عبد الناصر والحلف الإسلامي١

(١) الإسلام الأمريكي

لقد كانت لعبة الاستعمار في المنطقة العربية الإسلامية دائمًا استغلال الدين لصالحه في معركته مع النظم الاشتراكية. إذ يعلم الاستعمار بناءً على مستشاريه وعلمائه الاجتماعيين والمستشرقين أن الدين في منطقتنا هو تراث الأمة، ومحرك جماهيرها. وبالتالي فهو يقوم باستعماله من أجل تحقيق أهدافه في المنطقة وهي:

  • (١)

    الوقوف أمام الأفكار الاشتراكية وانتشارها في المنطقة على أساس أنها أفكار تعارض الدين، يروجها الكفار والملحدون، مادية لا تتفق مع روحانية الأديان ورسالاتها السماوية.

  • (٢)

    تفسير الدين تفسيرًا رأسماليًّا بمعنى قصره على الشعائر والطقوس والعبادات والصلوات والعقائد، وترك النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حتى ينشغل المسلمون عنها فتكون بالتالي نظمًا موالية للغرب، تحقق أهداف الاستعمار في السيطرة على الموارد ونهب الثروات.

ويقوم الاستعمار بذلك في لحظات التحول التاريخية في المنطقة مثل ثورة يوليو ١٩٥٢م وما تمثله من استقلالٍ وطني، وقضاء على الأحلاف ومناطق النفوذ، وتأميم مصادر الدخل القومي، والتحول الاشتراكي، والإصلاح الزراعي، والتصنيع، ومقاومة الاستعمار والصهيونية، وإقامة كتلة عدم الانحياز، وتأسيس منظمة الشعوب الآسيوية الأفريقية، بدأ الاستعمار ذلك من خلال عملائه في المنطقة خاصةً في مرحلة التحول الاشتراكي (١٩٦١–١٩٦٤م).

والآن يعيد التاريخ نفسه بعد أن انحسرت الناصرية بعد موت قائدها في ١٩٧٠م، وتحولت تدريجيًّا إلى ثورةٍ مضادة، حتى عادت من جديد بعد اندلاع الثورة الإسلامية الكبرى في إيران في فبراير ١٩٧٩م، تعيد إلى الناصرية مجدها الأول وتكملها عن طريق بنائها على ثقافة الجماهير وهو الإسلام، وعن طريق تعبئة الملايين في الشوارع. فاكتملت لها عناصر النجاح: القيادة الحاسمة، والإسلام كأيديولوجية ثورية، وتعبئة الجماهير. أعادت الثورة الإسلامية الكبرى في إيران إلى الناصرية حلمها الأول في معاداة الاستعمار، والوقوف في مواجهة الصهيونية، والقضاء على محاولات التغريب التي كانت تهدد الهوية الإسلامية في إيران، واستطاعت الثورة أن تتحدى أعتى الدول الاستعمارية وأقواها عدة عتادًا هي الولايات المتحدة الأمريكية. فقضية الرهائن ليست في الحقيقة قضية جاسوسية أو تسليم شاه، بل هي قضية إثبات الذات، سواء من الخارج بالحصار البحري الاقتصادي، وقطع العلاقات السياسية، أو الداخلي عن طريق إثارة النعرات القومية والعرقية والطائفية أو تدبير المؤامرات أو إغراء بعض كبار الضباط في الجيش، الذين ما زالوا يدينون بالولاء للشاه أو جماعات الطفولة اليسارية خارج الوحدة الوطنية؛ إذ كثيرًا ما يتلاقى الطرفان. اكتشفت الولايات المتحدة سماحة الإسلام، وأنه دين الحب والإخاء والمساواة، لم يقع هذا الاكتشاف أيام حكم الشاه والسافاك، وقت الإرهاب والتعذيب والقتل. فسماحة الإسلام الآن في صالح الاستعمار، ولم يكن لها وجود أيام الشاه الذي كان يقوم بالدفاع عن مصالح الاستعمار، بلا حاجةٍ إلى اللجوء إلى سماحة الإسلام. وقد حدث ذلك أيضًا بعد التدخل السوفييتي في أفغانستان. فقد اكتشف الاستعمار فجأة أن أفغانستان بلدٌ مسلم، وأن شعبه شبه مسلم، وأن الإسلام في خطر، فبدأ يشحذ نفوس المسلمين، ويقوي من هممهم ضد الاحتلال السوفييتي، وكأن الولايات المتحدة أصبحت بين عشيةٍ وضحاها راعية للإسلام، وحامية للمسلمين، وخادمة الحرمين الشريفين، وكأن شعب فلسطين ليس شعبًا مسلمًا، وكأن القدس ليس بها مقدسات المسلمين، وكأن العنصرية في جنوب أفريقيا وفي قلب الولايات المتحدة يرضاها الإسلام، وكأن الفقر والجريمة والرشوة والفساد والقتل والتسلط مقررات إسلامية، شريعة تطبقها الولايات المتحدة نصًّا وروحًا. إن المصالحة الحقة لا تأتي إلا بناء على تسليم اليهود بالحق المستقل عنهم قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [٣: ٦٤]، والمصالحة الحقة تتم بناء على الاتفاق على عبادة الله وحده وليس عبادة الطاغوت أو المال، الإخلاص له، وليس الإيمان أول النهار والكفر آخره، أو الإيمان في العلن والكفر في السر ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، كما تقوم على المساواة بين الشعوب أمام إلهٍ واحد وألا يعتبر شعبٌ نفسه فوق الجميع، له حق الحياة والوجود، وليس للآخرين إلا الموت والفناء.

لقد كان هدف الاستعمار منذ اندلاع الثورات العربية وصياغة أكبر مشروع عربي قومي حديث منذ صلاح الدين ومحمد علي حتى الآن محاصرتها بهدف منع انتشارها. ولما كان الإسلام على الطريقة الرأسمالية خير وسيلة لتحقيق هذا الهدف تمت صياغة الحلف الإسلامي، وهو حلف بغداد القديم، حيث تدخل فيه السعودية وإيران وباكستان في حلفٍ جديد من أجل عمل نموذج إسلامي آخر، يقف في مواجهة النموذج الثوري العربي. ولما كان وعي الجماهير السياسي ليس قويًّا، وكانت تربيتها الدينية تقليدية كان من السهل خداعها. ولما كانت النظم العربية التقليدية متفقة في الأهداف مع الاستعمار في صد المد الثوري الاشتراكي في الستينيات، وضعت نفسها في أيدي الاستعمار متكاتفة معه لتحقيق الهدف المشترك.

(٢) الإسلام كقناعٍ لحلف بغداد

ويستخدم الاستعمار الإسلام كقناعٍ يخفي وراءه أهدافه السياسية في المنطقة. إن التعاون الإسلامي مقبولٌ بل واجب، ولكنه يجب أن يكون فعلًا لوجه الله ولوجه الإسلام، وليس نتيجة لسياسةٍ أمريكية إنجليزية. الحلف الإسلامي الصحيح يجب أن يخدم الإسلام وليس الاستغلال السياسي (الاجتماعي)، وأن يعمل علماء الإسلام من مراكز الفكر الديني، لا أن يدافع عنه الإرهابيون وسماسرة الدين، أخذوا الإسلام حجةً ووسيلة ليخدعوا بها بسطاء الناس.

الحلف الإسلامي خديعة كبيرة. وكما تصدت الثورة من قبل للرجعية فإنها تتصدى الآن للحلف الإسلامي وتكشف عن نواياه، فإن الخديعة لا تنطلي على أحد. هو حلفٌ جديد يتخذ من الدين اسمًا وستارًا لحلف بغداد، وجدوا له اسمًا عربيًّا وسمَّوه حلف بغداد، وألبسوه عقالًا وعباية حتى تختفي إنجلترا وأمريكا وراءهما، والحلف الجديد ألبسوه عمةً ليسموه الحلف أو المؤتمر أو التجمع الإسلامي، أي شاء أسمه إسلامي لخداع المسلمين باسم الدين. ولقد اعترفت الصحف البريطانية نفسها بأنها هذا الحلف سياسي أساسًا تحت غطاء الدين. لقد قيل في صحف لندن أن الحلف الإسلامي حلفٌ سياسي وليس حلفًا اجتماعيًّا. قال أيزنهاور لسعود في ١٩٥٧م على فكرة الحلف الإسلامي، وتحدث سعود في هذا الأمر من القاهرة.٢ ومن السهل استنتاج أن هؤلاء عملاء الأمريكيين وأدواتهم تحت ستار الدين، مدعين أن الحلف عملية دينية وليست عملية سياسية. يدعي فيصل أن الأمريكيين ليسوا وراء الحلف، وأنها فكرته الخاصة، يهدف بها خير المسلمين وخير الدين، في حين أن الإنجليز والأمريكيين في السعودية مسيطرون عليها، وذلك كفيلٌ أن تكون دعوة فيصل لوجه الله! ويشاركه حسين في دعوته بأنه يخدم الإسلام والمسلمين وهما يخدمان أمريكا وإنجلترا والاستعمار. لقد قرر الاستعمار بعد جلائه عن المنطقة العودة إليها من جديدٍ عن طريق العملاء، فبدأ الكلام عن الحلف الإسلامي، والتضامن الإسلامي، والمؤتمر الإسلامي، ولكن معظم الدول الإسلامية ردت ردودًا غير مشجعة لأن معظمها يعمل بالسياسة، ونظمها متحررة، وتعلم الهدف من الدعوة. ومعروف في العالم العربي كله أن العملية الغرض منها خداع الجماهير والشعوب العربية.٣

يقول فيصل إن الغرض من الحلف مقاومة الإلحاد! وكيف يقاوم الإلحاد بالسياسة ولا يقاوم الدين؟ الحلف الإسلامي حلفٌ سياسي وليس تكتلًا دينيًّا؛ لأن التكتل الديني يكون من رجال الدين وليس من رجال السياسة. ومن الذي سيقاوم الإلحاد في العالم العربي وفي العالم الإسلامي؟ شاه إيران وبورقيبة؟ وماذا يعرف الشاه عن الإسلام؟ ومنذ متى يدافع بورقيبة عن الإسلام؟ لقد ألغى بورقيبة إجازة العيد كلها وقصرها على يومٍ واحد. بورقيبة الذي يتكلم على الإسلام أكبر متنكر للإسلام في بلده وهو اليوم يدافع عن الإسلام. لقد أصدر فتوى بالإفطار في رمضان، ولبس العمة اليوم، وجعل نفسه الشيخ بورقيبة داخل الحلف الإسلامي. كيف يصح الحلف الإسلامي؟ شاه إيران يبحث في الشئون الدينية وهو لا يعلم شيئًا عن الدين، يعارض رجل سياسة وليس رجل دين، وكيف يضم الحلف بورقيبة بفتاويه للإفطار في رمضان والصلح مع إسرائيل؟ بورقيبة عميلٌ ومدسوس فكيف يتحدث في الدين أو يناقشه أحدٌ في الدين؟

لم تكمل الثورة فكرتها الأولى عن المؤتمر السياسي من خلال الحج. فقد قام حلف بغداد في أوائل ١٩٥٥م. وأصبح من المستحيل أن يجتمع المؤتمر الإسلامي كمؤتمرٍ سياسي غير مرتبط بالاستعمار، يعمل لصالح الإسلام والمسلمين، ويعمل على التخلص من الاستعمار والأحلاف وعلى إقامة عدالة اجتماعية لإنصاف المسلمين في كل بلدٍ مسلم. ولكن بعد قيام حلف بغداد، وانضمام تركيا وإيران وباكستان لهذا الحلف أصبح من العسير أن يجتمع المؤتمر الإسلامي على أساسٍ سياسي. لذلك سارت الثورة في الفكرة على أساسٍ شعبي. فكل تقاربٍ على مستوى القمة يجب أن يبدأ من الذين استطاعوا تحرير بلادهم من الاستعمار والأحلاف ومناطق النفوذ. وقد كانت اتصالات هؤلاء بعضهم ببعض مستمرة. إذا لم تكن دعوة التقارب الإسلامي على هذا الأساس بل على أساس سياسي على اجتماع قادة الدول، تكون غايتها بالرغم من رفع اسم الإسلام ضرب المسلمين وتشتيتهم باسم الدين، وتفتيت العرب لحساب الاستعمار؛ أي تزييف الدين من أجل خدمة المبادئ والأهداف الاستعمارية. ولم يأخذ مؤتمر القمة الأخير قرارات بشأن التعاون الإسلامي مع مصر، من أجل قضايا الحرية ومن أجل قضية فلسطين.٤
لقد صرح الملك فيصل لإحدى الصحف الكويتية معلقًا على الحلف الإسلامي بأنه قام تعاون بين الطوائف المسيحية، وكان هناك المجمع المسكوني ولم يقل عنه أحدٌ إنه تحالف.٥ والحقيقة أن اجتماع المجمع المسكوني ليس اجتماعًا سياسيًّا أو عسكريًّا، بل اجتماع ضم رجال الدين المسيحيين ولم يضم رؤساء الدول المسيحية. أما إذا ضم رؤساء الدول المسيحية فإنه ينقلب إلى اجتماعٍ ومؤتمر سياسي. إن التضامن الإسلامي الحقيقي هو تضامن الشعوب الإسلامية المناضلة ضد الاستعمار، لا تضامن الحكومات الرجعية العميلة للاستعمار والمستغلة للإسلام والمزيفة له. والجماهير قادرة على معرفة من يخدم الدين ومن يستغل الدين. لا تجد الرجعية العربية المتحالفة مع الاستعمار من خطٍّ دفاعي سوى تزييف الدين. وتكشف الجماهير العربية هذا التزييف واستخدام الدين لوضع البلاد العربية داخل مناطق النفوذ. والشعوب العربية قادرة على إسقاط الحلف الإسلامي المزعوم كما أسقطت حلف بغداد. وإن الثورة المصرية لعلى استعدادٍ لعقد مؤتمر إسلامي لعلماء الدين، وليس من علماء السياسة والسماسرة والإرهابيين أو شاه إيران وبورقيبة، مؤتمرٌ إسلامي لله وللدين وليس للاستعمار والرجعية. وإن الإسلام لأقدس من أن يسخَّر لخدمة الاستعمار أو الرجعية. وتظل الثورة المصرية على استعدادٍ كامل لأن تعمل من أجل التضامن الإسلامي الحق السليم الذي يخدم الدين، ويتكون أساسًا من علماء الدين. وتظل أيضًا على استعدادٍ لعقد اجتماع إسلامي كريم ونزيه داخل الأزهر بالقاهرة، أو داخل الحرم النبوي في مكة، أو داخل المسجد الأموي في دمشق، أو داخل المسجد الأقصى في القدس؛ مؤتمر لله وليس للاستعمار والرجعية.

والحقيقة أن حجج ناصر، بالرغم من قوَّتها الجدلية لإفحام الخصم، إلا أنها ضعيفة إسلاميًّا؛ إذ لا يوجد في الإسلام هذه التفرقة بين رجال الدين والسياسة؛ فرجال الدين هم أهل الحل والعقد الذين بيدهم عقد البيعة على الحاكم أو عزله، ورجال السياسة هم أئمة المسلمين. لا يفرق الإسلام بين الدين والسياسة، كما يريد ناصر أن يجعل رجال الدين يتكلمون في الدين ورجال السياسة يناقشون في السياسة، هناك موضوعات واحدة تجتمع فيها شئون الدين وشئون الدنيا. وإذا كان ناصر يدين تسييس الدين، ويرى أن الدين ثورةٌ اجتماعية ونظام اشتراكي، فإنه من الصعب قصر الدين على العبادات والتعاون الأخوي بين الدول الإسلامية وإبعاده عن السياسة ومعاركها. وإذا كان ناصر قد وصف رجال الدين من قبل بالتخلف والرشوة وتبعية الحكام، فكيف يرجى من مثل هؤلاء أي نفعٍ أو خيرٍ للمسلمين؟ ويبدو أن مقارنة الحلف الإسلامي الغربي بالمجمع المسكوني المسيحي، يجعل تصور ناصر للإسلام تصورًا تقليديًّا مسيحيًّا خالصًا. يستعمل ناصر ولا شك حجة جدلية ضد خصومه، دون أن يعلم أنها قد ترد إليه؛ فهو أيضًا يُدخل الدين في السياسة والسياسة في الدين، بتحويل الحج إلى مؤتمرٍ سياسي سنوي، كما عبَّر عن ذلك في فلسفة الثورة، ويبرر الاشتراكية باسم الإسلام. عبد الناصر يتكلم في الدين وهو رجل سياسة، ويستعمل الدين في السياسة حتى وهو يحاجج لفصل الدين عن السياسة؛ فالدين في كلتا الحالتين بين عبد الناصر وخصومه في أتون السياسة. لما شهر سلاح الدين في وجه ناصر اضطر ناصر لإعادة شهرِه في مواجهة خصومه، فعبد الناصر وخصومه سياسيون يستعملون الدين كسلاحٍ أيديولوجي لتدعيم المواقف السياسية، معارك الدين هي معارك السياسة، واختلافات التفسير هي اختلافات في المصالح وفي المواقف السياسية.

أما حجج ناصر ضد بورقيبة في فتواه الإفطار في رمضان وتقصير إجازة العيد، فإنها أيضًا حججٌ ضعيفة؛ فقد اعتمد بورقيبة على أصولٍ دينية معروفة عند القدماء، ولا يعيب بورقيبة أن يكون مجددًا أخذ برأيٍ دون الرأي السائد، ومن حق حكام المسلمين إعادة الاختيار بين البدائل طبقًا للظروف المتغيرة أو إصدار حكم جديد لم يتوصل إليه القدماء. فإذا كانت الغاية زيادة الإنتاج، وزيادة ساعات العمل، فإن الاجتهاد يكون صحيحًا ضد ما هو سائدٌ الآن من اتخاذ رمضان حجة للكسل والتراخي وذريعة للغياب عن مواقع العمل. إن العمل لهو خير عيد للمسلمين بدلًا من كثرة الإجازات مرة باسم الأعياد الوطنية، ومرةً أخرى باسم الأعياد الدينية.

(٣) حلف بغداد الإسلامي

الحلف الإسلامي هو طبعة جديدة لحلف بغداد. فبعد سقوط هذا الأخير بعد الثورة العراقية في يوليو (تموز) ١٩٥٨م، أراد الاستعمار والرجعية إحياء الحلف بإلباس القبعة والبذلة العمامة والجبة حتى يبدو محليًّا، وكأنه يدافع عن مصالح الشعوب في المنطقة. كان هدف الرجعية والاستعمار تحويل حلف بغداد إلى حلفٍ إسلامي، بعدما دخلت تركيا وباكستان وإيران والعراق في الحلف، ثم خرجت العراق وبقيت تركيا وباكستان. ليس الحلف الإسلامي إلا استكمالًا لحلف بغداد لوضع الأمة العربية داخل مناطق النفوذ. ومن لم يستطع الدخول في حلف بغداد قبل اليوم حاول عن طريق الإسلام. ولكن الشعب العربي يعلم أن طريق الإسلام هو الاسم الجديد لحلف بغداد والاسم الجديد لمناطق النفوذ. وكل من هلل لحلف بغداد في ١٩٥٥م ينادي اليوم بالحلف الإسلامي. ولما كان هذا الحلف مثل حلف بغداد، فإن مصيره أيضًا مثل مصير حلف بغداد.٦
وفي كلتا الحالتين، لم يتجاوز الأمر مرحلة الشعارات التي سرعان ما أسقطها الشعب العربي. فشعار الحلف الإسلامي الذي يروج له ليس بالفكرة الجديدة، بل سبقتها محاولات مشابهة مثل حلف بغداد، ولا تختلف الفكرتان في شيء. وكما رفض الشعب العربي الفكرة الأولى سيرفض الفكرة الثانية. والدول الداعية للحلف الإسلامي أو المؤتمر الإسلامي هي جدة وطهران. ووجود طهران يؤكد بل ويزيد التأكيد على أن الحلف ضد العرب وضد المسلمين لحماية الرجعية. والذي أيد الحلف صحف السعودية وإيران وصحف بورقيبة في تونس وأعداء العروبة والإسلام في لبنان، نفس الجرائد التي أيدت حلف بغداد في ١٩٥٥-١٩٥٦م، هي التي أيدت الحلف الإسلامي في ١٩٦٥-١٩٦٦م.٧

وهنا يبين ناصر أن التاريخ يعيد نفسه مرةً أخرى على نحوٍ علماني في حلف بغداد ١٩٥٥م، ومرة على نحوٍ إسلامي بعد ذلك بعشر سنوات في ١٩٦٥م، ولكن الغاية واحدة، محاصرة الثورة العرابية بأجنحة الرجعية المتعاونة مع الاستعمار. ليست المعركة إذن بين العلمانية والدين، فكلاهما قد يخدم الاستعمار ولكن علمانية من؟ ودين من؟ علمانية لصالح الجماهير أم لصالح الاستعمار؟ ودين لصالح الشعب أم لصالح الرجعية؟ يكرر ناصر نفسه ولا يطور حججه إلى أيديولوجيةٍ ثورية مضادة، ويجعلها معركةً بين قياداتٍ أو عواصم عربية وإسلامية. صحيحٌ أنه كان ضد الأحلاف والمحاور المضادة حتى ولو كانت لصالحه وحرصًا على وحدة الأمة العربية، ولكنه ظل دائمًا في موقف الدفاع وليس في موقف الهجوم، يجرُّه الاستعمار إلى المعارك ولا يبدأ هو معاركه في جبهاته التي يختارها.

(٤) الانحياز للغرب

أراد الحلف الإسلامي الإيقاع بدول المنطقة في سياسة الانحياز والأحلاف ومناطق النفوذ، لمواجهة سياسة عدم الانحياز ومناهضة الأحلاف والخروج من مناطق النفوذ. بعض الدول الإسلامية دخلت في مواثيق، وانحازت للغرب. وبدأت محاولات لاستغلال الدين الإسلامي من أجل سياسة الانحياز التي تتنافى مع سياسة عدم الانحياز، سياسة الثورة المصرية. وقد بدأ الحديث عن حلفٍ إسلامي غير منحاز مباشرة إلى الغرب، ولكنه منحاز بطريقةٍ غير مباشرة. بدأ ذلك قبل ١٩٥٥م ولم ينقطع. كانت هناك خطورة كبيرة في أن تنضوي مصر تحت اسم الإسلام لتنحاز إلى الغرب، أو لتدخل تحت سيطرة الدول الغربية لأن ذلك يتنافى مع الإسلام؛ فالإسلام ينادي بالحرية، وبأن يكون الشعب حرًّا وسيدًا لنفسه، وألا تكون مصر داخلة في مناطق النفوذ لأية دولة أخرى. وكيف يكون هناك حلف إسلامي يأخذ أوامره من لندن أو واشنطن أو أية دولة أخرى؟! الحلف الإسلامي في هذه الحالة يتنافى مع كلمة الإسلام، يكون حلفًا غريبًا. لذلك رفضت الثورة المصرية أن يكون العمل تحت اسم الإسلام جارًّا إلى الأحلاف، أو إلى الانحياز للغرب بطريقة الخديعة، تحت اسم الحلف الإسلامي أو الرابطة الإسلامية أو أي اسمٍ من الأسماء؛ لأن سياسة مصر هي سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، سواء كان الحلف الإسلامي أو المؤتمر الإسلامي أو التجمع الإسلامي أو التكتل الإسلامي أو مؤتمر ذروة إسلامي. هو حلف للتأخر ضد الشعوب العربية ووضعها في مناطق النفوذ الغربي، وهو حلف للتآمر على البلاد الإسلامية الأخرى غير العربية التي تتبع سياسة عدم الانحياز. الحلف كله المقصود منه وضع الأمة العربية كلها تحت مناطق نفوذ أمريكا وإنجلترا.٨ وإذا ما تم الانحياز للغرب فإنه يسهل تطويق الاتحاد السوفييتي من الجنوب الغربي لآسيا حتى أوروبا، فيمتد الحصار على ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا. وبالتالي يتم شق حركة عدم الانحياز والقضاء على منظمة الشعوب الآسيوية الأفريقية. وبالرغم من هذه الخطابة السياسية التي تجعل الخصم في نفس الدرجة من القوة، يظل الخلاف بين الرؤيتين ليس خلافًا في الدين بل صراعًا بين قوتين سياسيتين، ولا يكون الحسم بينهما في أي الرؤيتين أصح من الأخرى، بل في أي القوتين أقدر على حسم الصراع. وبهزيمة ١٩٦٧م ثم وفاة عبد الناصر في ١٩٧٠م انحسرت القوى الثورية في المنطقة، وكسب الاستعمار والرجعية الجولة.

(٥) ضرب القومية العربية

كان الهدف من حلف بغداد كذلك ضرب القومية العربية بما تمثله من مضمونٍ تقدُّمي اشتراكي، في مواجهة تحالف القوى الرجعية ورأس المال، وذلك باعتراف الصحف الغربية نفسها. فقد طلع حلف بغداد من جديد في صورة الحلف الإسلامي في إنجلترا في ديسمبر ١٩٦٥م. وبدأ الكلام على الحلف الإسلامي في ٣ / ١٢ / ١٩٦٥م. فقد نشرت الصحف البريطانية في ذلك الوقت أن الملك فيصل أوفد صديقه المغربي محمد الكتاني في مهمةٍ سرية إلى دول الغرب، تهدف إلى إنشاء حلف إسلامي مقدس يتصدى للثورات التقدمية في المنطقة ولمكافحة الشيوعية في العالم العربي، وأن الفكرة هي محاولة إيجاد صيغة إسلامية مناسبة لقيام الحلف. وفي ٤ / ١٢ / ١٩٦٥م في تعليق لصحيفة «لاتربيون» أن واشنطن كلَّفت الملك فيصل والشاه للقيام بتشكيل الحلف الإسلامي المكي المقدَّس، للرد على القومية العربية بزعامة القاهرة، وأنه إذا دعيت إسرائيل للاختيار بين جبهة الملوك والجبهة المتحررة فستختار جبهة الملوك. وفي ٧ / ١٢ / ١٩٦٥م قالت «رويترز» إن فيصل سيبحث مع الشاه الوحدة الإسلامية! وفي ٢٨ / ١٢ / ١٩٦٥م قالت صحيفة «كومبا» الفرنسية إن فيصل انتهز فرصة الهدنة الحالية في اليمن، لوضع أساس تحالف إيراني سعودي في جميع المجالات وإنشاء جمعية إسلامية متحدة. وقالت مجلة «جين أفريك» بمناسبة صفقة السلاح السعودي من بريطانيا إن الصفقة لها صلة بزيارة فيصل لإيران ودعوته لإنشاء جمعية إسلامية، وهو مشروع أيزنهاور لملأ الفراغ في الشرق الأوسط، وتحقق حلم بريطانيا وأمريكا قديمًا بإنشاء جبهة تخلُف حلف بغداد والحلف المركزي، بالوقوف في وجه القومية العربية والحياد، وأن بريطانيا تزود السعودية بالأسلحة لا ضد إسرائيل، بل مقابل قوة دفاع غرب السويس تحت اسم الجهبة الإسلامية، وفي ١٢ / ١ / ١٩٦٦م قالت «لوسوار» الفرنسية إن التفاهم السعودي الإنجليزي الأمريكي في إيران، يدعم النظرية القائلة بأن واشنطن ولندن يؤيدان فيصل والشاه لمشروع حلف إسلامي ضد توسع الاشتراكية في الشرق الأوسط. وفي نفس التاريخ قالت صحيفة «لاتربيون» الفرنسية إن أمريكا تعتمد على السعودية في تعبئة العالم العربي. ويبدو أن هناك نوايا لاستراتيجية واسعة قد يفسرها تزويد إيران والسعودية بالأسلحة، وتغيير تكتيك حلف بغداد الأرضي بتكتيك جوي وبحري. وقالت الصحيفة إن الغرض مساندة التيارات الرجعية وخنق المطالب القومية الاقتصادية، وربط رفاهية هذه البلاد بالمصالح الأجنبية. وقالت «الديلي تليجراف» في ١٨ / ١ / ١٩٦٦م إن الملك فيصل يقود حركة إحياء الحلف الإسلامي. وقالت الصحيفة إنه ما دام الشرق الأوسط حانوتًا مغلقًا من الدول العربية، فإن القاهرة ستظل بلا جدال عاصمته السياسية. لكن وجود حلف إسلامي تشترك فيه دول مثل تركيا وإيران وباكستان يغير الوضع. وتضيف الصحيفة أن كثيرًا من الزعماء المسلمين يرون أن الحلف الإسلامي يكون أقوى نفوذًا من القومية العربية في الشئون العالمية. وهو يكون بطبيعة الحال أقوى نفوذًا في الموالاة للغرب؛ لأن الحلف الإسلامي من أهدافه موالاة الغرب، وقالت «التايمز» في ١٥ / ٢ / ١٩٦٦م إن فكرة عقد مؤتمر إسلامي ليست جديدة. وعلى الرغم مما يقال من أن المؤتمر الجديد سيبحث في مسائل اجتماعية واقتصادية، فإن من المسلَّم به أن أهداف هذا المؤتمر سياسية أساسًا؛ إذ ستحضره دول عربية محافظة مما يساعد على تخفيف ثقل الدول العربية المتحررة.

وتساءلت جريدة «لوموند دبلوماتيك» في ١٦ / ٢ / ١٩٦٢م عما إذا كان شعار الإسلام سيتمكن من القضاء على التقدمية في العالم العربي. وقد قام وزير الدولة البريطاني السابق أنطوني ناتنج بجولةٍ في الدول العربية بعد فشل خطة السويس، ونشر عدة مقالات في صحيفة «نيويورك هيرالد تربيون» خلال عام ١٩٧٥م يقول فيها إن الوسيلة الوحيدة للتفاهم مع القومية العربية يجب أن يكون عن طريق تأسيس جماعة إسلامية من الممالك الإسلامية بالمنطقة، عندئذٍ تخرج البلاد العربية من حيز القومية العربية الضعيف الذي لا يمكن التفاهم فيه إلى حيز العقيدة الإسلامية الواسع الذي يجمع العربي والتركي والإيراني والباكستاني في مجالٍ واسع؛ إذ ينسون جنسياتهم ولا يفكرون إلا في الإسلام. حينئذٍ يمكن للبلاد العربية التفاهم مع الغرب! وقد قال ناتنج ذلك عن الحلف الإسلامي أو الجماعة الإسلامية أو التكتل الإسلامي في ١٩٥٧م. لقد ظنت الدول الاستعمارية والرجعية أن القوى التقدمية في العالم العربي مختلفة مع بعضها، وأنها قد تعبت من النضال، وبهذا أصبح الطريق مفتوحًا أمام الاستعمار القديم لوضع البلاد العربية في حلفٍ جديد، يلبسونه عقالًا وعباية ويتخذ من الدين اسمًا أو ستارًا لحلف بغداد. والأهداف واحدة وهي القضاء على القومية العربية التي سيطرت على أفكار واتجاهات الشعوب العربية، باعتبار أن القومية العربية هي الوسيلة الوحيدة للتخلص من الاستعمار ومناطق النفوذ وتحقيق الوحدة العربية. لقد تحالف التآمر الرجعي ضد العراق من أجل إبعاد بغداد عن القاهرة، ونشر فكرة الوحدة الإسلامية في مواجهة الوحدة العربية. واتفقا على أن تعمل دول حلف بغداد الإسلامية من أجل الوحدة الإسلامية، وتكون قطب جذب للدول العربية فتقوم الوحدة الإسلامية في مواجهة الوحدة العربية. وقد زار سعود عام ١٩٥٧م أمريكا ثم عاد بعد أن تشاور مع أيزنهاور من أجل إقامة حلف إسلامي، وطبقًا لنصيحته، وطلب من باقي العرب أن تشترك معه في حلفٍ إسلامي. وقد ذكر أيزنهاور في مذكراته أن السياسة الأمريكية في ١٩٥٧م قد خطت على أساس استخدام الملك سعود ضد الوحدة العربية والوقوف في وجه القومية العربية.٩

والغريب أن أنتوني ناتنج يُضرب به المثل في معارضته للعدوان الثلاثي في ١٩٥٦م واستقالته احتجاجًا على ذلك، وهو من ضمن المخططين للحلف الإسلامي لاحتواء القومية العربية بأسلوبٍ أكثر ذكاء وأدوم من العدوان المباشر. فلم يختلف ناتنج مع إيدن في الأهداف بل في الوسائل فقط. والغريب أيضًا أن يصبح الملك فيصل بعد ١٩٧٠م من أخلص الزعماء للقضية العربية والعالم الإسلامي، ورمزًا للأخوة الإسلامية والتضامن العربي والإخاء الإسلامي. وما إن انتهى خطر الناصرية على الملوك حتى انفرد بالزعامة. وكان وراء الخطر البترولي في ١٩٧٣م. وظهر بطلًا في وقتٍ كثر فيه العملاء. وواضح وسط كل ذلك اطلاع ناصر على الصحف العالمية ودرايته ووعيه بالعالم حوله، استطاع الغرب أن ينسج حوله حلقة الإسلام ضد حلقة العروبة، ويحكم حصاره حوله حتى قضى عليه.

(٦) الصلح مع إسرائيل

وقد كان من ضمن أهداف الحلف الإسلامي إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي؛ لأن القومية العربية ترفض الصلح أو الاعتراف أو عقد أية معاهدة سلام مع العدو الصهيوني. فمن خلال الحلف الإسلامي يمكن التفاهم مع إسرائيل، في حين أن القومية العربية لا تقبل وجود إسرائيل بدليل اعتراف إيران وتركيا بإسرائيل. لذلك وضع الحلف الإسلامي الرجعية والاستعمار يدًّا بيد ضد العروبة وضد فلسطين بل وضد المسلمين. وفي نفس الوقت تدَّعي لندن وواشنطن المخطِّطتان للحلف أن الحلف كسب وتأييد للقضية الفلسطينية، وهو نفس ما قاله نوري السعيد في ١٩٥٥م. وماذا تكسب فلسطين من حلفٍ تشرف عليه أمريكا وبريطانيا، ويشترك فيه حكام إيران وتونس الذين يدْعون للصلح مع إسرائيل؟١٠ لقد أزعجت القيادة العربية الموحدة الصهيونية والاستعمار، فبدأت الرجعية في الحديث عن الحلف الإسلامي، ثم بدأت الاتصالات مع شاه إيران. وحينما يتحرك فيصل وحسين وبورقيبة فإن هذا يعني أن الاستعمار قد دفع أصدقاءه إلى العمل، وتحقيق عدة أهداف: منها إضعاف القيادة العربية الموحدة، وإضعاف الكيان الفلسطيني وجيش تحرير فلسطين. والعجيب أن تدافع إسرائيل عن الحلف الإسلامي فتذكر في إذاعتها أن عبد الناصر وقف ضد الحلف الإسلامي لأنه يهدد زعامته في المنطقة. وهذه شهادة من العدو بأن الحلف الذي تدافع عنه إسرائيل يعبِّر عن أحقاد الصهيونية. وقد قيل إن الحلف الإسلامي هو تكتيلٌ للمسلمين ضد إسرائيل. والحقيقة أن الحلف من صنع الاستعمار والرجعية وإسرائيل ممثلًا في السعودية والأردن وإيران. يستطيع الحلف أن يخدم قضية فسلطين بشيءٍ واحد فقط هو منع إمداد إسرائيل بالبترول الذي يأتي من إحدى دول الحلف من إيران إلى إيلات. الحلف حلف استعماري، ومعنى هذا أنه مع الصهيونية لأن الصهيونية هي الحليف السياسي للاستعمار. ويعلم العالم العربي ذلك، والقومية العربية قادرة على تعبئته ضد عملاء الاستعمار وحلفاء الصهيونية والطابور الخامس. وكيف يضم الحلف بورقيبة بفتاويه للإفطار في رمضان وبالصلح مع إسرائيل؟ وإذا كان بورقيبة عميلًا مهووسًا فكيف يتحدث أو يناقش في الدين؟ وفي عام ١٩٦٠م أعلن الشاه اعترافه بإسرائيل فقطعت الثورة المصرية علاقتها معه، مع أنها في علاقاتٍ مع دول أخرى معترفة بإسرائيل؛ وذلك لأن إيران أيام الشاه كانت تتاجر بالدين، وتضلل باسم الإسلام. وكانت إيران قد اعترفت بإسرائيل في ١٩٥٠م ثم جاءت حكومة مصدق في ١٩٥١م وسحبت اعترافها، وأغلقت القنصلية الإسرائيلية في طهران. ولكن بعد عودة الحكم الرجعي في ١٩٥٣م عادت العلاقات التجارية والثقافية، وفتحت الوكالة اليهودية فرعًا لها في طهران. وإيران دولة إسلامية من دول حلف بغداد تفتح كل مجالات العمل مع إسرائيل وتساعد إسرائيل ضد الوطن العربي، وأصبحت قاعدة إسرائيلية. ونشرت جريدة «هاعام» الإسرائيلية أنه تم توقيع اتفاقية سرية بين إسرائيل وإيران في ١٩٦١م في مطار طهران. كان بنجوريون وهو في طريقه إلى بورما قد مر على طهران، ونُشر الخبر في ٦ / ١٢ / ١٩٦١م، ثم عرف السر من الزيارة في ٦ / ١٢ / ١٩٦١م. وبالرغم من أن الصحف الإيرانية قالت إن السبب هو تعطيل المحركات إلا أن الزيارة كانت مرتبة، واشترك فيها رئيس أركان حرب الجيش الإيراني وممثل إيران في الحلف المركزي لدراسة دور إسرائيل في النظم الدفاعية لبلدان الحلف المركزي، وضرورة تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري بين البلدين، وأن بريطانيا تزود السعودية بالأسلحة ليس ضد إسرائيل، بل لإقامة قوة دفاع غرب السويس باسم الجبهة الإسلامية.١١ وإن تعاون الرجعية والاستعمار في الحلف الإسلامي، إنما هو موجهٌ ضد العروبة والإسلام وضد فلسطين. فشاه إيران وبورقيبة تونس عملاء الاستعمار والصهيونية وكلاهما أكبر متنكرين للإسلام. وقد يكون الهدف الأكبر للحلف الإسلامي هو تهديد لاستمرار أي عملٍ عربي مشترك لمواجهة عدو العرب المشترك وهو إسرائيل. وبالرغم من التناقضات مع الرجعية العربية فقد استطاعت الثورة المصرية أن تضع أسس عمل موحد من أجل فلسطين. كما تم إنشاء القيادة العربية الموحدة لأول مرة، وهو حدثٌ كبير في تاريخ كفاح العرب ونضال الأمة العربية. واستطاعت الثورة المصرية أيضًا من خلال مؤتمرات القمة أن تجمع الشعب الفلسطيني لأول مرة منذ ١٩٤٨م. وبذلك ظهر الكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وبطبيعة الحال لم يقبل الاستعمار وإسرائيل هذا العمل العربي المشترك من أجل فلسطين، فعمل على تفتيت الجبهة العربية عن طريق إحداث الفرقة بينها وذلك بإنشاء الحلف الإسلامي.١٢

(٧) تثبيت الرجعية والاستعمار

والهدف الأخير من الحلف الإسلامي هو تثبيت أركان الرجعية وقواعد الاستعمار في الوطن العربي. الحلف الإسلامي استعماري هدفه أنه يقاتل حركات التحرر، وأن يتصدى للتقدم الاجتماعي. هو مجرد تجميع القوى الرجعية المتعاونة مع الاستعمار في خطٍّ دفاعي أخير ضد المد الثوري العربي التقدمي في البلاد العربية. وكان من الطبيعي أن تتعاون الرجعية والاستعمار وهما يشعران بالخوف من المد الثوري العربي، الذي يمثل خطرًا على مصالحهما وعلى احتكارات البترول، وخشية من الاشتراكية التي تهدد كيانهما المشترك وأنظمتهما ووجودهما، فبدآ معًا فكرةً جديدة، استغلال الدين كسلاحٍ حتى تتحقق أهدافهما المشتركة في المحافظة على نفوذهما ودورهما في سلب ناتج الشعب العربي، والمحافظة على الاحتكارات البترولية ومكاسبها الباهظة وضمان استعادة نفوذهما في البلاد العربية. وبهذا يمكن التخلص من الحركات التحررية الشعبية في الوطن العربي. إن وصف الحلف الإسلامي بالرجعية والتعاون مع الاستعمار ضد العروبة وضد المسلمين وضد فلسطين يستند إلى أصحاب الدعوة الأصليين في صحف لندن وواشنطن. كما أن العواصم الداعية للحلف الإسلامي هما جدة وطهران؛ وذلك يعني أن الحلف ضد الغرب وضد المسلمين ولحماية الرجعية. لم يؤيد الحلف الإسلامي إلا إيران والسعودية في العالم العربي، كما أيدت صحف بورقيبة الحلف، وكذلك أيده أعداء العروبة والإسلام في لبنان وكل من هلل لحلف بغداد في ١٩٥٥م. والحقيقة أن الحلف موجَّه ضد قوى الثورة في العالم العربي، بالرغم من أن الإسلام ثورة وأن التضامن جزءٌ من العقيدة الإسلامية تحتاجه الشعوب.١٣
وعندما سأل كرانجيا عبد الناصر: هل يمكن أن يقال إن الهجوم الاستعماري هو في الواقع امتداد في شكلٍ جديد لاستراتيجية منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط والحلف المركزي وحلف جنوب شرقي آسيا. وأنا عندما أقول ذلك أفكر فيما يسمونه بالمؤتمر أو الحلف الإسلامي؟ أجاب عبد الناصر: هذا صحيح. إنها نفس الاستراتيجية القديمة. كانوا في الماضي يضعون الخطط لمحاربة الثورة ولتمكين الاستعمار الجديد تحت ستار الخوف من الغول الشيوعي، لكنهم اليوم قد أعطوا هذه الاستراتيجية طلاءً دينيًّا زائفًا. حاولوا في أول الأمر أن يفرضوا على المنطقة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط، وعندما فشل حلف بغداد في تحقيق النتائج التي أرادوها، بدءوا يفكرون فيما يسمى بالحلف الإسلامي، ليوقفوا زحف الاشتراكية والديمقراطية في جوهرها إلى الاشتراكية والديمقراطية. وقد ذكر أيزنهاور هذه المؤامرة في مذكراته. وكانوا يفكرون في ذلك الوقت في الملك سعود كأداةٍ رئيسية لمؤامرتهم الرجعية الاستعمارية. وسقط سعود لأن الإقطاع لا بد له أن يسقط عندما يتصدى للقوى التقدمية الثورية. اكتشفوا اليوم أن الملك فيصل نبيٌّ جديد لهجومهم الاستعماري، إلا أنه لم يجد تأييدًا لهذا التحريف في تفسير الإسلام لتحويله إلى إسلام سياسي رجعي إلا من بورقيبة وشاه إيران. وهي نفسها ملابسات التحالفات العسكرية السابقة مثل حلف بغداد. والشيء الوحيد الجديد هو تحريف الإسلام ليكون ستارًا دينيًّا لمؤامرةٍ رجعية استعمارية، ضد الاستقلال والتغير الاجتماعي وحركات التحرر والأهداف الثورية لشعوب هذه المنطقة.١٤ وكما تحطمت أحلاف الاستعمار القديمة مثل حلف بغداد، فإن الحلف الإسلامي المقترح يوشك اليوم أيضًا أن يتحطم. وقد اكتسبت الجماهير العربية بذلك مناعةً تقويها على فضح التضليل وكشف أساليب الخداع، وبالتالي عرفت أن هذا الحلف الإسلامي المقترح ليس إلا اسمًا لواجهاتٍ جديدة لحلف بغداد القديم. هذا الحلف المنهار هدد سوريا في ١٩٥٧م، والآن يهدد اليمن في ١٩٦٥م. تتاجر الرجعية اليوم بالدين سواء كان مؤتمرًا إسلاميًّا أو تجمعًا إسلاميًّا أو حلفًا إسلاميًّا. ويعرف الشعب العربي في كل مكان، ويعلم علم اليقين أن الذين يدعون للمؤتمرات الإسلامية ويقولون إنها عمليةٌ إسلامية، أنهم أبعد الناس عن الإسلام، وأبعد الناس عن الدين، وأن العملية كلها سياسية الغرض منها أن يوضع الشعب العربي من جديد داخل مناطق النفوذ. لم يكن الحلف الإسلامي بالسياسة الجديدة؛ فقد كانت أمريكا تريد حلفًا إسلاميًّا في المنطقة منذ ١٩٥٧م كما ذكر أيزنهاور في مذكراته، ثم دُعي الملك سعود إلى أمريكا ولكنه لم ينجح في إقامة الحلف الذي طلبه أيزنهاور من أجل ضرب القوى الثورية التي كانت تتزعمها مصر في هذا الوقت.١٥
كان الهدف الأساسي من الحلف الهجوم المضاد على القوى الثورية العربية. فعندما دعت مصر إلى مؤتمرات القمة، فإنها تصورت أنها بذلك تصل إلى تعايشٍ سلمي بين الأنظمة الاجتماعية المختلفة. وفجأة بدأ الملك فيصل يعلن عن الحلف الإسلامي، وبدأت دعاية واسعة جدًّا ضد النظام الاشتراكي في مصر، وأعلن فيصل والشاه عن الحلف ودعيا بقية الدول الإسلامية لتنضم إليهما. والحقيقة أن الولايات المتحدة كانت وراء الملك فيصل في سياسته، تحاول تحقيق نفس الأهداف وعلى رأسها الدفاع عن الشرق الأوسط، وذلك عن طريق جمع الدول العربية كلها في صفٍّ واحد تحت السيطرة الغربية. وفي نفس الوقت كانت هناك مؤامرات تحاك ضد سوريا والعراق. وكان الأردن مسئولًا عن التنظيم، والسعودية عن التمويل. بدأ فيصل يعمل من أجل الحلف الإسلامي لخدمة مصالح أمريكا ومصالح الإنجليز، وتصور أنه يستطيع أن يقوم بهذا العمل في حماية مؤتمرات القمة. لذلك لما اجتمع رؤساء الحكومات تكلموا في كل شيءٍ إلا فيما يهم العرب، ولم يقل أيٌّ واحد منهم كلمة واحدة عن الحلف الإسلامي، علمًا بأنه كان في رأس كلٍّ منهم، ولكنه لم يجرؤ أن يتفوه فيه بكلمةٍ حتى لا ينفضح التآمر الرجعي الاستعماري على الأمة العربية باسم الدين.١٦ ولما سأل مراسل جريدة «الأوبزرفر» البريطانية: هل صحيحٌ أنكم تعتبرون بعض التطورات الأخيرة في المنطقة هجومًا على القوى الثورية خصوصًا من فيصل والحلف الإسلامي؟ أجاب عبد الناصر فيما أجاب: بدأ الملك فيصل يعمل من أجل الحلف الإسلامي لخدمة مصالح أمريكا وإنجلترا، وتصور أنه يستطيع أن يقوم بهذا العمل في حماية مؤتمرات القمة؛ فالداعون له عملاء لأمريكا وأدوات لها، يقولون إنهم يدافعون عن الدين، وأن الحلف ديني وليس سياسيًّا، وهم يعملون لتنفيذ المخطط الأمريكي في المنطقة. وقد واجهت مصر كل مخططات الرجعية والاستعمار مواجهة واضحة ومريرة حمايةً لمؤتمرات القمة من استغلالها للدعوة إلى الحلف الإسلامي، وكشفت استحالة أن يكون الحلف الإسلامي مؤتمرًا إسلاميًّا أو تضامنًا إسلاميًّا يعمل من أجل الدين. لقد حاولت أمريكا من قبل استخدام السعودية ضد القوى الثورية في ١٩٥٧م، وأعلن أيزنهاور ذلك وقال إنه لا يبدأ حلف إسلامي بلا عملٍ إسلامي. وقال في مذكراته إنهم أرادوا أن يكوِّنوا قوةً مضادة ضد القوى الثورية العربية التي كانت تتزعمها مصر في ذلك الوقت. واقترحوا على الملك سعود أن يعمل من أجل تأسيس حلف إسلامي أو مؤتمر إسلامي. ودعوا الملك سعود إلى أمريكا، ثم عاد ولم تنجح العملية كلها. ومع ذلك يدعي فيصل أن الأمريكيين ليسوا أصحاب المؤتمر الإسلامي أو الحلف الإسلامي، وأن الفكرة لديه يهدف منها إلى تحقيق خير المسلمين وخير الدين. والحقيقة أن الأمريكيين والبريطانيين موجودون في السعودية، وهي تحت نفوذهم، ولا يمكن أن يكون الحلف لوجه الله.١٧

(٨) خاتمة: الإسلام السياسي

فإذا كان السؤال: إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار نقد عبد الناصر وهجومه على الحلف الإسلامي أحد مكونات الإسلام السياسي، فإنه يمكن الإجابة على النحو الآتي:

  • (١)
    لم تتحقق نظرية الدوائر الثلاث التي عرضها عبد الناصر في «فلسفة الثورة»، الدائرة المصرية والدائرة العربية والدائرة الإسلامية، ولم تكن على نفس الدرجة من النشاط والتكامل فيما بينها. كانت الدائرة العربية أقوى الدوائر وأكثرها نشاطًا. أنتجت القومية العربية، والاشتراكية العربية، وحركة التحرر العربي، والقوى التقدمية والثورية العربية … إلخ، وتلتها الدائرة المصرية؛ فالقاهرة مركز الثقل في العالم العربي، والثورة المصرية بداية الثورة العربية ودعامتها الأولى. ولكن ظلت الدائرة الإسلامية مجرد رابطة دينية روحية دون أن تتحول إلى نظريةٍ سياسية أو إلى عملٍ سياسي؛ قوة فعالة على مسرح السياسة الدولية باستثناء استخدامها استخدامًا سياسيًّا للتأثير على الرأي العام في موضوع القدس والمسجد الأقصى، وإرسال البعثات العربية لتدريس اللغة العربية والدين في العالم الإسلامي، وقبول الطلبة الوافدين من العالم الإسلامي في الجامعة الأزهرية، وإرسال المصاحف والكتب الدينية، وتبادل العلماء، وحضور المؤتمرات وتكوين المجلس الأعلى للشئون الإسلامية لهذا الغرض.١٨ وبالرغم من مبادرة الثورة المصرية في مؤتمر باندونج في ١٩٥٥م وتضامن الشعوب الآسيوية الأفريقية، والتنبيه على أن هذا التكتل الجديد هو صياغة سياسية حديثة للعالم الإسلامي، الذي امتد كله بين قارتَي آسيا وأفريقيا، لم تستطع الثورة استخدام الإسلام كعنصر ترابط بين شعوب آسيا وأفريقيا واستغلال طاقاته في توحيد هذه الشعوب ثقافيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا.١٩ وظلت علاقة مصر بالهند وبالصين وبيوجوسلافيا أقوى منها بكثيرٍ من علاقاتها بالدائرة الإسلامية في إندونيسيا والملايو وباكستان وأفغانستان وتركيا، بالرغم من الخلاف السياسي بين الأنظمة السياسية لهذه الدول والثورة المصرية؛ فالخلاف السياسي بين الحكومات شيءٌ عابر والتقارب الثقافي والحضاري بين الشعوب ثابتٌ ودائم. وقد أدرك عبد الناصر ذلك أيضًا دون أن يحققه؛ إذ يصرح في حديثه إلى المحرر السياسي لجريدة «الأوبزرفر البريطانية» أن الدور الديني الذي يؤديه الإسلام قائمٌ وفعال. وقد تسألني لماذا تبدو علاقاتنا بالهند أقوى منها بإيران المسلمة؟ وأقول لك إن الخلاف بين الحكومة المصرية والحكومة الإيرانية، لا يمكن أن يعوق أو يحجب العلاقة بين الشعب المسلم في مصر والشعب المسلم في إيران. إن العلاقات الدولية بظروفها الموضوعية لها أحكامها، لكن ذلك لا يناقض ولا يتعارض مع تعاطف الشعوب التي تعتنق نفس الدين. وقد تحدثت في «فلسفة الثورة» عن دور أفريقيا لمصر، وعن دورٍ أفريقي آسيوي، وعن دور في العالم الإسلامي، ولست أرى تصادمًا بين هذه الأدوار الثلاثة أو احتكاكًا بين دوائرها.٢٠
  • (٢)

    ظلت تفرقة عبد الناصر بين الدين والسياسة تفرقةً ضعيفة ولا تخدم قضيته؛ فهو يواجه عدوًّا يتستَّر بالدين ليحقق أهدافًا سياسية في الحلف الإسلامي، ويبين أن الدين أقرب إلى سياسة عدم الانحياز والخروج عن مناطق النفوذ والأحلاف العسكرية. وفي كلتا الحالتين هناك تداخل بين الدين والسياسة، أولًا لصالح الاستعمار والرجعية، وثانيًا لصالح الثورة والتقدم. بل إن عبد الناصر أراد في «فلسفة الثورة» تحويل الحج إلى مؤتمرٍ سياسي سنوي، وليس مجرد شعائر ومناسك تُقضى؛ قوة سياسية وليس مجرد تذكرة لدخول الجنة. وهو تأويلٌ سياسي للدين يتفق مع روح الدين، الهدف من إقامة الحج وشعائره قبل الإسلام، عندما كانت تحج القبائل إلى البيت العتيق، وبعده عندما يأتي العالم الإسلامي كله في مكانٍ واحد ووقتٍ واحد ليتدبروا شئون الأمة.

  • (٣)

    اقتصر استعمال الثورة المصرية في التطبيق الاشتراكي على النحو الدعائي الجدلي الإعلامي للمحافظة على النظام ضد هجوم السعودية. كانت معركة بين نظامين سياسيين وحركتين تاريخيين من خلال أجهزة الإعلام الرسمية ومفكري كل نظام دون أن يكون له أثرٌ كبير على الرأي العام. ولم تتحول المبادئ الثورية الإسلامية العامة إلى مشاريع ثقافية وحضارية للتحقيق؛ فالإسلام الثوري كان مجرد خطابة يتعلمها الناس، فيحفظها طلاب المدارس دون أن يكون لها مضمون عملي يذكر، فلا يكفي أن يقال: إن الإسلام دينٌ تقدمي، رابطة بين الشعوب الإسلامية، دعوةٌ قدسية إلى الحرية، نزل ليطالب البشر في كل زمانٍ ومكان أن يرفضوا استغلال شعب لشعب، وطبقة لطبقة، وإنسان لإنسان، بل نادى بالمساواة والعدالة بين الناس. كما لا يكفي أن يقال: إن رسالة الإسلام بطبيعته معادية للاستعمار وللامتيازات الإقطاعية وللاستغلال الرأسمالي. أو يقال: ليس الإسلام قيدًا يشد الناس إلى الماضي، بل حافز يدفع إلى اقتحام المستقبل على توافق وانسجامٍ كاملَين مع مطالب الحرية السياسية والحرية الاجتماعية والحرية الثقافية؛ فالتحدي الحقيقي هو قياس بعد المسافة بين المثال والواقع، بين الممكن والمتحقق، بين النوايا الطيبة والأفعال القائمة، بين العبارات الإنشائية ومضامينها الخبرية.

  • (٤)
    الدائرة العربية نفسها ممتزجة بالدين؛ فالعروبة لغة والإسلام ثقافة. أما القومية العربية التي راجت إبان الثورة المصرية فقد كانت أقرب إلى العلمانية، باستثناء لبنان التي اقترنت فيها الناصرية بالقومية العربية والإسلام ساعة الأزمات، وكما حدث إبان الحرب الأهلية الأولى في ١٩٥٨م ثم الحرب الأهلية الثانية في ١٩٧٥م وحتى الآن. أما ما يقال عن العروبة والإسلام في مواثيق حزب البعث ولدى حركة القوميين العرب، فإنه أقرب إلى التبشير بالعروبة وسط جماهير المسلمين. الإسلام مجرد أداة للتعبير، ووسيلة للانتشار، وكيف يمكن استعمال الكل وهو الإسلام من أجل التشريع للجزء وهو العروبة، دون وضع الجزء في إطار الكل؟ إن القول بأن تعاون جميع المسلمين دون خروجهم عن الولاء لأركانهم الأصلية، هو تناقض يكشف عن استحالة الولاء المزدوج؛ الأول نظري للإسلام والثاني عملي للعروبة؛ فالإسلام دين ودولة، نظر وعمل، ثقافة وسياسة، حضارة وأمة. والحقيقة أن كليهما: العروبة والإسلام، قادران على الاستجابة لمطالب العصر في الحرية والتحرر وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة. ومن هنا فلا وجود لتعارضٍ مفتعل بين القومية العربية والأخوة الإسلامية على ما يقول عبد الناصر؛ فالأمة العربية بقواها الثورية التقدمية لا ترى في الإسلام عائقًا عن التطور بل دافعًا له. ليست القومية العربية عازلًا عن تضامن الشعوب الإسلامية، فمواقع النضال من أجل الحرية السياسية والاجتماعية، تعزز بعضها البعض وتتكامل فيما بينها.٢١
  • (٥)
    لم يكن دور مصر في المحافظة على الإسلام قليلًا، فمصر هي التي دافعت عن حصن المسلمين منذ الصليبيين حتى عين جالوت. جندها خير أجناد الأرض وشعبها مرابط إلى يوم القيامة. ومن ثم لا يُعقل أن يحدث تصادمٌ بين الإخوان والثورة، كما حدث في مارس ١٩٥٤م بدعوى الصراع على السلطة. ومنذ ذلك الحين تم شق الأمة إلى قسمين: الإسلام ضد الثورة والعروبة والقومية والاشتراكية والعلمانية. ثم انزوى الإسلام وتحول إلى داخل السجون، ثم خرج راغبًا في الانتقام. والثورة العربية تحولت إلى ثورةٍ مضادة من داخلها. وبالتالي ضاع الحُسنَيان معًا.٢٢ وإن ثقل مصر في محيطها العربي والإسلامي إنما يأتي من اللغة؛ فالعروبة هي اللسان، ومن الدين؛ فالإسلام ثقافة الأمة.
  • (٦)

    وبصرف النظر عن تشخيص المبادئ والأفكار والسياسات في الزعماء وكثرة نقد الأشخاص، فإنه قد يتحول الأمر إلى أن تصبح المعارك السياسية معارك شخصية بين زعامات، كل منها يدافع عن نفسه، والكل يدَّعي الشرعية في التمثيل السياسي للأمة جمعاء. إنما كان الهدف من ذلك بيان كيف أصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، وكيف تحولت الزعامة في القاهرة من ثورةٍ إلى ثورةٍ مضادة. قد يكون في البحث تكرار كثير، ولكن الهدف كان ترك أقوال عبد الناصر تدل بنفسها؛ فالخطابة السياسية ليست فقط شكل تعبير أو أداة اتصال، بل هي أيضًا موضوع سياسي يكشف عن الأوضاع السياسية العامة، التي كان الخطاب السياسي فيها محورها الأول.

١  كُتب هذا المقال بعد معاهدة كامب ديفيد واندلاع الثورة الإسلامية الكبرى في إيران في فبراير ١٩٧٩م، من أجل إحياء الناصرية والمقارنة بين سياسات مصر في الستينيات وبينها في السبعينيات، والمقال الأول مفقودٌ بعد أن سُلِّم إلى إحدى المجلات العربية. وهذه صياغة ثانية من المسودة كُتبت في خريف ١٩٨٧م.
٢  ستتم الإحالات باستمرار إلى خطب وأحاديث جمال عبد الناصر عن طريق ذكرها على نحوٍ حر وليس نصًّا نظرًا لتكرارها وأسلوبها العامي، وتأسيسًا بطريقة القدماء في أحد أنوع الشرح، وهو العرض الشارح أو الشرح العارض؛ فالمهم هو المعاني وليس الألفاظ. الأعمال الكاملة لخطابات وأحاديث جمال عبد الناصر، الأجزاء الثلاثة الأولى، الهيئة العامة للاستعلامات، وجزءان أخيران، الأهرام، خطاب في عيد الوحدة ٢٢ / ٦ / ١٩٦٦م ج٥، ص٥٩٨، ص٥١١، ص١٥٢.
٣  ج٤، ص٦٥، الجلسة الخامسة لمناقشة الميثاق ٢٨ / ٥ / ١٩٦٢م.
٤  ج٥، ص٥١٣-٥١٤.
٥  ج٥، ص٥٦٤.
٦  خطاب في عيد الوحدة ٢٢ / ٢ / ١٩٦٦م، ج٥، ص٥١٠، خطاب في المؤتمر الشعبي بمدينة دمنهور ١٥ / ٦ / ١٩٦٦م، ج٥ ص٥٩٨.
٧  حديث لجريدة «إزفستيا» السوفييتية ٧ / ٢ / ١٩٦٦م، ج٥ ص٤٨٧-٤٨٨، ص٥٢٢.
٨  ج٥، ص٥١٢، ج٦، ص١٥٧.
٩  خطاب في عيد الوحدة ٢٢ / ٢ / ١٩٦٦م، ج٥، ص٥٠٨–٥١١.
١٠  حديث صحفي للرئيس مع الصحفيين العرب ٤ / ٢ / ١٩٦٧م، ج٥، ص٥١٣.
١١  خطاب في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي القومي بمناسبة الاحتفال بالعيد القومي للسويس ٢٢ / ٣ / ١٩٦٦م، خطاب في مركز القيادة المتقدمة للقيادة الجوية، ٢٢ / ٥ / ١٩٦٧م، ج٥، ص٥٠٨-٥٠٩.
١٢  خطاب في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في الاحتفال بالعيد القومي للسويس ٢٢ / ٣ / ١٩٦٦م ج٥ ص٥١١-٥١٢، ص٥٣٢.
١٣  ج٥، ص٥١٢.
١٤  حديث إلى د. كرانجيا رئيس تحرير مجلة «بلينز» الهندية في ٨ / ٥ / ١٩٦٦م، ج٥، ص٥٦٣.
١٥  ج٥، ص٥٦٩، ص٥٩٩.
١٦  خطاب في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي بمناسبة الاحتفال بالعيد القومي للسويس في ٢٢ / ٣ / ١٩٦٦م ج٥، ص٥٣٥.
١٧  حديث صحفي إلى جريدة «الأبزرفر» في ٥ / ٢ / ١٩٦٧م، ج٦، ص٤١، ص٦٤-٦٥.
١٨  انظر بحثنا الدين والتنمية في مصر، الجزء الرابع: الدين والتنمية القومية.
١٩  مالك بن نبي: فكرة الآسيوية الأفريقية، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار العروبة، القاهرة.
٢٠  حديث إلى مستر روبرت ستيفن المحرر السياسي لجريدة الأبزرفر البريطانية ٥ / ٧ / ١٩٦٤م.
٢١  انظر بحثنا: القومية العربية والإسلام. هذا الجزء: الدين والنضال الوطني.
٢٢  انظر بحثنا: الحركة الإسلامية المعاصرة، الجزء الخامس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥