عبد الناصر وقضية الصلح مع إسرائيل١
مقدمة
أولًا: الموضوع والمنهج والغاية
يبدو أن أقسى ما يمر بجيلٍ ما هو أن تهتز قناعاته، وتُثار الشكوك حول مبادئ نضاله، وينقلب في تصوره للعالم وفي وجدانه من الضد إلى الضد، وتكون القسوة على هذا الجيل المخضرم عندما ينقسم إلى شطرين، الشطر الأول خلقه بيديه، وناضل من أجله، واستشهد في سبيله، وما زال قادرًا على العطاء، تملؤه إمكانيات الاستمرار، والشطر الثاني مفروضٌ عليه، أتاه دون أن يتوقع، أدخل إليه كجسمٍ غريب فيه، والأخطر من ذلك أن يجعله يندم على ما فات، فما خلقه بيديه في شطره الأول كان وهمًا خادعًا، سرابًا بعيد المنال، حلمًا لا يتحقق، وما أدركه بشطره الثاني كان واقعًا حسيًّا ملموسًا، إدراكًا لبدنه وحياته، لغذائه وكسائه، لكسبه وغناه، وما كانت الآخرة لتغني عن الدنيا شيئًا، وذلك هو حال جيلنا، على الأقل في مصر، الذي انقلب مشروعه القومي من معاداةٍ للاستعمار والصهيونية والرجعية، ونضال من أجل الحرية والاشتراكية والوحدة، إلى تحالفٍ مع الاستعمار، وتسليم بالصهيونية، وترسيخ للرجعية، وقضاء على الحرية، والإعلان بأن الرأسمالية لم تعد جريمة، واحتجاب مصر. وبالتالي أصبح جيلًا مشطورًا إلى شطرين، ينتابه الذهول لهول ما يرى، يهاجر ويعارض ويصرخ في الخارج، أو يئن ويكتم صوته في الداخل، أو يعيد تكوينه بطريقةٍ ما، فقد يكون هو المسئول عما حل به.
والحجة التي يسمعها هي الآتية، وما الجديد في هذا؟ ألم يكن ما يحدث الآن نتيجة طبيعية للماضي؟ لطالما عارضنا الصهيونية فحاربتنا، وتوالت علينا ثلاث هزائم، وأصبحت إسرائيل أمرًا واقعًا، فكيف لا نعترف بمن يحتل الأرض، ويهدد بالتوسع والعدوان؟ لقد اعترف العالم أجمع بدولة إسرائيل شرقًا وغربًا، والواقع أكثر ثباتًا من المنى والأحلام. وظل مشروعنا القومي يتقلص يومًا بعد يوم، من تحريرٍ لفلسطين كلها، إلى إقامة دولة علمانية يتعايش فيها جميع الأديان، إلى إزالة آثار العدوان، إلى تكوين دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس العربية، إلى الحكم الذاتي، إلى غزة فقط … أي سلسلة من التنازلات لم تنته بعد. إلى متى هذا الرفض الخاسر؟ ولماذا لا نقبل الممكن اليوم، أي شيء ونحصل عليه ونتمسك به، ونجعل ذلك بداية طريق طويل لمزيدٍ من المكاسب حتى ولو كان الثمن باهظًا: اعتراف، وصلح، ومفاوضة! ويكون الأمر أكثر خطورة عندما يقال: وما الغريب في هذا التحول التاريخي. وقد كان جمال عبد الناصر مؤسس نهضة مصر الحديثة ورائد القومية العربية، وزعيم الأمة ومحقق وحدتها، والذي ما زالت الجماهير تهتف باسمه بصوتٍ عالٍ في العالم العربي، وبصوتٍ مكتوم في مصر، هو الذي بدأ هذا الطريق خاصةً بعد هزيمة العرب في يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وقبوله مشروع روجرز، وعدم رفضه لمبدأ التعايش السلمي مع إسرائيل إذا ما انسحبت من الأراضي المحتلة، وعادت إلى حدود ٥ يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، وحديثه عن الحل السلمي، واعتماده على قرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية، وبدايات غزله مع أمريكا، وضيقه من الروس، ورغبته في تحرير النظام الداخلي في مصر من قبضة الدولة على مظاهر النشاط الاقتصادي خاصة؟
ومن ثم يكون السؤال بالنسبة لنا هو الآتي: هل اهتزت قناعات جيلنا وثارت الشكوك في وجداننا عن هذه المبادئ التي كانت مسلَّمات في وعينا القومي، وعليها قام أكبر مشروع سياسي حديث منذ محمد علي في القرن الماضي؟ هل هناك تراجع في موقف عبد الناصر من قضية الاستعمار والصهيونية وطابعها العدواني التوسعي العنصري، أم أن هناك مبادئ أساسية لم تتغير حتى في أحلك فترات الهزيمة، التي كان الغرض منها فرض الصلح بالقوة على العرب والاعتراف بإسرائيل؟ هل كان يتصور الصراع بين القومية العربية والصهيونية صراعًا جوهريًّا أساسيًّا، لا بقاء لأحدهما إلا بفناء الآخر؛ فالتناقض بينهما مبدئي لا مرحلي، جوهري لا عرضي … أم أنه صراعٌ مؤقت يعكس ميزان القوى المحلية والدولية، ليس له أولوية مطلقة على باقي أشكال النضال العربي مثل التنمية والوحدة؟ هل كان عبد الناصر، بحديثه عن التسوية الممكنة، والتعايش السلمي، والحل السياسي، وبقبوله مبادرة روجرز في آخر عامٍ من حياته ينوي حقيقةً الصلح مع إسرائيل، أو الاعتراف بها أو التفاوض معها؟ ألم يعطِ مشروع روجرز الحد الأدنى من المطالب العربية: إزالة آثار العدوان، وأعطى إسرائيل كل ما تتمناه من اعترافٍ، وصلح، ومفاوضة، ومرور في الممرات المائية بما فيها قناة السويس؟ ألم يقبل ناصر مفاوضات غير مباشرة عن طريق مهمة السفير يارنج المبعوث الدولي وممثل الأمم المتحدة، أو بمباحثات الدول الأربع الكبرى، أو باتفاق القوتين العظميين، أو حتى بالحديث عن «صيغة رودس» عام ١٩٤٩م؟
مهمة هذا البحث إذن هي الإجابة على هذا السؤال، ليس بهدف الهجوم على شخصياتٍ عربية في موطن الحكم أو خارجه، حية أو متوفاة … بل لتحليل مواقف تاريخية في جيلنا، فما حدث لا خزي فيه ولا عار منه؛ لأنه أصبح واقعًا لا يمكن تجنبه، تتوارثه الأجيال، وتعي دروسه، ويكون جزءًا من خبراتها. وبالرغم من كونها موضوعات مكررة ومعروفة مثل الطابع العدواني لإسرائيل، تحالف الاستعمار والصهيونية، إسرائيل كرأس جسر للاستعمار، حقوق شعب فلسطين، قرارات الأمم المتحدة، مأساة ١٩٤٨م، العدوان الثلاثي في ١٩٥٦م، قضايا التسليح … إلا أنها هي التي شكلت الموقف العام، وحددت عناصر الإجابة على هذا السؤال: عبد الناصر وقضية الصلح مع إسرائيل؛ فالتكرار بالنسبة لنا قد يكون تثبيتًا لقناعاتنا وإبرازًا لعناصر موقف جيلٍ بأكمله.
ولا خوف أيضًا من الوقوع في الخطابة السياسية؛ فهي على كل حالٍ قد شكلت مفاهيم جيلنا ورؤيته للصراع. وقد لعبت دور الأيديولوجية لدى الجماهير العربية، نظرًا لغياب أيديولوجية نظرية محكمة بديلة. وقد كانت خطب عبد الناصر، وتصريحاته، وأحاديثه، ومؤتمراته الصحفية أحداثًا في عالمنا العربي وعلى الصعيد الدولي، مثل خطاب تأميم قناة السويس في ٢٦ / ٧ / ١٩٥٦م، أو مؤتمره الصحفي العالمي في ٢٨ / ٥ / ١٩٦٧م قبل الهزيمة بأسبوعٍ واحد. لذلك اعتمدنا أساسًا على هذه المادة لتحليل رؤيته لقضية الصلح مع إسرائيل.
ويمكن معالجة الموضوع بطريقتين:
- الأولى: تتبع مراحل فكر عبد الناصر وتطور مواقفه بالنسبة لقضية الصلح مع إسرائيل، ويتضح ذلك من سلسلة المعارك المتتالية التي خاضها في جملة نضاله السياسي ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية. كان البعض منها داخليًّا مثل ربطه بين الصهيونية والشيوعية إبان أزمة مارس في مصر ١٩٥٤م والصراع على السلطة، ولكن الأكثر منها كان خارجيًّا مثل ربطه أيضًا بين الصهيونية والشيوعية إبان خلافه مع «قاسم العراق» في ١٩٥٩م. ولكن المعارك الأساسية كانت في محاولة الصهيونية الوقيعة بين الثورة والغرب لمنع اتفاقية الجلاء في ١٩٥٤م، ومعركة كسر احتكار السلاح وصفقة السلاح التشيكي في ١٩٥٥م، والعدوان الإسرائيلي على غزة في ١٩٥٥م، والعدوان الثلاثي في ١٩٥٦م الذي جعل ناصر يربط بين الصهيونية والاستعمار، ويكشف عن طبيعتها العدوانية، ثم معاركه من أجل الوحدة في ١٩٥٨م، ومناهضة الصهيونية للقومية العربية، وتأييدها للانفصال في ١٩٦١م، ثم معاركه من أجل التقدم السياسي والاجتماعي وبناء الاشتراكية ومقاومة الرجعية؛ لإعادة البناء الداخلي للأمة العربية قبل دخولها معركة التحرير، تحرير شعب فلسطين من العدوان الصهيوني، ثم معارك تحويل مياه نهر الأردن في ١٩٦٤م، وسياسة مؤتمرات القمة، ومحاولة إقامة دفاع عربي مشترك، وإبراز الكيان الفلسطيني، ثم محاربة الصهيونية كحركة تحرر مضادة، وحصارها في آسيا وأفريقيا ودول عدم الانحياز في ١٩٦٤م، ثم معركته ضد ألمانيا وتسليح إسرائيل، وتعويضها والاعتراف بها في ١٩٦٥م، والوقوف أمام دعوة الصلح التي ألقى بها بورقيبة في ١٩٦٥م ثم الشاه والدعوة إلى الحلف الإسلامي في ١٩٦٦م، وأخيرًا صموده بعد هزيمة يونيو (حزيران) ١٩٦٧م، ورفض المفاوضات المباشرة، والصلح، والاعتراف، ورفضه الحلول الجزئية، وربط ذلك كله أولًا وآخرًا بقضية فلسطين وحقوق شعب فلسطين.
- والثانية: وهي التي اخترناها، بناء الموضوع ذاته بصرف النظر عن المواقف التاريخية، وجعله تصورًا ثابتًا ودائمًا حدد رؤية عبد الناصر، كان الدافع وراء قراراته يقوم أولًا على بيان المبادئ الأساسية والتناقضات الجوهرية بين القومية العربية والصهيونية، بين الاستعمار والتحرر، بين العدوان وحقوق شعب فلسطين، بين الرجعية والتقدم، ثم يبني ثانيًا النتائج المنطقية والحقائق الفعلية المترتبة على هذه المبادئ الأساسية، مثل استحالة الصلح والاعتراف والمفاوضة مع الكيان الإسرائيلي، وإدانة كل محاولة لتحقيق هذا الهدف مثل دعوة الشاه أو بورقيبة أو اعتراف ألمانيا بإسرائيل، أو تحقيق الهدف السياسي من عدوان يونيو (حزيران) ١٩٦٧م.
ثانيًا: المبادئ الأساسية والتناقضات الجوهرية
لم تكن منطلقات عبد الناصر الاعتبارات العملية في رؤيته لقضية فلسطين مثل الرخاء، وتوفير الغذاء، وزيادة المدخرات، وذلك كله لشعب مصر الذي أضنته الحروب، وأنهكته المعارك، وأفقرته ميزانية التسليح، بل كانت منطلقاته مبادئ أساسية في غاية الوضوح والبداهة، تؤيدها الحوادث، وتثبتها الوقائع، ويمكن التحقق من صدقها في التاريخ. هذه المبادئ تحتوي في ذاتها على تناقضاتٍ جوهرية لا حل لها إلا الصراع مثل القومية والعنصرية، التحرر والاستعمار، التقدم والرجعية، فلسطين وإسرائيل، لا بقاء لأحدهما إلا بنفي الآخر، ويظهر ذلك على النحو الآتي:
(١) الجريمة العنصرية
وكان وعد بلفور عام ١٩١٧م في تصور ناصر بداية الطريق نحو نهاية فلسطين. كانت فلسطين أكثر من زميلٍ في حلف، وكانت تحت الانتداب البريطاني وتحت كنفه ورعايته، مسئولٌ عنها أمام عصبة الأمم، ومع ذلك سلَّمها الاستعمار، وباع شعبها. لقد خلق الاستعمار إسرائيل، ومكنت بريطانيا اليهود من الهجرة إلى فلسطين. كان اليهود أيام وعد بلفور لا يمثلون أكثر من ٥٪ من مجموع السكان، ومع ذلك وعدهم بفلسطين العربية، وبدأت العصابات الصهيونية في تشريد الشعب، شعب فلسطين، حتى اغتصبوا الأرض بالرغم من قتال شعبها دفاعًا عن وطنه، وأهدرت آدمية الأهل وقومية الشعب تحت سمع وبصر الأمم المتحدة، وبموافقة بعض الدول الكبرى إرضاء للمنظمات الصهيونية، وفي مقابل ذلك لم تطرد الشعوب العربية أي يهودي بينها، بل كان لليهود عصرهم الذهبي في الأندلس في القرن الثالث عشر الميلادي بين العرب، لم تطرد مصر أي يهودي أثناء العدوان الثلاثي لأنه يهودي بل لأنه إنجليزي أو فرنسي، ومن ثم فإسرائيل دولةٌ عنصرية لا تعترف بأية قوميةٍ أخرى، ولا تسلم بحقوق أي شعبٍ آخر، ويظهر ذلك من سلوكها الأناني حتى إنها لتعتقد أن تفكير الناس جميعًا ينصرف إليها، وأنه لا يوجد من الأمور والمشاكل ما هو أعظم أو أكبر منها، وهي مشكلة فريدة من نوعها تختلف عن مشكلة برلين، فبرلين لا خلاف عليها، مقسمة أو غير مقسمة، محتلة أو غير محتلة، أما مشكلة فلسطين فقد طُرد شعبٌ من أرضه واغتُصبت أملاكه وحل محله شعبٌ آخر، في حين بقي الشعب الألماني كما هو سواء في برلين الشرقية أو في برلين الغربية لم يتزحزح عن أرضه.
(٢) الطبيعة العدوانية
ومنذ بدايات الحركة الصهيونية تظهر طبيعتها العدوانية في طرد شعب فلسطين وإحلال شعب آخر بدلًا عنه، وتكرار العدوان على الشعوب العربية دون أي التزامٍ بقرارات الأمم المتحدة، وكانت قمة العدوان في الغارة الوحشية على قطاع غزة التي دبرها بنجوريون في ٢٨ / ٥ / ١٩٥٥م، والتي وصفها رجال الأمم المتحدة بأنها اعتداءٌ وحشي بربري للحصول على كمياتٍ من الأسلحة من فرنسا. كانت هذه الغارة نقطة تحول في تاريخ الثورة المصرية، وناقوس الخطر وبداية التفكير في «التوازن في المنطقة»، الذي كان يعني بالنسبة للغرب حفظ ميزان القوى باستمرارٍ لصالح إسرائيل. لم يأتِ العدوان من جانب مصر كما تقول وثيقة «المخابرات البريطانية»، فإن جميع الظواهر تدل على أنه ليس لمصر أية نوايا للعدوان. وإن مصر لقليلة الثقة في أن الحكومة الإسرائيلية سوف تنتهج سياسةً سلمية. لقد صرح بنجوريون بأنه قتل ٢٩ من رجال مصر في الاعتداء على غزة، حتى يثير الخوف في نفوس المصريين، كما أراد بيجين أن يثير الخوف في نفوس الفلسطينيين في مذبحة دير ياسين. ثم كان أكبر دليل على طبيعة العدوانية للصهيونية العدوان الثلاثي في ١٩٥٦م ثم عدوان ١٩٦٧م.
لذلك كانت قضية التسليح قضية جوهرية من أجل الدفاع عن الأمة العربية، فلا يقابل العدوان إلا بالدفاع، ولا تقابل القوة إلا بقوةٍ مثلها، فمصر ترد بالقوة على كل اعتداءٍ لإسرائيل بالاعتماد على ميثاق الضمان الجماعي العربي. ومن ثم كانت قضية كسر احتكار السلاح قضية جوهرية في أول الثورة المصرية، حتى تتمكن مصر من الدفاع عن نفسها ورد العدوان. فعقدت صفقة الأسلحة التشيكية بعد الغارة على غزة، وفي نفس السنة والتي كانت بداية للتعاون فيما بعد مع المعسكر الشرقي. وكانت إنجلترا تمد إسرائيل بالسلاح وتمنعه عن العرب أثناء حرب فلسطين، فإسرائيل تتسلح بواسطة من خلقوها حتى تصبح سيفًا مسلطًا على العرب. ثم أخذت إسرائيل أسلحةً من فرنسا وبلجيكا وكندا وأخيرًا أمريكا ليعادل مجموع ما يأخذه العرب من أسلحة. فلما اعتمدت مصر على السلاح الشرقي قال الغرب إنه سلاحٌ شيوعي. والحقيقة أن هذا التسليح الشامل لإسرائيل يجعلها أكثر قدرة على التوسع والعدوان. بل إن إسرائيل تحاول امتلاك القنبلة الذرية في حين أن مصر قد وقعت على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، حتى تشمل إسرائيل الكبرى فلسطين والأردن والسعودية واليمن والخليج العربي كله وسوريا ولبنان وجزءًا من العراق حتى نهر الفرات وصحراء سيناء كلها حتى قناة السويس.
ويأخذ العدوان الصهيوني في تصور ناصر طابعًا توسعيًّا، ويعتبر فلسطين ركيزةً أولى للانتشار حتى يتحقق الحلم الصهيوني «من النيل إلى الفرات». والذي يتتبع خريطة إسرائيل منذ ١٩٤٨م حتى الآن يجد اتساع رقعة الدولة، توسعوا على حساب المنطقة المنزوعة السلاح، ثم مضايق تيران بعد العدوان الثلاثي، ثم احتلال أراضي سيناء والضفة الغربية والجولان وغزة في عدوان ١٩٦٧م. وقد أثبت عدوان ١٩٦٧م أن القضية ليست فلسطين بل التوسع وتحقيق الحلم الصهيوني. لقد كانت محزنة في إسرائيل عندما انسحبوا في مارس ١٩٥٧م من غزة، وكان بنجوريون يبكي ومعه نوابه لأنهم كانوا قد ضموا قطاع غزة إلى إسرائيل، وأعلنا أن غزة تمثل الجزء الباقي من فلسطين العربي وهو حق إسرائيل. أراد الاستعمار اختبار قوة مصر ومحاصرة جيش مصر بين فكَّي كماشة في سيناء في ١٩٥٦م، فدفعوا بإسرائيل للقيام بالمهمة. هاجمت إسرائيل الحدود المصرية التي أعلنت مع الاستعمار في «التصريح الثلاثي» ضمان سلامة الدول العربية وإسرائيل، ثم دُفن هذا التصريح في بورسعيد. وإثر عدوان ١٩٦٧م قال ديان وزير دفاع إسرائيل لشباب حزب العمل: لقد صنع آباؤنا حدود ١٩٤٧م، خطة الأمم المتحدة للتقسيم، وصنعنا نحن حدود ١٩٤٩م، وصنعتم أنتم حدود ١٩٦٧م، وسيمد جيلٌ آخر الحدود إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه.
(٣) صنيعة الاستعمار
وبالتالي لن تقدر أمريكا أن تفعل للعرب أي شيء، بل إنها تحاول إدخال المنطقة العربية في الأحلاف حتى تواجه مصر إسرائيل وحدها «لم أدرك أن إسرائيل مسألة حيوية للدول الغربية إلا قبيل ذهابي إلى مؤتمر باندونج في العام الماضي؛ فالغرب يريد حماية إسرائيل قبل كل شيء … ولو نجحت خطة الغرب لأصبح العالم العربي بأسره متجهًا بنظره إلى الشمال، ومصر وحدها لإسرائيل.»
ويربط عبد الناصر بين الصهيونية والشيوعية؛ فالاستعمار واحد بصرف النظر عن مصدره، من الغرب أو من الشرق. وقد ظهر هذا الربط في أوج معركته مع الشيوعيين في ١٩٥٤م في مصر، وفي ١٩٥٩م في مصر والعراق؛ فالشيوعيون في رأي عبد الناصر أكبر عون للصهيونية. كما تعمل الصهيونية على إيجاد تنظيمات شيوعية تخدع الناس تحت الأسماء الخلابة البراقة مثل الحرية والديمقراطية، وتخدر الناس بكلامٍ معسول عن المساواة ورفع مستوى العامل والفلاح والأخذ بيد الفقير. وكان يمول أكبر منظمة شيوعية في مصر كورييل الصهيوني، ويستعملون طرقًا للتضليل كي يمكنوا الصهيونية العالمية من احتلال وادي النيل وجزء من العراق وجزء من المملكة العربية السعودية. وهم لذلك يثيرون بعض الشغب وينسبونه إلى الشعب باسم الشيوعية، وهم في الحقيقة جماعة صهيونية قامت بعمل حرائق في بعض المدن والمنشآت الوطنية.
ويتهم ناصر إسرائيل بأنها تشاطر الشيوعيين في موقفهم عن قصدٍ أو غير قصد، حينما تسعى للحيلولة دون الوصول إلى تسويةٍ سلمية لمشكلة قناة السويس التي دامت ٧٢ عامًا وعقد اتفاقية جلاء قوات الاحتلال البريطاني عن قناة السويس في ١٩٥٤م. فقد عقد الشيوعيون والصهيونيون عزمهم على تعطيل التسوية لأن الاضطرابات في العالم العربي لا تخدم إلا العناصر الهدامة. وقد ثبت في مصر أن كلا الفريقين قد دبرا مؤامرةً لحرق مكتب الاستعلامات الأمريكي بالقاهرة؛ لأن الكفاح المسلح هو الطريق لمحاربة الاستعمار.
(٤) التحالف مع الرجعية
وكانت مأساة ١٩٤٨م أكبر دليل على أن الرجعية العربية أكبر حليف للصهيونيين. فقد كان الفساد والغدر والخيانة من أهم أسباب الهزيمة الأولى في فلسطين. لم يحارب الجيش، وراح ضحية الغدر والخيانة والهدنة، وخسر العرب الحرب نتيجة للانهيار والفساد السياسي الذي كان نتيجة للفساد الاجتماعي. لقد باع الملك عبد الله العرب وفلسطين للصهيونية وإسرائيل، فكان قائدًا للجيوش العربية، أمر بالانسحاب من اللد والرملة، وقبِل الهدنة، حفاظًا على العرش. وكان البعض الآخر يدخل المعركة بلا دبابات مع أن العرب كانوا يملكون المال، وكان باستطاعة الفلسطينيين شراء الطائرات.
ثم أخذ البعض الآخر فيما بعد يؤيدون فلسطين بالخطب المنمقة، وبتسمية إسرائيل «إسرائيل المزعومة» حتى يتأثر العرب، وتنبعث الطمأنينة في نفوسهم. ويصيح ناصر «اتجهوا إلى العمل لإنقاذ فلسطين.» سلم الاستعمار اليهود فلسطين ولم يفعل العرب شيئًا، انخدعوا وراء الكلام المعسول، وضللهم زعماؤهم حرصًا على مآربهم الشخصية، ولم يستعملوا سلاح البترول.
ونتيجة لذلك تحالفت الصهيونية مع الرجعية لضرب حركة التحرر العربي، والقضاء على الثورة العربية وإنهاء التجربة الاشتراكية في مصر. فقد كان ناصر يرى أن التحرر العربي مقدمة لتحرير فلسطين، وأن كل ثورةٍ عربية هي رصيد لقضية فلسطين. فكما أيقظت قضية فلسطين الوعي العربي فإن الوعي العربي، ردًّا للدين، ووفاءً بالجميل، يكون شرطًا لتحرير فلسطين. قد يأخذ ذلك وقتًا طويلًا. وقد لا يسعف الاستعمار ولا ينتظر. لذلك حاول الاستعمار أن يجهض الثورات العربية قبل أن تكتمل لتصفية المقاومة العربية من الداخل، لقد أدركت إسرائيل خطورة الثورة العربية عليها إذا ما نجحت في إجراء التحول العظيم، وانتقلت من التخلف إلى التقدم؛ لأنها تدرك أن التقدم هو القاعدة التي يمكن للأمة العربية أن تخوض عليها المعركة ضدها. ظنت إسرائيل الثورة انقلابًا عسكريًّا ولم تدرك أنها تغير ثوري وحركة تحرر عربي. كما أن إسرائيل كانت تخشى تقدم الشعب السوري وقوته، وأن ينهض صناعيًّا واجتماعيًّا؛ لأنه حين يتقدم سيكون أشد خطورة عليها. ويذكر ناصر في ١٩٥٦م مقالًا في المجلة العسكرية الإسرائيلية بعنوان «إلى دمشق» فيقول: إذا أردنا أن نهزم العرب فليس أمامنا إلا أن نتجه إلى دمشق، وإن الغلطة الكبرى التي ارتكبها الصليبيون حينما احتلوا البلاد العربية، هي عدم احتلال سوريا كلها وإخضاعها للصليبيين، وهي الغلطة التي مكنت العرب من الاتحاد والتخلص من الاستعمار الصليبي. وقالت صحيفة إسرائيلية إن الخطر ينبعث من سوريا؛ لأن بها المقومات الكبرى للتطور الاجتماعي السريع.
وتمثل إسرائيل في تصور عبد الناصر إحدى محاولات تمزيق الصف العربي، وبث الفرقة بين العرب. فقد زُرعت إسرائيل حتى تفصل المشرق العربي عن المغرب العربي، واحتلت النقب حتى لا يكون لعرب المشرق الاتصال بعرب المغرب. تسعى إسرائيل لتفريق كلمة العرب والحيلولة بينهم وبين أن يجتمعوا ويتفقوا ويستفيدوا من تراث بلادهم، وما في مركزهم الجغرافي من منعة. لذلك ظهرت قضية فلسطين في فكر ناصر بصورةٍ ملحة أيام الوحدة بين مصر وسوريا في ١٩٥٨–١٩٦١م، وهي الفترة التي بلغت فيها القومية العربية الذروة، وأثناء قيام الجمهورية العربية المتحدة، وأثناء رحلاته إلى الإقليم الشمالي ووجوده في حمص، وحلب، وحماة، ودمشق.
لذلك عادت إسرائيل الوحدة العربية وهللت للانفصال؛ لأنها تعلم أن وحدة الأمة العربية تهدد وجودها ذاته؛ لأنها قامت على أنقاض هذه الوحدة، بل إن إسرائيل كانت وراء الانفصال، ووجهت نداءات إلى شعب غزة للثورة على مصر، من أجل تسليمها للمملكة الأردنية وبالتالي إلى الاستعمار والصهيونية. لقد ضاعت الوحدة والأمل لتحرير فلسطين بفعل الطابور الخامس وعملاء الرجعية؛ فالاستعمار والصهيونية والرجعية تود كلها التخلص من الوحدة العربية. تدافع إسرائيل عن خصوم مصر وتهاجم ناصر، وتؤيد الانفصال وتهاجم الوحدة.
ثالثًا: النتائج المنطقية والحقائق الفعلية
ينتج من هذه المبادئ الأساسية والتناقضات الجوهرية السابقة عدة نتائج منطقية يدركها العقل ببداهته، وهي في نفس الوقت حقائق فعلية ووقائع يشاهدها الحس، وتصدقها التجربة، يراها كل منصف متجرد عن هواه، كلها تجعل الصلح مع إسرائيل بطبيعتها العدوانية التوسعية وبجرائمها العنصرية في فلسطين، وبتحالفها مع الاستعمار والرجعية، تجعله مستحيلًا حتى ولو تم فرض تسوية بالحرب كما حدث بالفعل بعد عدوان ١٩٦٧م. فلا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضة قبل إزالة آثار العدوان واسترداد حقوق شعب فلسطين، وتطبيق قرارات الأمم المتحدة حتى يقوم السلام على العدل. وكل دعوةٍ للصلح أو للاعتراف، كما حدث أيام الشاه وبورقيبة وألمانيا، تهدف إلى تحقيق أطماع الصهيونية والاستعمار في المنطقة. وكل فرضٍ للصلح وللمفاوضات المباشرة أو غير المباشرة هو تسليم للعدوان. ولكن الإمكانيات العربية وحدها وقدرات الأمة العربية وحدها، هي الطريق إلى الحل العادل الشامل.
(١) شروط الصلح المستحيل
يرفض ناصر أي حديثٍ عن التسوية الشاملة أو إقرار السلام في الشرق الأوسط، قبل تحقيق شيئين: الأول، إزالة آثار العدوان، وانسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية المحتلة، والعودة إلى خطوط ما قبل الخامس من يونيو (حزيران) ١٩٦٧م: سيناء، وغزة، والجولان، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، وأي حديثٍ عن التسوية قبل ذلك هو استسلام للعدو، ومكافأة على الاعتداء. ويرفض ناصر في أية تسوية رجوع سيناء منزوعة السلاح، باستثناء ثلاثة عشر كيلومترًا من الجانبين في سيناء والنقب؛ فسيناء تمثل ٢٠٪ من مساحة مصر. كما يرفض أي تعديلٍ في الحدود بين إسرائيل والدول العربية؛ فالضفة الغربية ٧٠٪ من الأراضي الأردنية، والجولان ١٥٪ من الأراضي السورية.
والثاني، استرداد حقوق شعب فلسطين كما أقرتها الأمم المتحدة بقراراتها العديدة، والتي لم تنل حظ التنفيذ، والتي تنص على حق شعب فلسطين في العودة إلى وطنه والتعويض عن ممتلكاته. إن موقف مصر في رأي ناصر ثابتٌ لا يتغير، وهو رفض عقد أية معاهدة صلح مع إسرائيل، إلا بعد أن تقوم إسرائيل باحترام قرارات الأمم المتحدة وتنفيذها، وبعد أن تحترم شروط الهدنة التي تنقضها كل يوم. ولكن إسرائيل ما برحت تتحدى الأمم المتحدة، وتواصل غاراتها الوحشية على القرى الأمامية التي أثارت سخط الرأي العام العالمي. إن أية مفاوضات مع إسرائيل يجب أن تكون لإقرار حقوق شعب فلسطين، على أساس قرارات الأمم المتحدة التي تنص على رجوع إسرائيل إلى الحدود التي تضمنها مشروع التقسيم الأصلي، وأن تدفع تعويضات للعرب وتسمح بعودة الراغبين منهم إلى ديارهم، وتدويل القدس. ومع ذلك فاسترداد حقوق شعب فلسطين ليس في حاجةٍ إلى مفاوضاتٍ، بل إلى تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين في ١٩٤٧م وفي ١٩٤٩م. إن حدود إسرائيل المتفق عليها هي حدود مشروع التقسيم في ١٩٤٧م، «ليس الأمر إذن هو حرب أو سلام، خطرٌ أو أمان … بل هناك طريق ثالث وهو الطريق إلى المنطق والحق وطبائع الأشياء، وذلك هو طريق ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، ذلك هو الطريق المفتوح.» بل إن ناصر يرفض وجود دويلة فلسطينية نتيجة لتفاوض الفلسطينيين مع إسرائيل، «فذلك مستحيل، ولا يمكن للفلسطينيين أن يوافقوا عليه. فهم يعرفون أن مثل تلك الدولة ستكون ضعيفة وتحت سيطرة إسرائيل. إنما البديل أن تقوم دولة لا تقوم على أساس دينٍ واحد بل تكون فيها كل الأديان، ويعيش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود معًا كما عاشوا من قبل قرونًا طويلة. ربما يحدث ذلك في الأجيال القادمة، أما الزعماء الحاليون فهم قصيرو النظر. ولكن بعض الإسرائيليين يفكرون الآن على نحوٍ آخر؛ فالإخاء لا يكون على حساب الحقيقة.»
لقد طالما ناقش الغرب حق إسرائيل في الوجود، وحقها في الأمن، وحقها في الحدود المعترف بها، ولكنه لم يناقش على الإطلاق حقوق الشعب الفلسطيني.
(٢) إدانة محاولات الصلح
وقد أدان عبد الناصر كل محاولات الصلح مع إسرائيل أو الاعتراف بها، وهي الدعوات التي روجها شاه إيران السابق والحبيب بورقيبة في أوج صراعه مع عبد الناصر داخل العالم العربي، أو التي حاولتها ألمانيا الغربية والتي دفعت عبد الناصر بقطع علاقته معها والاعتراف بألمانيا الشرقية، وكل دعوةٍ من هذا النوع إنما تهدف إلى تحقيق أطماع الاستعمار والصهيونية، وتثبيت لأركان الصهيونية.
كانت أول دعوة للصلح مع إسرائيل دعوة الرئيس بورقيبة في ١٩٥٦م. فبالرغم من قبول عبد الناصر الدعوة إلى تونس للاحتفال بذكرى جلاء الفرنسيين عن بنزرت، وتغليبًا لوحدة العمل العربي. وبالرغم من رد بورقيبة الزيارة لمصر، أدلى بتصريحاتٍ عن فلسطين صدمت الأمة العربية في مرحلةٍ كانت القضية الفلسطينية فيها تمر بمرحلةٍ حاسمة: تجمع استعماري صهيوني لتصفية قضية فلسطين، تزويد إسرائيل بالسلاح. مع أن بورقيبة وافق في مؤتمر القمة العربي الأول على اعتبار قيام إسرائيل هو الخطر الأساسي الذي أجمعت الأمة العربية على دحره. كما وافق على مقررات مؤتمر القمة العربي الثاني الذي حدد الهدف العربي بأنه هدفٌ نهائي، وهو تحرير فلسطين من الاستعمار، كما ارتبط بقرارات عدم الانحياز في أكتوبر، وأعلن تأييده لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، وتأييد الشعب العربي الفلسطيني في كفاحه ضد الاستعمار والصهيونية.
وفجأة طالع بورقيبة العالم العربي بتصريحات: التعايش السلمي مع إسرائيل، التفاوض مع إسرائيل، الاعتراف بإسرائيل، مطالبة الدول العربية بالتعاون مع إسرائيل، إقامة علاقات اقتصادية بين العرب وإسرائيل. وقال إنه لما ذهب إلى الأردن وزار اللاجئين في أريحا اكتشف الحل: الاعتراف بإسرائيل والتعايش معها. وقدم عدة حجج أهمها أن قضية فلسطين ظلت سبعة عشر عامًا بلا حل فتعفنت، ولا مخرج لها من كفنها إلا بالاعتراف بإسرائيل! وإنه أراد أن يخدم العرب بتحريك القضية! ويرد ناصر على ذلك بأن هذا الكلام لا يخدم العرب بأي حالٍ من الأحوال. صحيحٌ أنه يحرك القضية ولكن لصالح إسرائيل. فإسرائيل تأخذ هذا الكلام وتعرضه على الدول الأفريقية والآسيوية التي أيدتنا في مطالبنا بالنسبة لقضية فلسطين، كي ترجع عن تأييدها بسبب أن رئيسًا عربيًّا تبنَّى وجهة نظر إسرائيل. كما ادعى بورقيبة أنه يود إحراج إسرائيل حتى تعترف هي بحق شعب فلسطين بعد أن اعترف العرب بها. ويرد ناصر على هذه السذاجة بمؤتمر لوزان في ١٩٤١م في اللجنة التي كونتها الأمم المتحدة «لجنة التوفيق» لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة: جلست إسرائيل في اللجنة إلى أن قُبلت عضوًا في الأمم المتحدة، ثم غادرتها ورفضت تنفيذ القرارات. كما رفضت إسرائيل تنفيذ مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م التي تنص على ضرورة تنفيذ قرارات الأمم المتحدة. ويقدم بورقيبة حجةً ثالثة بأن هذا الاعتراف يولد ضغطًا على إسرائيل. ويرد ناصر بأن الدول العربية لم تضغط على إسرائيل، ولم تمنع الدول الغربية مساندتها السياسية والعسكرية لإسرائيل، كما لم تضغط أمريكا على إسرائيل منذ ١٩٤٩م حتى الآن، بل أعطتها كل ما لديها من إمكانياتٍ لاستمرار بقائها في الوجود. ويدعو بورقيبة للتفاوض والجلوس مع إسرائيل، حتى تضيع حجتها بأن العرب يرفضونها، كما يدعو إلى التعايش معها والتعامل الاقتصادي معها والاعتراف بها. ويرد عبد الناصر بأن ذلك كان دائمًا مطلب إسرائيل. وقد صرح بنجوريون بأنه مستعدٌ للتفاوض مع أي قائدٍ عربي بلا قيد أو شرط. وكل عام تطالب إسرائيل في الأمم المتحدة بالتفاوض مع العرب. لقد تبنَّى بورقيبة إذن موقف إسرائيل دون أن يأخذ شيئًا للعرب. لقد خرج بورقيبة عن الإجماع العربي، وأصبح منفذ خطط الصهيونية والاستعمار في المنطقة، واتبع سياسة الانتهازية واللعب بقضايا المصير، وأراد أن يبيع القضية بلا ثمن. فقد الثقة في قوته وفي قوة الأمة العربية، وأراد للعرب أن يكونوا أذيالًا للغرب. ولا قيمة لشعبٍ يكون تابعًا لأحد، يمثل طابورًا خامسًا داخل المجموعة العربية. والأفضل له أن يظل خارجها لا داخلها. لا يريد الجامعة العربية، ويريد أن يظل خارجها لأن الجامعة لا فائدة منها. إن الجامعة العربية أداة توحيد وتنسيق للجهود العربية، وليس من مصلحة العرب تمزيقها … وكانت النتيجة أن «انعزل بورقيبة، انعزل شعبيًّا عن الأمة العربية».
أما الشاه فقد أعلن في ١٩٦٠م اعترافه بإسرائيل، فقطعت مصر علاقاتها السياسية معه بالرغم من وجود علاقات بين مصر وبعض الدول الأخرى المعترفة بإسرائيل ومنها أمريكا والاتحاد السوفييتي؛ وذلك لأن الشاه يتاجر بالدين، ويضلل المسلمين باسم الإسلام. كان الشاه قد اعترف بإسرائيل في ١٩٥٠م ثم جاءت حكومة مصدق في ١٩٥١م وسحبت اعترافها، وأغلقت القنصلية الإسرائيلية في طهران. ولكن بعد عودة الحكم الرجعي في ١٩٥٣م عادت العلاقات التجارية والثقافية، وفتحت الوكالة اليهودية فرعًا لها في طهران، وفتحت دولة إسلامية من دول حلف بغداد كل مجالات العمل مع إسرائيل، وتساعدها ضد الوطن العربي، حتى أصبحت طهران في عهد الشاه قاعدةً إسرائيلية.
وقد كان الغرض من ذلك هو إدخال المنطقة كلها في نظمٍ دفاعية موالية للغرب بما في ذلك إسرائيل. فقد نشرت جريدة «هاعام» أنه قد تم توقيع اتفاقية سرية بين إسرائيل وإيران في ١٩٦١م في مطار طهران، وكان بنجوريون وهو في طريقه إلى بورما قد مر على طهران، ونشر الخبر في ٦ / ١٢ / ١٩٦١م. ثم عُرف السر بعد ذلك من الزيارة في ٦ / ١١ / ١٩٦١م بالرغم من أن الصحف الإيرانية ادعت أن السبب كان تعطيل المحركات. والحقيقة أن الزيارة كانت مرتبة، واشترك فيها رئيس أركان حرب الجيش الإيراني وممثل إيران في الحلف المركزي لدراسة دور إسرائيل في النظم الدفاعية لبلدان الحلف المركزي، وضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين البلدين.
وقد حاولت ألمانيا إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل والاعتراف بها، والتهديد بقطع المعونات الاقتصادية عن العرب إذا هم قاموا بالرد عليها. ويسمي ناصر هذا الأسلوب «أسلوب المساومات»، وهو أسلوبٌ لا يحقق الأهداف، خاصةً إذا كانت تتعلق بحرية الشعوب وحقوقها.
(٣) رفض التفاوض تحت الاحتلال
ولم يستسلم عبد الناصر للضغوط الأمريكية من أجل إجراء تسوية سلمية قبل استرداد حقوق شعب فلسطين «هؤلاء الذين يتكلمون عن القمح وهم يظنون أنهم يبيعونه لنا لكي يسيطروا علينا، هؤلاء نذكرهم بما فعلنا عام ١٩٥٦م، وأننا قبل أن نبني السد العالي نبني العزة والكرامة، ونقول لهم إنه ليس في مقدور القمح ولا الذرة التي تأتينا من أمريكا، أن تضعفنا عن السير في طريقنا والوصول إلى هدفنا، وإن كل ما في أمريكا لن يثنينا عن قوميتنا، وإن أهدافنا ثابتة، وسنسير فيها لتحقيق قوميتنا وتضامننا ووحدتنا وأقدامنا ثابتة، نسالم من يسالمنا، ونعادي من يعادينا.»
ومشكلة فلسطين تخص الدول العربية جمعاء، ولا يحق لأي دولةٍ عربية أن تنفرد بالتصرف فيها. لذلك كان من أهداف الاستعمار والصهيونية فرض السلام على العرب عن طريق فرض السلام بالقوة على مصر أولًا، حتى تستسلم فيستسلم العرب. ويستشهد ناصر بأقوال بنجوريون: «لا بد أن يسود السلام مع الجمهورية العربية المتحدة أكبر دولة عربية.» ويعلق ناصر: «لأنه يشعر أنه إذا استطاع أن يفرض الصلح أو يفرض السلام على الجمهورية العربية المتحدة، فإن القضية بعد ذلك تكون سهلة وهينة له. وقد اعتدى في ١٩٥٦م ولكنه لم يستطع أن يفرض السلام أو الصلح. وكان الهدف من العدوان فرض الصلح على العرب وفرض التسوية على أساس الأمر الواقع. وتبنت إسرائيل سياسة فرض السلام على العرب كسياسةٍ ثابتة. ومعنى ذلك الحرب والعدوان مما يثبت أن الحرب لديها هو المعنى الحقيقي للسلام. إن قضية إسرائيل ليست قضية مصر وحدها، ولكنها قضية الأمة العربية جميعًا.»
(٤) القوى الذاتية العربية
يرى عبد الناصر أن القوى الذاتية العربية قادرةٌ على أن تمنع إسرائيل من تحقيق الهدف السياسي من نصرها العسكري، وتتمثل هذه القوى الذاتية في الآتي:
-
إرادة الصمود ورفض الاستسلام. وقد ظهرت هذه الإرادة لدى جماهير ٩ و١٠ يونيو ١٩٦٧م ورفض الهزيمة. يقول ناصر: «ليس يخيفنا أن تكون هناك بقاع غالية من أراضينا تحت احتلال العدو، ولكن يخيفنا أكثر أن تعيش أوطاننا كلها غير منتبهة للخطر المحيط بها، راضية بالاستسلام، تخلط بينه وبين السلام، بينما العدو يمضي في تنفيذ مخططاته العدوانية بغير قتال، ويحقق ما يريد بغير مواجهة، وينتصر عليها وهي في غيبوبة لا تميز فيها بين العدو والصديق، بين عزلها عن العالم العربي وجرها إلى صلحٍ منفرد مع إسرائيل، كما نص على ذلك مشروع روجرز.»
-
بناء جيش مصر، وتسليحه، فما ضاع بالقوة لا يسترد إلا بالقوة. لقد حارب العرب في ١٩٤٨م، واستشهد منهم الرجال، وظهر فيهم الأبطال وفر العدو، وبان في ذلك الوقت المبكر أن جيش العدو ليس بالذي لا يقهر، وأنهم بشرٌ يخافون، ويصيبهم الذعر، ويفرون من المعارك، ويتجنبون مواجهة جيش مصر، لم ينهزم جيش مصر في فلسطين بل قاتل وقاوم. رأى ناصر بعينيه كيف كان اليهود ينسحبون منهزمين، ويذكر معركة ٢٦ / ١٠ / ١٩٤٨م في عراق المنشية حين واجهوا اليهود المتفوقين عليهم في العدة والعتاد، وناصر ورفاقه في موقعٍ محاصر منعزل، ولكنهم تمسكوا بالشرف والواجب والوطن، فهزموا المعتدين، وفر العسكري اليهودي مذعورًا لمجرد رؤية المصريين يقاتلون، فمهزلة ١٩٤٨م لا تقع على عاتق الرجال المقاتلين. لقد اعتمدت إسرائيل على هذه الخرافة، هزيمة الجيش المصري طبقًا للمثل المشهور «لا يزال المرء يكذب ثم يكذب ثم يكذب حتى يصدقه الناس، ثم يكذب ثم يكذب ثم يكذب حتى يصدق نفسه.» وقد قالت الجيش المصري أيضًا في عدوان ١٩٥٦م وحارب في معركة أبو عجيلة وهو في أوج الانسحاب، وقابل العدوان بالعدوان، كما حارب بالقدر الذي سمح له في عدوان ١٩٦٧م.
-
النظم التقدمية في العالم العربي هي الوحيدة القادرة على التصدي للاستعمار والصهيونية؛ فالثورة العربية معادية لكليهما لا تهادن ولا تساوم. لذلك كان الهدف من عدوان ١٩٦٧م هو قلب نظام الحكم في مصر وسوريا، حتى يتم تسليم العالم العربي للنظم الرجعية المتحالفة مع الاستعمار، والتي تحرص على مكاسبها قبل حرصها على تحرير فلسطين. ويعترف عبد الناصر بأن ذلك قد يدوم بعض الوقت ولكن الصليبيين مكثوا سبعين عامًا. كما كشفت له تجربته الثورية أن فلسطين قد ضاعت في ١٩٤٨م بسبب هزيمة العرب، وليس بسبب انتصار إسرائيل.٢٦
-
القومية العربية التي حاول الاستعمار وصنيعته الصهيونية القضاء عليها، وإحلال الصهيونية محلها في فلسطين العربية، وكما كانت فلسطين أحد أسباب اليقظة العربية، فإن القومية العربية هي الطريق لتحرير فلسطين. لذلك حرص الاستعمار والصهيونية على تفتيتها، وبث عناصر الفرقة بين البلاد العربية، واتهام ناصر بالرغبة في السيطرة على العالم العربي حبًّا في الزعامة، واستيلاءً من مصر على باقي البلاد العربية: فكما أيقظت فلسطين الوعي العربي، فإن الوعي العربي بؤرة القومية العربية هو السبيل لتحرير فلسطين. لذلك شغل ناصر نفسه بقضايا القومية العربية خاصةً أيام الوحدة، فبرزت قضية فلسطين كرأس للقومية العربية.
-
الوحدة العربية هي التي تجسد على الصعيد السياسي القومية العربية. لذلك ارتعشت إسرائيل من وحدة مصر وسوريا، وظنت أن الأوان قد حان لوضعها بين فكَّي الكماشة، كذلك ارتعدت من القيادة العربية المشتركة، ومعاهدات الدفاع العربي المشترك؛ لأنها تعلم أ نها لا قبل لها بحرب على جميع الجبهات، وبأن العرب قادرون لو أرادوا تجنيد ثلاثة ملايين مقاتل في مواجهة إسرائيل. وتظل تجربة الجمهورية العربية المتحدة أولى التجارب الرائدة على طريق الوحدة. وفي نفس العام قامت الثورة — يوليو (تموز) — في العراق، وتكوَّن الاتحاد الهاشمي ثم سقط، ووقفت الوحدة العربية أمام الغرب والشرق، ومر العرب في ١٩٥٩م أثناء رحلة ناصر إلى سوريا وفي خطابه في دمشق بأزهى فترات حياتهم.
-
القوى البشرية العربية القادرة على العطاء، وعلى سد احتياجات المعركة في الجند والخبرة، مهما حاولت إسرائيل في سياسة التهجير من إحضار جميع يهود العالم، نظرًا لما بينهم من قومياتٍ متنافرة وعنصرية متبادلة، في حين أن الأمة العربية متجانسة القوى، قادرة على الحشد والتجنيد لكل متطلبات المعركة. إن البحر البشري العربي لقادرٌ إذا ما هاجت أمواجه على ابتلاع أية جزر صغيرة تعترض طريقه أو تظهر على سطحه. وتكون القضية كيف يمكن تحويل الكم العربي إلى كيفٍ عربي. بل إن القوى البشرية العربية ذاتها داخل إسرائيل قبل ١٩٤٨م، لقادرةٌ على تحويل إسرائيل ذاتها إلى دولةٍ يكون أغلب سكانها من العرب.
-
النفط العربي الذي لم يدخل المعركة حتى الآن في حياة الزعيم الراحل، إلا بأسلوب تفجير أنابيب التصدير في معارك ١٩٥٦م. ولكن طائرات العدو وآلياته تسير بالنفط العربي، والأسطول السادس الأمريكي يحركه النفط العربي، وعائدات النفط مخزونة في البنوك الأمريكية والصهيونية تُستثمر لصالح إسرائيل، لزرع الصحراء، وإقامة الصناعات، وصناعة الأسلحة، لم يحشد العرب إلى الآن جميع إمكانياتهم المادية من أجل قضية فلسطين، وما زالوا يحاربون بأقل من قدراتهم الفعلية، وإسرائيل تحشد كل شيء، وتجند كل الأنصار، وتستنفذ جميع الإمكانيات بما فيها الإمكانيات العربية!
-
بروز الكيان الفلسطيني بعد أن حاول الاستعمار والصهيونية تصفية القضية، وظهور منظمة التحرير الفلسطينية، وتكوين جيش التحرير فرض على العالم قضية فلسطين، وتحولت من قضية لاجئين إلى قضية شعب له حقوقه السياسية في تحرير أرضه، وتكوين دولته، واختيار نظامه السياسي؛ أي حقه في تقرير المصير. لذلك حاول الاستعمار تصفية القضية، وتشريد الشعب، ومحو الاسم، وكل دعوةٍ للصلح أو للاعتراف كان الهدف منها تصفية القضية. ويشيع الاستعمار أن فلسطين تخيف العرب أكثر مما تخيف إسرائيل، والعرب أكثر رفضًا لدولة فلسطين من إسرائيل؛ حتى تحدث الفرقة في صفوف العرب.
رابعًا: خاتمة: كيف؟ ومتى؟
بالرغم من أن الناصرية تمثل لنا نحن في مصر حلمًا ما زلنا في يقظته، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه هو الآتي، إذا كان هذا هو موقف عبد الناصر من قضية الصلح مع إسرائيل، فلماذا لم تحرر فلسطين؟ وما الذي أخر الزعيم الراحل عن الدخول في معركةٍ فاصلة، كان قادرًا عليها بزعامته والثقة التي أولته إياها الأمة العربية؟ ويمكن الإجابة على ذلك على النحو الآتي:
-
(١)
بالرغم من أن حركة الضباط الأحرار تبلورت أثناء حرب فلسطين في ١٩٤٨م، فقد اندلعت الثورة بالفعل بعد ذلك بأربع سنوات، إلا أن القضية الأساسية في ذلك الوقت كانت جيوش الاحتلال الرابضة على ضفاف القناة. كانت مصر مستعمرة عسكريًّا، فكان أول ما يشغل بال قادة الثورة الجدد هو جلاء القوات الأجنبية حتى يتفرغوا للتنمية. وكانت إحدى حجج بورقيبة التي أقام عليها دعوته للصلح هي: ماذا فعل العرب؟! وكان رد عبد الناصر: كان العرب مستعمَرين يتحررون من الاستعمار مثل فلسطين. وهذا هو الذي أخَّر معالجة القضية كل هذا الوقت، فماذا تستطيع دولة عربية مستعمَرة العمل لفلسطين الواقعة تحت أبشع أنواع الاستعمار؟
-
(٢)
كان عبد الناصر يريد إنهاء احتلال القوات الأجنبية لمصر، وتوقيع معاهدة الجلاء مع بريطانيا سلمًا. هذه المعاهدة التي نقدها الشيوعيون والإخوان والوفديون في مصر، وكانت بداية الفُرقة بين التيارات الوطنية التقليدية قبل الثورة والثورة ذاتها، حتى تفرغ لعملية البناء الداخلي في مصر. وكانت حجة ناصر على بعض النصوص المجحفة بمصر في هذه المعاهدة، التي تعطي للغرب حق الرجوع إلى مصر في حالة الحرب لاستعمال قناتها ومطاراتها وأرضها، أنه يريد أن يتفرغ لبناء مصر، ويريد مساعدة الغرب في ذلك. وكان نقد ناصر للشيوعيين أنهم يتخذون موقف إسرائيل في رفض معاهدة الجلاء من أجل إفساد العلاقة بين مصر والغرب. ومع ذلك رفض ناصر عرض بريطانيا لتمويل السد العالي في مقابل الصلح مع إسرائيل، فقضية فلسطين مبدأ لا يمكن المساومة عليه.
-
(٣)
لم يترك الاستعمار لعبد الناصر فرصة لالتقاط الأنفاس، وجرَّه إلى معارك متتالية فرضتها الظروف، كل معركةٍ تولد أخرى، وقد أدرك عبد الناصر بالفعل أن محاربة الاستعمار هي في نفس الوقت محاربة لإسرائيل؛ لأنها كما اتضح له «رأس جسر» الاستعمار «ومخلب القط» له.
فجاء العدوان الثلاثي في ١٩٥٦م والذي تحول بعده عبد الناصر بطلًا قوميًّا، وزعيمًا لحركات التحرر في العالم الثالث كله، ثم دخل معارك الوحدة الوطنية في ١٩٥٨م، ومعارك الرجعية العربية بعد الانفصال في ١٩٦١م، ومعارك التحول الاشتراكي في ١٩٦١–١٩٦٤م تدعيمًا للحركة الثورية العربية، ومعارك الأحلاف العسكرية والحلف الإسلامي في ١٩٦٥م، وكان آخرها تكالب الاستعمار والصهيونية عليه في يونيو ١٩٦٧م.
-
(٤)
لما أدرك عبد الناصر أن مأساة فلسطين إنما نتجت عن ضعف العرب أكثر مما نتجت عن انتصار إسرائيل في ١٩٤٨م، فإن قضية تثوير العالم العربي كانت الطريق إلى تحرير فلسطين. كانت إسرائيل تخشى الثورات العربية كلما تفجرت واحدة منها. ولما كانت الثورة المصرية رائدة للثورات العربية، فقد عملت إسرائيل على محاربتها، كما عمل ناصر على تثبيت أركانها ودعم القوى الثورية كلها في العالم العربي لتطويق إسرائيل. فقامت ثورة العراق في يوليو (تموز) ١٩٥٨م ردًّا على الاعتداء الثلاثي، وقامت ثورة اليمن في سبتمبر ١٩٦١م ردًّا على الانفصال السوري، وقامت ثورة الفاتح في سبتمبر ١٩٦٩م ردًّا على عدوان ١٩٦٧م.
-
(٥)
بعد الغارة الإسرائيلية على غزة في ٢٨ / ٢ / ١٩٥٥م أدرك عبد الناصر أهمية السلاح، ودخل معركة تسليح جيش مصر، وعقد صفقة الأسلحة التشيكية في نفس العام، وكان ذلك بداية كسر احتكار السلاح، والتحول من الغرب إلى الشرق كمصدرٍ أساسي للتسليح. وقد كانت سياسة الغرب دائمًا تسليح إسرائيل، بحيث يكون جيشها أقوى من جيوش الدول العربية مجتمعة، وهو ما سماه الغرب «ميزان القوى» في الشرق الأوسط، والذي أدرك ناصر معناه ومغزاه. وظل سباق التسلح قائمًا حتى آخر لحظة من حياة الزعيم الراحل وتدعيم مصر بحائط الصواريخ ضد غارات إسرائيل في العمق، وإعادة بناء جيش مصر بعد تدمير ٨٠٪ من معداته في عدوان ١٩٦٧م. بل إن قبوله مشروع روجرز تم وهو يفاوض الاتحاد السوفييتي على صفقات السلاح وبطء التسليم، وتحديد نوع السلاح وكميته كوسيلة ضغط على الاتحاد السوفييتي للحصول على السلاح المطلوب.
-
(٦)
الحروب المتتالية التي أجهضت مصر، والتي جعلتها كل عشر سنوات أو أقل تعيد بناء جيشها، وتبحث عن مصادر جديدة للسلاح في دول تفرض شروطها، ولزعيم يحرص على الاستقلال الوطني، وفي صناعة تتطور يومًا بعد يوم؛ فالعدوان الثلاثي في ١٩٥٦م لحقه العدوان الإسرائيلي في ١٩٦٧م. هذا بالإضافة إلى حروب مصر الكثيرة إما للدفاع عن نفسها كما هو الحال في حرب الاستنزاف في ١٩٦٩م، أو للدفاع عن الثورات العربية كما هو الحال في حرب اليمن، أثناء فترة التحول الاشتراكي في ١٩٦٢–١٩٦٤م، وكأن الاستعمار أراد لمصر دائمًا أن تبدأ من الصفر حتى لا يحدث لديها تراكمٌ تاريخي تضيع فيه أشواطها المتعددة حتى تموت سيرًا.
-
(٧)
صعوبة التحرك على الساحة الدولية في مشكلةٍ يصفها العالم بأنها مشكلة لاجئين، وتحويلها إبان الثورة المصرية إلى «حقوق شعب فلسطين»، ويعترف بإسرائيل، بما في ذلك القوتان العظميان، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وفي عالمٍ تسيطر عليه أجهزة الإعلام الغربي بما فيها من نفوذٍ صهيوني ومصالح دول كبرى، لا تسلم بحقوق الشعب إلا إذا هددت مصالحها، وفرضت هذه الشعوب نفسها على الساحة الدولية بالأمر الواقع. لذلك لجأ ناصر باستمرار إلى التنويه بقرارات الأمم المتحدة المتعددة بالنسبة لحقوق شعب فلسطين. وابتدأت محاصرة إسرائيل في الساحة الدولية. وأصبحت قضية فلسطين جزءًا من قضايا شعوب آسيا وأفريقيا، وإحدى حركات التحرر في العالم الثالث. في حين ظهرت الصهيونية كحركةٍ ثورية مضادة، وحركة عنصرية توسعية، واستعمار استيطاني له ما يشابهه في جنوب أفريقيا.
-
(٨)
إبراز الكيان الفلسطيني، وتكوُّن منظمة التحرر الفلسطينية، وإنشاء جيش تحرير فلسطيني للمحافظة على شعب فلسطين، حتى تكون قضية فلسطين لها جسم وروح. وفي نهاية الأمر لن يحرر فلسطين إلا أبناء فلسطين في هذا الخضم الواسع من المساندة العربية والتأييد العالمي. وبالرغم مما كان يحدث بين ناصر والفلسطينيين من خلافٍ في وجهات النظر خاصةً بعد مشروع روجرز، فإنه كان خلافًا بين رفقاء السلاح، خلافًا على الوسائل المتبعة وليس على الأهداف، وبلغة العصر خلافًا في «التكتيك» وليس خلافًا في «الاستراتيجية». لذلك رفض كل دعوات الصلح مع إسرائيل والمساومة على حقوق شعب فلسطين.
هذا هو صوت ناصر المكتوم وهو يئن في مضجعه، ويتململ في مثواه، فلعله يعود يومًا رنينًا مدويًا يخرج من صدور الناس فيصم الآذان.