الأيديولوجية الصهيونية١
بالرغم من الصراع المحتدم بيننا وبين العدو الصهيوني إلا أن الكتابات عن الصهيونية ما زالت قليلة بالنسبة إلى حجم الصراع، باستثناء المجهودات الضخمة التي يقوم بها مركز الأبحاث الفلسطينية. في حين كثرت الدراسات في الغرب خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حول الصهيونية وجذورها في العصر التوراتي؛ حتى تبلورها كأيديولوجية سياسية في القرن الماضي والمراجعات حولها والنقد الذاتي من داخلها بعد تأسيس الدولة الصهيونية وحروبها المستمرة وتضخم المشاكل فيها، وطرح السؤال الأول من جديد: هل خلق دولة صهيونية حل للمشكلة اليهودية؟ وهل يمكن إقامة دولة يهودية بلا صهيونية؟ وهل يمكن حل مشكلة الشعب اليهودي وخلق مشكلة أخرى؛ شعب فلسطين؟
لذلك أتى هذا الكتاب الضخم المكون من جزأين ليملأ فراغًا في المكتبة العربية تجاه قضية العرب الكبرى وفي صراعهم الأول مع العدو الصهيوني، ويعطي مادة غزيرة للقارئ العربي هو بالفعل في حاجة إليها. ويتكون الكتاب من مقدمة واثني عشر فصلًا وملحق في المنهج وحواشي ومراجع عديدة تبلغ في حد ذاتها فصلًا، ونبدأ بالعرض ثم نتلو ذلك بالمناقشة.
وتضع المقدمة منذ البداية موقف الباحث بين العلم والالتزام. مثقف تقدمي بين الحياد والمسئولية؛ فالكتابة من باحث عربي بالضرورة، في موضوع يخص المأساة الأولى لجيله يصعب فيه التجرد العلمي التام والموضوعية الحرفية الصرفة؛ فالعواطف مشحونة، والدماء تسيل كل يوم. ويعترف الباحث صراحة في المقدمة وبكل شجاعة بصعوبة الحياد الأكاديمي، وبضرورة التوجه برسالة إلى القارئ. والحقيقة أنه لا تناقض بين البحث العلمي والالتزام القومي: فالعلوم الاجتماعية هي أساسًا علوم قومية.
ويتناول الفصل الأول جذور المسألة اليهودية قبل العصور الحديثة وارتباط اليهود بالمجتمع التجاري القائم على الربا، كما يتناول حياة الجيتو وأثرها على التكوين النفسي اليهودي، وينتهي بعرض أهم عناصر الدين اليهودي وفي مقدمتها عقيدة الخلاص وظهور المخلص «الماشيح» الذي حولته الصهيونية السياسية من شخص إلى دولة.
وتناول الفصل الثاني حركة التنوير «أسكالا» ويركز على أسبابها الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سببًا في نشأتها مثل ازدياد التجارة وتغير أشكال الإنتاج الصناعي، والثورة العلمية والرياضية. وظهور الطباعة، وتخلخل النظام الطبقي في المجتمعات الأوروبية واتساع لأفق الجغرافي والفكري للإنسان الأوروبي.
ويتعرض الفصل الثالث إلى الردة عن التنوير وهزيمة العقل اليهودي، والعودة إلى الخصوصية اليهودية القائمة على العرق والاختيار الإلهي بدلًا من النزعة الإنسانية العقلانية الأخلاقية. وتمتد الردة إلى النواحي الاقتصادية والسياسية ورفض الدعوة إلى التمثل والاندماج بدعوى تجنب مخاطر الذوبان والدفاع عن الخصوصية.
ويحلل الفصل الخامس ارتباط الفكرة الصهيونية بالاستعمار الغربي وكيف أنها نشأت إبان المد الاستعماري الأوروبي في القرن لماضي، ويصف السمات الرئيسية لهذا الاستعمار الجديد وهي أنه استعمار استيطاني، عميل مرة لفرنسا ثم لإنجلترا ثم للولايات المتحدة وفي نفس الوقت منفصل عن الاستعمار الأوروبي، يستقل عنه ويعتمد عليه في نفس الوقت. وهو استعمار توسعي يبتلع الأرض ويقتلع السكان. وتقدم الصهيونية حججًا عديدة تبررها هذه السمات؛ منها عبء اليهودي الأبيض، وعبء اليهودي الخالص، وعبء اليهودي الاشتراكي. وهي كلها حجج تدل على النزعة العنصرية البيضاء التي تقوم على السيادة والهيمنة.
ويحدد الفصل السادس بنية الأيديولوجية الصهيونية عن طريق تعديد مدارسها واتجاهاتها، ويعين العناصر الدائمة والحركة فيها مثل رفض الدين اليهودي واستغلاله سياسية والاعتماد على الغيبيات والأساطير.
ويحلل الفصل السابع نماذج من الغيبيات العلمانية أي العقائد الأسطورية التي تم توظيفها لخدمة الأغراض السياسية مثل النبي والنبوة والتاريخ سواء المقدس أو تاريخ الأقليات اليهودية والأرض كأحد جوانب ثالوث: الله، الشعب، الأرض، واستمرار إسرائيل في التاريخ ونقائها وهويتها المتميزة …
وبهذه الفصول الثمانية ينتهي الجزء الأول. وهو على هذا النحو أكبر حجمًا من الجزء الثاني.
ويضم الجزء الثاني الفصول الأربعة الأخيرة مع الملحق المنهجي والهوامش والمراجع. وهي تتعلق بالوضع الحالي للصهيونية ونشأة الدولة. فيتناول الفصل التاسع الفرق بين الصهيونية واليهودية. ويتناول الوضع القانوني للصهيونية وكيفية تصورها للخلاص الجبري، وما نتج عن ذلك من نقل اليهود وإزاحة السكان. ويقارن بين الصهيونية والنازية راصدًا الخصائص المشتركة بينهما كالعنصرية والهيمنة والنقاء والعنف.
ويكشف الفصل العاشر عن مدى الاستجابة اليهودية للصهيونية ورفض بعض التيارات لها مثل الاندماجية حفاظًا على مثل التنوير والأرثوذكسية، تمسكًا باليهودية كتراث روحي، والاشتراكية دفاعًا عن المضطهدين في كل مكان، وقومية الشتات التي ترى في كل جماعة يهودية قومية مستقلة داخل القوميات. كما يعرض الفصل لتعريف الصهيوني بأنه من الشتات إلى أرض المعاد ليكمل تعريف اليهودي بأنه مَن كانت أمه يهودية.
ويتعرض الفصل الحادي عشر إلى تحويل الصهيونية إلى دولة وبداية نقل السكان العرب والممارسة العنصرية تجاه شعب فلسطين وسن قوانين العودة والجنسية والاستيطان في الأرض والعمل الجماعي وتكوين النقابات.
ويكشف الفصل الثاني عشر عن بعض أصوات المعارضة للدولة الصهيونية للتخفيف من الحدة الأولى دون المساس بالطابع الصهيوني للدولة.
والحقيقة أن الكتاب على هذا النحو يعد مصدرًا وافيًا لحركة الصهيونية منذ نشأتها حتى قيام الدولة العبرية. ومع ذلك فيمكن إبداء بعض الملاحظات النقدية على النحو الآتي:
-
(١)
معظم مادة الكتاب مترجمة عن مراجع أجنبية حتى حججها واستدلالاتها ومناقشاتها، حتى إن المؤلف لم يعد له شيء خاص به، واقتصرت مهمته على التجميع. ويدل على ذلك كثرة الهوامش؛ فكل فقرة لها مصدرها. ويزداد الأمر صعوبة لوجود الهوامش في آخر الجزء الثاني في مكان واحد وليس في أسفل الصفحة مما يصعب عملية المراجعة والمتابعة.
-
(٢)
تبدو المعلومات أحيانًا وكأنها غير موجهة نحو الغرض الرئيسي للكتاب، وهو دراسة حالة من منظور علم اجتماع المعرفة، وكأنها مجرد معلومات من أجل المعلومات حتى إنه ليصعب استذكارها أو تذكرها أو تكرارها. ينقصها أحيانًا الخيط القائد والموجِّه لها نحو العرض المطلوب إثباته.
-
(٣)
المنهج المتبع والمعلن عنه صراحة هو المنهج الذي يعتمد على تحليل الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والمنهج المادي وإن كان مفيدًا في كثير من الأحيان إلا أنه يبدو محدودًا إن لم تقترن به مناهج أخرى مساعدة مثل التحليل الفكري الخالص للمفاهيم والتصورات ووصف أثر المعتقدات الشعبية على سلوك الناس وتكوين التجارب التاريخية. ويتضح ذلك تمامًا في تفسير حركة التنوير، وهي حركة فكرية، بتغير الأبنية الاقتصادية في القرن الثامن عشر.
-
(٤)
العنوان الفرعي وهو «دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة» يوحي بالمنهج الاجتماعي الدراسة الصهيونية باعتبارها مجموعة من الأفكار والعقائد التي ظهرت في بيئة اجتماعية معينة. ولكن هذا المنهج المعلن عنه لم يتم استعماله من خلال فصول الدراسة. إنما أعطت الدراسة معلومات تاريخية بطريقة السرد الخبري دون تحليل الوقائع الاجتماعية وجدليتها مع الأفكار والعقائد؛ لذلك أتى الملحق عن المنهج في النهاية ليعطي مادة عن علم اجتماع المعرفة لإكمال هذا النقص في تطبيق المنهج، ولكنه ظل جزءًا منفصلًا عن البحث، وكأن الأيديولوجية الصهيونية في جانب وعلم اجتماع المعرفة في جانب آخر.
-
(٥)
تمتد جذور المسألة اليهودية إلى ما هو أبعد من التاريخ القديم في أوروبا من العصر الوسيط إلى العصر التوراتي؛ فالصهيونية؛ أي النزعة الخصوصية بارزة في التوراة منذ البداية. وبالتالي غابت فكرة مراحل الفكر اليهودي في التاريخ من عصر التوراة حتى تكوين التلمود ثم ظهور الكتب الأخرى كالمشناه والمدراش، وكل ذلك قبل العصور الوسطى الأوروبية.
-
(٦)
لم يظهر جدل الخصوصية Particulorism والشمول Universalism في ثنايا الكتاب؛ وهما عنصرا التوتر والجذب على مدى التاريخ اليهودي كله، سواء في العصر التوراتي أو في العصور الوسطى أو في العصور الحديثة. فإذا كانت الأسفار الخمسة تمثل النزعة الخاصة فإن كتب الأنبياء تمثل النزعة الشمولية. وإذا كانت الكتب الشفاهية الأخرى تمثل النزعة الخاصة فإن الفكر اليهودي في الأندلس كان يمثل النزعة الشمولية. وإذا كان عصر التنوير يمثل النزعة الشمولية فإن الصهيونية تبلور النزعة الخاصة.
-
(٧)
الجيتو نتيجة النزعة العرقية وليس سببًا لنشأ الصهيونية فنظرًا لأن اليهود لا يعيشون إلا في عزلة عن الآخرين فإنهم آثروا العيش في جيتو (الفصل الأول).
-
(٨)
بنية الأيديولوجية الصهيونية غلب عليها رصد المدارس. والاتجاهات الفكرية في اليهودية دون التعرض لوصف البنية ومكانتها الرئيسية (الفصل السادس).
-
(٩)
ليست الغيبيات العلمانية فقط النبي والنبوة ولكن كل عقائد الاختيار والاصطفاء والوعد والميعاد والأرض (الفصل السابع).
-
(١٠)
نظرًا لأن المادة كلها مستقاة من الكتب والمراجع الغربية فظل الكتاب بجزأيه أسيرًا لها، بالرغم من وجود مادة أكثر تنوعًا مثل تلك التي تحتويها كتب الفرق والعقائد الإسلامية في تحليل الفكر اليهودي (مثلًا الفصل في الملل والنحل لابن حزم) كان يمكنها جعل البحث أكثر إثراء وأقل إيغالًا في التراث العربي.
ومع ذلك يظل الكتاب مصدرًا رئيسيًّا للأيديولوجية الصهيونية. وهو رسالة موجهة للقارئ العربي حتى يكون أكثر وعيًا بعدوه وأكثر استعدادًا له في الجولات القادمة.