عبد الناصر والحلف الإسلامي١
(١) الإسلام الأمريكي
لقد كانت لعبة الاستعمار في المنطقة العربية الإسلامية دائمًا استغلال الدين لصالحه في معركته مع النظم الاشتراكية. إذ يعلم الاستعمار بناءً على مستشاريه وعلمائه الاجتماعيين والمستشرقين أن الدين في منطقتنا هو تراث الأمة، ومحرك جماهيرها. وبالتالي فهو يقوم باستعماله من أجل تحقيق أهدافه في المنطقة وهي:
-
(١)
الوقوف أمام الأفكار الاشتراكية وانتشارها في المنطقة على أساس أنها أفكار تعارض الدين، يروجها الكفار والملحدون، مادية لا تتفق مع روحانية الأديان ورسالاتها السماوية.
-
(٢)
تفسير الدين تفسيرًا رأسماليًّا بمعنى قصره على الشعائر والطقوس والعبادات والصلوات والعقائد، وترك النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حتى ينشغل المسلمون عنها فتكون بالتالي نظمًا موالية للغرب، تحقق أهداف الاستعمار في السيطرة على الموارد ونهب الثروات.
ويقوم الاستعمار بذلك في لحظات التحول التاريخية في المنطقة مثل ثورة يوليو ١٩٥٢م وما تمثله من استقلالٍ وطني، وقضاء على الأحلاف ومناطق النفوذ، وتأميم مصادر الدخل القومي، والتحول الاشتراكي، والإصلاح الزراعي، والتصنيع، ومقاومة الاستعمار والصهيونية، وإقامة كتلة عدم الانحياز، وتأسيس منظمة الشعوب الآسيوية الأفريقية، بدأ الاستعمار ذلك من خلال عملائه في المنطقة خاصةً في مرحلة التحول الاشتراكي (١٩٦١–١٩٦٤م).
والآن يعيد التاريخ نفسه بعد أن انحسرت الناصرية بعد موت قائدها في ١٩٧٠م، وتحولت تدريجيًّا إلى ثورةٍ مضادة، حتى عادت من جديد بعد اندلاع الثورة الإسلامية الكبرى في إيران في فبراير ١٩٧٩م، تعيد إلى الناصرية مجدها الأول وتكملها عن طريق بنائها على ثقافة الجماهير وهو الإسلام، وعن طريق تعبئة الملايين في الشوارع. فاكتملت لها عناصر النجاح: القيادة الحاسمة، والإسلام كأيديولوجية ثورية، وتعبئة الجماهير. أعادت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران إلى الناصرية حلمها الأول في معاداة الاستعمار، والوقوف في مواجهة الصهيونية، والقضاء على محاولات التغريب التي كانت تهدد الهوية الإسلامية في إيران، واستطاعت الثورة أن تتحدى أعتى الدول الاستعمارية وأقواها عدة عتادًا هي الولايات المتحدة الأمريكية. فقضية الرهائن ليست في الحقيقة قضية جاسوسية أو تسليم شاه، بل هي قضية إثبات الذات، سواء من الخارج بالحصار البحري الاقتصادي، وقطع العلاقات السياسية، أو الداخلي عن طريق إثارة النعرات القومية والعرقية والطائفية أو تدبير المؤامرات أو إغراء بعض كبار الضباط في الجيش، الذين ما زالوا يدينون بالولاء للشاه أو جماعات الطفولة اليسارية خارج الوحدة الوطنية؛ إذ كثيرًا ما يتلاقى الطرفان. اكتشفت الولايات المتحدة سماحة الإسلام، وأنه دين الحب والإخاء والمساواة، لم يقع هذا الاكتشاف أيام حكم الشاه والسافاك، وقت الإرهاب والتعذيب والقتل. فسماحة الإسلام الآن في صالح الاستعمار، ولم يكن لها وجود أيام الشاه الذي كان يقوم بالدفاع عن مصالح الاستعمار، بلا حاجةٍ إلى اللجوء إلى سماحة الإسلام. وقد حدث ذلك أيضًا بعد التدخل السوفييتي في أفغانستان. فقد اكتشف الاستعمار فجأة أن أفغانستان بلدٌ مسلم، وأن شعبه شبه مسلم، وأن الإسلام في خطر، فبدأ يشحذ نفوس المسلمين، ويقوي من هممهم ضد الاحتلال السوفييتي، وكأن الولايات المتحدة أصبحت بين عشيةٍ وضحاها راعية للإسلام، وحامية للمسلمين، وخادمة الحرمين الشريفين، وكأن شعب فلسطين ليس شعبًا مسلمًا، وكأن القدس ليس بها مقدسات المسلمين، وكأن العنصرية في جنوب أفريقيا وفي قلب الولايات المتحدة يرضاها الإسلام، وكأن الفقر والجريمة والرشوة والفساد والقتل والتسلط مقررات إسلامية، شريعة تطبقها الولايات المتحدة نصًّا وروحًا. إن المصالحة الحقة لا تأتي إلا بناء على تسليم اليهود بالحق المستقل عنهم قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [٣: ٦٤]، والمصالحة الحقة تتم بناء على الاتفاق على عبادة الله وحده وليس عبادة الطاغوت أو المال، الإخلاص له، وليس الإيمان أول النهار والكفر آخره، أو الإيمان في العلن والكفر في السر ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، كما تقوم على المساواة بين الشعوب أمام إلهٍ واحد وألا يعتبر شعبٌ نفسه فوق الجميع، له حق الحياة والوجود، وليس للآخرين إلا الموت والفناء.
لقد كان هدف الاستعمار منذ اندلاع الثورات العربية وصياغة أكبر مشروع عربي قومي حديث منذ صلاح الدين ومحمد علي حتى الآن محاصرتها بهدف منع انتشارها. ولما كان الإسلام على الطريقة الرأسمالية خير وسيلة لتحقيق هذا الهدف تمت صياغة الحلف الإسلامي، وهو حلف بغداد القديم، حيث تدخل فيه السعودية وإيران وباكستان في حلفٍ جديد من أجل عمل نموذج إسلامي آخر، يقف في مواجهة النموذج الثوري العربي. ولما كان وعي الجماهير السياسي ليس قويًّا، وكانت تربيتها الدينية تقليدية كان من السهل خداعها. ولما كانت النظم العربية التقليدية متفقة في الأهداف مع الاستعمار في صد المد الثوري الاشتراكي في الستينيات، وضعت نفسها في أيدي الاستعمار متكاتفة معه لتحقيق الهدف المشترك.
(٢) الإسلام كقناعٍ لحلف بغداد
ويستخدم الاستعمار الإسلام كقناعٍ يخفي وراءه أهدافه السياسية في المنطقة. إن التعاون الإسلامي مقبولٌ بل واجب، ولكنه يجب أن يكون فعلًا لوجه الله ولوجه الإسلام، وليس نتيجة لسياسةٍ أمريكية إنجليزية. الحلف الإسلامي الصحيح يجب أن يخدم الإسلام وليس الاستغلال السياسي (الاجتماعي)، وأن يعمل علماء الإسلام من مراكز الفكر الديني، لا أن يدافع عنه الإرهابيون وسماسرة الدين، أخذوا الإسلام حجةً ووسيلة ليخدعوا بها بسطاء الناس.
يقول فيصل إن الغرض من الحلف مقاومة الإلحاد! وكيف يقاوم الإلحاد بالسياسة ولا يقاوم الدين؟ الحلف الإسلامي حلفٌ سياسي وليس تكتلًا دينيًّا؛ لأن التكتل الديني يكون من رجال الدين وليس من رجال السياسة. ومن الذي سيقاوم الإلحاد في العالم العربي وفي العالم الإسلامي؟ شاه إيران وبورقيبة؟ وماذا يعرف الشاه عن الإسلام؟ ومنذ متى يدافع بورقيبة عن الإسلام؟ لقد ألغى بورقيبة إجازة العيد كلها وقصرها على يومٍ واحد. بورقيبة الذي يتكلم على الإسلام أكبر متنكر للإسلام في بلده وهو اليوم يدافع عن الإسلام. لقد أصدر فتوى بالإفطار في رمضان، ولبس العمة اليوم، وجعل نفسه الشيخ بورقيبة داخل الحلف الإسلامي. كيف يصح الحلف الإسلامي؟ شاه إيران يبحث في الشئون الدينية وهو لا يعلم شيئًا عن الدين، يعارض رجل سياسة وليس رجل دين، وكيف يضم الحلف بورقيبة بفتاويه للإفطار في رمضان والصلح مع إسرائيل؟ بورقيبة عميلٌ ومدسوس فكيف يتحدث في الدين أو يناقشه أحدٌ في الدين؟
والحقيقة أن حجج ناصر، بالرغم من قوَّتها الجدلية لإفحام الخصم، إلا أنها ضعيفة إسلاميًّا؛ إذ لا يوجد في الإسلام هذه التفرقة بين رجال الدين والسياسة؛ فرجال الدين هم أهل الحل والعقد الذين بيدهم عقد البيعة على الحاكم أو عزله، ورجال السياسة هم أئمة المسلمين. لا يفرق الإسلام بين الدين والسياسة، كما يريد ناصر أن يجعل رجال الدين يتكلمون في الدين ورجال السياسة يناقشون في السياسة، هناك موضوعات واحدة تجتمع فيها شئون الدين وشئون الدنيا. وإذا كان ناصر يدين تسييس الدين، ويرى أن الدين ثورةٌ اجتماعية ونظام اشتراكي، فإنه من الصعب قصر الدين على العبادات والتعاون الأخوي بين الدول الإسلامية وإبعاده عن السياسة ومعاركها. وإذا كان ناصر قد وصف رجال الدين من قبل بالتخلف والرشوة وتبعية الحكام، فكيف يرجى من مثل هؤلاء أي نفعٍ أو خيرٍ للمسلمين؟ ويبدو أن مقارنة الحلف الإسلامي الغربي بالمجمع المسكوني المسيحي، يجعل تصور ناصر للإسلام تصورًا تقليديًّا مسيحيًّا خالصًا. يستعمل ناصر ولا شك حجة جدلية ضد خصومه، دون أن يعلم أنها قد ترد إليه؛ فهو أيضًا يُدخل الدين في السياسة والسياسة في الدين، بتحويل الحج إلى مؤتمرٍ سياسي سنوي، كما عبَّر عن ذلك في فلسفة الثورة، ويبرر الاشتراكية باسم الإسلام. عبد الناصر يتكلم في الدين وهو رجل سياسة، ويستعمل الدين في السياسة حتى وهو يحاجج لفصل الدين عن السياسة؛ فالدين في كلتا الحالتين بين عبد الناصر وخصومه في أتون السياسة. لما شهر سلاح الدين في وجه ناصر اضطر ناصر لإعادة شهرِه في مواجهة خصومه، فعبد الناصر وخصومه سياسيون يستعملون الدين كسلاحٍ أيديولوجي لتدعيم المواقف السياسية، معارك الدين هي معارك السياسة، واختلافات التفسير هي اختلافات في المصالح وفي المواقف السياسية.
أما حجج ناصر ضد بورقيبة في فتواه الإفطار في رمضان وتقصير إجازة العيد، فإنها أيضًا حججٌ ضعيفة؛ فقد اعتمد بورقيبة على أصولٍ دينية معروفة عند القدماء، ولا يعيب بورقيبة أن يكون مجددًا أخذ برأيٍ دون الرأي السائد، ومن حق حكام المسلمين إعادة الاختيار بين البدائل طبقًا للظروف المتغيرة أو إصدار حكم جديد لم يتوصل إليه القدماء. فإذا كانت الغاية زيادة الإنتاج، وزيادة ساعات العمل، فإن الاجتهاد يكون صحيحًا ضد ما هو سائدٌ الآن من اتخاذ رمضان حجة للكسل والتراخي وذريعة للغياب عن مواقع العمل. إن العمل لهو خير عيد للمسلمين بدلًا من كثرة الإجازات مرة باسم الأعياد الوطنية، ومرةً أخرى باسم الأعياد الدينية.
(٣) حلف بغداد الإسلامي
وهنا يبين ناصر أن التاريخ يعيد نفسه مرةً أخرى على نحوٍ علماني في حلف بغداد ١٩٥٥م، ومرة على نحوٍ إسلامي بعد ذلك بعشر سنوات في ١٩٦٥م، ولكن الغاية واحدة، محاصرة الثورة العرابية بأجنحة الرجعية المتعاونة مع الاستعمار. ليست المعركة إذن بين العلمانية والدين، فكلاهما قد يخدم الاستعمار ولكن علمانية من؟ ودين من؟ علمانية لصالح الجماهير أم لصالح الاستعمار؟ ودين لصالح الشعب أم لصالح الرجعية؟ يكرر ناصر نفسه ولا يطور حججه إلى أيديولوجيةٍ ثورية مضادة، ويجعلها معركةً بين قياداتٍ أو عواصم عربية وإسلامية. صحيحٌ أنه كان ضد الأحلاف والمحاور المضادة حتى ولو كانت لصالحه وحرصًا على وحدة الأمة العربية، ولكنه ظل دائمًا في موقف الدفاع وليس في موقف الهجوم، يجرُّه الاستعمار إلى المعارك ولا يبدأ هو معاركه في جبهاته التي يختارها.
(٤) الانحياز للغرب
(٥) ضرب القومية العربية
كان الهدف من حلف بغداد كذلك ضرب القومية العربية بما تمثله من مضمونٍ تقدُّمي اشتراكي، في مواجهة تحالف القوى الرجعية ورأس المال، وذلك باعتراف الصحف الغربية نفسها. فقد طلع حلف بغداد من جديد في صورة الحلف الإسلامي في إنجلترا في ديسمبر ١٩٦٥م. وبدأ الكلام على الحلف الإسلامي في ٣ / ١٢ / ١٩٦٥م. فقد نشرت الصحف البريطانية في ذلك الوقت أن الملك فيصل أوفد صديقه المغربي محمد الكتاني في مهمةٍ سرية إلى دول الغرب، تهدف إلى إنشاء حلف إسلامي مقدس يتصدى للثورات التقدمية في المنطقة ولمكافحة الشيوعية في العالم العربي، وأن الفكرة هي محاولة إيجاد صيغة إسلامية مناسبة لقيام الحلف. وفي ٤ / ١٢ / ١٩٦٥م في تعليق لصحيفة «لاتربيون» أن واشنطن كلَّفت الملك فيصل والشاه للقيام بتشكيل الحلف الإسلامي المكي المقدَّس، للرد على القومية العربية بزعامة القاهرة، وأنه إذا دعيت إسرائيل للاختيار بين جبهة الملوك والجبهة المتحررة فستختار جبهة الملوك. وفي ٧ / ١٢ / ١٩٦٥م قالت «رويترز» إن فيصل سيبحث مع الشاه الوحدة الإسلامية! وفي ٢٨ / ١٢ / ١٩٦٥م قالت صحيفة «كومبا» الفرنسية إن فيصل انتهز فرصة الهدنة الحالية في اليمن، لوضع أساس تحالف إيراني سعودي في جميع المجالات وإنشاء جمعية إسلامية متحدة. وقالت مجلة «جين أفريك» بمناسبة صفقة السلاح السعودي من بريطانيا إن الصفقة لها صلة بزيارة فيصل لإيران ودعوته لإنشاء جمعية إسلامية، وهو مشروع أيزنهاور لملأ الفراغ في الشرق الأوسط، وتحقق حلم بريطانيا وأمريكا قديمًا بإنشاء جبهة تخلُف حلف بغداد والحلف المركزي، بالوقوف في وجه القومية العربية والحياد، وأن بريطانيا تزود السعودية بالأسلحة لا ضد إسرائيل، بل مقابل قوة دفاع غرب السويس تحت اسم الجهبة الإسلامية، وفي ١٢ / ١ / ١٩٦٦م قالت «لوسوار» الفرنسية إن التفاهم السعودي الإنجليزي الأمريكي في إيران، يدعم النظرية القائلة بأن واشنطن ولندن يؤيدان فيصل والشاه لمشروع حلف إسلامي ضد توسع الاشتراكية في الشرق الأوسط. وفي نفس التاريخ قالت صحيفة «لاتربيون» الفرنسية إن أمريكا تعتمد على السعودية في تعبئة العالم العربي. ويبدو أن هناك نوايا لاستراتيجية واسعة قد يفسرها تزويد إيران والسعودية بالأسلحة، وتغيير تكتيك حلف بغداد الأرضي بتكتيك جوي وبحري. وقالت الصحيفة إن الغرض مساندة التيارات الرجعية وخنق المطالب القومية الاقتصادية، وربط رفاهية هذه البلاد بالمصالح الأجنبية. وقالت «الديلي تليجراف» في ١٨ / ١ / ١٩٦٦م إن الملك فيصل يقود حركة إحياء الحلف الإسلامي. وقالت الصحيفة إنه ما دام الشرق الأوسط حانوتًا مغلقًا من الدول العربية، فإن القاهرة ستظل بلا جدال عاصمته السياسية. لكن وجود حلف إسلامي تشترك فيه دول مثل تركيا وإيران وباكستان يغير الوضع. وتضيف الصحيفة أن كثيرًا من الزعماء المسلمين يرون أن الحلف الإسلامي يكون أقوى نفوذًا من القومية العربية في الشئون العالمية. وهو يكون بطبيعة الحال أقوى نفوذًا في الموالاة للغرب؛ لأن الحلف الإسلامي من أهدافه موالاة الغرب، وقالت «التايمز» في ١٥ / ٢ / ١٩٦٦م إن فكرة عقد مؤتمر إسلامي ليست جديدة. وعلى الرغم مما يقال من أن المؤتمر الجديد سيبحث في مسائل اجتماعية واقتصادية، فإن من المسلَّم به أن أهداف هذا المؤتمر سياسية أساسًا؛ إذ ستحضره دول عربية محافظة مما يساعد على تخفيف ثقل الدول العربية المتحررة.
والغريب أن أنتوني ناتنج يُضرب به المثل في معارضته للعدوان الثلاثي في ١٩٥٦م واستقالته احتجاجًا على ذلك، وهو من ضمن المخططين للحلف الإسلامي لاحتواء القومية العربية بأسلوبٍ أكثر ذكاء وأدوم من العدوان المباشر. فلم يختلف ناتنج مع إيدن في الأهداف بل في الوسائل فقط. والغريب أيضًا أن يصبح الملك فيصل بعد ١٩٧٠م من أخلص الزعماء للقضية العربية والعالم الإسلامي، ورمزًا للأخوة الإسلامية والتضامن العربي والإخاء الإسلامي. وما إن انتهى خطر الناصرية على الملوك حتى انفرد بالزعامة. وكان وراء الخطر البترولي في ١٩٧٣م. وظهر بطلًا في وقتٍ كثر فيه العملاء. وواضح وسط كل ذلك اطلاع ناصر على الصحف العالمية ودرايته ووعيه بالعالم حوله، استطاع الغرب أن ينسج حوله حلقة الإسلام ضد حلقة العروبة، ويحكم حصاره حوله حتى قضى عليه.
(٦) الصلح مع إسرائيل
(٧) تثبيت الرجعية والاستعمار
(٨) خاتمة: الإسلام السياسي
فإذا كان السؤال: إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار نقد عبد الناصر وهجومه على الحلف الإسلامي أحد مكونات الإسلام السياسي، فإنه يمكن الإجابة على النحو الآتي:
-
(١)
لم تتحقق نظرية الدوائر الثلاث التي عرضها عبد الناصر في «فلسفة الثورة»، الدائرة المصرية والدائرة العربية والدائرة الإسلامية، ولم تكن على نفس الدرجة من النشاط والتكامل فيما بينها. كانت الدائرة العربية أقوى الدوائر وأكثرها نشاطًا. أنتجت القومية العربية، والاشتراكية العربية، وحركة التحرر العربي، والقوى التقدمية والثورية العربية … إلخ، وتلتها الدائرة المصرية؛ فالقاهرة مركز الثقل في العالم العربي، والثورة المصرية بداية الثورة العربية ودعامتها الأولى. ولكن ظلت الدائرة الإسلامية مجرد رابطة دينية روحية دون أن تتحول إلى نظريةٍ سياسية أو إلى عملٍ سياسي؛ قوة فعالة على مسرح السياسة الدولية باستثناء استخدامها استخدامًا سياسيًّا للتأثير على الرأي العام في موضوع القدس والمسجد الأقصى، وإرسال البعثات العربية لتدريس اللغة العربية والدين في العالم الإسلامي، وقبول الطلبة الوافدين من العالم الإسلامي في الجامعة الأزهرية، وإرسال المصاحف والكتب الدينية، وتبادل العلماء، وحضور المؤتمرات وتكوين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لهذا الغرض.١٨ وبالرغم من مبادرة الثورة المصرية في مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م وتضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، والتنبيه على أن هذا التكتل الجديد هو صياغة سياسية حديثة للعالم الإسلامي، الذي امتد كله بين قارتَي آسيا وأفريقيا، لم تستطع الثورة استخدام الإسلام كعنصر ترابط بين شعوب آسيا وأفريقيا واستغلال طاقاته في توحيد هذه الشعوب ثقافيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا.١٩ وظلت علاقة مصر بالهند وبالصين وبيوجوسلافيا أقوى منها بكثيرٍ من علاقاتها بالدائرة الإسلامية في إندونيسيا والملايو وباكستان وأفغانستان وتركيا، بالرغم من الخلاف السياسي بين الأنظمة السياسية لهذه الدول والثورة المصرية؛ فالخلاف السياسي بين الحكومات شيءٌ عابر والتقارب الثقافي والحضاري بين الشعوب ثابتٌ ودائم. وقد أدرك عبد الناصر ذلك أيضًا دون أن يحققه؛ إذ يصرح في حديثه إلى المحرر السياسي لجريدة «الأوبزرفر البريطانية» أن الدور الديني الذي يؤديه الإسلام قائمٌ وفعال. وقد تسألني لماذا تبدو علاقاتنا بالهند أقوى منها بإيران المسلمة؟ وأقول لك إن الخلاف بين الحكومة المصرية والحكومة الإيرانية، لا يمكن أن يعوق أو يحجب العلاقة بين الشعب المسلم في مصر والشعب المسلم في إيران. إن العلاقات الدولية بظروفها الموضوعية لها أحكامها، لكن ذلك لا يناقض ولا يتعارض مع تعاطف الشعوب التي تعتنق نفس الدين. وقد تحدثت في «فلسفة الثورة» عن دور أفريقيا لمصر، وعن دورٍ أفريقي آسيوي، وعن دور في العالم الإسلامي، ولست أرى تصادمًا بين هذه الأدوار الثلاثة أو احتكاكًا بين دوائرها.٢٠
-
(٢)
ظلت تفرقة عبد الناصر بين الدين والسياسة تفرقةً ضعيفة ولا تخدم قضيته؛ فهو يواجه عدوًّا يتستَّر بالدين ليحقق أهدافًا سياسية في الحلف الإسلامي، ويبين أن الدين أقرب إلى سياسة عدم الانحياز والخروج عن مناطق النفوذ والأحلاف العسكرية. وفي كلتا الحالتين هناك تداخل بين الدين والسياسة، أولًا لصالح الاستعمار والرجعية، وثانيًا لصالح الثورة والتقدم. بل إن عبد الناصر أراد في «فلسفة الثورة» تحويل الحج إلى مؤتمرٍ سياسي سنوي، وليس مجرد شعائر ومناسك تُقضى؛ قوة سياسية وليس مجرد تذكرة لدخول الجنة. وهو تأويلٌ سياسي للدين يتفق مع روح الدين، الهدف من إقامة الحج وشعائره قبل الإسلام، عندما كانت تحج القبائل إلى البيت العتيق، وبعده عندما يأتي العالم الإسلامي كله في مكانٍ واحد ووقتٍ واحد ليتدبروا شئون الأمة.
-
(٣)
اقتصر استعمال الثورة المصرية في التطبيق الاشتراكي على النحو الدعائي الجدلي الإعلامي للمحافظة على النظام ضد هجوم السعودية. كانت معركة بين نظامين سياسيين وحركتين تاريخيين من خلال أجهزة الإعلام الرسمية ومفكري كل نظام دون أن يكون له أثرٌ كبير على الرأي العام. ولم تتحول المبادئ الثورية الإسلامية العامة إلى مشاريع ثقافية وحضارية للتحقيق؛ فالإسلام الثوري كان مجرد خطابة يتعلمها الناس، فيحفظها طلاب المدارس دون أن يكون لها مضمون عملي يذكر، فلا يكفي أن يقال: إن الإسلام دينٌ تقدمي، رابطة بين الشعوب الإسلامية، دعوةٌ قدسية إلى الحرية، نزل ليطالب البشر في كل زمانٍ ومكان أن يرفضوا استغلال شعب لشعب، وطبقة لطبقة، وإنسان لإنسان، بل نادى بالمساواة والعدالة بين الناس. كما لا يكفي أن يقال: إن رسالة الإسلام بطبيعته معادية للاستعمار وللامتيازات الإقطاعية وللاستغلال الرأسمالي. أو يقال: ليس الإسلام قيدًا يشد الناس إلى الماضي، بل حافز يدفع إلى اقتحام المستقبل على توافق وانسجامٍ كاملَين مع مطالب الحرية السياسية والحرية الاجتماعية والحرية الثقافية؛ فالتحدي الحقيقي هو قياس بعد المسافة بين المثال والواقع، بين الممكن والمتحقق، بين النوايا الطيبة والأفعال القائمة، بين العبارات الإنشائية ومضامينها الخبرية.
-
(٤)
الدائرة العربية نفسها ممتزجة بالدين؛ فالعروبة لغة والإسلام ثقافة. أما القومية العربية التي راجت إبان الثورة المصرية فقد كانت أقرب إلى العلمانية، باستثناء لبنان التي اقترنت فيها الناصرية بالقومية العربية والإسلام ساعة الأزمات، وكما حدث إبان الحرب الأهلية الأولى في ١٩٥٨م ثم الحرب الأهلية الثانية في ١٩٧٥م وحتى الآن. أما ما يقال عن العروبة والإسلام في مواثيق حزب البعث ولدى حركة القوميين العرب، فإنه أقرب إلى التبشير بالعروبة وسط جماهير المسلمين. الإسلام مجرد أداة للتعبير، ووسيلة للانتشار، وكيف يمكن استعمال الكل وهو الإسلام من أجل التشريع للجزء وهو العروبة، دون وضع الجزء في إطار الكل؟ إن القول بأن تعاون جميع المسلمين دون خروجهم عن الولاء لأركانهم الأصلية، هو تناقض يكشف عن استحالة الولاء المزدوج؛ الأول نظري للإسلام والثاني عملي للعروبة؛ فالإسلام دين ودولة، نظر وعمل، ثقافة وسياسة، حضارة وأمة. والحقيقة أن كليهما: العروبة والإسلام، قادران على الاستجابة لمطالب العصر في الحرية والتحرر وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة. ومن هنا فلا وجود لتعارضٍ مفتعل بين القومية العربية والأخوة الإسلامية على ما يقول عبد الناصر؛ فالأمة العربية بقواها الثورية التقدمية لا ترى في الإسلام عائقًا عن التطور بل دافعًا له. ليست القومية العربية عازلًا عن تضامن الشعوب الإسلامية، فمواقع النضال من أجل الحرية السياسية والاجتماعية، تعزز بعضها البعض وتتكامل فيما بينها.٢١
-
(٥)
لم يكن دور مصر في المحافظة على الإسلام قليلًا، فمصر هي التي دافعت عن حصن المسلمين منذ الصليبيين حتى عين جالوت. جندها خير أجناد الأرض وشعبها مرابط إلى يوم القيامة. ومن ثم لا يُعقل أن يحدث تصادمٌ بين الإخوان والثورة، كما حدث في مارس ١٩٥٤م بدعوى الصراع على السلطة. ومنذ ذلك الحين تم شق الأمة إلى قسمين: الإسلام ضد الثورة والعروبة والقومية والاشتراكية والعلمانية. ثم انزوى الإسلام وتحول إلى داخل السجون، ثم خرج راغبًا في الانتقام. والثورة العربية تحولت إلى ثورةٍ مضادة من داخلها. وبالتالي ضاع الحُسنَيان معًا.٢٢ وإن ثقل مصر في محيطها العربي والإسلامي إنما يأتي من اللغة؛ فالعروبة هي اللسان، ومن الدين؛ فالإسلام ثقافة الأمة.
-
(٦)
وبصرف النظر عن تشخيص المبادئ والأفكار والسياسات في الزعماء وكثرة نقد الأشخاص، فإنه قد يتحول الأمر إلى أن تصبح المعارك السياسية معارك شخصية بين زعامات، كل منها يدافع عن نفسه، والكل يدَّعي الشرعية في التمثيل السياسي للأمة جمعاء. إنما كان الهدف من ذلك بيان كيف أصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وكيف تحولت الزعامة في القاهرة من ثورةٍ إلى ثورةٍ مضادة. قد يكون في البحث تكرار كثير، ولكن الهدف كان ترك أقوال عبد الناصر تدل بنفسها؛ فالخطابة السياسية ليست فقط شكل تعبير أو أداة اتصال، بل هي أيضًا موضوع سياسي يكشف عن الأوضاع السياسية العامة، التي كان الخطاب السياسي فيها محورها الأول.