوطني في مصر، كما أنه كان داعية لوحدة وادي النيل، والوحدة العربية، والجامعة الإسلامية، والجامعة الشرقية. وكل ذلك وصف لواقع. فمصر هي مركز الثقل في الوطن العربي. وكلنا نشهد ذلك بعد احتجاب مصر وتفتت الوطن العربي وانقلاب بعضه على بعض. والوطن العربي مركز الثقل في العالم الإسلامي، والعروبة رصيد ضخم لدى الشعوب الإسلامية. والعالم الإسلامي في آسيا وأفريقيا أساس الثقل في الشرق: هذه الدوائر المتداخلة لا تنم عن أية إقليمية مصرية أو إعطاء للشرق أكثر مما يستحق. فقد كانت منطقتنا في علاقة مستمرة بالشرق منذ ظهور الإسلام. فقد انتشر الإسلام شرقًا إلى خراسان وأذربيجان، كما انتشر غربًا في مصر والمغرب العربي. وأتته هجمات التتار والمغول من الشرق كما أتته الغزوات الاستعمارية من الغرب. ولكن نظرًا لانشغالنا بنضالنا ضد الغرب فقد نسينا ارتباطنا بالجناح الشرقي.
ليست القضية إمكانيات فعلية أو سياسات منهارة في مصر تخرجها عن كونها مركز الثقل أو في الصين تفقدها دورها الآسيوي، بل القضية في وضع استراتيجية حضارية جديدة واكتشاف مكونات وعينا القومي، فالسياسة قبل أن تكون ممارسات وقرارات وانقلابات وعثرات، هي خيال سياسي، وصور في مقابل صور، ولا يقل «شعر السياسة» أهمية عن «علم السياسة».
-
(٢)
وإجابة على التساؤلات الأربعة التي طرحها د. إسماعيل سراج الدين فإنها ترتبط بالرسالة الثالثة التي يوجهها د. أنور عبد الملك في نهاية بحثه عن ضرورة التجديد والتطوير وإعادة بناء التراث طبقًا لحاجات العصر. فأهل الذمة في الإسلام أمة مثل المسلمين لهم شرائعهم ولغاتهم وعاداتهم وثقافتهم، يرتبطون مع الأمة الإسلامية بميثاق دفاع، فهم في ذمة المسلمين. وميثاق أهل المدينة نموذج على ذلك. بالإضافة إلى أن مصالح الأمة الآن تتجسد في ثلاث: تحرير الأرض، وإعادة توزيع الثروة للقضاء على هذا التفاوت الصارخ بين الأغنياء والفقراء، والقضاء على كل مظاهر التخلف. وهي حاجات تضم عناصر الأمة جميعًا ولا خلاف عليها؛ فالواقع هو السبيل لتوحيد الأمة بصرف النظر عن ثقافات كل أمة داخل الأمة الواحدة.
أما بالنسبة لحقوق الفرد وحقوق الجماعة، فحق الجماعة على الفرد طاعة الشريعة والالتزام بها. وحق الفرد على الجماعة الالتزام بتطبيق الشريعة ورعاية مصالح الأمة. فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. واجب الفرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وواجب الفقيه الحسبة، والجهر بالقول، والمعارضة.
أما بالنسبة للمرأة فهي ليست موضوعًا مستقلًّا؛ فلها الحقوق والواجبات الشرعية نفسها، ولها حق التعليم وعليها واجب المشاركة في بناء الأمة. تحتفظ بشخصيتها المعنوية بعد الزواج، ولها حق الإعالة والكفاية المادية لها وللأولاد. تعدد الزوجات استثناء عن القاعدة طبقًا لضرورات بيَّنها الشرع، والطلاق لا يجوز إلا لعلة يقره القاضي، وميراثها يُضم إلى الزوج بعد الزواج، تؤم الصلاة للنساء، وتحج مع محرم للصحبة والحماية، وشهادتها مرهونة بعلة النسيان، فإذا انقضت العلة بطل الحكم إذا كان اليقين ثابتًا في التذكر، ومظاهر التخلف عامة في مجتمعاتنا قد تعم الرجال أكثر مما تعم النساء.
الجامعة العربية والجامعة الإسلامية٤
-
(١)
بحث حماسي يثير القلب والعاطفة. ومع ذلك فإنه يقع في تناقض أساسي وهو الآتي: يبين الباحث أن القومية العربية كانت رد فعل على حركة التتريك والقومية الطورانية التي سادت في الدولة العثمانية. وبالتالي فهي رد فعل على فعل، فهي إذن مجرد عرض تاريخي وليس جوهرًا، في حين أن البحث كله يدافع عن القومية العربية باعتبارها جوهرًا ثابتًا في التاريخ.
-
(٢)
في هذا الحماس للقومية العربية يعيد الباحث تأويل التاريخ الإسلامي كله على أنه تاريخ عربي، ويتحول الإسلام إلى عروبة؛ فالقرشية لا تعني العروبة بل تعتمد على حديث النبي: «الأئمة من قريش». والخلاف حول القرشية سابق على تهديد العجمة للدولة العربية، ورفض المعتزلة لهذا الشرط لأسباب فكرية وليس من أجل الحفاظ على العروبة. كما أن رفض الخوارج له سابق في الزمان على رفض المعتزلة. بل إن الباحث في عرضه الشفاهي جعل الدولة الإسلامية الأولى دولة عربية في حين أن تعريب الدواوين لم يحدث إلا متأخرًا. وجعل الباحث الإسلام مجرد راية تنطلق العروبة تحته لوراثة الفرس الذين فشلوا في القضاء على الروم. ويعقد الشبه بين الفرس والترك. فكما قام العرب لتدمير الفرس قاموا الآن لتدمير الترك، وكأن الفرس الوثنيين والأتراك المسلمين على نفس المستوى.
كما فسر الباحث الحركات الإصلاحية السلفية وجعلها حركات عربية. فالمهدية والسنوسية والوهابية ليست حركات عربية بل إسلامية. يطالب المهدي بقتال الأتراك لأنهم حكام مسلمون ظلمة. وباسم الإسلام يطالبهم بذلك وليس باسم العروبة.
-
(٣)
يتصور الباحث الجامعة العربية على أنها وحدة سياسية وينكر هذه الوحدة على الجامعة الإسلامية، فيعطي الأولى ما يسلبه عن الثانية دفاعًا عن الدولة القومية مثل د. خلف الله.
-
(٤)
دعوة الإخوان إلى الحكم بما أنزل الله أو الحاكمية لا تعني الحكم باسم الحق الإلهي كما هو الحال عند الشيعة بل تعني حاكمية الشريعة.
-
(٥)
وفي ذات الوقت الذي يدافع فيه الباحث هذا الدفاع المستميت عن القومية العربية، والذي من أجله يغفل حقائق التاريخ، فإنه يبين مثالب العروبة الخالصة مثل القومية العرقية، والعلمانية، والتغريب.
-
(٦)
ويكون الهدف إذن هو إقالة الفكر القومي من عثراته عن طريق تطعيمه بالفكر الإسلامي، حتى يصبح الفكر القومي أكثر قبولًا واستمرارًا وثباتًا وتأصيلًا. وبالتالي يكون السؤال: ولماذا تصحيح الخطأ بالصواب دون إثبات الصواب مباشرة؟
نحو صيغة جديدة للعلاقة بين القومية العربية والإسلام٥
-
(١)
يغلب على البحث أحيانًا، خاصة في آخره، بعض التوجيهات السياسية، وهو ما يتعارض مع روح البحث العلمي التقريري.
-
(٢)
يعقد البحث مقارنة ومشابهة بين الجامعة الإسلامية والحركة الصهيونية باستثناء قضية الأرض والعنصرية. والمقارنة غير صحيحة؛ فالجامعة الإسلامية قائمة في رقعة واسعة مترامية الأطراف وليست تجميعًا من الشتات. وهي حركة تحرر ضد الاستعمار وليست صنيعة الاستعمار. وهي تصور موضوعي للأمة الإسلامية وليست تصورًا رومانسيًّا، يخرج من الكتاب والسنة وليس من تأويل خاص للتوراة، وتصدر عن الحضارة الإسلامية وليس عن الحضارة الغربية.
-
(٣)
يرى البحث أن انفصال العرب عن الترك انفصال صحيح، قائلًا: «فكان تأييد الانفصال إذن بالنسبة إلى هؤلاء موقفًا إسلاميًّا مستنيرًا.» وانفصال الأمة وتقطع أوصالها لا يكون موقفًا مستنيرًا. كانت الاتجاهات الإصلاحية داخل دولة الخلافة هي الاتجاهات الإسلامية المستنيرة، والواقع لا يتحول إلى مبدأ، والضرورة لا تصبح شرعية.
-
(٤)
يطالب البحث في النهاية بالمعايشة والتوفيق بين العروبة والإسلام، باقتضاء علمانية العروبة وبتحديث الإسلام. وهو مطلب يتحقق ليس عن طريق التوفيق والتعايش والمصالحة، ولكن من داخل الإسلام ذاته: أسباب النزول التي تعني أولوية الواقع على النص. والناسخ الذي يعني التطور والتغير وتكييف النص حسب الواقع والقدرة. هذا بالإضافة إلى عقلانية المعتزلة، وجرأة ابن رشد في الطبيعة، ونهج الأصوليين الذي يبحث عن العلل المادية المباشرة للأحكام واعتبار المصلحة أساس التشريع، وأيضًا التصوف الذي يجعل الألوهية والعالم شيئًا واحدًا، والتحليل التاريخي لابن خلدون، وحصيلة الحركات الإصلاحية الحديثة في مواجهة الاستعمار والتخلف والتسلط والفقر. وبالتالي يكون تجديد التراث هو الوسيلة عن طريق إعادة الاختيار بين البدائل الموجودة عند القدماء من أجل تحقيق مطالب العصر في العقل والعلم والحرية والديمقراطية والتقدم؛ فالعلمانية تأتي من تجديد التراث، وليس من خارجه تقليدًا للغرب.
الإسلام وانتشار اللغة العربية والتعريب٦
البحث رائق وصافٍ، موضوعي ونزيه، ولكنَّ لي تعليقين:
-
(١)
بالرغم من أن البحث يعطي مادة علمية دقيقة عن الموضوع تاريخ التعريب وانتشار اللغة العربية باسم الإسلام والهجرة خارج الجزيرة، واعتبار العودة إليها من الكبائر، وتعريب الريف والمدن، فإن صلة هذه المادة بموضوع القومية العربية والإسلام، موضوع الندوة لم يظهر. وكان يمكن أخذ دلالات فعلية من التاريخ تساعدنا نحن على فهم الصلة بين القومية والإسلام.
-
(٢)
كان يمكن لهذه الدلالة أن تظهر ابتداء من الفقرة الأخيرة في البحث، عندما حدد الباحث العوامل التي ساعدت على وقف حركة التعريب في ثلاثة عوامل؛ الأول: تجمع العرب في المدن وعدم انتشارهم في الريف. وبالتالي تكون مهمتنا نحن ليس البقاء في القاهرة ودمشق وبغداد والرباط، ولكن الانتشار في أواسط آسيا وجنوب السودان لاستكمال عملية التعريب. والثاني: وجود تراث ثقافي حضاري في البلاد المفتوحة أنشأ وعيًا تاريخيًّا لدى الشعوب. وبالتالي تكون مهمتنا هي الاطلاع على هذه الثقافات — كما فعل البيروني مع الهند، والغزالي وابن سينا مع فارس — وتمثلها واحتواؤها داخل الحضارة الإسلامية. والثالث: وجود لغة أدبية عند الشعوب جعلها لغة مستعملة دون العربية. وبالتالي تكون مهمتها هي تعلم هذه اللغات الإسلامية وانتشارها حتى لا نكون كما نحن عليه الآن ضحايا للغرب، نتعلم الإنجليزية والفرنسية والألمانية ولا ندرس الفارسية أو التركية.
-
(٣)
لدينا نحن العرب رصيد ضخم لدى الشعوب الإسلامية غير العربية؛ فالعروبة لهم شيء مقدس يتبركون به، والعربية لغة القرآن والعلوم والثقافة الإسلامية، ولغة الحضارة والرقي، يتكلمها المسلمون في الفلبين وأواسط آسيا في إيران وأفغانستان وباكستان والهند وتركيا في العلوم، وإن كانت تنقصهم الممارسة في الأسواق والحياة العامة. وهو رصيد ضخم يمكن للفكر القومي استثماره دون ضياعه بالانغلاق في حدود القومية.
موقف القوى الخارجية في مواجهة العروبة والإسلام: نظرة تاريخية٧
البحث علمي تاريخي رصين، يقوم على موقف إسلامي وطني، يجمع بين الدقة والمسئولية. ولكنه يوحد بين العروبة والإسلام عن طريق الجمع بين الخصوص والعموم. لذلك تتردد باستمرار هذه العبارة الشائعة «في المعالم العربي خصوصًا والعالم الإسلامي عمومًا». والحقيقة أن الهجمة الاستعمارية على الأمة الإسلامية لم تفرق بين العموم والخصوص، وكان استعمار إسبانيا والبرتغال لإندونيسيا والفلبين واستعمار بريطانيا للهند وأفغانستان لا يقل ضراوة عن استعمار بريطانيا وفرنسا للوطن العربي. وكان الالتفاف حول أطراف العالم الإسلامي من البحار لا يقل ضراوة عن ضرب القلب من البر في فلسطين. وبهذه الطريقة يمكن للباحث الهندي أن يصف تاريخ الاستعمار قائلًا أيضًا: الهند خاصة والعالم الإسلامي عامة. وكذلك الباحث الإندونيسي عندما يقول: إندونيسيا خاصة والعالم الإسلامي عامة … وهكذا. والحقيقة أن الهجمة على العالم الإسلامي إنما كانت بنفس القوة ولنفس الأسباب دون تمييز بين عموم وخصوص.
ولا يعيب الورقة النظرة الشاملة ولا يعيبها غياب المراجع؛ فالشمول نظرة علمية، والتاريخ ننتقي منه ما نشاء وفقًا لأهداف الباحث، مع الدولة العثمانية أو ضدها … فإذا كانت ورقة د. أنور عبد الملك بها «شعر السياسة» فهذه الورقة بها «وجدان السياسة»، تضع قضية الغرب واللاغرب في سياقها التاريخي الحضاري. والتحدي الإسلامي الحضاري هو التحدي للغرب؛ لأن الإسلام هو القادر على إعطاء هوية للشعوب غير الأوروبية أكثر من حضارات لا أوروبية أخرى في أفريقيا وآسيا نظرًا لطبيعته في «إثبات العالم»، وليس نفيه.
نظرة القوى الخارجية وتحركها في مواجهة القومية العربية والإسلام: نظرة معاصرة٨
-
(١)
البحث يقوم على تحليل علمي رصين هادئ من أستاذ متخصص في العلوم العسكرية والسياسية، ويقوم على خبرة وممارسة طويلة في عصر مواجهة الناصرية للاستعمار؛ فهو وثيقة تاريخية علمية وطنية. ولكن أحيانًا وفي كل صفحة تقريبًا يذكر الوطن العربي والإسلامي كمترادفين، وهو الشائع والأغلب، وأحيانًا أخرى يذكر العالم العربي بمفرده، أو العالم الإسلامي بمفرده وهو الأقل شيوعًا؛ مما يدل على أن العالمين في وجداننا المعاصر إما مترادفان أو متداخلان تداخل الجزء في الكل. وبالنسبة للاستعمار فإنه لا يفرق بين هذه العوالم، لأنها بالنسبة إليه مناطق غير أوروبية هدفه السيطرة عليها واستغلال مواردها. وبالتالي تكون نظرية الدوائر المتداخلة المشهورة في «فلسفة الثورة»، التي أعاد صياغتها الدكتور أنور عبد الملك أفضل صياغة حتى الآن للصلة بين القومية العربية والإسلام، وتحل في وجداننا المعاصر هذا الاشتباه بين الترادف والتزاوج.
-
(٢)
يذكر البحث في الصفحات الأولى مادة لإثبات «الصدمة الحضارية». وبالرغم مما لذلك من أهمية لإيقاظ الوعي بالمستقبل إلا أنه قد يخيف ويعطي الإنسان الإحساس بالعجز والدونية، وهو ما يريده الغرب من الإيحاء إلى الشعوب غير الغربية باليأس من اللحاق بالغرب.
-
(٣)
تنبؤ الغرب باندثار القوميات من أجل القضاء على الخصوصيات القومية لصالح وحدة التكنولوجيا ووسائل العلم الحديثة، حتى يكون للغرب باستمرار اليد العليا، وهو المسيطر على آخر إنجازات التكنولوجيا الحديثة، كذلك الانتقال من القرية العالمية إلى المدينة العالمية.
-
(٤)
انتباه الغرب إلى تحطم القومية العربية في جوهرها وهو الإسلام؛ أي حضارة الأمة وروحها وتاريخها وهويتها.
التكوين التاريخي لمفاهيم الأمة، القومية، الدولة، والعلاقة بينها٩
-
(١)
حدد الأصوليون القدماء معاني اللفظ بثلاث: المعنى اللغوي أو الاشتقاقي، والمعنى الاصطلاحي، والمعنى العرفي. وقد ركز الباحث على المعنى الأول فقط دون المعنيين الآخرين. في حين أن الأمة مثلًا، في المعنى الاصطلاحي، تعني أن المسلمين أمة وأن النصارى أمة وأن اليهود وأن المجوس أمة، فهناك الأمة الكبرى التي تتألف من تحالف الأمم برباط قانوني. لكل أمة حقها في حرية العبادة (ممارسة لغتها وعاداتها وتقاليدها) ولها حق الحماية على الأمة الكبرى. أما المعنى العرفي فإنه كثيرًا ما يكون مستعملًا وشائعًا. وأحيانًا يجب المعنى اللغوي نظرًا لغلبة الاستعمال. وبالتالي كان من الصعب استبعاد المعاني الشائعة للمصطلحات الأربعة عند الباحثين.
-
(٢)
لا يعني الحكم في آيات الحكم من القرآن فقط فض الخصومة من المنازعات، بل يعني الحكم أيضًا بالمعنى السياسي. بل حتى على التسليم جدلًا بأن لفظ الحكم لا يعني إلا هذا المعنى فإنه إذا وقعت الخصومة في الحكم السياسي فإنه يجب الحكم بما أنزل الله؛ أي تطبيق الشريعة في حياة الناس، ومنها الدولة. كما يصر الباحث على أن تكوين الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية أيام الرسول إنما تم كنبوة وكرسالة وليس كدولة سياسية. وللعجب أنه يقصر السلطة السياسية على الدولة القومية؛ أي القومية العربية، ويستبعدها عن الأمة الإسلامية والتي تقصر الرابطة فيها على الدين أو التضامن. ومن ثم يكون هناك صراع على السلطة بين الفكر القومي والفكر الإسلامي في ذهن المفكر القومي، فإنه يأخذها لنفسه ويسلبها من غيره.
مستقبل العلاقة بين القومية العربية والإسلام١٠
-
(١)
يحاول البحث التوفيق بين القومية العربية والإسلام بتسمية الحضارة الإسلامية الحضارة العربية الإسلامية، وهذه قضية علمية لا شأن لها بانتماءاتنا السياسية والعقائدية واختياراتنا المذهبية؛ فالحضارة مكتوبة باللغة العربية وغير العربية، وساهم فيها عرب وغير عرب، وساهم فيها العرب بعد أن تحولوا إلى الإسلام: فلم يكن لهم قبلة إلا الشعر والتجارة والرعي. والخوف أن نتابع المستشرقين فيما أرادوه عندما تحدثوا عن الحضارة الفارسية، والحضارة الهندية، والحضارة التركية؛ تجزئةً للحضارة الإسلامية وتقطيعًا لأوصالها.
-
(٢)
ما زال كثير من الباحثين يضنُّون على الأمة الإسلامية بالوحدة السياسية في حين أنهم يثبتونها للأمة العربية، وللعرب عند المسلمين رصيد ضخم لا يمكن تجاهله وإنكاره والانعزال عنه وتركه. وربما لأن الفكر القومي يدافع عن نفسه ويريد أخذ السلطة. وبالتالي فإنه يبدأ بالهجوم على الأمة الإسلامية لنزع السلطة السياسية عنها، فهناك نوع من الصراع على «السلطة» داخل الفكر القومي، لأنه يشعر بأنه مهدد بالفكر الإسلامي …
دور الإسلام والعربية (لغة وثقافة) في تكوين مقومات القومية العربية وفي بعث الوعي القومي العربي١١
-
(١)
من حيث المنهج والأسلوب، يغلب على البحث الأسلوب المعياري الذي يبدأ بالوجوب والانبغاء، وليس الواقع وما هو كائن. وبالتالي غلب عليه إسداء النصح والوعظ كما غلبت بعض العبارات الإنشائية العامة مثل «فهناك حكومات من العالم الثالث تسلك غير سبيل الحكمة والرشاد».
-
(٢)
في الجزء الأخير من البحث عن القومية العربية وعلاقتها الخارجية هناك خلط بين القومية العربية وسياسات الدول العربية. هذه السياسات متغيرة تخضع للمصالح المتبادلة في حين أن القومية العربية مكون تاريخي ثابت. وإذا كانت القومية العربية في صراع مع المعسكر العربي نظرًا للتناقض بين التحرر والاستعمار فإنها قد لا تكون أقل صراعًا مع المعسكر الاشتراكي، إذا ما حاول أن يغلب مصالح الدولة على مقتضيات الثورة، وإذا ما نقض مبادئ الاستقلال الوطني وحق تقرير المصير لكل الشعوب. ومثال أفغانستان وأريتريا ليس ببعيد.